حاورتها: هدى حمد
منذُ أن أدركت أنّها ابنة “سجين سياسي”، حُكم عليه بالإعدام ومن ثم بالسجن المؤبد، إلى أن أُفرج عنه بعد أربعة عشر عامًا.. منذُ لحظة الميلاد وسؤالها الجارح عن غياب وجه الأب والقصّة الناقصة والمُعذبة لحارة الوادي، منذُ فتات الحكي الذي ألقت به أمّها وجدّتها في طريق السرد الطويل، منذ ذلك الوقت والكاتبة العُمانية شريفة التوبي تعمل بدأب على مشروع ثلاثيتها “البيرق”، التي كُتبت بقوة المخيّلة وإن امتد جذرها لتعالق حيوي مع حياة كاملة لمجتمع عاش الحرب ودفع ثمنها، دون أن يعرف الناس آنذاك إن كانوا أبطالًا أو مُذنبين!
هكذا نبشت التوبية تاريخ المكان في خمسينيات وحتى بداية سبعينيات القرن الماضي، عبْر استعادة الناس والبيوت والأزقة والطرقات والمجالس، واستعادة الوجع الذي أضاءه البعض بالكتابة وتنكر له بعض آخر. قدّمت التوبية شخصيات يراودها حلم الانعتاق من العزلة التي فرضتها سُلطة الموقع الجغرافي والسلطة السياسية، وسط صراعات انتقالٍ من حكم الإمامة الديني إلى حكم الدولة.
انشغلت التوبية بالمعاناة التي تجلّت في الجزء الأول في “حارة الوادي” حيث نشبت حربٌ غير متكافئة بين بريطانيا وأبناء “حارة الوادي” الذين أظهروا ولاءهم للإمام. بينما تغلغل الجزء الثاني “سراة الجبل” في نسيج الحرب الدموية التي وقعت بين 1956-1959 تمخض عن أحداثها ولادة الجزء الثالث “هبوب الريح” ليظهر من يتمسك بقوميته ومن يتأثر بتيارات المنطقة العربية آنذاك جراء مغادرة البلاد إلى الخارج، فنشأت تيارات فكرية جرّاء دفع خارجي عجّل بإجهاضها.
شريفة التوبي، قاصّة وروائية عُمانية، صدر لها عدد من الكتب، ففي المقالات: “المقعد شاغر” 2014، و”في قلبي شجرة” 2017 عن بيت الغشام. ومن المجاميع القصصية: “نثار” عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2015، “عين السواد” عن دار سؤال 2017، “انعكاس” ضمن إصدارات مجلة نزوى الثقافية. وكتاب في أدب الرسائل “سعاد… رسائل لم تصل” عن دار سؤال اللبنانية 2016، ومن الروايات، “سجين الزرقة” عن دار الآن ناشرون وموزعون 2020، تلتها عن الدار نفسها ثلاثية “البيرق” الصادرة تحت ثلاثة عناوين فرعية: “حارة الوادي” 2022، “سُراة الجبل” 2023، “هبوب الريح” 2025.
من أين انبثقت فكرة ثلاثية “البيرق”، وما هو المُحرّض الأساسي لنكء جِراح هذه الحقبة الزمنية المُلتهبة، بعد أن خضتِ تجربة كتابة المجاميع القصصية، والمقالات، وأدب الرسائل، وبعد روايتكِ الأولى ذات البعد الاجتماعي “سجين الزرقة”؟
– لم تأتِ فكرة “البيرق” من فراغ، ولم تكن وليدة لحظة عابرة، لقد تبلورت بداخلي منذُ أن وعيتُ الحكاية التي كان يحكيها لنا جدي كلّما جنّ الليل، عن الحرب وعنه وعن أبيه الملقّب “ود جريدة”. فهذه الشخصية المتفردّة بشجاعتها ومغامرتها التي تفوق الخيال، استفزّت بداخلي رغبة الكتابة، فتمنيتُ أن أكتب عن بطل يشبهه، أو بطولة تشبه بطولاته، أو حتى ما يتعلق بالمرحلة التي عاشها. فبدأتُ البحث في بطون الكتب عن كل ما يتعلّق بتاريخ تلك الفترة، فلم أجد ما يرضي فضولي، ويجيبُ عن أسئلتي، فأدركتُ أنّ ما يتعلّق بتلك الحقبة الزمنية بالذات، نصّ مفقود لتاريخ مُغيب وحكاية مخفيّة. كبر سؤالي الشخصي عن تاريخ أبي وجدي وعلاقتهما بأحداث تلك المرحلة، فلم أجد إجابة كافية، فظل السؤال يُلاحقني لمعرفة الحكاية الحقيقية التي امتدت جذورها إلى خمسينيات القرن الماضي. ولدت هذه الثلاثية من رحم الرغبة في اكتشاف المسكوت عنه من زاوية الراوي لا المؤرخ، وكانت الشرارة المُحرّضة للبدء في الكتابة -بعد زمن من التيه- موت جدي «رحمه الله»، ودفن ذاكرته بكل ما فيها من كنوز التاريخ وحكاياته، والتي لم يتركها لنا كإرث يمكن اقتسامه، آنذاك أدركتُ أنّي لم أفقد جدي فقط وإنّما فقدتُ تاريخًا بأكمله. لقد أيقظني موته من سبات تأجيل الكتابة والتسويف للغد وما بعد الغد، وانتبهتُ أني لم أحفظ شيئًا منها، حتى الذي استخرجه لي جدي من ذاكرته الحيّة، كان آيلًا للنسيان!
وكم المدّة الزمنية التي استغرقتها لإنجاز هذا المشروع الكبير نسبيا؟
– استغرق المشروع مني أكثر من ست سنوات، وهي الفترة التي كتبتُ فيها البيرق كرواية في أجزائها الثلاثة، لكن سبق ذلك بحثٌ واستعدادٌ نفسي للدخول إلى هذا العالم، الذي ما إن أبدأ كتابته حتى أغيب عن زمني الفعلي وعن حياتي، لأجد نفسي في حارة الوادي والجبل الأشم مع أبطال الرواية. كنتُ كلّما دخلت “البلاد” والبلاد هنا “إمطي” أشعرُ أنّ كل حجر في بيت مهدم ومُندثر يحكي حكاية، وأنّ آثار أقدام من عاشوا فيها ما زالت باقية. كنتُ أشعرُ بوجود حياة مُخبّأة خلف ظلال النخيل والجدران وفي جريان ماء الساقية. في كل زيارة “للبلاد” تجتاحني رغبة الكتابة عنها وعن “البيت العود” وكل ما يتعلق بتلك الفترة، وقد ظلت فكرة الكتابة تُلاحقني حتى قبل كتابة أعمالي الأخرى، تُطاردني في يقظتي ونومي فأتجاهلها وأهرب منها، فلم تكن تجربتي الكتابية آنذاك قد نضجت، وربما لم تكن الظروف مواتية لكتابة تاريخ بهذا الثقل، فكبحتُ اندفاعي كيلا تجرحني سكين الرغبة والاندفاع، وربما لم يتشكّل في ذهني آنذاك بوضوح طبيعة ما أود كتابته، ولكني كنتُ بين وقت وآخر أبحث وأسجّل ملاحظات وأفتش عن تلك الحكايات المنسية في الدروب والكهوف وحتى المقابر.. إلى أن جاءت لحظة الكتابة الفعلية.
هناك من يتصدى لسؤال التاريخ عبر التأريخ وتقصي الحقائق المدججة بالنظريات وإعادة الاستقراء للبقاء على الحياد، لكن الروائي وإن بنى حكايته على عمود فقري صلب، فهو يتسللُ إلى انحيازاته ومواقفه ويورطنا عاطفيا بشخصياته؟ وكما يقول صُنع الله إبراهيم: “المؤرخ الجيد هو الروائي”.
– يُقال إن التاريخ يُكتب بقوة السلطة، والرواية تكتبُ بقوة المخيّلة، إذ يقبعُ المؤرخ تحت مسؤولية الحقيقة التاريخية التي يجب أن يكون موضوعيًا في تناولها، وإن كنا لا ننفي أيضا أنّ التاريخ يُكتب لأجل عين المنتصر، وفي ذلك أيضًا نوع من التعاطف مع فئة ضد فئة أخرى وتحيّز، وبالتالي تضليل عن رؤية الحقيقة الكاملة، أمّا الرواية والتي أميل إلى مصداقيتها أكثر من التاريخ فإنّها تُكتبُ لأجل عين الإنسان، لأجل عين الفكرة، وهي محكومة في عالمها بسعة خيال الكاتب، وقدرته على إعادة كتابة التاريخ من زاوية مختلفة لا يهتمّ المؤرخ بها. ولكن أن تكتب رواية تاريخية فذلك لا يعني أنّك تكتب تاريخًا، بل تُعيد اكتشافه ولا يجب أن يقع القارئ في فخ الاسم. الرواية التاريخية تُقرأ كأدب مهما كانت الفكرة، ولكن ذلك لا ينفي النوافذ التي تفتحها في عقل القارئ والعوالم التي تسمحُ له بدخولها، فتجعله يعيشُ تلك الحقبة الزمنية بكل ظروفها. الرواية التاريخية ليست كما تبدو عليه من وجود حكاية جاهزة ويُعاد كتابتها. إنّها ليست بتلك السهولة الاعتباطية التي يتوقعها البعض، بل من أصعب أنواع الكتابة، لأنّك كروائي تقع بين تاريخ موجود وبين مخيلة تجمح وتطمح لكتابة مختلفة وحكاية قد لا يربطها بأصلها سوى القاعدة أو الأساس العريض.
يُقال: «التاريخ هو رواية ما كان، بينما الرواية هي تاريخ ما كان يُمكن أن يكون»، إذ يُفكك الأديب المادة التاريخية من صلابتها، ليسكب عليها تصوراته ورؤاه، فماذا أرادت شريفة التوبي أن تُمرر من وراء ثلاثيتها؟
– في ثلاثية البيرق أعدتُ كتابة التاريخ في تلك الحقبة الزمنية كما تصورته وكما أردته أن يكون، بكل ما حملته تلك الحقبة من تاريخ ثقيل وجارح بعض الشيء إلى درجة أن يكون منكرًا وغير معروف لدى البعض، وإن عُرف فليس أكثر من معلومات بسيطة لا تُسمن عقل جائعٍ ولا تروي عطش باحثٍ عن الحقيقة. إنّ هذه الحقبة التاريخية من تاريخ عُمان هي حقبة مفصلية ومهمة ولا يمكن لنا تجاهلها أو حتى دفنها في الملفات المنسيّة أو حرقها في محرقة التاريخ. بكل بساطة أردتُ أن يدخل القارئ الحارة العُمانية والبيت العُماني، أردته أن يلتقي بأبناء حارة الوادي التي تُمثل حارات عُمانية عاشت أحداثا مشابهة. في رواية البيرق لم أكن أبحث عن الحقيقة بقدر ما كنت معنية بالحكاية، ومتعة كتابتها، ولم أكن أريد إثبات شيء على حساب شيء آخر، حاولتُ ما استطعت أن أكتب عن مجتمع بأكمله، بكل ما فيه من تناقضات واختلافات وصراعات بين أفراد المجتمع الواحد، ولم أكن معنيّة بالتاريخ كحدث من الممكن أن يقرأه القارئ في أي ملف من ملفات البحث، بل كنتُ أحاولُ الخروج من تلك المساحة الضيقة جدًا التي كُتبت فيها أحداث ذلك التاريخ ومن طرف واحد، لذلك من يقرأ ثلاثية البيرق فلن يقرأ حربًا بل حياة كاملة لمجتمع عاش تلك الحرب ودفع ثمنها. شخصيات البيرق ليست بعيدة عن واقع التجربة، ولا غريبة عن ذاكرة القارئ، فمجرد أن يلتقي بهم القارئ على صفحات الرواية سيعرفهم وسيتعاطف معهم، وبطبيعتي وربما هي طبيعة الكاتب، لم أكن أبحثُ عمّا هو مسلّم به وبديهي، ولم أكن أترصدُ الحقائق الواضحة والقليلة التي سُطرت هنا وهناك عن تلك الفترة، بل كنتُ أبحثُ عن حكايتي. وهكذا ولدت حكاية البيرق مرتدية ثوب الخيال، الحكاية الغائبة عني وعن أبناء جيلي، والأجيال التي ستأتي لتكتشف الثغرة الجليّة في التاريخ، تلك التي ما تزال مفتوحة على احتمالات كثيرة وغير مفهومة. في نفس الوقت لم أكن أرغب في الدوران في تفاصيل الحكاية المألوفة كما تدور الحبوب في رحى الطحن، لأنّي لحظتها لن أرضى عن نفسي.أردتُ للقارئ أن يعرف أن الحرب التي قرأها في كتب التاريخ لم تكن حربًا عابرة ولا بين سلطتين، بل كانت أعمق من ذلك وكانت لها آثارها على المجتمع، أردتُ أن أكتب ما غيّبه المؤرخ، ففي هذه الملحمة السردية سيعرف القارئ عن قرب كيف اشتعلت تلك الحرب وكيف امتدت نيرانها ومن احترق بها وكيف انطفأت، وأظن أن ثلاثية البيرق هي العمل الأول الذي يتحدث عن تلك المناطق المُحاطة بالجبال والتي كانت معزولة في فترة الخمسينيات والستينيات، فمعظم الأعمال الأدبية التي صدرت كانت عن مسقط وظفار فقط.
هنالك أعمال روائية عُمانية سابقة لثلاثيتكِ تناولت هذه المنطقة الشائكة منذ رواية عبدالله الطائي «ملائكة الجبل الأخضر»، وروايتي محمد اليحيائي «حوض الشهوات» التي تحكي عن أثر الحرب بين السلطة والإمامة، و«الحرب» التي تُعرّج على ثورة ظفار؟
– ثلاثية “البيرق” تناولت ثلاث مراحل زمنية، قبل حرب الجبل، ثم فترة الحرب، ثم حرب ظفار، ولأنّها مرحلة تاريخية تكاد تكون مغيّبة، لم تكتب حرب الجبل كأدب إلا في رواية واحدة هي رواية “ملائكة الجبل الأخضر” لعبدلله الطائي، التي صدرت طبعتها الأولى في 1965، أمّا عن مرحلة حرب ظفار، فلم أطلّع على روايات أو قصص كتبت عن هذه المرحلة، فقط رواية “الحرب” لمحمد اليحيائي التي صدرت في 2023، وهي رواية تسترسل أحداثها من خلال ذاكرة أشخاص يعيشون في المنفى، لهم تجربتهم السياسية، وحين صدرت هذه الرواية كان قد صدر لي الجزءان الأول والثاني، وكان كل ما أخشاه وأنا أراجع الجزء الأخير، أن يكون هناك تكرارٌ بين الروايتين، لكن بعد أن قرأتها اكتشفتُ أنّ أبطال رواية “الحرب” لا يشبهون أبطال البيرق، وذلك لالتزامي بخط سير الحكاية والبعد الاجتماعي منذ جزئها الأول وحتى الثالث.
القارئ للأجزاء الثلاثة يُدرك أنّ الثلاثية لم تنهض على كتب التاريخ المدون وحسب، لا سيما وأننا بصفتنا قراء نكتشفُ تعالقها مع منظومة اجتماعية شديدة الثراء والتنوع، فتُرينا نمط العيش وشكل الحياة بتفاصيلها في خمسينيات القرن الماضي، كما يرصد القارئ أيضا الانتصار لقصص المُهمشين، لنتحدث عن تقفي أثر الحكاية من الرُواة الذين شهدوا أحداث حرب الجبل؟
– التقيتُ ببعض رفاق والدي الذين كانوا في الجبهة وبعضهم ممن شارك في حرب الجبل وعرفوا الإمام عن قرب، وأثناء حديثي معهم، أدركتُ أنّ هناك ما لم يُحْكَ وما لم يُقَلْ. فحديثهم وحكاياتهم وتلك التفاصيل الصغيرة كانت وقود اشتعال الأجزاء الثلاثة، التي أستطيع القول إنه رغم عدد صفحاتها الكثيرة أتت مُكثّفة عن تلك الحقبة الصعبة التي عاشتها عُمان أيام حرب الجبل وما قبلها، والعزلة التي عاشها أبناء المناطق الداخلية خصوصًا، حيثُ لا وسيلة للتواصل، ولا سبب من أسباب المعرفة بالآخر أو معرفة الآخر بهم، وهو تاريخ مُهم، كان له دورٌ في تشكيل الأحداث بعد ذلك، وكان نقطة تغيير قادت إلى نقاط التغيير اللاحقة. تاريخ لا يمكن استقطاعه من الذاكرة التاريخية الجمعية ولا يمكن نسيانه أو تجاهله، ولا يمكن أيضًا أن ننتظر من غيرنا كتابته لمجرد أنّه كان شريكًا أو شاهدًا على تلك الفترة، لأنّه باختصار لن يكون صادقًا وأيضًا لن يكون مُحايدًا، فكان لا بد من الكشف عن الوجه الآخر للحكاية، بقلم كاتبٍ آخر غير مدوّن التاريخ، كاتبٍ لا ينحاز، ولا يعيش حذر المؤرخ، ولا يخشى عين الرقيب المسلّطة عليه، لذا كان لا بد من كتابة أخرى وقراءة أخرى لذلك المشهد، وكان لا بد أن تظهر أصوات ظلت مكتومة ووجوه مموهة، وأسماء وإن كانت رموزًا كانت مُغيّبة تمامًا وكأن لم يكن لها دور ولم تحدث تأثيرًا ولم تتأثّر، لهذا وذاك الذي ذكرته سابقًا كانت الشرارة تومض بداخلي، والرغبة تكبر في أن أكتب، فأتت “البيرق” في صورتها المكتملة في ثلاثة أجزاء.
كتبتُ الثلاثية لأجل الذين دفعوا الثمن غاليًا من أعمارهم وحياتهم وبيوتهم، سواء أكانوا على حق أم على باطل، ولأنّي لم أكن بعيدة كل البعد، ليس بالعمر الزمني ولكن بحكم القرب الاجتماعي أو العائلي، وكنتُ مدفوعة بالفضول لمعرفة التفاصيل الصغيرة، لمعرفة الحكاية المختبئة خلف جدران «البيت العود»، وخلف الأبواب والنوافذ المطلة على الدروب العتيقة في الحارات العُمانية القديمة، حكاية الأشخاص الذين عبروا تلك الدروب، والمرأة التي قُتلت وهي تحمل على رأسها وِقرًا من البرسيم أو جحلة ماء، نزفتها من فرضة الفلج، البيوت المهدّمة الشاهدة على ما حدث، ساقية الفلج في جريانها وكبرياء النخلة التي ماتت واقفة وما زالت واقفة، كل ذلك حين بحثتُ عنه لم يكن موجودًا في الصفحات القليلة التي كتبها الباحثون والمتخصصون في التاريخ، فكل الكتب التي اطّلعت عليها وقرأتها، لم تكتب عن أمّ السجين ولا عن البيدار، ولا عن الشيخ المقتول ولا عن زوجة السجين، لم تصف حالة السجناء داخل السجن، لم يذكرهم أحد، لم يذكر أحد نضالهم، فزعهم، موتهم، شتاتهم، فقرهم، عذابهم، شجاعتهم، حتى الآن لم يكتب أحد عما كان يحدث في زنازين قلعة الجلالي، كل ذلك كان في ذاكرة الأشخاص، الذين شهدوا ما لم يشهده غيرهم من ألم وعذاب، وعاشوا الحكاية وخبأوها في مناديس ذاكرتهم، ربما خوفًا أو رغبة في النسيان.
ولذا كان لا بد لي أن أبحث عن عويدة وعن نفافة وخديجة وصالح وحمدان، وعن حمود ومبارك، وكل هؤلاء ما كنتُ سأعثر عليهم لو لم أستعن بذاكرة من التقيتُ بهم ومن منحوني وقتهم وذكرياتهم وكانوا لي المرجع والمعين، وأخص بالذكر أولًا والدي، ورفاق والدي مثل حمدان الضوياني، والمرحوم سويد العريمي ويحيى الغساني، وسالم بن مرهون التوبي وآخرين، ومن الرعيل السابق ممن كانوا بالقرب من الإمام، الشيخ سعيد بن مرهون التوبي -رحمه الله- من الجبل الأخضر. وبالطبع كان في داخلي أسئلة كثيرة لم أحصل على إجابة عنها، فحتى الذين التقيتُ بهم لم يقولوا كل شيء. كان هناك بعض التحفظ في الإجابة على بعض الأسئلة، ربما لأسباب شخصية متعلّقة بالمعاناة والظروف التي مرّوا بها، وأصبح أكيدًا لديّ بأنّه كما أن هناك ما لم يكتب، فهناك أيضًا ما لم يُقَلْ. لكن كل ذلك لم يكن عائقًا أمامي بل بالعكس فتح لمخيلتي أبوابا أخرى للدخول إلى عوالم تخيّلتها وصنعتُ منها أحداثَ رواية، بناء على ما سمعتُ وعرفتُ، لذلك أتت “البيرق” في أحداثها وشخوصها أقرب إلى الإنسان في مشاعره وحياته، ولم تأتِ كتوثيق لحكاية تاريخية، لأنّي كنتُ بحاجة لأن أخلق حكايتي ونصّي، من النص المفقود.
يخلعُ الروائي نصيبًا وافرًا من مكنوناته وأسئلته وهواجسه الفردية على الشخصيات، فكيف تعاملتِ مع السردية الواقعية التي حصدتها جرّاء البحث الميداني وبين ما اقترحته عليكِ المخيلة والانحياز الشخصي لقصّة حياتك أيضا؟ كيف يصمد الروائي في هذه المهمة الشاقة من التوازنات؟ لاسيما ونحن ننبشُ عن المسكوت عنه؟
– هذا ما كنتُ أخشاه حينما فكّرتُ في أمر الكتابة، كان لا بد أن أنأى بنفسي كابنة لعائلة لها تاريخها وارتباطها المباشر بالأحداث في تلك الفترة، كان عليّ أن أكون مُحايدة حينما أكتب، فوضعتُ لنفسي حدودًا لا أتجاوزها وأنا أضع نصب عيني أنّ هذا العمل رواية وأدب متخيّل وليس له علاقة بالتاريخ العائلي إلا القاعدة التي أقمتُ عليها أعمدة العمل، وذلك بالطبع ليس سهلًا، فحتى لا أتجّه بمشاعري وأكون متحيّزة تجاه طرف على حساب طرف آخر، كان عليّ أن أكون على معرفة بجميع الأطياف واختلاف مشاعرهم ووجهات نظرهم حول ما كان يحدث، وأكون محرّكا للأحداث في ذلك العالم الواسع، والقارئ سيلاحظ في “البيرق” أنّ الحارة كانت تضم أشخاصًا لا يجمعهم رأي واحد، فهناك من كان مع وهناك من كان ضد. وكما ذكرتُ سابقًا، هذه الرواية بالذات لم تستفزني لكتابتها ملاحظة خاطفة، بل كانت موجودة معي منذُ أن وعيتُ الحياة وأدركتها، منذ أن فتحتُ عينيّ ولم أرَ أبي، ومنذ أدركتُ أنّي ابنة “سجين سياسي”، كان محكومًا عليه بالإعدام ومن ثم بالسجن المؤبد ومن ثمّ أفرج عنه بعد أربعة عشر عامًا، ولم أكن أفهم حتى تلك اللحظة أسباب ما حدث. لذلك أستطيع القول إنّ هذه الرواية تجذرت في أعماقي قبل البدء بالكتابة، فقد كنتُ أحملها حملًا ثقيلًا حتى أتت لحظة الميلاد. ومن تلك الأسئلة التي لم أجد إجابات واضحة لها، أدركتُ أنّ الحكاية لن تكتمل إلا بالكتابة، الكتابة وحدها ستفتحُ في داخلي آفاقا أوسع وستجيب عن كل الأسئلة الحائرة في عقلي، وحين اتخذتُ القرار، لم أرغب في الكتابة عن والدي أو عن جدي فقط، كنتُ بحاجة لأن أكتب عن كل من عاشوا حياتهم آنذاك، عن الذين وجدوا أنفسهم متورطين في حرب أو منتمين إلى فكر معين حتى لم يعودوا يعرفوا إن كانوا أبطالا أم مذنبين! كذلك لا أنكرُ تأثّري بشخصية جدي الشيخ علي بن حمد الملقب “ود جريدة”، كنتُ مبهورة به، ولديّ رغبة في أن أخرج بشخصية روائية تشبهه، فاستلهمتُ شخصية ناصر بن حمد منه، الرجل الشجاع والحكايات التي تُحكى عنه. بالنسبة لي رواية “البيرق”، هي الرواية التي حلمتُ بكتابتها، والكتاب الذي تمنيتُ أن أقرأه، ولو لم أكتبه لتمنيّتُ أن يُكتب، ولو لم أكتب هذه الثلاثية، كنتُ سأظل أحملها كهاجس مُلِح، كرسالة لم تصل، وأمانة لم تؤدَّ. بالطبع مهما حاول الروائي أن يكون محايدًا ومتجرّدًا في عمله وسرده، لن يستطيع، فهو في النهاية ليس كاتبًا في ديوان، ولا مؤرّخًا، الأدب الحقيقي لا يأتي بقياس الفكرة على الفكرة، ولا يُكتب بحساب عقلاني، بل ببذرة تنمو في القلب وتكبر، حتى تحين لحظة ولادتها، وثلاثية “البيرق” كما أشرتُ سابقًا لم تومض شرارتها في قلبي فجأة. الفكرة أتت منذ اللحظة التي فتحت فيها عينيّ ولم أجد أبي معي، منذ سألتُ عنه أمّي ولم تجبني إجابة كاملة، منذ معرفتي لنصف الحقيقة وليس كلها، حتى من أبي نفسه حين عاد وأنا أطلب منه أن يروي عطش قلبي لمعرفة ما حدث، ويقول لي اقرئي لتعرفي، بينما لم يكن هناك ما أقرأه حتى أعرف، لحظتها كنتُ فقط أريد أن أعرف لا لأكتب بل لأُشبع فضولي وأسدَّ الفراغ المعرفي في عقلي، فحين وجدتُ نفسي ممتلئة بالأسئلة حتى أكاد أختنق بها، تولّدت لديّ رغبة الكتابة لأتخلص من ذلك الكم الهائل من الأسئلة التي لن تجيبني عنها سوى الكتابة، لأنّي بذلك سأتيح لمخيّلتي فرصة الابتعاد عن نفسي وما عايشته من شوق لأب لم يكن معي في سنوات طفولتي الأولى، فهل كتبت أيضًا بدافع الحبّ لأبي؟! ربما.
هل كان هنالك تخطيط مبكر لأن يخرج العمل ضمن ثلاثية متصلة؟
– لم أفكر في البدء أن تخرج الرواية كما خرجت في شكلها النهائي، فحينما اتخذتُ قراري بكتابة هذه الرواية، كنت أظن أنّي سأكتب رواية من جزء واحد، أكثر ما يمكن أن تكون عليه 400 صفحة، ولكنّي وجدتُ الشخصيات تقودني إلى مصائرها، حتى أنّ بعض المصائر للشخصيات لم أكن أرسمها لأنّ تكون كذلك، لكنها تغيّرت، فمع توهج الكتابة اكتشفتُ أنّ هذا العالم يكشفُ لي أبوابه، بابا بعد آخر، حتى أنّي نسيتُ الحدث التاريخي الأصلي وانغمستُ في الحكاية الجديدة الموازية، ووجدتُ متعة ربما لم أجدها في أي عمل كتبته من قبل، فكانت الأحداث تنثالُ أمامي والحكايات تنهمرُ كانهمار المطر، فلم أشعر بنفسي إلا وقد تجاوزت 2000 صفحة، وحينما بدأتُ الكتابة الثانية لهذا العمل، أي مراجعة المسودّة الأولى، أدركتُ أنّ ما كتبته لم يكن فائضًا بل أحداث مترابطة تحتاج فقط إلى إعادة كتابة وتنسيق ومراجعة لتخرج في ثلاثة أجزاء.
الأجزاء الثلاثة لا تمضي عبثا، لديها ما تود الإفصاح عنه بنوايا مُسبقة، إذ تمضي في حيز زمني مُنظم، ما قبل الحرب وأثناء الحرب وما بعد الحرب في الجبل الأخضر، كما أنّها تُفككُ منظومة الأفكار التي رافقت كل مرحلة من المراحل.. فكيف يُعمِل الروائي توازناته الحذرة بين التاريخ الذي لا يريد خيانته وبين المُتخيل العذب الذي يُخاتله، وبين ما يُبطنه النصّ وما يُبديه من تحيزات ضمنية؟
– أي عمل أدبي هو حدث ماضٍ، هو ذاكرة، سواء أكان تاريخيًا أو اجتماعيًا أو أي شكل من أشكال الكتابة وموضوعاتها، نحنُ لا نكتب اللحظة الحاضرة أبدًا، ولا نكتب الفكرة حين تأتي، بل نحتفظُ بها حتى تصبح ماضيًا، حين نكتبُ نحن نسترجعُ ما اختمر في عقولنا وقلوبنا في الذاكرة، الكتابة هي عملية استرجاع ومراجعة، والرواية التاريخية تُبنى أحداثُها على أساس البناء الفني الأدبي الروائي، وإن ارتكزت على وقائع وأحداث تاريخية.
كنتُ أعلم مدى الصعوبة أو المخاطرة والمغامرة التي أخوضها في سبيل الخروج بعمل روائي بسرد مُتخيّل لتاريخ حقيقي، نستطيع القول إنه مغيّب، وكان عليّ ألا أخون الأدب وانتصر لرسالة الأديب، الذي عليه أن يضع نصب عينيه الإنسان أولًا وأخيرًا، وأن يكون قلمه صوتًا لمن لا صوت لهم، وكلمة لمن ضاعت كلماتهم تحت التراب أو لسبب آخر. لذلك أبرئ نفسي من أن يكون ما كتبته تاريخًا، فأنا لستُ مؤرخة ولا باحثة في التاريخ، أنا كاتبة، روائية، تعنيني متعة الكتابة قبل البحث، وأكتبُ في حدود صلاحياتي كروائية لا أتجاوزها، ويهمني أن أقدّم للقارئ حكاية يستمتع بقراءتها قبل أن يجد نفسه أمام كم من المعلومات التاريخية التي من الممكن أن يقرأها في كتب التاريخ. فما كتبته وما قرأه القارئ في رواية “البيرق” أدبٌ متخيّلٌ ليس إلاّ، ذلك ما كتبته كتنويه في الصفحة الأولى.
ما المخاوف التي كانت تراودكِ أثناء خوض هذه التجربة؟
– الخوف الذي كنتُ أعيشه أثناء الكتابة هو التكرار، وبذلك أكون كمن لم يفعل شيئًا ولم يُقدّم جديدًا ولم يُكتب أدبًا، فهناك بعض الشخصيّات أشرتُ لها كشخصية الإمام والسلطان لأنّها شخصيّات تدور حولها الأحداث أو هي شخصيّات محوريّة، ولكن حتى هذه الشخصيات في طبيعتها المتخيّلة مختلفة عن طبيعتها في الحقيقة، ففي الرواية أتت وفق مجريات الحدث. وهناك أحداث وحقائق تاريخية لم أستطع تجاهلها، بل بنيتُ عليها أحداثا أخرى لا تشبه الحدث الحقيقي، مثل قصف حارة الوادي، ومشهد سقوط طائرةٍ وقائدِها في الجبل، وزيارة زوجة الطيّار للإمام والشيخ، والرسالة التي كتبها الطيّار وهو يعتذر عن مشاركته في تلك الحرب غير المتكافئة، وتأثر الزوجة بما رأته من حسن معاملة، هذه الأحداث كلها ليس لها علاقة بالحدث الحقيقي، ولكن لها علاقة مباشرة بالحدث الروائي والحبكة، لذلك حينما يقرأ القارئ الرواية عليه أن يقرأها كعمل أدبي مستقل لا علاقة له بالتاريخ، لأنّ الرواية التاريخية في النهاية نتاج خيال الكاتب ليس إلا.
لماذا تمّ اختيار عنوان «البيرق» للأجزاء الثلاثة.. ما هي دلالته الأعمق؟
– العنوان هو الجزء الأصعب في الكتابة، فقد يكتب الكاتب وينتهي من كتابة نصّه أو روايته بكل سهولة وتدفق ويسر، لكنّه يقف أمام العنوان، لأنّ العنوان الذي قد يتكوّن من كلمة واحدة أو كلمتين هو العتبة الأولى أو البوابة الأولى في العمل، فكما يعرف البيت من بابه ويدخل إليه منه، تعرف الرواية من عنوانها. في كل أعمالي السابقة، كتبي، مجموعاتي القصصية، روايتي الأولى، واجهتُ هذه المعضلة، إلا أنّي في ثلاثية “البيرق”، لم أواجه ذلك، ولم يشكّل العنوان لي حيرة أو قلقًا، وعلى غير المعتاد وُلد العنوان قبل ميلاد الرواية، ولذلك حكاية طريفة، فما إن تشكّلت في داخلي فكرة كتابة هذه الرواية، وفي فترة بحثي برفقة والدي الذي كان يُرافقني وينسقُ لي هذه اللقاءات، ولقائي مع كبار السن ومن شاركوا في حرب الجبل، وفي الجبل الأخضر تحديدًا، وأثناء لقائي مع الشيخ سعيد بن مرهون التوبي -رحمه الله- وحديثه المستفيض عن حرب الجبل وما دار فيها، وعن دور القبائل في تلك الحرب والبيارق التي كانوا يرفعونها، شارحًا لي أن بيرق الإمامة كان لونه أبيض، وبيرق السلطان لونه أحمر، في حديثه -رحمه الله-، باعتباره أحد الذين حملوا البيرق، كان يُرددُ كثيرًا هذه الكلمة، فكان لها تأثير كبير في روحي، وكأنّها إشارة إلى العنوان الذي سأختاره ليكون عنوانًا للعمل. وحينما بدأتُ برسم خطة العمل وضعتُ في ذهني العنوان الذي ستدور حوله تلك الملحمة التاريخية، فكانت كلمة “البيرق” العنوان الأنسب من حيث الدلالة الرمزية للكلمة، وتوافقها مع المرحلة الزمنية للأحداث. وحين بحثتُ عن المعنى وجدتُ أنّها كلمة فارسية تعني العلم أو الراية التي يحملها قادة الجيوش في حملاتهم العسكرية ومعاركهم. وحين وجدتني أكتب ثلاثية، لم أتخلّ عن العنوان الرئيس، بل أصبح عنوانًا عامًا تأتي تحته عناوين فرعية للأجزاء الثلاثة، فلم أحبّذ كتابة أرقام على أجزاء الرواية، فالعناوين الفرعية كافية الدلالة.
يرى البعض أنّ اللجوء للقضايا الكبرى التي وقعت في الماضي، هو شكل من أشكال الهروب من مواجهة الحاضر والأسئلة التي تنبتُ فيه؟
– لا أظن أنّ ذلك صحيح، الماضي كنزٌ من الحكايات لمن يجد في نفسه صبرًا على البحث ويجيد النبش ويتقن إعادة تشكيل الحكاية، وكاتب الرواية التاريخية لا يُعاني من ضحالة في المخيّلة كما قد يظن البعض ولا يلجأ إلى الحكاية التاريخية استسهالا، فمجرّد التفكير في الكتابة عن حدث تاريخي، هو أمر مُقلق ومرعب، لا سيما عندما يُواجه ذلك السؤال الكبير: ستكتبُ عن حكاية سمعها غيرك كما سمعتها أنت، إذن ماذا ستضيف؟ ما الجديد الذي ستقدمه؟ وحدها الفكرة بهذا الشكل تمثلُ حالة من الشك. ولذا لا أنكر أنّي فكرتُ كثيرًا في التوقف وعدم المجازفة، وكأنّ ذلك الهاجس المُلِح فخ شيطاني، وذنب عليّ التعوّذ منه والاستغفار. ثمّة ثقل آخر يرزحُ تحته الروائي: كيف يُمكنه كتابة عمل روائي لا يتعارض مع الحقيقة التاريخية ولا يُكررها ولا يشبهها تمامًا!
ألم يكن لديك مخاوف من الولوج إلى هذا العالم السياسي الخطر؟ وهل هناك خطوط حمراء لم تتمكني من الدخول إليها؟ هل يمكننا الإشارة بجلاء إلى أنّ مرد التريث في الكتابة والنشر يعود إلى مساحة الحرية المُقيدة لنبش موضوع بهذه الحساسية؟
– حينما تأكّدت لدي الفكرة، واتخذتُ قرار كتابة رواية عن هذه المرحلة التاريخية، لم أفكّر في الشقّ السياسي لحظتها، بل شغلني الإنسان البسيط، المهمّش، الحارة القديمة، والحياة الاجتماعية وآثار الحرب على أبناء المجتمع، ربما لأنّ الشق السياسي أُشبع كتابة، سواء عبر البحوث أو الدراسات. ومع ذلك لا أنكر أنّه كانت لديّ في البدء مخاوف، لارتباط الأحداث ببعضها في نسيج مُتشابك، وإن حاولتُ فلا بد من التورّط، ولكن لأنّ ما يهمّني الإنسان كما قلتُ في المقام الأول، والكتابة الأدبية المبنية على الخيال وليس التوثيق، فقد سعيتُ لأن يجد القارئ متعة القراءة، كما وجدتُ متعة الكتابة، وحاولتُ جهدي أن أبتعد عن التطرّق للرموز والشخصيّات السياسية، والاكتفاء بالإشارة إليها، بما يتناسب والحبكة ومسار الحدث ومتطلّبات السرد، لأنّ ما كان يهمنّي هو الكتابة عن حطب الحرب وليس عن الرصاصة، عن الأثر وليس عن السبب، عن الضحايا الذين دفعوا حياتهم ثمنًا لحرب لم يفهموا أسبابها ودوافعها، لمجرد أنّهم كانوا أتباعًا للإمام وآمنوا به إيمان المؤمن بعقيدته. ولا أنكر، مساحة الحرية التي نعيشها الآن شكلت حافزًا للكتابة والنشر، لقد تخليتُ عن الحذر المُعرقل والخوف الذي كان يعتريني كلّما نويتُ الاقتراب من نبش المدفون من حكايات الأمس المُلغمة بالحرب والسياسة، تلك الحقبة التاريخية التي كان من الممكن أن تُنسى وتندثر وتزول إذا لم نُغامر ونملكُ الشجاعة والجرأة كي نحكي عنها. إنّه تاريخ عاشته هذه البلاد العريقة الضاربة بحضارتها في عمق الزمن، تاريخ لا يمكن تجاهله أو نسيانه، قبلناه أو رفضناه، فارتبط ذلك في ذهني بأنّي أملكُ أمانة ولا بد من تأديتها. كنتُ أريد أن أنتصر للأبطال الحقيقيين الذين كانوا يموتون واحدا إثر الآخر بحكم السن وطبيعة الحياة والموت، ولم يكتب عنهم أحد وكأنّهم ما كانوا ولم يقدّموا شيئًا، فأصبحوا نسيا منسيّا. كتبتُ لأجل كل من وجدوا أنفسهم متورطين في تلك الحرب البعيدة، ومن دفعوا حياتهم من أجل فكرة أو معتقد آمنوا به، ربما دون أن يُدركوا أبعاد ما هم مقدمون عليه، هؤلاء الأشخاص الذين أهديتهم العمل كانوا سببًا مباشرًا لأن أكتب.
على الرغم من موضوع الرواية الملحمي في الأجزاء الثلاثة، إلا أنّ أبطالكِ لم يكونوا من طبقة السلطة التي تُغير مجرى الأمور، اخترتِ أن تُرينا الأثر الذي تتركه الحرب في الشخصيات المُهمشة، كما أنّ المرأة ظهرت ليست كأمّ للأبطال وحسب، بل كصاحبة موقف وكمعلمة ومؤثرة في سير الأحداث؟
– أبطال البيرق لم يكونوا سلاطين ولا أئمة ولا قادة حروب، بل كانوا أبناء حارة الوادي والجبل الأشم، البسطاء الذين طحنتهم الحرب، وكانوا فتيلها وبارودها، وجنودها وضحاياها، وحين كتبتُ رواية البيرق كتبتها من أجل الإنسان في أي صفة كان، عاديًا أم سلطانًا، قائدًا أم غفيرًا، غنيًا أم فقيرًا، وعلى الأدب أو الأديب أن ينتصر لأولئك المهمشين الذين طحنتهم رحى الحرب، الذين لا صوت لهم. فإذا كان التاريخ ظالمًا، فلن تكون الرواية ظالمة أيضًا، انتصرتُ للإنسان في البيرق، كما انتصرت له في روايتي الأولى “سجين الزرقة” رغم الاختلاف الشاسع بين المُجتَمعين، في البيرق كتبتُ عن المرأة التي شاركت في الحرب، عويدة، طويرة، جوخة، شيخة، خديجة، طفول، باسمة، كتبتُ عن السجين وزوجته وأمّه وابنته، أردتُ أن أكتب عن عويدة بالذات، المرأة التي لم تنكسر رغم كل الإحباطات التي مرّت بها، عويدة التي ربّت ابنها وخادمه حمدان ليكونا رجلين فكانا كما أرادت، وكانت تحمل السلاح وتخبئه في بيتها، وتسري ليلًا لتوزعّه على الثوّار، ففي كل المراحل كانت المرأة حاضرة وشريكة حتى في القتال، أردتُ أن أكتب عن اليتم والفقد، وعن البسطاء جدًا والمهمشين والذين لم يأتِ على ذكرهم أحد رغم تضحياتهم وبطولاتهم، فأتت شخصية حمدان، الذي كان يعيش بعاطفة صادقة لا يأمل منها إلا العطاء فقط للمحبوبة التي يخدمها حية وميّتة، وأتت شخصية مرهون الرجل المزواج، وسيف وزُهرة ونفافة والمعلّم خلفان وخلف وزوجته طويرة، هؤلاء هم من صنعوا التاريخ حقًا في ثلاثية البيرق، ولأنّي عايشت ذلك في معاناة جدتي وجدي وأمّي واقعيًّا أدركت ما يعنيه الأمر، فكان لا بد من الكتابة.
يلعبُ المكان دور البطولة سواء أكان في “حارة الوادي” أو في أماكن رحلة الشخصيات إلى البحرين والسعودية ودبي والكويت ومصر.. كيف قمتِ بتشييد المكان روائيا؟ فقد بدا كما يُشير لذلك الكاتب السوري نزار فلوح في مقاله المنشور في جريدة عُمان: «كبادرة انتقالٍ رمزيٍّ خجول، من مجتمع قديم جامد إلى لحظة حداثة واعدة»؟
– حارة الوادي، أتت كعنوان للجزء الأول في ثلاثية البيرق، وهذا يحمل دلالة أهمية المكان في هذه الرواية، فالمكان هو الأساس الذي بنيتُ عليه الأحداث، وهناك ارتباط كبير بين الزمان والمكان، فحارة الوادي لعبت دور البطولة في الثلاثية وخصوصًا الجزء الأول حيث تدور الأحداث، نظرًا لموقعها الجغرافي المتميز في وقوعها تحت الجبل كسهل أخضر ممتد أو رابية يسميها أهل الجبل “الوطا” كما أنّ العلاقة الأسرية بين أبناء الجبل الأشم وأبناء حارة الوادي كما أتى في الرواية، مهّد لدورهم الكبير أثناء حرب الجبل. كان للمكان في ثلاثية البيرق دور البطولة، بل المكان هو الأساس الذي دارت حوله الأحداث، وما يتعلّق بالمكان مثل البيوت المهدمة وعادات وتقاليد أهل تلك الحارة، اللهجة وطريقتهم في نطق بعض الكلمات، الاختلاف الطفيف بين لهجة أهل الجبل الأشم ولهجة أهل حارة الوادي. كذلك الانتقال من حارة الوادي كحارة صغيرة معزولة لم يخرج أهلها منها ولم يعرفوا ما يقع خلف جبالها ووديانها، مما شكّل اتجاهاتهم ورؤاهم وأفكارهم وجعلهم يقفون مع الإمام مؤمنين به، لأنّه واحد منهم ولأنّهم رأوه وعرفوه ولم يروا ولم يعرفوا غيره، فكانوا محافظين على أعرافهم وتقاليدهم إلى درجة خوفهم من استخدام أي شيء غريب (صنعه الكافر) كما كانوا يقولون، فللطبيعة الجغرافية تأثيرها حتى في الدور الذي قام به هؤلاء الرجال في تلك الفترة، كذلك تأتي طبيعة ظفار وقربها من اليمن ودور ذلك لأن تتشكل بدايات الجبهة هناك في تلك الجبال الخضراء، وتصبح مخبأً وملجأً للثوار. من جانب آخر سيلاحظ القارئ في الجزء الثالث خصوصًا الانتقال الجغرافي وتعدد الأماكن، مصر، البحرين، الكويت، العراق، دبي، الصين، ودول أخرى. ابتعاث حمود بطل الجزء الثالث إلى مصر وصدمته الثقافية بكل ما رأى وشاهد هناك وهو القادم من حارة الوادي المحرّم فيها حتى سماع الراديو، تلك الصدمة الثقافية التي عاشها وهو يرى الكتب التي تُباع على أرصفة الشوارع، المكتبات، المسارح، السينما، المقاهي، كل ذلك جعله يقف مع نفسه وقفة بين أن يبقى على ما هو عليه أو يثور على (الفقر والجهل والمرض) الثالوث الذي قامت عليهم ثورتهم، فخلع العمامة وارتدى قبّعة جيفارا كرمز للثورة والنضال، وترك مبادئ الدين وآمن بمبادئ لينين وماركس وإن ظل محافظا على ما يؤمن به كرجل مسلم. أستطيع القول: المكان هو البطل الأول في هذا العمل، وحارة الوادي، كعنوان مباشر إشارة واضحة لذلك.
الروايات التاريخية العُمانية حاولت سدّ النقص الذي اعتور مصادر التاريخ الأساسية التي صمتت عن تدوين وتوثيق منعطفاته الحادة، فأثرت في الوجدان الجمعي.. فكيف تعامل المتلقي مع الثلاثية، هل كحقيقة راسخة أو كمحاكمة للتاريخ أم كنسيج أنتجه الخيال؟ وكيف تعامل التلقي الرسمي مع موضوع بهذه الحساسية؟
– حينما بدأتُ الكتابة لم أفكّر في التبعات، ولم أسأل نفسي كيف سيتقبّل القارئ هذا العمل؟ كيف سيقرأه؟ ولم أفكّر في التلقّي الرسمي لهذا العمل، عشتُ متعة الكتابة التي يعيشها أي كاتب أثناء كتابته لعمل أدبي، لأنّ أي شعور بالحذر أثناء الكتابة سيلغي تلك المتعة التي أستمد منها القدرة على الاستمرار، ولأنّي كنتُ أعي جيدًا والمتلقّي الرسمي أيضًا يعي أن هذه الثلاثية هي أدب، عمل أدبي لا أكثر، ولا يمكن أن تُقرأ إلا في هذا الإطار فقط. ومن منطلق الحرية الفكرية المتاحة لنا انطلقتُ في الكتابة، وحدود مسؤوليتي تنتهي فور انتهائي من كتابة آخر كلمة في العمل، وبعد صدوره يصبح في يد القارئ، وهنا أصبح غير مسؤولة كيف سيتلقى القارئ هذا العمل؟ هل سيقبله أم يرفضه؟ هل سيقرأه كتاريخ أم كأدب مُتخيّل فقط؟ تلك مسؤوليته وحده، لذلك لم أشغل نفسي بالسؤال عنه، القارئ حر في تأويل النصّ، وحرّ في اعتباره تاريخًا، أو عملًا أدبيًا محضًا، في النهاية الكاتب المحب لوطنه سيكون مُدركًا للمناطق المحرّم الدخول إليها والتي قد تثير زوبعة ما، وللمناطق الآمنة التي ينطلق منها بكل صدق وموضوعية.
كثيرا ما تشير الدراسات لأهمية إنتاج التأريخ الأفقي للمجتمعات وذلك عن طريق «التدوين الأدبي المُعاصر للحدث، أو التقصـّي المعلوماتي للماضي ودمجه بالخيال الفني»، فما هي الحيل التي لجأتِ إليها لجبر النقص في القصّة المحورية؟ لتشكيل ملمح للحقبة الزمنية التي تناولتها؟
– كان من الممكن أن تخرج فكرة هذا العمل على هيئة شهادات عن عصر مُعين. كان من الممكن أن أخرج بها كسيرة سواء بالكتابة عن أبي أو جدي أو حتى رفاقهم. لكن ولأنّ الحكاية التي كانت لديّ ناقصة وغير مكتملة اندفعتُ للكتابة الروائية، لأغطّي ذلك الفراغ المبهم في النصّ الأصلي. أكاد أرى صورة الفزع في عيون أمّي وهي تحكي عن الجندي الإنجليزي الذي انتزع قلادة الفضة من رقبتها وهي بعمر خمس سنوات، أكاد أسمع صياح جدتي وهي تترجّاهم أن لا يقتلوا طفلتها، ويكتفوا بالقلادة الفضيّة منها، كنتُ أرى تلك الحرب في حديث جدتي العابر المقتضب وهي تصف لي مشهد هدم البيت، اعتقال زوجها وسجنه في سجن الجلالي ومن ثم سجن ابنها، أخذت فتات الحكايات من أمّي وجدتي وصنعتُ منها خلطتي السحرية الخاصة لأخرج بحرب جديدة دارت معركتها في حدود جدران مكتبي، وبحارة جديدة ومجتمع جديد، بنيتهما على أنقاض الحارة المهدّمة والمجتمع الذي هجرها، لتأتي حارة الوادي كحارة تضجّ بالحياة والموت والحرب والسلام مع شخصيات خلقتها خلقًا جديدا. ربما لم تكن هناك من حيلة لي سوى أني أسلمتُ نفسي للخيال، لأبني حارة الوادي على أنقاض ما فات ومات، لأخرج بواقع موازٍ للواقع الحقيقي، كنت أغيب عن واقعي تمامًا لحظة الكتابة وأجد نفسي مع أبطال البيرق في حارة الوادي، في دروبها، أعيش الحرب التي دارت رحاها هناك.
تمخض عن أحداث الحرب ولادة الجزء الثالث “هبوب الريح” حيث ظهر من يتمسك بقوميته ومن يتأثر بتيارات المنطقة العربية آنذاك جراء فرص السفر والترحل، فكان ذلك التدافع الفكري غريبا وناتئا على الشأن الداخلي الأمر الذي عجل في إجهاض المشروع؟
– يُقال لكل زمان رجاله، ولكل زمان ظروفه وتحديّاته، في تلك الفترة الزمنية بالذات كانت عُمان غير اليوم، والعالم أيضًا، تلك الفترة كانت ضاجّة بالثورات والأفكار الجديدة، وكأنّها فترة صحوة أو يقظة، ورغم أنّنا كمنطقة تقع في الجزء الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، لها تاريخ وحضارة كبيرة امتدت إلى أفريقيا، وكانت إمبراطورية واسعة ومترامية الأطراف، لكننا مررنا بمرحلة ضعف، وقد ساعد التدخّل الأجنبي في تلك الفترة على التفرقة، وما ساعد على ذلك في عُمان هو المجتمع القبلي، في نفس الوقت ما فعلته اتفاقية السيب في عام 1920، التي كانت تحت مظلّة بريطانية والتي وقّع عليها الطرفان من قبل السلطان والإمام، فرسخت انقسام الدولة إلى عُمان ومسقط، إلى إمامة وسلطنة، وربما كان الحال سيظل على ما هو عليه لولا اكتشاف البترول ورؤية السلطان سعيد بن تيمور أنّ من مصلحة البلاد أن تتوحد تحت قيادة واحدة، بغض النظر عن المصالح المتنازعة والمتضاربة حول هذا البترول الذي سيتم التنقيب عنه واكتشافه والواقع في حدود منطقة الإمامة. في رواية البيرق سيلاحظ القارئ أن كل مرحلة في الأجزاء الثلاثة، كانت تقود إلى الأخرى، الأجزاء مترابطة في أحداثها وتصاعد الحبكة ونمو الشخصيات. الغريب ورغم اختلاف الأيديولوجيات ما بين الفكر الديني للإمامة والفكر اللاديني للفكر الشيوعي الذي تبنته الجبهة، كانوا جميعا يخدمون هدفا واحدا وهو البلاد ورفض الوجود الأجنبي عليها في تلك الفترة الزمنية، كانوا يحاربون من أجل عقيدة ثمّ من أجل التخلص من ثالوث (الفقر والجهل والمرض)، الحرب الأولى كانت عقائدية مرتبطة بالدين والعصبة القبلية، أمّا الحرب الثانية فكانت فكرية ثورية تبناها مجموعة من الشباب المثقّفين الذين سنحت لهم الفرصة للخروج إلى الخارج ونيل قسطٍ من التعليم، ورؤية الوجه الآخر للحياة، فكان ذلك مُحرّضًا ودافعًا لهم للانضمام أو تبني ذلك الفكر الجديد، إيمانًا منهم بأن في ذلك إنقاذًا لحالة التخلّف والفقر التي تعيشها البلاد في تلك الفترة الزمنية. وسيلاحظ القارئ أن الشخصية الرئيسة في الجزء الثالث وهو حمود خرج من عُمان إلى السعودية ليلتقي بالإمام، ولأسباب أخرى شخصية متعلّقة بزواجه من محبوبته نفافة، وكان حتى ذلك الوقت يجد في الفكر الديني واقترابه من الإمام والشيخ كل ما يحلم به، ولكن حين ابتعث إلى مصر من قبل الإمامة، وتحت إشراف مكتبهم، تمرّد على فكره القديم، وأصيب بصدمة ثقافية وحضارية، ولأنّه لم يخرج من قبل ولم يكن يتصوّر أنّ هناك حياة أخرى مختلفة كل هذا الاختلاف في مصر عمّا عاشه هو في عُمان، أقل ما يمكن أن يحصل عليه كتاب يقرأه ولا يجد، أو غير مسموح لهم حتى باقتناء الكتب أو سماع الراديو. هذه الصدمة ولقاؤه بشباب آخرين من نفس المنطقة عانى بعضهم من ويلات الحرب الأولى وكانت لهم أسبابهم الشخصية في الانضمام للجبهة كما عبد السلام الذي قُتلت عائلته كلها في حرب الجبل، وأحمد سهيل الرافض لسلطة القبيلة العاشق لطفول ابنة شعبان خادم أبيه، الذي لاقى الفكر الاشتراكي هوى في نفسه للتخلص من القبلية البغيضة التي حالت بينه وبين محبوبته، تلك مرحلة كانت تعجّ بالثورات في كل العالم، غير الفكر الناصري الداعي للقومية والذي كان داعمًا لمعظم ثورات الشباب في الوطن العربي، وكانت تجربة الضبّاط الأحرار نموذجا مثاليا بالنسبة لهم، وقد ناصرتهم الكثير من الدول المؤمنة بالفكر الشيوعي مثل اليمن وروسيا والصين الشعبية، ولكن ما عجّل في إجهاض المشروع أسباب كثيرة منها تخلي الدول التي ساعدتهم من قبل عنهم، التغيير الذي حدث في البلاد بتولي السلطان قابوس الحكم والذي أتى بسياسة مختلفة عن سياسة أبيه، فالسلطان قابوس أتى لينقذ البلاد من الفتنة والشقاق، وأتى ليقودها نحو التغيير، وقال قولته المشهورة “عفّا الله عمّا سلف…”، وهذا الفكر المتسامح والعفو جعل من بعضهم يتراجع ويخرج من الجبهة لينضم إلى القيادة الجديدة ما دام الهدف واحدًا وهو إنقاذ البلاد ونهضتها وتحقيق الأحلام التي كانوا يحلمون بها، فإذا كان همّهم وهدفهم التغيير، فها هو قد أتى من يحمل لواء التغيير، وكل ما يريده منهم أن يضعوا يدهم في يده لإنقاذ البلاد، وقد حدث ذلك بالفعل. الشيء الآخر الذي عجّل بإجهاض مشروع الرفاق، “رصاصة الثقة” التي أصابتهم في مقتل، فأكلت الثورة أبناءها، وأعدمت من شكّت بخيانتهم، حتى حدث انشقاق فكري أضعفهم حتى على مستوى قيادتهم، وغيّر اتجاهاتهم، متمثلًا ذلك في شخصية بخيت وأبو سعاد أو سالمين كقيادات، أحدهم تخلى عن دوره وانضم إلى الحكومة والآخر لاقى السجن مصيرًا. ومع قيام دولة حديثة فتيّة فقدت الجبهة الدعم من الدول التي كانت تدعمهم، وبالتالي لم تكن لديهم الموارد الكافية للاستمرار، وما دامت الدولة التي يريدونها ويحلمون بها قائمة وتحت قيادة قوية فماذا يريدون أكثر؟ ذلك السؤال الذي سألته نفافة لحمود ولم يجب، بل مضى في دربه ولم يتراجع حتى الموت.
كتبت الحوارات باللهجة العُمانية التي تعود إلى خمسينيات القرن الماضي، وقد تباينت بحسب المنطقة التي انحدرت منها الشخصيات، ألم يكن في ذلك مشقة؟ ألا يقلل ذلك من هامش القراءة عربيا؟
– في الحوارات يلاحظ القارئ أنها أتت باللهجة المحلية، وذلك بحكم البيئة التي يعيش فيها شخوص الرواية، وكذلك الزمن. حيث لم أتخيل شخصا كحمدان، وهو “البيدار” غير المتعلّم أن يتحدث سوى بلهجته المحلية، أما المعلّم خلفان فسيلاحظ القارئ أنّه يستخدم كلمات فصيحة لأنّه متعلّم ولهجته أقرب إلى لغة القرآن. وكما هو معروف تتعدد اللهجات في عُمان بحسب المناطق، وقد راعيتُ أنّ لهجة أهل الجبل تختلف عن لهجة أهل (الوطا)، فكلمة أب مثلًا في مناطق السهول المنخفضة (كحارة الوادي) في الرواية تنطق (باه) بينما في الجبل الأشمّ (أبينا). في الجزء الثالث وردت في الحوار كلمات باللهجة الجبالية، وهي لهجة عصيّة على الفهم لغير متحدثيها، لذلك كان عليّ أن أجلس مع كبار السن من نساء ورجال للاستعانة بهم في اختيار اللفظ المناسب لمعنى مُعين، والاتصال بأصدقاء من ظفار حتى أكتب الكلمات بشكل صحيح، ربما يرى البعض أنّه كان من الأسهل للكاتب والقارئ العربي أن يكون الحوار باللغة العربية الفصيحة، ولكن أظن أنّ الحوار يكون مقنعًا أكثر حين يأتي مناسبًا لثقافة الأشخاص وبيئتهم وزمنهم.
الروائي -على حد تعبير رضوى عاشور- له قدرة كبيرة على اصطياد التفاصيل ومنها روائح المكان وجراح الزمن، وبفضل خياله الخصب يخرق كل الحدود التي يقف عندها المؤرخ عاجزا.. من جهة أخرى التأريخ للحقبة الزمنية هو مجاز للتعبير عن الآن، فهل ثمّة مرايا للحاضر في هذا الماضي غير البعيد؟
– أكاد أجزم أن الحياة التي عشتها وأنا أكتب هذا العمل عاشه القارئ معي، يكاد يشم رائحة الخبز في موقد خديجة، وعبق البخور في غرفة نفافة، وأنين عويدة الصامت حين قتل زوجها وحين قتلت خديجة وسجن ابنها صالح، ويسمع صوت البنادق وهدير الطائرات فوق سطوح المنازل. نعم هناك مرايا للحاضر في ذلك الماضي العريق، مرايا كاشفة لما نحن عليه الآن، تلك المرحلة الصعبة التي عاشتها البلاد بما فيها من نزاع قبلي وانقسام وفرقة وشتات وجوع وفقر وجهل، وتلك المقاومة التي أبداها أبناء هذا البلد في وجه الفقر والجهل والمرض، كانت سببًا وإن كان غير مباشر للتغيير الذي شمل البلاد تحت ظل قيادة مخلصة وقائد محبّ لشعبه، كان يدرك ما يدركون، ويحلم كما يحلمون، وكان واحدًا منهم ومن نفس أعمارهم، ولأنّه أتى ليحقق أحلامهم التي سعوا لتحقيقها، وضعوا يدهم في يده حين دعاهم إلى التسامح والعودة إلى الوطن لأنّه بحاجتهم، لتصبح عُمان ما نراها عليه اليوم.
الشخصيات التي خُلقت من لحم ودم، وراودها حلم الانعتاق من العزلة التي تفرضها سلطة المكان والسلطة السياسية، يبدو أنّها مضت باتجاه الحتمية التاريخية التي قوضت أجنحتها في الإعدامات الأخيرة.. فما دلالة الإعدام، والولادة في نهاية الثلاثية؟
– العزلة التي عاشتها البلاد في تلك المرحلة الزمنية والمتمثلة في حارة الوادي، الحارة الواقعة تحت الجبل، والتي يعيشُ أهلها في عزلة عن العالم الذي لا يعرفون عنه إلا ما يسمعونه من خصيف، التاجر المتنقّل، الذي هرب من الحارة وهو صغير لأنّه كان مضطهدًا كونه ابنًا غير شرعي أتى من علاقة بين سيد وخادمته، فزار خصيف بلدانا كثيرة وكان حين يأتي إلى الحارة في زيارات متباعدة يحضرُ لهم مقتنيات جديدة خصوصًا للنساء، كانوا يأنسون إلى سماع حكاياته عن تلك البلدان التي يصلها عبر مركب يسير في البحر. حكايات خصيف فتحت بصيرتهم على البلدان البعيدة، فأقصى ما كان يصلُ إليه أبناء حارة الوادي هو الجبل الأشم، ومطرح التي يحضر منها مرهون المشتريات التي يبيعها في دكّانه لأبناء الحارة، حتى أن زُهرة أم حمود حينما رأت البحر لأول مرة ظنته فلجًا كبيرًا، لأنّها لم تخرج من قبل خارج حدود الحارة، تلك العزلة التي عاشها أبناء حارة الوادي جعلتهم أنصارًا للإمام ومحاربين معه، وكما أتى على لسان إحدى الشخصيات: “نحن شفنا الإمام، وما شفنا السلطان”، لذلك اتجهوا إلى الأقرب إليهم وآمنوا بمن عرفوا، فكانوا للإمام أتباعًا، حاربوا معه ودفعوا ثمن ما حاربوا من أجله، رغم أنّ أكثرهم لم يدركوا أسباب الحرب، ولكنهم عرفوا نتائجها من أرواحهم وحياتهم وبيوتهم التي هُدمت، رافضين الوجود الأجنبي، مؤمنين بما هم عليه، فناصروا إمامهم ودافعوا عن بيوتهم وعائلاتهم، وعن الجبل الذي كان يُمثل لهم الكرامة والعزة، فكانوا مُخلصين لعقيدتهم وإمامهم، محاربين حتى الموت، وحينما أدخل الراديو سرًّا وبدأوا يستمعون إلى خطب عبد الناصر وإذاعة صوت العرب، تفتحت مداركهم وعرفوا ما يحدث خلف الجبل والبحر، وألهب ذلك حماسهم. أما الشباب الملتحقون بالجبهة فكانوا أكثر وعيًا من أبائهم، لأنّهم أرادوا التغيير، كانوا مجموعة من الشباب سافروا وعرفوا كيف هي الحياة في الخارج، ومدى الاختلاف الجذري بين ما تعيشه بلادهم من فقر وجهل وتخلّف وعزلة وبين الانفتاح والحداثة، وكانت المنطقة المجاورة لهم وهي اليمن مساعدة ومهيأة لذلك، وكانوا كارهين للفكر الرأسمالي، فكانت محاولتهم للخروج من تلك العزلة المفروضة على العباد والبلاد في تلك الفترة بما فيها من ظروف ورياح مواتية أخذتهم إلى تبنّي فكر جديد ونظريات قد تكون غير مقبولة حتى من المجتمع نفسه، ولو لاحظنا أنّ تلك الفئة كانت هي الفئة المتعلّمة أو الفئة المثقّفة التي خرجت من حدود البلد إلى الخارج، لكن ولأن الموت نهاية حتمية، أتت الإعدامات كإعلان نهاية لمرحلة، وميلاد مرحلة قادمة، كما أشرت إليها بالولادة الجديدة، وذلك دلالة على النهضة الحديثة، وبداية عهد جديد ودولة جديدة.