تقديم:
الحديث عن الرموز الدينية في شعر السياب يضطرنا للتحدث عن المنابع والموارد التي استلهم منها الشعر العربي الحديث موضوعاته ورموزه وقضاياه بما في ذلك الأساطير العربية والعالمية والاشارات الدينية أيا كان مصدرها والمعتقدات كيفما كانت توجهاتها.
لا أحد يشك في أن الشعر العربي وخاصة الحديث منه قد غرف من الموروث الثقافي، سواء العربي منه أو العالمي ووظفه بطريقة فنية بهدف ايصال الرسالة التي ينهض بها وتبليغ المضمون الذي ينطوي عليه، ولا يكاد ديوان من الشعر الحديث يخلو من الاشارات والرموز الدينية والاسطورية التي يتم اقتباسها لبث مضامين معاصرة من خلالها.
والعودة الى تلك الرموز والاستقاء منها إنما هو رجوع الى المنابع الأصلية للتجربة الانسانية وقد لجأ شعراؤنا الى الأساطير اليونانية والبابلية والآشورية والفرعونية والى الكتب المقدسة فنهلوا منها وجعلوها سبيلا فنيا للتعبير عن خواطرهم ونفوسهم. وقد زودتهم التوراة والانجيل والقرآن بموضوعات وتجارب جاهزة ينطلقون من ضلالها للتطرق الى المفاهيم التي يودون بسطها والأفكار التي ينشدون عرضها، بالاضافة الى تقوية البناء الفني للقصيدة.
ويرى أنس داود أن الشعر "ينظر الى الكتب المقدسة، والى ما جاء فيها من قصص، وبخاصة ما ازدحمت به التوراة من حكايات مثيرة،وما في صلب المسيح من مثيرات فنية، وما في عصيان ابن نوح لوالده – في القرآن – من تمرد ودلالة على الاعتداد بالذات… فالنظرة هنا لا صلة لها بالقداسة الدينية، كما لا شأن لها، حين تتعامل مع التاريخ، بالحقيقة التاريخية " (داود، بلا تاريخ، 92-93). والواقع أن هناك تداخلا عميقا بين ما هو اسطوري وما هو ديني، أو بكلمة أخرى بين الأسطورة والدين. وفي هذا الصدد يقول عاطف جودة نصر "ينبغي باديء زي بدء أن نعترف بصعوبة الفصل بين الأسطورة والدين، فليس من السهل أبدا أن نقرر أيهما أسبق ظهورا، حيث انبثقت الأسطورة مغلفة بالدين، كما نشأ الدين، ملفوفا بطابع أسطوري".
(جودة نصر، 1978:31).
وعلى الرغم من التوجه الحاد للشعر العربي الحديث نحو التجديد، فهو في رأي إلياس خوري قد "احتفظ بنبرة تراثية وكأنه يريد عبر ثورته إثبات هويته. فليس صدفة أن تأخذ اللغة الصوفية والرموز الصوفية هذا الحجم في الشعر المعاصر. فهي الى جانب ظواهر أخرى: الأسطورة، الرمز التاريخي، الرمز الواقعي، تحمل في جانب منها محاولة تأكيد الذات لحظة الخروج من ماضيها". (خوري 1979:199).
والسياب شأنه شأن غالبية الشعراء العرب المعاصرين تكثر في شعره الاشارات الدينية بسبب ما تحمله من شحنة رمزية من ناحية ولكونها تمثل ركنا من أركان الثقافة الجمعية من ناحية ثانية.
2- الرموز الدينية:
يمكن تصنيف الرموز والاشارات الدينية لدى السياب على الشكل التالي:
أ- اشارات مباشرة:
ونعني بها تلك التي تظهر في قصائده بصورة صريحة ومباشرة أيا كان مصدرها ومعظمها يعود الى الدين الاسلامي والدين المسيحي.
ب – اشارات من الدين الاسلامي:
في بعض قصائد السياب ينسحب الموضوع الديني على القصيدة بكاملها، كما هو الحال في قصيدته المعنونة "ليلة القدر" التي كتبها سنة 1961 وقرأها في المكتبة العامة بمدينة "الزبير" لإحياء تلك المناسبة. وكذا في قصيدته "مولد المختار" المكتوبة في نفس السنة، والتي يقوم فيها بمدح الرسول الكريم ويدعوه الى انقاذ المسلمين من ظلم وتسلط المستعمرين والمحتلين للأراضي العربية في فلسطين والجزائر وأرجاء أخرى من العالم الاسلامي.
وفي قصائد أخرى يقوم السياب بإيراد اشارات دينية سريعة، مع أنها تمتاز بعمق دلالاتها وقوة ايحائها. ففي قصيدته «أمام باب الله " يتوجه الشاعر الى الخالق مخاطبا إياه، قائلا: "منطرحا أمام بابك الكبير أصرخ في الظلام أستجير: يا راعي النمال في الرمال وسامع الحصاة في قرارة الغدير. أصيح كالرعود في مغاور الجبال كآهة الهجير. أتسمع النداء؟ يا بوركت، تسمع. وهل تجيب إن سمعت ؟ صائد الرجال وساحق النساء أنت، يا مفجع يا مهلك العباد بالرجوم والزلازل يا موحش المنازل
منطرحا أمام بابك الكبير
أحس بانكسارة الظنون في الضمير
أثور ؟ أغضب ؟
وهل يثور في حماك مذنب
(السياب 1971: ج 1، 135- 136).
ويتغير الموقف في قصائد أخرى ليتحول الى الاستنجاد وطلب العفو والمغفرة راجيا أن ينقذ الخالق الانسان من الظلم والتعسف. ففي قصيدته المعنونة "النبوة الزائفة " يقول:
"…لقد أغضب الآثمون الإلها وحق العقاب!
فيا قبضة الله يا عاصفات
ويا قاصفات ويا صاعقة
الا زلزلي ما بناه الطغاة
بنيرانك الماحقة !"
(السياب 1971:ج1 ,158- 159).
وفي نوع ثالث من القصائد يظهر السياب أو الشخصيات التي تبرز في تلك القصائد تظهر صبورة ومستسلمة للقدر، راضية بالمصير الذي تؤول اليه باعتباره اختيارا وتنفيذا لإرادة الخالق. وهذا ما نجده في قصيدته "سفر أيوب " وان كانت شخصية أيوب توراتية، غير أنها شديدة الحضور في الموروث الاسلامي. يقول في تلك القصيدة:
"لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهما استبد الألم ,
لك الحمد , إن الرزايا عطاء
وان المصيبات بعض الكرم.
ألم تعطني أنت هذا الظلام
وأعطيتني أنت هذا السحر؟
فهل تنكر الأرض قطر المطر
وتغضب إن لم يجدها الغمام ؟
شهور طوال وهذي الجراح
تمزق جنبي مثل المدى
ولا يهدأ الداء عند الصباح
ولا يمسح الليل اوجاعه بالردى.
ولكن أيوب إن صاح صاح:
لك الحمد، إن الرزايا ندى،
وان الجراح هدايا الحبيب
أضم الى الصدر باقاتها،
هداياك في خافقي لا تغيب ,
هداياك مقبولة. هاتها ! "
(السياب،1971: ج 1،248- 249).
أيوب في هذه القصيدة ليس خاضعا لمصيره وقدره فقط بل إنه يبدو سعيدا بتلك الهدية الخاصة التي يمنحها له الخالق. والنبرة الصوفية تغلب على كامل القصيدة، والتي يقول عنها الناقد محسن أطيمش إن السياب "كتب هذه القصيدة التي هي ابتهال ودعاء، واحساسات متصوفة ولغة زاهد"
(أطيمش1971,ج1 630- 631).
ونفس هذه المشاعر تتكرر في قصيدته "قالوا لأيوب " والتي هي عبارة عن حوار، يقول فيها الآخرون لأيوب إن الرب قد تخلى عنه وأصابه ببلوى المرض. غير أن أيوب يرفض هذه الفكرة لظنه بأن الانسان نفسه هو سبب البلاء، وان أمله بالخالق كبير بأن يغفر له ويعفو عنه ويشفيه من علته.
واشارات السياب التي تعود في أصلها الى الدين الاسلامي تظهر في الكثير من القصائد، وقد استخدمها الشاعر بدوافع مختلفة، ففي قصيدته "في المغرب العربي" تظهر منارة مزينة باسم الله والرسول، غير أنها مغطاة بالغبار وهي موضع احتقار وازدراء الغزاة والطامعين.
وفي قصيدته "العودة لجيكور" المبنية على ثنائية الحياة والموت، يورد الشاعر اشارة الى المعتقد الاسلامي الذي مفاده أن العنكبوت قد نسجت خيوطها على مدخل الغار الذي اختفى فيه الرسول عند هجرته من مكة الى المدينة لايهام المشركين الذين كانوا يطاردونه وينوون قتله.
ولا نعدم اشارات جاهلية أو ما قبل اسلامية ورد ذكرها في القرآن، مثل ذكره للات والعزى، الآلهة التي يستخدمها في قصيدته "بور سعيد" لتجسيد الطغيان والذل الذي يعاني منه العرب على أيدي غيرهم. وفي قصيدة أخرى بعنوان "خلا البيت " يوحي الأذان بالحزن والموت، وذلك عندما يتخيل الشاعر موكب دفنه، قائلا:
"خلا البيت لا خفقة من نعال
ولا كركرات على السلم ,
وأنت على الباب ريح الشمال
وماتت على كرمه المظلم:
تلاشت خطي موكب الدافنين
ومن مسجد القرية المعتم
تلوى كما رف فوق السفين
شراع حزين ,
أذان (هو الله باق , وزال
عن الأرض إلاه ): الله أكبر:
وفي قبره اهتز , كالبرعم
إذا الصبح نور
دفين… وأصغي: أنين الرمال
وتهويدة النخل ينعس والليل أقمر
وفي بيته الآن – خل العويل
ونوح اليتامى وندب النساء"
(السياب 1971، ج 1 630- 631).
جـ- اشارات من الدين اليهودي والمسيحي: تكثر في شعر السياب وتتعدد الرموز والاشارات التي ترجع في أصولها الى الدين اليهودي والمسيحي. غير أن أكثر الشخصيات تكرارا هي شخصية السيد المسيح، والذي يظهر عادة كما هو وارد في الانجيل والقرآن: المدافع عن الحق والعدل والمنقذ للبشرية. ففي قصيدة بعنوان "قافلة الضياع " يقول الشاعر:
"…
كان المسيح بجنبه الدامي ومئزره العتيق
يسد ما حفرته ألسنة الكلاب "
(السياب1971: ج 1،370).
وفي قصيدة أخرى بعنوان "المسيح بعد الصلب " ينصهر الشاعر مع شخصية المسيح ليتحول الى انسان ملؤه الصلاح والخير، إذ يقول:
حينما يزهر التوت والبرتقال ,
حين تمتد "جيكور" حتى حدود الخيال ,
حين تخضر عشبا يغني شذاها
والشموس التي أرضعتها سناها,
حين يخضر حتى دجاها،
يلمس الدفء قلبي فيجري دمي في ثراها.
قلبي الشمس إذ تنبض الشمس نورا
قلبي الأرض تنبض قمحا، وزهراء وماء
نميرا,
قلبي الماء قلبي هو السنبل
موته البعث: يحيا بما يأكل ".
(السياب 1971:ج1 458).
كما أن هناك إشارات الى بعض معجزات المسيح كمعجزة احياء الموتى. ففي قصيدته "رؤيا في عام 1956" يشير الى بعث «العازر،» حين يقول:
"العازر قام من النعش
شخنوب العازر قد بعثا
حيا يتقافز أو يمشي…"
(السياب 1971:ج1.440).
واذا كان في هذه المرة يستعير اشارته تلك ويستخدمها بدافع التشبيه الساخر، لأن "شخنوب " كما بين الشاعر في هامش القصيدة، هو عامل الأسمنت الذي استأجره
الفوضويون، فتظاهر بالموت وحملوه في النعش تشهيرا بالجيش "الذي يقتل العمال " كما قالوا، ثم قام ماشيا حين سقط النعش. والشخصية الأخرى التي تظهر مرارا في العديد من قصائد السياب هو شخصية "قابيل "، وهو الابن الأكبر لآدم وأخو "هابيل ". وحسب رواية التوراة فإن الرب قد فضل ضحية "هابيل " على ضحية أخيه "قابيل " فأثار هذا الأمر في نفس هذا الأخير كل نوازع الشر من غيرة وحسد واتبع سبل الخداع والغدر فقتل أخاه وصار رمزا لقاتل البشرية. وقضى حياته مطأطيء الرأس حسب سفر التكوين وعاش مشردا كعقاب لما اقترفه من جرم. (بيريث ريوخا، 1984: 106).
ويقوم السياب باستعارة هذه الشخصية من مصادرها الدينية القديمة، بما تحمله من شحنة رمزية وايحاء بالشر ويوظفها في العديد من قصائده مثل "المخبر" و"المومس العمياء" و"حفار القبور" و" فجر السلام " وغيرها.
والجريمة التي أقترفها "قابيل " يقترفها بنو البشر كل يوم مرات ومرات. وفي قصيدة "المومس العمياء"، يقول:
"…قابيل أخف دم الجريمة بالأزاهر والشفوف وبما تشاء من العطور وابتسامات النساء ومن المتاجر والمقاهي وهي تنبض بالضياء عمياء كالخفاش في وضح النهار، هي المدينة، والليل زاد لها عماها"
(السياب 1971 ج 1. 510).
د – اشارات غير مباشرة
وهذا النوع من الاشارات الدينية في شعر السياب موفور ومتعدد. وفي تلك الاشارات يحس القاريء بأن الشاعر بشكل واع أو بصورة غير واعية يورد صورا ومعاني قد تكون مستقاة من مصادر دينية. وليس بالضرورة أن تكون تلك الصور والمعاني مطابقة للأصول التي استلهمت منها، إذ قد نجد هناك نوعا من التواصل المبهم أو غير الدقيق بين الجانبين. ففي قصيدة "حدائق وفيقة " شبه لتصوير القرآن للجنة، حين يقول:
" لوفيقة
في ظلام العالم السفلي حقل
فيه مما يزرع الموتى حديقة
يلتقي في جوها صبح وليل
وخيال وحقيقة
تنعس الأنهار فيها وهي تجري.
مثقلات بالظلال
كسلال من ثمار, كدوال
كل نهر شرفة خضراء في دنيا سحيقة
ووفيقة
تتمطى في سرير من شعاع القمر
زنبقي أخضر،
في شحوب دامع , فيه ابتسام
مثل أفق من ضياء وظلام
وخيال وحقيقة "
(السياب 1971 ج 1، 125- 126).
ومن الاشارات غير المباشرة التي يستعين بها الشاعر هي مسألة الانبعاث، هذا المفهوم الذي يتكرر لدى غالبية الأديان التوحيدية، ومنها الاسلام. وتقول الباحثة ريتا عوض عن ذلك بأن "القرآن قد أعاد تأكيد نموذج الانبعاث الهاجع في اللاوعي الانساني، خصوصا في سورة الكهف والشروح التي تناولتها، حيث تكررت أسطورة الموت والانبعاث ورموزها وتأكدت غلبة الحياة على الموت ".
(عوض،1978: 52).
وفي قصيدته «رسالة من مقبرة " والتي يخصصها للمجاهدين الجزائريين يقول السياب:
"من قاع قبري أصبح
حتي تئن القبور
من رجع صوتي , وهو رمل وريح.
من عالم في حفرتي يستريح ,
مركومة في جانبيه القصور,
وفيه ما في سواه
إلا دبيب الحياة ,
حتى الأغاني فيه , حتى الزهور
والشمس ,إلا أنها تدور
والدود نخار بها في ضريح.
من عالم في قاع قبري أصبح:
لا تيأسوا من مولد أو نشور!"
(السياب 1971ج 1، 389-390).
3- طبيعة الشخصيات:
إذا انطلقنا من وجهة نظر الأديان التي تضع نظما وشروطا للتصرف والسلوك الانساني، وتقنن طبيعة التعامل بين الأشخاص فإن بإمكاننا أن نقسم شخصيات السياب بناء على ذلك على الشكل التالي:
أ – شخصيات ملتزمة وممتثلة:
وهي تلك التي تظهر في تصرفاتها وتعاملها مع الآخرين نوعا من الالتزام وتمتثل لتعاليم الأديان السماوية ولا تتجاوزها أو تخرج عن إطار القيم المتعارف عليها سواء بدافع احترام المباديء الدينية أو الالتزام بالقيود الاجتماعية المفروضة.
ففي نبرة أليمة تثير الرحمة يستعطف الشاعر أو إذا شئنا الشخصية التي يخلقها في قصيدته "في غابة الظلام "، يستعطف الخالق ويطلب منه الرحمة، وان كانت نبرته تلك مشوبة بشيء من التوتر، إذ يقول:
".. أليس يكفي أيها الاله
أن الفناء غاية الحياة
فتصبح الحياة بالقتام ؟
تحيلني بلا ردى، حطام:
سفينة كسيرة تطفو على المياه ؟
هات الرهدي, أريد أن أنام
بين قبور أهلي المبعثرة
وراء ليل المقبرة
رصاصة الرحمة يا إله !"
(السياب 1971 ج 1، 706).
ونفس هذه النبرة أو الروح نجدها طاغية في قصيدته "رثاء جدتي" والتي يظهر فيها الشاعر مستسلما لقدره خاضعا لمصيره ممتثلا لإرادة الخالق الذي حرمه من جدته والتي كانت بمثابة أم رؤوم له. وهو يقول في ذلك:
"…أيها القبر كن عليها رحيما
مثل ربت اليتامى بلين
أيها القلب هل تلام شمالي
والتي تفعل الذنوب يميني
لا تلمني فلست قد علم الله
أرد القضاء لو يأتيني"
(السياب 1974 ج2،103).
ب – شخصيات خارقة أو منتهكة:
ومثل هذه الشخصيات هي ربما الأكثر ظهورا في شعر السياب. وتتميز بكونها لا تلتزم بتلك النظم والمباديء والقيم الدينية التي تحدثنا عنها من قبل. وقد نجرؤ على تسميتها بشخصيات سيابية لكثرة تكررها وخصوصيتها ضمن شعر السياب. إنها شخصيات فريدة، رهيبة ومرعبة أحيانا. وهي أكثر شخصيات السياب أهمية من وجهة النظر الدرامية، إذ أنها تصور الحياة ببشاعتها وقسوتها من خلال الواقع الأليم الذي تنقله. ومن الأمثلة التي يمكن أن نعثر عليها شخصية "المخبر" في قصيدته بنفس العنوان. وهذه الشخصية تعيش من عمل لا أخلاقي يتنافى مع السلوك الطبيعي والايجابي للانسان، إذ أنه يراقب الأخوين ويتجسس عليهم وينوي لهم الشر ويزرع بينهم بذور التفرقة وينشد دمارهم:
"أنا ما تشاء: أنا الحقير
صباغ أحذية الغزاة , وبائع الدم والضمير
للظالمين. أنا الغراب
يقتات من جثث الفراخ. أنا الدمار أنا الخراب !
شفة البغي أعف من قلبي, وأجنحة الذباب
أنقى وأدفأ من يديه كما تشاء… أنا الحقير!
لكن لي من مقلتي- إذا تتبعتا خطاك
وتقوتا قسمات وجهك وارتعاشك – ابرتين
ستنسجان لك الشراك
وحواشي الكفن الملطخ بالدماء , وجمرتين
تروعان رؤاك إن لم تحرقاك !
نهض الحقير
وسأقتفيه فما يفر , سأقتفيه الى السعير.
أنا ما تشاء: أنا اللئيم، أنا البغي , أنا الحقود
لكنما أنا ما أريد: أنا القوي , أنا القدير
أنا حامل الأغلال في نفسي, أقيد من أشاء
بمثلهن من الحديد, وأستبيح من الخدود
ومن الجباه أغرهن. أنا المصير, أنا القضاء.
الحقد كالتنور في: إذا تلهب بالوقود
– الحبر والقرطاس – أطفيء في وجوه
الأمهات
تنورهن , وأوقف الدم عن ثدي المرضعات
(السياب 1971: ج 1،338- 340).
غير أن شخصية "حفار القبور" في القصيدة التي تحمل نفس هذا العنوان هي أكثر بؤسا وشقاء واثارة للرعب، على الرغم من أنها تثير مشاعر متناقضة تتراوح بين السخط والعطف، والقبول والرفض لأنه من ناحية ضحية للحاجة، ومن ناحية ثانية ينطوي على روح شريرة ونفس قاسية، وهذه الشخصية هي الأخرى فريدة ونادرة، إنه يسأل الله ويلحف بالسؤال بأن يموت بعض العباد لكي يكسب رزق يومه، أو أن تقع حرب طاحنة تأتي على الأخضر واليابس، حتى يتمكن من العيش برفاه ولتدر عليه حرفته رزقا وفيرا. ولا يهم بعد ذلك من من الناس يكون مصيره الموت سواء الكبار أو الصغار، الأطفال أو العجائز. وهكذا تصبح للأنانية ولحب الذات اليد الطول في تسلسل أحداث القصيدة، ولسان حال "حفار القبور" يقول:
"…
وعلام تنعب هذه الغربان , والكون الرحيب
باق يدور.. يعج بالأحياء: مرضى جائعين
بيض الشعور كأعظم الأموات – لكن خالدين
لا يهلكون ؟ علام تنعب ؟ إن عزرائيل مات !
وغدا أموت , غدا أموت !
وهز حفار القبور
يمناه في وجه السواء، وصاح: رب ! أما تثور
فتبيد نسل العار.. تحرق بالرجوم المهلكات ,
أحفاد عاد، باعة الدم والخطايا والدموع ؟
يا رب.. ما دام الفناء
هو غاية الأحياء , فأمر يهلكوا هذا المساء!
سأموت من ظمأ وجوع
إن لم يمت – هذا المساء الى غد بعض الأنام ,
فابعث به قبل الظلام !
يا رب.. أسبوع طويل مر كالعام الطويل ,
والقبر خاو, يفغر الفم في انتظار.. في انتظار,
ما زلت أحفره ويطمره الغبار…
(السياب 1971: ج 546,1- 547 ).
وكما نرى فإن ما يتمناه حفار القبور مناف لروح الأديان السماوية التي تدعو الى حب الخير للآخرين. واذا أخذنا الدين الاسلامي كمثال فإننا نجد بأن هناك الكثير من الآيات والأحاديث النبوية التي تدعو الى هذا المبدأ. وقد أكد الرسول على ذلك بقوله: "لن يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب نفسه ". وتستمر القصيدة، وفي آخر النهار يظهر نعش فينبعث الأمل في قلب حفار القبور ويدفن الميت ليتوجه نحو المدينة بحثا عن الطعام والشراب واللهو. غير أن قمة المأساة تتحقق عندما يقوم في اليوم التالي بدفن جثة ويكتشف بأنها لابنة الهوى التي عاشرها في الليلة الماضية. وهكذا فإنه بعد أن يقبض أجره يكون قد استعاد نفس النقود التي كان قد دفعها لها لقاء مضاجعتها.
ومن خلال القصائد التي استشهدنا بها والكثير غيرها، نرى بأن الموت بكل أبعاده هو الموضوع الجوهري والخيط الرابط لدى السياب. وتشير ريتا عوض في دراستها الجادة عن أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث الى أن "الموت كان قضية السياب الكبرى. وقد عانى هذه القضية على مستويات عدة: الفردي والقومي والحضاري والانساني
(عوض،1978: 94).
والسكران شخصية أخرى كثيرة الظهور في شعر السياب، وهو الأخر يبقى خارج إطار القانون الأخلاقي للدين الاسلامي. وتظهر هذه الشخصية بشكل مكثف في القصيدة المار ذكرها. وهو أيضا مثل المومس ضحية لظروف المحيطة:
"…
كل الرجال ؟ وأهل قويتها؟ اليسوا طيبين ؟
كانوا جياعا مثلها هي أو أبيها – بائسين ,
هم مثلها – وهم الرجال – ومثل آلاف البغايا
بالخبز والأطمار يؤتجرون ء والجسد المهين
هو كل ما يتملكون هم الخطاة بلا خطايا
وهم السكاري بالشرور كهؤلاء العابرين
من السكارى بالخمور.. كهؤلاء الفاجرين بلا
فجور
الشاربين – كمن تضاجع نفسها – ثمن ا لعشاء
الدافنين حروق بالية الجوارب في الحذاء,
يتساومون مع البغايا في العشي على الأجور
ليوفروا ثمن الفطور! ا
(السياب 1971: ج 1، 528). 4 ~ خاتمة:
4- خاتمة:
وكخاتمة لبحثنا المقتضب هذا، يمكننا أن نقول إن دراسة أعمال السياب والبحث المتواصل فيها للوقوف على ميزاتها ودلالاتها الأكثر بروزا يؤكدان لنا بصورة لا تقبل الجدال بأن هذا الشاعر الراثا، شأنه شأن شعراء جيله الأوائل، قد استخدم بوعي تام اشاراته ورموزه الأسطورية والدينية وأجاد أيما اجادة في ذلك، خاصة وأنها وفرت له القالب الفني الجاهز والتجربة الانسانية المتكاملة. ولنا أن نشير الى عنصر التسامح وروح الاحترام التي يتميز بها في تعامله مع رموز الأديان الأخرى، غير الدين الاسلامي الذي ينتمي الشاعر الى ثقافته ومجتمعه.
المراجع:
1 – اطيمش محسن (1982). دراسة نقدية للظواهر الفنية في الشعر العراقي المعاصر. وزارة الثقافة والاعلام، بغداد.
2- بيريث ريوخا ( 1978). قاموس الرموز والأساطير. دار نثر "تكنوس » مدريد، ط 2.
3- جودة نصر. عاطف (1978). الرمز الشعري عند الصوفية. دار الاندلس – دار الكندي، بيروت.
4 – خوري إلياس ( 1979 ). دراسات في نقد الشعر. دار ابن رشد، بيروت.
5- داود، انس (بلا تاريخ ). الأسطورة في الشعر العربي الحديث. منشورات المنشأة النسبية للنشر والتوزيع والاعلان، بلا مكان.
6- السياب ( 1971و1974). ديوان بدر شاكر السياب. دار العودة بيروت.
7- عوض. ريتا (1978). اسطورة الموت والانبعاث في الشعر.العربي الحديث. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.
وليد صالح الخليفة (أستاذ جامعي من العراق يقيم في اسبانيا)