إن الفكرة القائلة بإمكانية الاستماع الى حقائق المطلق تفترض كحد أدنى الكمال في النغم وفي الإنصات أيضا. واذا كان الكمال في الإنصات يستلزم تكامل الذات المبدعة في طريقها ( الفردي- التاريخي- الثقافي ) ,فان الكمال في النغم يستلزم تجانس الأوتار الحية في إيقاعها على الإشكاليات الواقعية , وتنسيقها في منظومة الرؤية والبدائل . أي في الإدراك الواقعي والمثالى للاشكاليات الاجتماعية والروحية الكبرى . فهو الادراك القادر على تأليب الوجدان والعقل في لعبة التحدي العنيد المميز للحقيقة . لأنه يضع الذات المبدعة أمام قواعد جلية يصعب الإمساك بها والقائلة .بأنه لا إبداع حقيقيا خارج معاناة الاشكاليات الجوهرية للثقافة .
إن معاناة الإشكاليات الجوهرية للثقافة تؤسس لإمكانية التناسب الضروري في الصراع بين المصادر اليقينية للثقافة والغيب المجهول للمبدعين . وتعطي للمساعي الفردية والاجتماعية معناها الخاص في القيم المعقولة والمنقولة للثقافة . فالمصادر اليقينية هي الكل التاريخي أو الكل الثقافي الذي تتولد منه وتتضافر فيه فردانية الإبداع . أما الغيب المجهول فهو مفاخرات الإبداع . فالكلى الثقافي في نهاية المطاف ما هو إلا العلاقة المتمحورة في إدراك المعنى التاريخي والمثال الواجب للأنا الثقافية .والذي حصل في التصوف على صيغته المكثفة في مفهوم "الحق" .
ذلك يعني إن الكل الثقافي في العرف الصوفي ليس الإرث الثقافي أو أجزاءه الهائجة .بل العلاقة السارية في منطق الإبداع المتجدد . أي في العلاقة الوجدانية تجاه الإشكاليات الكبرى للوجود وحلها بمعايير الحق المتسامي . ولهذا كان بإمكان النفري أن يقول في أحد مواقفه :" إذا جئت فهات الكل معك " ! فالكلى هو العروة الكبرى في الوجود .لأنه الحقيقة . ولا اعظم من الكل في الإبداع .لان الحقيقة داخل العالم وخارجه . أما حقيقة الكل ففي تمثله الذاتي، باعتباره الصيرورة الدائمة للروح المبدعة . و من ثم ليس المجيء مع الكل سوى المجيء بلا قيد ولا شرط ولا علاقة ولا شائبة . بمعنى التحرر مما سوى الحق في الرؤية والاستماع .
إن المجيء مع الكل هو المجيء بالهم الواحد . أي توحيد الفردانية المبدعة لذاتها في السماع والرؤية . و ليس صدفة أن تطالب الصوفية المرء بان يكون مع الله بلا علاقة ، باعتباره شرط الإخلاص و غايته . فالكينونة بالمطلق هي شرط الإبداع ، لأنها تحرره مما سوى الحق . والحق هو الكل الخالص للثقافة و التناسب التام للعقل و الوجدان في رؤيته واستماعا لكل ما هو موجود . وهي الحصيلة التي جسدها الروح الصوفي في إدراكه قيمة الرؤية والاستماع المجردين في تحقيقهما المعنى و تشذيب الإبداع نفسه . أو ما دعاه الواسطي بجمع الصوفية بين المشاهدة و الفهم باعتبارهما بصر القلب و سمع القلب ، انطلاقا من أن موضع الفهم هو محل المحادثة و المكالمة ( سمع القلب ) و موضع المشاهدة بصر القلب . فالجميع يرى ويسمع ، و لكل منهم أسلوبه و حاله في الرؤية والسماع . فالحيوان يسمع والإنسان يسمع والثقافة تسمع والتاريخ يسمع والكون يسمع والله يسمع . والسماع الصوفي في جوهره هو سماع الكل . فهر يحوي في ذاته المستويات كلها ( الطبيعي والإنساني و الثقافي والتاريخي والكوني و المطلق ). ومن هنا تساميه في دعوته المدركة لقيمة السماع المجرد الذي لا شائبة فيه . لأنه الأسلوب المتكون في صيرورة الروح المبدعة واستظهاره في القول والفعل .بوصفه تعبيرا عن لسان الحال والهاما حقا .
فالسماع الصوفي هو الاستكمال المتسامي لسماع نغم الطبيعة وتذوقها الإنساني . ولهذا قال أبو عثمان الحيري : "من أدعى السماع ولم يسمع صوت الطيور وصرير الباب وتصفيق الرياح فهو فقير مدع ". وهو الاستكمال المتسامي لنغم الثقافة وحكمتها التاريخية . ولهذا قال بندار بن الحسين : "الصوت الطيب حكمة محببة وآلة سليمة بصوت رخيم ولسان لطيف ". وهو الاستكمال المتسامي لسماع أنغام الحق في الكون . ومن هنا قول ذو النون المصري:"الصوت الحسن مخاطبات واشارات إلى الحق أودعها كل طيب وطيبة " . أننا نعثر في السماع الصوفي على . وحدة وتوليف الطبيعي- الإنساني والثقافي -التاريخي والكوني- الإلهي ، باعتباره حالا معرفيا ووجدانيا للمعني . ومن هذا قول المتصوفة :"النغمة الطيبة روح من الله يروح بها قلوبا مخترقة بنار الله " . لقد دفعوا بالسماع إثر نهايته المنطقية بتحويله إلى خيوط الوحدة الخفية للروح الإنساني- الإلهي .ومن ثم البحث عن المعنى في الطبيعة والثقافة والكون بوصفه نغما ألهيا .
إن تحول الطبيعة والثقافة والكون إلى أنغام في سماع الصوفي يعني التعامل الوجداني مع الوجود في تجلياته اللامتناهية . فالسماع كما يقول ذو النون المصري هو "وارد حق يزعج القلوب إلى الحق . فمن أصغى اليه بحق تحقق . ومن أصغى اليه بنفس تزندق "! ولا يعني انزعاج القلوب سوى حركتها الهائجة . أما الإصغاء بالحق للحق فهو حركة الكل الهائج في القلب أو همه الموحد . بينما لا يعني التزندق سوى سماع النفس أو تجزئة الكل وتنوع الهموم . لان السماع الحق حق . و الحال الحق لا شائبة فيه ، لأنه "يبدي الرجوع إلى الأسرار من حيث الاحتراق " كما يقول النهر جوري . ولا يعني الرجوع إلى الأسرار من حيث الاحتراق سوى الرجوع إلى الحقيقة والاحتراق فيها . لان الرجوع إلى السر هو الرجوع إلى حقيقة الأنا ( أوالروح المبدع ) . أما حال السماع فيه .فانه يكشف عن حقيقة الأنا أو حقيقة الروح المبدعة . ففي السماع تحترق حقيقة الأنا أو حقيقة الروح المبدعة و تتكشف نيرانها وأضواؤها كما هي بلا شائبة . ومن هنا قول الشبلي "السماع ظاهره فتنة و باطنه عبرة " . لأنه يعري الروح عن الجسد ويكشف عما في وحدتهما من "تحقق" أو "تزندق" . أو عما إذا كانت الذات متكاملة في إنصاتها لصوت الحقيقة أو متجزئة في رنين المصالح العابرة .
و هي الفكرة التي حاول الجنيد الكشف عن أزلها في أبدها باعتبارها العملية الملازمة للوجود نفسه . فالوجود بالنسبة له هو نغمة في السماع تشوقت لحقيقة من حقيقة كشفه والتعبير عنه على ما في الذات العارفة من قدرة على العيش حسب قوانين المطلق . فعندما سألوه مرة : ما بال الإنسان يكون هادئا .فإذا سمع السماع اضطرب ؟ أجاب : إن الله لما خاطب الذر في الميثاق الأول بقوله }ألست بربكم ؟ قالوا بلى{، استفرغت عذرية سماع الكلام ، الأرواح . فلما سمعوا السماع حركهم ذكر ذلك . انه أراد التأسيس لعضوية الوحدة الخالدة للروح الإنسانية – الإلهية بوصفها حبا ونغما . و هي فكرة أرادت اسباغ الوجدان على أزلية السماع بوصفه "حياة الأبد بالحي الذي لم يزل و لا يزول " كما يقول الجنيد . فالسماع هو ليس الحب الساري في الوجود بوصفه استجابة أزلية لـ "نعم" الإقرار القائل بوحدة الإنساني – الإلهي، بل وادراكه المتجدد في معاناة الحق المتسامي . ولهذا وجد الجنيد في الفكرة القرآنية القائلة باستجابة المؤمنين لله إذا دعاهم معنى الاستجابة الصوفية في سماعها للحق ( للمعني ) الخالد . حيث وجد في إسراعهم إلى الحق استجابة لما في أنفسهم لروح القدس . و"لهذا سارعوا إلى محو العلائق ، وهجموا بالنفوس على معانقة الحذر، وتجرعوا مرارة المكابدة .وصدقوا مع الله في المعاملة ، واصفوا الأداب فيما توجهوا اليه .وهانت عليهم المصاعب .وعرفوا قدر ما يطلبون .وسجفوا هممهم عن التلف إلى مذكور سوى وليهم فحيوا حياة الأبد بالحي الذي لم يزل ولا يزول ".
إن هذه السلسلة المبتدئة بشم روح القدس و محو العلائق والتهيئة لحياة الابد تعكس مساعي الروح الصوفي في استماعه التام للحقيقة وبقائه الدائم في أنغامها . ومن هنا قول الحصري : "السماع ينبغي أن يكون ظمأ دائما وشرابا دائما. فكلما ازداد شربه ازداد ظمؤه" .لان الاستماع إلى الحق .حسبما يقول السهروردي " .هو قرع باب الملكوت " أي البوابة التي تطلق للصوفي عنان تعبيره الخالص عن رؤيته و سماعه للوجود، و التلذذ فيه . فهو الكل الذي يبدع على مثاله رؤية الكل و يحرر الروح المبدع من "مضيق عالم الحكمة " ليرميه إلى "فضاء القدرة" . آنذاك :
يصير سماعه كشفا وعيانا
وتحيده وعرفانه تبيانا وبرهانا
وتتدرج له ظلم الأطوار في لوامع الأنوار
فيصير وقته سرمدا
وشهوده مؤبدا
وسماعه متواليا وتجددا .
إن تحرر الروح المبدعة من مضايق الحكمة والارتماء في فضاء القدرة لا يعني سوى إدراك الوجود بمعايير الجبروت أو الإرادة المتسامية . أي إدراك ما هو كائن ويكون بمعايير الوجدان الخالص . فمضائق الحكمة هي عقبات المنطق و تفسيراته وتأويلاته واحتجاجاته وتبريراته ،بينما فضاء الإرادة هو لا تناهيها في الفعل المشبع بقيم الحق . وهو الفعل الذي يرفد ذاته بذاته بفعل تحوله الدائم من علم إلى عمل ،ومن عمل إلى علم .باعتباره الدورة اللامتناهية ، أو ما اسماه السهروردي بصيرورة السماع كشفا وعيانا . والعرفان ( المعرفة ) بيانا وبرهانا .والتي تنطوي فيها أطوار أو عقبات أو ظلمات المنطق و جزئياته في الإدراك المباشر للأشياء، أو رؤيتها في لوامع الأنوار . فهو تحسس أو تذوق الذي يختطف الروح المبدعة في ميادين الإبداع ليكشف عن سرمديته في الزمن و أبديته في الرؤية وتجدده في السماع . إذ لا زمن في الإبداع ولا نهاية وبل تجدد دائم . والسماع هو نموذجه الحسي و الذوقي الأمثل .لأنه يحوي في ذاته نموذج الإبداع العميق .باعتباره شيئا لا كالأشياء .
إن السماع المتوالي المتجدد هو السماع المجرد للحق باعتباره مصدر الإبداع الدائم . و من هنا تنوعه في الأنغام والأصوات والأحداث والإشكاليات ،ووحدته في المستويات والأشكال المتنوعة . وهو السماع الذي أطلقت عليه الصوفية تسمية السماع المطلق أو السماع الإلهي أو السماع بالحق . باعتباره الأسلوب الذي يختزل في ذاته الصيغة المجردة (المتسأمية ) لسماع كل ما في الوجود و إعادة تنسيقه في أنغام العبارة والمعنى من خلال الإخلاص التام للحقيقة في التجربة الفردية .
فقد تكلم بندار بن الحسين عما اسماه بسماع الطبع و سماع الحال وسماع الحق . و تكلم ابن عربي عما اسماه بالسماع الطبيعي والسماع الروحاني والسماع الإلهي . وهي الصيغة المتخصصة للرؤية الصوفية عن تباين العوام والخواص و خواص الخواص ، والتي تستجيب لمنظومتها عن الشريعة والطريقة والحقيقة أو الملك والجبروت والملكوت أو العلم والحال والعمل من معنى متراتب في تنسيقه لكينونة الإبداع الدائم . فقد اعتبر بندار بن الحسين السماع بالطبع ( أو الطبيعي ) سماعا يشترك فيه الجميع . أما السماع بالحال فهو المترتب على ما في التأمل الملازم للتجربة الفردية من إحساس بالمعنى المتناسق مع حاله من عتاب وخطاب ,أو وصل وهجر ، أو قرب وبعد ، أو خوف واستئناس ، أو فرح وحزن ،او أمل و قنوط ، أو محبة . آنذاك " يقدح في سره على قدر صفاء وقته وقوة قادحه ". فتشتعل نار ترمي بشروها إما في سلوك و إما في عبارة . أما السماع بالحق ,فهو نفسه السماع من الحق ( الإلهي ) ببلوغ الحقيقة ،بعد عبور الأحوال و الفناء من الأفعال والأقوال ، بالوصول إلى محض الإخلاص وصفاء التوحيد بحيث يشهد موارد الحق بالحق بلا علة و لاحظ للبشرية . أي السماع المجرد الخالص من شوائب العلائق أيا كانت . ولا يعني الاستماع بالحق من الحق للحق سوى الدورة التامة للإخلاص ، بعد تنقيته في أحوال التجربة الفردية وغربلتها ثم صهرها في الفناء أو التجريد التام للحقيقة . فالتجرد التام هو الإخلاص للحقيقة . و الإخلاص للحقيقة يفترض رؤية الكل .و من ثم رؤية الأحداث و سماعها بلا علة و لا حظ للبشرية . أي بلا ذريعة و لا نفعية عابرة ولا حتى ضرورة جزئية .
في حين أسس ابن عربي لماهية السماع و حقيقته وأنواعه انطلاقا مما اسماه بالتربيع القائم فيه . أي إن للسماع الطبيعي و الروحاني والإلهي أسسا او أركانا أربعة تكشف عن قيمة السماع وفاعليته في الطبيعة و الروح وما ورائهما، أو في الجسد والعقل و ما وراء العقل (الحدس ) ففي السماع الطبيعي هي كالأخلاط الأربعة (الدم والبلغم والسوداء والصفراء),وفي السماع هي كالذات واليد والقلم والصريف ، وفي السماع الإلهي كالذات و النسبة و التوجه والقول . فالسماع الطبيعي يؤسس لماهية السماع في أشكاله ومستوياته ككل ، لأنه يحوي في ذاته المقدمات الطبيعية للسماع . فالنشأة البشرية تستمد مقوماتها من القوى الأربع (قوى النفس ) والقوى الأربع تستمد مقوماتها من الأخلاط الأربعة ، والأخلاط الأربعة تستمد مقوماتها من الأركان الأربعة ( الماء والتراب والهواء والنار ). أي السلسلة الضرورية في وحدتها، و التي تمهد للتناغم الداخلي و انعكاسه في السماع نفسه . فالنار هي الحرارة .والهواء هو البرودة . والماء هو الرطوبة .والتراب هو اليبوسة . وفي تجسدها الإنساني هي سلسلة الدم والبلغم والسوداء و الصفراء باعتبارها " سوائل " وجوده الطبيعي . لان حركة كل منهم هي بقاؤه .وبقاؤه هو بقاء حكمه .لان السكون عدم .كما يقول ابن عربي . فحركة الأخلاط الأربعة هي حركة أركان وجوده الأربعة .وحركتهم الدائمة هي حركة الوجود الطبيعي – البشري ، التي تتولد عنها أركان الأنغام الإنسانية . و من هنا رباعية الأنغام في الموسيقى ( العربية ) من البم والزبر والمثنى و المثلث . فهي الحركة ( الأنغام ) التي ولدت في نفوس العلماء ( المبدعين الموسيقيين ) سماع صريف الأقلام الوجودية . لان الموسيقى هي سماع حركة الوجود . والسماع الروحاني مستواها هو الارقي (الثاني). فالسماع الروحاني متعلقه صريف الأقلام الإلهية في لوح الوجود المحفوظ كما يقول ابن عربي :
فالوجود كله رق منشور
والعالم فيه كتاب مسطور
والأقلام تنطق
وآذان العقول تسمع
والكلمات ترتقم فتشهد
وعين شهودها عين الفهم فيها .
ذلك يعني إن هذا السماع هو السماع المترقي في إدراكه الوجداني للعالم ككل . أي تجاوزه السماع الطبيعي الذي يولد طربا بلا علم إلى سماع حقائق الوجود و معرفته المجردة . ومن ثم النظر إلى الوجود كما لو أنه رقا منشورا . والى العالم كما لو أنه كتاب سطور. ومشاهدة الوحدة والتناغم ما بين صريف القلم ويد الكاتب ( الله أو المطلق ) . ولا يعني تحول العالم إلى كتاب ترتقم فيه كلمات الوجود وسماعها بالعقل سوى وحدة العقل و الوجدان . باعتبارها أحد الشروط الجوهرية في إبداع الرؤية الحقة ، أو ما اسماه ابن عربي "بعين شهودها هو عين الفهم فيها" . وهو المستوى المنفي في السماع الإلهي ( الدرجة الثالثة أو العليا ). لأنا سماع "من كل شيء و في كل شيء و بكل شيء" . فالوجود ,كما يقول ابن عربي ,هو كلمات ( الله ) التي لا تنفد . ومن ثم ,فان للعارف ( المبدع ) في مقابلة كل كلمة (والكلمات جميعا ) إسماع لا تنفد . بصيغة أخرى، إن ارتقاء الكينونة الطبيعة للإنسان في تنسيقها المتناغم بين الأركان المادية ( الأخلاط ) والنفسية ( قواه ) والوجودية (العناصر ) يبدع نماذجها الراقية في موسيقى الحس (الطبيعي ) والعقل (الروحاني ) والحدس (الإلهي ) . أي الارتقاء من حركة الجسد إلى النفس ومنها إلى الروح باعتباره عملية اكتشاف المعنى الوجداني للحقائق . فمن كان من أهل السماع الروحاني كما يقول ابن عربي، ينظر ترتيب أثارها في العالم فيجده في كل مسموع لان المسموعات كلها نغم عنده . ومن كان من أهل السماع الإلهي ينظر ترتيب الأسماء الإلهية (أو النماذج المثلى للمطلق ) فيكون سماعه من هناك .
إن السماع من نماذج المطلق هو سماع الوجود في كل أشكاله ومستوياته وأحداثه بمعايير النسبة الحية للوجدان والعقل . إذ لا إبداع عظيما خارج هذه النسبة . ومن الممكن توقع وجود إبداع غاية في الإتقان والتمام في الصنعة ولكنه فاقد للجاذبية بسبب فقدانه توليف النسبة الحية بين الوجدان والعقل . وهي الحصيلة التي وضمتها الصوفية فيما يمكن دعوته بسماع المعنى . وإذا كان الصوفية عادة ما يربطون معنى السماع بمعنى الحقائق المكتشفة في القرآن ، فلان القرآن يحوي في كلأ الرموز الذوقية المتصيرة في تاريخ الثقافة الإسلامية . و من ثم قدرته على احتواء التجارب الفردية للمطلق . لان المطلق ثقافي المفزع والغاية ، و في اسلاميته هو الحصيلة المتسامية للكل الثقافي الإسلامي الذي شكل القرآن كتابه "الأول والآخر" أو كشفه الروحي وغيبه المعنوي . و فيما بينهما تترامى التجربة الفردية للصوفي في السماع و الاستماع لحقائق الحال ( الوجداني ) . بصيغة أخرى .إن السماع يكف آنذاك عن أن يكون فعلا خارجيا ,ويتحول إلى نغم المعاناة المتراكمة في إدراكها للمعاني المتراكمة في تحسس و تأمل وتذوق الأحداث والمجريات والكلمات والعبارة . إذ لا صدفة ولا ضرورة في الردود . أما الإجابة فأنها تتحول إلى "صمدية الروح المبدعة" في استجابته للإخلاص المتراص في الروح والجسد . ولهذا قالوا : "كل من لا يزهدك لحظة عن لفظه ,لم يغنك وعظه عن لفظه" . و تصبح الكلمة هي الأنا ,و الأنا هي الحال ، والحال هو الحقيقة ,لأنه إخلاص للمعني المجرد (المتسامي ) عن رق الاغيار . وذلك لأنهم "ينطقون من حيث وجدهم ,ويشيرون من حيث مقصدهم ,وصدقهم إلى ما يليق بحالهم ". آنذاك تكف أحداث العالم وعباراته عن أن تكون كيانا قائما بحد ذاته . وتصبح مجرياته مجرياتهم ولكن من خلال انكسارها في موشور الحال الصادق . . آنذاك تجري في روح الصوفي وجسده بالصيغة التي تعطي لأفعاله وأقواله معناها الخاص باعتبارها الصيغة الفردية لتجريد الإبداع ( في المواقف والأفعال والأقوال ). فقد صرخ الشبلي إحدى المرات و كادت روحه أن تطير عندما سمع وهو خلف إمام يقرأ الآية }ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا اليك{ قائلا: "بمثل هذا يخاطب الأحباب "! وأن يرد في حال آخر عندما سمع بائع الخضراوات في السوق يصيح "الخيار عشرة بدانق " ، بعبارة "إذا كان الخيار ( الأخيار) عشرة بدانق فكيف الشرار" ؟! و عندما قال له مرة أحد الأشخاص : "ما لك من بين الجماعة قاعدا ؟ " ، عندها قام وتواجد وقال :
لي سكرتان و للندمان واحدة
شيء خصصت به من بينهم وحدي !
ولا يعني تخصص الصوفي في سماعه سوى تخصصه في تجربة الإبداع الصوفية باعتبارها تجربة الوجدان الخالص . فالاستماع للمعني هو الاستماع للوجدان الحق . ولهذا قالوا : "إن الكلام إذا خرج من القلب يقع على القلب . وإذا خرج من اللسان لم يجاوز الأذنين " . فالقلب هو الوعاء الشامل للوجدان أو الكل الوجداني المتراحم في صيرورة الروح المبدعة للصوفي . ومن هنأ قول الخلاج "بصائر المبصرين ، ومعارف العارفين ، ونور العلماء الربانيين ، و طرق السالكين الناجحين ، والأزل والأبد و ما بينهما من الحدث لمن كان له قلب أو القي السمع " . أي أن الكل المتنور بالحق في إبداع الصوفية هو الوحدة الحية للوجدان . فالوجدان قلب والسماع وجدان . و لهذا قالوا : "السماع لا يحدث في القلب شيئا إنما يحرك ما في القلب " , انه " أذن " السماع الطبيعي والروحاني والإلهي ,أو الكل المتناغم ما بين الملك والملكوت الوجودي والثقافي , ولهذا قالوا "لا يصح السماع إلا لمن كانت له نفس ميتة وقلب حي ". أي لمن كان سوي الإرادة متسامي الوجدان . إذ "السماع نداء والوجد قصد " . فهو النداء الذي يحوي في ذاته الأوتار والأصابع والأنغام .أو الكل الوجداني في حصيلة معاناته المدركة ( المعقولة ) للمعني . ولهذا قالوا :
السماع فيه نصيب لكلي عضو
فما يقع الى العين تبكي
وما يقع الى اللسان يصيح
وما يقع على اليد تخرق ثيابا
وما يقع على الرجل ترقص .
وليس العين واللسان واليد والرجل سوى الأوتار التي تتلاعب فيها الأصابع الخفية للوجدان في أنغامه المعنوية ,أو الكل الجسدي الذي تتلاعب في وجوده أنغام الحقيقة . وهي الفكرة التي أعطى لها ابن عربي أبعادها الوجودية – الكونية – الروحية . فقد ربط الفكرة الصوفية القائلة بان كل سماع لا يكون عنه وجد ,وعن ذلك الوجد وجود ( ظهور أو إبداع ) فليس بسماع وبالاستنتاج القائل .بان من لم يسمع سماع وجود فما سمع . و منهما أبدع فكرته الجديدة عن انه لما لم يصح الوجود ( وجود العالم ) الا بالقول من الله و سماع من العالم ,لم يظهر وجود طرق السعادة وعلم الفرق بينها وبين طرق الشقاء إلا بالقول الإلهي والسماع الكوني . انه يقدم من خلال نموذج الوحدة الخالدة للقول (الإلهي) والسماع (إلكوني) صورة الوحدة الوجودية للروح والجسد (الطبيعي و الروحي ,الكوني والإنساني) باعتبارها إبداعا أبديا . لقد أراد القول بان السماع إبداع لأنه وجدان ، والوجدان إبداع لأنه سماع . وفي وحدتهما يشكلان الصيرورة الدائمة للوجود، أو المعاناة الحية للإبداع . فالوجد، كما تقول الصوفية ، يشعر بسابقة الفقد . فمن لم يفقد لم يجد ,والفقد هو لمزاحمة وجود الإنسان بوجود صفاته وبقاياه ,
إذ لو تمحض الإنسان لتمحض حرا
ومن تمحض حرا افلت من شرك الوجد
فشرك الوجد يصطاد البقايا
ووجود البقايا لتخلف شيء من العطايا !
إن الوجد هو المعاناة الدائمة لتمحض الإنسان و بلوغ حريته الخالصة في الإخلاص للحق . أي أسلوب تراكم سره . ومن هنا قول عمر بن عثمان "لا يقع على كيفية الوجد عبارة ,لأنها سر الله عند الموقنين" . و لا يعني السر هنا سوى حقيقة الباطن . ولهذا قالوا "الوجد سر صفات الباطن "، أو حقيقة الأنا، أو حقائق الروح المبدع في معاناة تذوقه للمطلق في تجلياته اللامتناهية ,وفي مكابدة مشاهداته و مكاشفاته . أي في مقاساة نماذج الإبداع العيانية والرمزية في إخلاص التجربة الفردية . فالوجد ,كما يقول أبو سعيد ابن الإعرابي ,هو "ما يكون عند ذكر مزعج ,أو خوف مقلق ، أو توبيخ على زلة ,أو محادثة بلطيفة ,أو إشارة إلى فائدة ، أو شوق إلى غائب أو أسف على فائت ، أو ندم على ماض ، أو استجلاب إلى حال ,أو داع إلى واجب ، أو مناجاة بسر. وهي مقابلة الظاهر بالظاهر والباطن بالباطن ,والغيب بالغيب والسر بالسر ,واستخراج ما لك بما عليك مما سبق لك " . أي الكل الوجداني للروح الصوفي المبدع في تحسسه وتذوقه ومشاهداته و مكاشفاته . فالوجد يحوي في ذاته الذكر والخوف والقلق والتوبيخ والأسف والندم واللطف والشوق والإشارة النافعة والدعوة إلى واجب . فهو الكل المتناقض للإبداع في الروح والجسد، والذي يخلق على مثاله الجمال والحق . فالجمال الأزلي ، كما يقول السهروردي" منكشف للأرواح غير مكيف للعقل ولا مفسر للفهم . لان العقل موكل بعالم الشهادة لا يهتدي من الله إلا إلى مجرد الوجود .ولا يتطرق إلى حريم الشهود والتجلي في طي الغيب المنكشف للأرواح بلا ريب " . فالتطرق إلى " حريم الشهود" هو الدخول إلى خباء الوجدان باعتباره أسلوبا لبلوغ حقيقة الغيب أو المجهول اللامتناهي .
وهي العملية التي تكشف عن أن المكتشف فيها أمر لا ريب فيه .لان مفزعها وغايتها لا ينحصران في جزئية العقل وأحكامه النظرية ، بل باضمحلال العقل في شهود الحقيقة ومعاناة وجدانها . والانكشاف فيها هو اكتشاف حقائق التجربة . لان الاستماع فيها هو الإنصات المجرد التام لأنغام الحق في كل موجود ووجود . انه يكشف عما في "انخطاف " العقل في الوجدان أو توليفهما الخاطف في الروح الإنساني من مصدر للإبداع الحق . لان حقيقة الوجد هو مباشرة الروح التي تحوي في ذاتها مفارقة الإبداع نفسه , أي تناقضاته المتآلفة في الحركة المباشرة للروح ( المبدع ). ومن هنا استنتاج ابن الإعرابي القائل : "الوجد ليس بكشف ولكن مشاهدة قلب وتوهم حق وظن يقين . فيشاهد من روح اليقين وصفاء الذكر لأنه منتبه . فإذا أفاق من غمرته فقد ما وجد وبقي عليه علمه ". بصيغة أخرى إن الوحدة المتناقضة في توليف الإبداع هي ديناميكية الوجدان الفاعل في العقل النظري والعملي وإنجازاتها المباشرة و غير المباشرة التي تجعل من التوهم صفاء ومن الظن يقينا . لأنهم يصبحون مشاهدة للقلب أو مباشرة للروح . فالصراع الحي المحتدم للمعرفة والعمل .هو الذي ينزع "غلاف" التجربة بالإبقاء على الحي الدائم والثابت فيها . بمعنى استمرارية الحق واليقين , وتهشم الأوهام والظنون بعد الاستفاقة . لان الإبداع الحق هو استفاقة دائمة للروح في قهره الظنون والأوهام . وبعد كل فقدان يجد في وجدانه بقايا الحق واليقين أو بقايا التجربة المنفية في العلم والعمل وما يمهد لتلقائية الإبداع باعتباره إفاضة الروح أو نضوجه الذاتي في الأفعال والأعمال والأقوال . و هي الفكرة التي وضعها ابن الإعرابي في استنتاجه القائل :
ليس من تلقته القلوب بمشاهدتها كمن توهمته بظنونها
ولا من كان متروكا مهملا كمن كان محفوظا
ولاما استجلب كون كما فاض من معدنه
ولا ما نتج عن الفكر كما رشح عن الذكر .
إن تلقائية الإبداع هي تلقائية الوجدان الحق . انه الإبداع الذي تباشره الروح بمشاهد ته لا ما تتوهمه الظنون والذي يفيض من الذات لا ما يجري استجلابه من الخارج . والذي يترشح عن الذكر ( الباطن ) لا ما ينسقه العقل من أخبار ومعلومات . وهو الفرق الجوهري بين العقل ( النظري – الجدلي ) و لعقل المتجرد للحق ، والذي وضعه ابن الإعرابي في مفارقته القائلة :
المتميز بالفكر ليس كالمستهتر بالذكر
ولا المتخير المختار كمن غلب عليه الوجد والاستهتار.
فهو كالفرق بين امرأة تلد وبين مولود يولد في زجاجة . فكلاهما وعاء . أحدهما لا شيء فيه سوى رقة بلا معنى ,وفي الآخر رقة شفافيتها من الألم واللذة ، و الصراخ والاشتياق ، و الحب والكراهية ، والخوف و الانبساط . والتضحية والاستئثار في الظاهر الباطن . أي كل ما يولد في كله صوت الوجدان الخالد في إبداع آهاته . فقد قال الشبلي يوما : "آه ! ليس يدري ما بقلبي سواه ! " و عندما قيل له من أي شيء هذه ألـ"آه " ؟ أجاب " من كل شيء !" ليس هذا الكل شيء سوى الكل المتناغم والأجمل ( للموجود و المطلق ) ، والذي يجري تذوقه في وجد الواجدين ( المبدعين ) كل على قدر تجربته واستعداده . فمنهم من يكون "وجده عن العلم ، ومنهم من وجده بالعلم ، ومنهم من وجده العلم كما يقول ابن الإعرابي . فهي ثلاثية الوجد المترامية ما بين الملك والملكوت وانكسارهما في برزخ الخيال والإرادة والعقل . أي في الكل المبدع للروح الصوفية في مسارها صوب الغيب أو المجهول . و ليس الغيب أو المجهول ، في الإبداع سوى الغيب أو المجهول الذاتي . وهي الوحدة الخفية السارية في قلق الإبداع نفسه ومفارقاته الظاهرة والباطنة ، والتي تجعل الصوفية ( الصوفي ) في سير من الفقد والوجد بحيث ,
كلما رأوا سرابا ظنوه ماء
وكلما رأوا ماء ظنوه سرابا .
فهم في وجدهم ذاهبون ,
وفي كل واد يهيمون ,
ولكل بارق متبعون .
سبق سيلهم مطرهم , وذكرهم فكرهم .
إلى كل سبب يسلمون وعليه يعولون
فلا يأسهم دوم فينصرفوا ,
و لا طمعهم يصح فيأتلفوا .
أشبه شيء بالمجانين
فد سمحت أنفسهم بتلف مهجتهم عندما يطلبون
لو توهموه في تيه سلكوه
أو وراء بحر سجوه
أو وراء نار تأجج افتحموها
مهيمين بالمفاوز والمهالك والقفار
لا يأوون ولا يؤون .
وليست وحدة الفقد والوجد سوى وحدة النفي الدائم للروح المبدعة في إبداعها . إذ لا تعني رؤية السراب ماء، والماء سرابا سيادة الظن ، بل تلقائية الدورة الخالدة للخيال والإرادة والعقل في الانكفاء والهيام و اتباع كل بريق بحيث يسبق ذكرهم فكرهم . فهي المفارقة التي تبدع على مثالها مفارقة سبق السيل للمطر . وذلك لان الإبداع المتراكم في وجد الوجود يفترض الانحلال المسبق للخيال والإرادة في مساعيهما صوب المجهول . وهو الأمر الذي يضع الروح المبدعة أمام إشكالياتها الكبرى بحيث يكون خرسه أحيانا نطقا، ونطقه عيا، وعيه بلاغة ، ولكتنه فصاحة ، لا لشيء إلا لصيرورة وجدانه الخالص باعتباره الكيان اللامتناهي الذي يحوي في ذاته ,كالمطلق والحق , كل تناقضات الوجود والمثال والواجب . أي إدراك معنى المعنى في وجد الحق والحقيقة ، بحيث كلما أدرك المرء من الحق ( المطلق )، فأنما أدرك غيبا خارجا عن نعوت الحقائق .كما يقول أبو سعيد الخراز . و لا يعني إدراك الغيب بوصفه خروجا عن نعوت الحقائق سوى النفي الدائم لمجهول الإبداع والتكامل في وجدان الحق . ومن هنا قول الخراز : إن كل شيء أشار اليه المحققون والواجدون والعارفون و الموحدون ، وما عبروا عنه , و ما لم تسعه العبارة .ولا يوميء اليه بالدلالة ,ولا يشار اليه بالإشارة من اختلاف العارض و تباين الأحوال والمقامات و الأماكن وغير ذلك مما شاهدوه ظاهرا و باطنا , هو الغيب " .
فالتكامل في وجدان الحق هو أيضا مصير الصوفي . لأنه بكشف في آن واحد عن مصدر الإبداع وغايته فالتكامل في وجدان الحق هو المفارقة الجوهرية للإبداع .لأنه يفترض في الإخلاص للحقيقة التفرد بها . فالإبداع الحق واحد في تجليات لا تتناهى ولهذا كان بإمكان الحلاج أن يقول ويفعل تحت شعار "أنا الحق" ,وأن تصبح الأنا والحق مصيره في الوقت نفسه ,وأن يقول الشبلي ويفعل تحت شعار "أنا الوقت" ,وأن تصبح الأنا و الوقت مصيره في الوقت نفسه . و ذلك لان حقيقة الأنا هي الحق ,أو الروح المبدعة .
أ . الحلاج : وجد الانفراد في الحق
"حسب الواجد إفراد. الواحد له"
)الخلاج)
إن حقيقة التجربة الصوفية – التكامل في وجدان الحق . وفي التكامل انفراد الصوفي . أما تصيره فهو انفراده وتكامله في وجدان الحق بالإخلاص له . وقد تكاملت تجربة الخلاج بين وجدان الحق في الأنا عندما بدأ يصرخ في شوارع بغداد بعبارة "أنا الحق" ، وبين ترديده بعد كل سوط هابط على جسده النحيل قبيل الإعدام بعبارة "حسب الواجد إفراد الواحد له" ! و فيما وتكامل في الروح والتاريخ على السواء.
إذ ليس الواجد سوى ذاك الذي يختزل وجوده إلى وجد محترق في أتون الحق . و ليس إفراد الواحد له سوى تفرده في السير نحو ألحق المطلق . وهو المسار الذي عبر عنه الخلاج مرة قائلا :
لم يبق بيني و بين الحق تبياني
ولا دليل بآيات وبرهان
إن غياب أدلة الآيات والبراهين أيا كانت ، هو غياب البين ,لان المسار صوب الحق يفترض تذويب الأدلة جميعا في أدلة الانفراد نفسها . أي تلك التي يكون أولها "الدليل له منه اليه به" و ثانيها دليل " له منه به وله " . فالدليل الأول يفترض مشاهدة الحق ، بينما الثاني وجدانه ، أوما اسماه الخلاج بعبارة "الانفراد به " و" وجود وجود الواجدين له أي أولئك الذين مثالهم التام في التجانس التام مع الحق (والحقيقة ) ومن اسماهم أيضا "بني التجانس ".
فالتجانس مع الحق هو تمثل واحديته . وهو التمثل الذي تتلألأ في مجراه فردانية الإخلاص للحقيقة والجمال والمطلق والكل . وهو الذي جعل بداية الخلاج ونهايته شيئا واحدا . لأنه كان يدور بين أدلة " له منه إليه به" وبين "له منه به و له ". أي كل ما جعل من هدايته ونهايته شيئا واحدا من حيث قيمتهما بالنسبة لإدراك وجد الانفراد في الحق أو حقيقة الإبداع . ففي فردانية الإبداع تتجلى حقيقة الغيب ( المجهول ) أو حقيقة البداية . إذ لا مجهول في الإخلاص . لان معاناة الغيب هي شهادة الحق فيه و وجدانه في المواقف .بمعنى استباقه في الرؤية والفعل . أما التاريخ اللاحق .فانه مجرد جلاء لقيمة وقوة الحدس المتناثر في الرؤية والفعل . فعندما يروي لنا الشبلي ما راه في صلب الخلاج و مقتله .فانه يروي لنا ما راه الخلاج و حدسه في معاناة انفراده للحق . فعندما قصد الشبلي الخلاج و قد قطعت يداه و رجلاه و صلب على جذع .متسائلا عن ماهية التصوف منه وهو المصلوب ,أجابه :
– أهون مرقاة منه ما ترى .
– وما أعلاه ؟
– ليس لك اليه سبيل . و لكن سترى غدا . فان في الغيب ما شهدته وغاب عنك .
وليست هذه الصيغة الرمزية سوى محاولة استكناه المعنى القائم ما بين "البداية" و"النهاية" باعتباره دورة الروح في بلوع غيبه أو مجهوله الحق . فالتقطن بالجسد هو الانقطاع عن الجسد . وهو أدنى درجات السلوك في حقيقة الغيب . أما المجهول فهو اللامتناهي – المتناهي فيما سيراه المرء غدا . والغد هو البداية أو ما شهده المرء وغاب عنه . ذلك يعني أن الحقائق النهائية هي الحقائق الأولية وبالتالي على قدر فردانية الإخلاص فيها تتكشف معانيها اللامتناهية . وهو المعنى الذي كشفه الشبلي للمرة الأولى في ترديد الحلاج بعد ليلة من لقائه الأول به .حيث قدم لتضرب عنقه ,و هو يقول بأعلى صوته :"حسب الواجد إفراد الواحد له " ! . وبعد أن ضربت عنقه و لف في بارية و صب عليه النفط واحرق ,حمل رماده على رأس منارة لتنسفه الريح , لقد أرادت الذاكرة الهرمة لفقهاء السلطة ومؤرخيها نسفه في رياح بغداد و مياه دجلة . غير أن رماده أبى إلا أن يتطاير في سماء الخلافة ويذوب في مياهها ,وأن يتنشقه و يشربه من هو صائم و فاطر، وهائم وعطشان ، وأن يجري ظهوره من جديد في توتر الإرادة الهائجة و كبح جماحها عند المريدين , و في كشوف المعنى الصاخب للوجود و مشاهدته في وجد العارفين , وأن ينحل في تربة الإسلام المتراصة في عمارته . وشعره ، وقبوره ومساجده ,وحاناته و التواءاتها، وطرقه وزواياه ، في حريمه و حرامه و حلاله و غرامه . إذ لم يعن نسف رماده سوى تطايره في فضاء الثقافة وأرواح مبدعيها.
و ليس صدفة أن تنهمك الثقافة وتتهالك في اتهامه وتبريره .إعلائه و تسفيله ,تبجيله و ترذيله ,تحبيبه وتكريهه .تعظيمه و تحقيره . وليس ذلك الا لان مصيره كان يهشم على الدوام لا ابالية الضمير و غفلان الذاكرة . ولهذا لم تترك أثرا له أو بقايا منه إلا وأولتها بأدلة البيان والبرهان والعرفان ، أو باللسان والعقل و القلب .أو بالتقاليد والمنطق والحدس ، أو بالسياسة و التاريخ والأخلاق , و لم ينج من ذلك حتى اسمه . فقد نقل عنه بان أهل الهند كانوا يدعونه بالمغيث ، وأهل الصين وتركستان بالمقيت , أهل خراسان بالمميز، وأهل فارس بالزاهد، وأهل خورستان بحلاج الأسرار، وأهل بغداد بالمصطلم . و إذا كان الشائع عنه اسم الحلاج .فلأنه الاسم الذي كان يحوي في واقعيته ورمزيته نسيج الروح والجسد . ولهذا قيل عنه .بان اسم الحلاج من حلجه القطن في مدينة واسط .عندما استقبله للمرة الأولى قطان مقابل قضاء بعض أعماله ، بحيث حلج في ساعات معدودة أربعة وعشرين ألف رطل ! فسمي من ذلك اليوم حلاجا . وهو التأويل الذي يكشف في ظاهريته الفجة غلبة الرؤية السحرية تماما كما تعكس محاولة نسف رماده تغييبه و تضييعه في المكان .
وتحولت حياته ومماته إلى لغز جرى تأويله بعبارات الشعوذة والطلاسم ، والكشف والبيان , والكفر و الزندقة , والعلم والربانية ، والإبعاد والطرد، والتقريب والمؤانسة . إذ يروى عن أحدهم دخوله على الحلاج في بيته غفلة ، فراه قائما على رأسه (!) وهو يقول :
يا من لازمني في خلدي قربا .
وباعدني بما القدم من الحدث غيبا .
تتجلى علي حتى ظننتك الكل .
وتسلب عني حتى أشهد بنفيك .
فلا بعدك يبقى , ولا قربك ينفع
ولا حربك بغني ولا سلمك بؤمن !
و عندما أحس بوجود الداخل عليه ,قعد مستويا وقال : " ادخل ولا عليك " . و بعد أن دخل وجلس بين يديه ,فإذا عينا الحلاج كشعلتي نار . عندها خاطبه قائلا : " يا بني ! إن بعض الناس يشهدون علي بالكفر، و بعضهم يشهدون لي بالولاية . والذين يشهدون علي بالكفر احب الي والى الله من الذين يقرون لي بالولاية ! " وعندما سأله عن سبب ذلك .أجابه : "لان الذين يشهدون لي بالولاية من حسن ظنهم بي .والذين يشهدون علي بالكفر تعصبا لدينهم . و من تعصب لدينه احب الي ممن احسن الظن بأحد" . وبعد هنيهة قال له : " وكيف أنت حين تراني وقد صلبت وقتلت وأحرقت ؟ وذلك اسعد يوم من أيام عمري "!!
فالحلاج يحوي في كله لغز الوحدة المتناقضة . وليس جلوسه على رأسه سوى الصيغة المقلوبة للمعني القائم في ملازمة الحق القرب في الخلد( الضمير ) وتباعده تباعد المحدث عن القديم غيبا، أو تفضيله تعصب المتدينين على الظن خيرا به .ومن ثم رؤية صلبه وقتله وحرقه باعتباره اسعد أيام وجوده . وهو المعنى الذي حصل على أحد تأويلاته في الرؤية المروية على لسان أحدهم ، حيث رأى الله في المنام . فسأله : "يا رب ما فعل الحسين ( الحلاج ) حتى استحق تلك البلية ؟ .فأجابه الله : " أني كاشفته بمعنى فدعا الخلق إلى نفسه ,فأنزلت به ما رأيت " !
و فيما لو جري تجريد الاتهام المبطن والنقد العلني في "دعوة الناس إلى نفسه " ، فان حقيقة هذه الدعوة تقوم في وجدان معنى الانفراد في الحق . بصيغة أخرى .سواء جرى إدراك حقيقة الحلاج أو تأويله بمعايير حلاجة القطن أو حلاجة الأسرار، فان في كل منها حقيقة تفرده . بمعنى حلاجة تكامله في وجدان الحق .لان حقيقة الحلاج هي نسيج الأسرار أو معاناة الحقائق والغيب .
و هو التفرد الذي شق طريقه في طريق الحلاج . وفي مفارقات وجده في وجوده للحق . وقد نقل أحدهم مرة ما كان يردده الحلاج في أسواق بغداد .
الا ابلغ أحباشي بأني
ركبت البحر وانكسر السفينة
ففي دين الصليب يكون موتي
ولا البطحا أريد ولا المدينة .
لقد أراد القول ، بأن من يسبح في بحر هائج ,فلا لوح ينقذه إلا صليبه . فهو موطن حياته و مماته . وما عداه أراضي ومدن و قرر و تقاليد . وهو الأسلوب القادر على تذليل جزع النفس و مباهاتها . ولهذا أجاب على سؤال من اتبعه لمعرفة سر قوله الآنف الذكر .بعبارة : "أريد أن تقتل هذه الملعونة "وأشار إلى نفسه . وعندما سأله عما إذا كان يجوز إغراء الناس على الباطل ( بقتله ) .أجاب : "ولكني أغريهم على الحق . لان عندي قتل هذه ( النفس ) من الواجبات " .
و هو وجوب له معناه الخاص في الطريقة والحقيقة . فالوجوب المتسامي هو إغراء على الحق لا معنى له بدون التحدي والمواجهة . ولهذا طالب الناس اكثر من مرة في أسواق بغداد وجوامعها على أن يلبوا دعوته إياهم بقتله .لا حبا بالموت و لا كرها له . فهو لم يتذوق معنى الشهادة بمعايير القتل .بل بمشاهدة حقيقتها الكبرى و إعلانها على راية الحق من خلال وجودها ( وجدها ) كما هي . ومن هنا صراخا في جامع المنصور : " يا أيها الناس ! اعلموا أن الله أباح لكم دمي فاقتلوني "! و عندما سألوه .كيف يمكنهم قتل رجل مسلم يصلي و يصوم و يقرأ القرآن ، أجابهم : "المعنى الذي به تحقن الدماء خارج عن الصلاة والصوم وقراءة القرآن . فاقتلوني تؤجروا وأستريح " .
لقد بحث الحلاج عن المعنى . ووجده فيما وراء الصلاة والصوم و قراءة القرآن . ولا يعني ذلك سوى وجده المعنى فيما وراء المعنى المتعارف عليه في اعتبارات العرف والتقاليد و الحجج و الأدلة . و لهذا لم يتأوه من ألم قطع رجليه ويديه بل من معنى المفارقة الحية لوجوده . ومن هنا مناجاته الله بعد أن قطعوا اوصاله :
إلهي أصبحت في دار الرغائب
انظر إلى العجائب .
إلهي انك تتودد الى من يؤذيك
فكيف لا تتودد الى من يؤذى فيك .
وهي المفارقة النابعة من معاناة المعنى .لا من المها (الجسدي ). فالإبداع الحقيقي هو ذاك الذي يتأوه من المعنى لا من الألم . وهو المبدأ الذي خلق الحلاج و نبع منه بالقدر نفسه . ومن هنا استهزاؤه بالموت والضحك عليه . فلما أتى به ليصلب ، كما يروى عنه ، ورأى المسامير والخشية ضحك كثيرا حتى دمعت عيناه . ثم التفت إلى القوم فرأى الشبلي بينهم فقال له :
– يا أبا بكر هل معك سجادتك ؟
– بلى يا شيخ !
– افرشها لى !
ففرشها الشبلي فصلى الحلاج عليها ركعتين . وهي "الخاتمة" التي تعيد ما بدأه يوما في سوق القطيعة .كما ينقل أحدهم عنه .عندما وقف على باب المسجد وهو يقول : "يأ أيها الناس ! إذا استول الحق على قلب أخلاه عن غيره . واذا لازم أحدا أفناه عمن سواه . واذا احب عبدا حث عباده بالعداوة عليه . فكيف لي ولم أجد من الله شمة ولا قربا منه لمحة ؟ وقد ظل الناس يعادونني ؟! "ثم بكى حتى أبكى من حوله . فلما بكوا عاد ضاحكا وكاد يقهقه .
اضحك الحلاج الكون وأبكاه في مفارقاته . وكشف من خلالها بان حقيقة الإبداع في الابتلاء و وجد مكوناته المتجددة . لقد أضحكه بكاء الناس على بكائه ، لأنهم لم يدركوا أن حقيقة بكائه و ضحكه في خطرات الحقيقة ونظراتها . فقد أوصلته تجربة الفناء في الحق إلى أن بلوغه يؤدي إلى خلاء قلبه مما سواه . في حين أن سمو المرء في خطي المطلق يجعله عدوا " للعباد" . فقد أشاع عنه (الصوفي ) عمرو بن عثمان .انه قال " يمكنني أن أتكلم بمثل هذا القرآن " بسبب حرده على الحلاج و ذلك لسؤاله إياه يوما عندما لاقاه للمرة الأولى في مكة :
– الفتى من أين ؟، فرد الحلاج عليه قائلا
– لو كانت رؤيتك بالله لرأيت كل شيء مكانه ، فان الله يرى كل شيء!
بينما اتهمه علي بن سهل بالزندقة ,وذلك بسب اعتراض الحلاج عليه يوما بعد أن سمع سهلا يتكلم بالمعرفة فقال له : " يا سوقي ! تتكلم في المعرفة وأنا حي ؟!
وهي مواقف لها مقوماتها ومقدماتها في مبدأ وجوده القائل ، بأخذه اصعب المباديء واشدها مما في الثقافة نفسها . فقد رد في أحد الأيام على أ حد تابعيه عندما أراد معرفة رأيه بحقيقة الباطن والظاهر قائلا : "ما تمذهبت بمذهب أحد من الأئمة جملة . و إنما أخذت من كل مذهب أصعبه وأشده " . و ليس هذا سوى التفرد الواعي للتحدي ,و الذي حدد نمط حياته وسلوكه ومصيره . فقد كان يلبس السواد يوم العيد ويقول " هذا لباس من يرد عليه عمله" . وفي تقشفه تحديا ,من حيث نقل عنه احمد الواسطي قائلا صحبت الحلاج سبع سنين ما رأيته ذاق من الادم سوى الملح والخل . ولم يكن عليه غير رقعة واحدة . ولم ينم الليل وصلا، ولا سويعة من النهار" . ونقل عنه أبو يعقوب النهر جوري ما بلي : "دخل الحلاج مكة أول دخلة وجلس في صحن المسجد سنة لم يبرح من موضعه إلا للطهارة والطواف . ولم يحترز من الشمس ولامن المطر . وكان يحمل اليه في كل عشية كوز ماء وقرص من أقراص مكة . وكان عند الصباح ترى القرص على رأس الكوز وقد عض منه ثلاث عضات أو أربعا .فيحمل من عنده " .
لقد حول الحلاج وجوده وذاته إلى كيان التضحية المتسامية بمعايير الحق . ويروي عنه أحد أصحابه كيف دخل عليه أحد المجوس وألح عليه بأخذ المال .فأبى .إلا أن إلحاح صاحبه جعله يذعن . وحالما خرج المجوسي قام الحلاج ومعه المال ودخل جامع المنصور، ففرق المال على الفقراء، حتى لم يبق في الكيس شيئا . وعندما قال له صاحبه :
– يا شيخ هلا صبرت إلى الغد ؟
– الفقير إذا بات في عقارب نصيبين خير له من أن يبيت مع المعلوم .
إن التخلي عن المعلوم ( الموجود ) هو الأسلوب المتسامي لوجد حقائق الوجود . و هي حقائق تمتلك معناها في رؤية المطلق . ومن هنا مناجاة ألحلاج ربه قائلا :
لو بعت مني الجنة بلمحة من وقتي
أو بطرفة من أحر أنفاسي ,لما اشتريتها !
ولو عرضت علي النار بما فيها من, ألوان عذابك
لاستهونتها في مقابلة ما أنا فيه
من حال استتارك مني
فاعف عن الخلق ولا تعف عني
وارحمهم ولا ترحمني
فلا أخاصمك لنفسي ولا أسائلك بحقي
فافعل بي ما تريد !
لقد عرض روحه وجسده لإرادة المطلق . وكلفهما بواجبات تتجاوز الحلال والحرام والواجب والمندوب والعرف والتقاليد .لأنه حاول التمسك بعروة الحقيقة . أي تلك التي تذوب في فعل الآن الدائم ، لا الواقفة فيما وراء الآن والمكان أو بينهما . ومن هنا قوله : " من لاحظ الأزلية والأبدية ، وغمض عينيه عما بينهما فقد اثبت التوحيد . و من غمض عينيه عن الأزلية والأبدية ولاحظ ما بينهما فقد أتى العبودة . و من اعرض عن البين والطرفين فقد تمسك بعروة الحقيقة " . إذ ليس الأزل سوى البداية التي لا بداية لها، وليس الأبد سوى النهاية التي لا نهاية لها . و من هو قادر على ملاحظتهما سوف يثبت التوحيد، بمعنى تلاشيه فيما بينهما . ومن تجاهلهما ونظر إلى ما بينهما فسوف يرى حياته فيما بينهما كما لوانها المعيار الذي يحوي في ذاته بداية الوجود ونهايته . وهي رؤية تستفز الروح الأخلاقي في عبواته لله ( المطلق ). و من يعرض عن الأزل والأبد وما بينما، فانه يتحول الى الكل . والحقيقة هي الكل . والعروة التي يصعب الإمساك بها .
فالحقيقة شيء لا كالأشياء .والكيان الذي يصعب إمساكه .لأنها تستحوذ على ماسكها ,أو تفنيه في إبداعها . ومن هنا صياح الحلاج في أسواق بغداد . " يا أهل الإسلام ! أغيثوني ! فليس يتركني ونفسي فأنس فيها . وليس يأخذني من نفسي فاستريح منها . وهذا دلال لا أطيقه " ! وإنشاده :
هويت بكل كل كلك يا قدمي
تكاشفني حتى كأنك في نفسي
أقلب قلبي في سواك فلا أرى
سوى وحشتي منه وأنت به أنسي
فها أنا في حبس الحياة ممنع
من الأنس , فاقبضني اليك من الحبس
وهو تلوع لا منفذ له إلا في البلاء، باعتباره نار الإبداع . و قد واجهها الحلاج في مصيره أيضا. ولذا ناجى الله قبيل الموت بعبارة : "هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصبا لدينك و تقربا اليك .فاغفر لهم ! فانك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا ما فعلوا ! و لو سترت عني ما سترت عنهم لما ابتليت بما ابتليت ! ". و هي المفارقة التي توحد في كلها ظاهر المأساة وباطن التحدي . إذ لا مأساة في حياة الحلاج و موته ، بل تحد . ففي مفارقات حياته وموته معنى ميز روحه وجسده على السواء .وكشف بقدر واحد عن أن الإبداع الحق في أعماقه تحد نابع من الاستماع الدائم لحقائق المطلق . ففي الاستماع الدائم لحقائق المطلق تتكامل معاناة ( أو تجربة ) الحقيقة بفعل اختبارها الدائم بمعايير الحق المتسامي .
إن الاختبار الدائم للحقيقة والتكامل في معاناتها هو التمثل الفرداني للحق . وهو تمثل متنوع لا متناه تتوج عند الحلاج ببلوغه " أنا الحق "، باعتباره استهلاكا لصيرورة روحه المبدعة . أي كل ما تتلاشى فيه معالم البين والأنا – هو، وتبقى فروق المطلق وتجلياته بوصفها عصب الوجدان المتوتر في معاناته للحقيقة . وهي الفكرة التي وضعها الحلاج في إحدى مناجاته القائلة :
يا من استهلك المحبون فيه
لا فرق بيني وبينك إلا الألوهية والربوبية
وفي مخاطبته الحق ( الله أو المطلق ) قال :
رد الى نفسي لئلا يفتتن بي عبادك
يا هو أنا وأنا هو
لا فرق بين أنيتي وهويتك إلا الحدث و القدم
غير أن فروق الألوهية والربوبية والقدم عن "أنا" ته تنحل و تفنى في مجرى معاناته للحقيقة . إذ يجري استهلاكها في الأفعال المتسامية بمعايير الحق . وهي الفكرة التي شرحها الحلاج في عبا رته القائلة ´´ إن ربي ضرب قدمه في حدثي حتى استهلك حدثي في قدمه . فلم يبق لي صفة إلا صفة القديم .ونطقي تلك الصفة" . بصيغة أخرى . إن استهلاك صفة الحدث في صفة القدم بحيث لم يبق له إلا صفة القديم هو استهلاك الآن (العابر ) في الدائم ( القديم ) . بمعنى تحول نطق الروح المبدع ( الآني والأني ) إلى نطق الحق ( الدائم والقديم ) . ومن هنا صراخ الحلاج : " أنا الحق " ! فهو الحق الدائم ( والمطلق ) فيه ، الذي يؤدي إلى استهلاك ناسوتيته ( إنسانيته أو بشريته ) في لاهوتيته (الوهيته ) ومن ثم غياب فروق الأنا – هو , وذوبانها في العلاقة الوجدانية للأنا – أنت باعتبارها كلا . و من هنا قوله :
ليس يستتر عني لحظة فأستريح
حتي استهلكت ناسويتي في لاهوتيته
وتلاشى جسمي في أنوار ذاته
في عين ولا أثر .ولا وجه ولا خبر!
إن استهلاك الأنا – هو في الأنا – أنت هو استهلاك الأنا في الحق و بروز أنا الحق باعتبارها فردانية الروح المبدعة في وجدانه للوجود , و الذي يؤدي إلى تضافر التحدي والاندهاش في المواقف ، أو شطح الأقوال والأعمال . أما في الواقع فلا شطح ، لان الإبداع الحقيقي في كلأ شطح .تماما كما أن الحلاج في كله شطح التحدي والاندهاش .كما في قوله : "لو ألقي مما في قلبي على جبال الأرض لذابت ! وأني لو كنت يوم القيامة في النار لأحرقت النار ! و لو دخلت الجنة لانهدم بنيانها !" . لقد أراد القول .بان وجدانه أقوى من الحجارة لأنه اشد حرارة من كل نار . بل أن نار وجدانه قادر على التهام نار القيامة وتهديم بناء ( حجر ) الجنة ، لأنها شعلة الحق ( المطلق ) تحترق بذاتها . وهو الوجدان الذي يلف الروح المبدعة في الدورة الدائمة للتحدي والاندهاش :
عجبت لكلي كيف يحمله بعضي
ومن ثقل بعضي ليس تحملني ارضي
وهي المفارقة المميزة لوحدة الاندهاش والتحدي في الإبداع . فالروح المبدع هو حصيلة الكل الثقافي والكوني، والذي يعاني في فردانيته من حمله ( الكل ). وهو الحال الذي يستهتر فيه الوجدان المقيد بمعايير الحق المتسامي. فإذا استبطن العقل الوجدان فانه يخلق فعلا متوازنا، واذا استبطن الوجدان العقل ، فانه يؤدي إلى الاستهتار المتسامي. وتجربة الحلاج هي تجربة الاستهتار المقيد بالحق . والتي كثفها في أحد طواسينه قائلا:
إفهام الخلائق لا تتعلق بالحقيقة
والحقيقة لا تليق بالخليقة .
الخواطر علائق .
وعلائق الخلائق لا تصل الى الحقائق .
الإدراك الى علم الحقيقة صعب
فكيف الى حقيقة الحقيقة
وحق الحق وراء الحقيقة
والحقيقة دون الحق .
الفراش يطير حول المصباح
الى الصباح .
ويعود الى الأشكال فيخبرهم
عن الحال , بألطف المقال
ثم يمرح بالدلال
طمعا في الوصول الى الكمال
ضوء المصباح – علم الحقيقة
وحرارته – حقيقة الحقيقة .
والوصول اليه – حق الحقيقة .
لم يرض بضوئه و حرارته
فيلقي مجلته فيه
والأشكال ينتظرون قدومه
ليخبرهم عن النظر
حين لم يرض بالخبر .
فحينئذ يصير متلاشيا متصاغرا متطايرا
فيبقى بلا رسم وجسم واسم ووسم ,
فبأي معنى يعود إلى الأشكال ؟
وبأي حال بعد ما صار ؟
من وصل وصار إلى النظر
استغنى عن الخبر,
ومن وصل إلى المنظور
استغنى عن النظر
لا تصح هذه المعاني
للمتواني ولا الفاني ولا الجاني
ولا لمن طلب الأماني
كأني كأني ! أو كأني هو!
أو هو أني: لا يروعنني إن كنت أني !
يا أيها الظان
لا تحسب أني "أنا" الأن
أو يكون أو كان
لابأس إن كنت أنا
ولكن لا أنا !
إن هذه الأنشودة المكثفة لتجربة الانفراد في الحق تكشف عن انه لا طريق الى بلوغ الحق إلا بنزع الأنا عن الأنا، بالاحتراق في الحقيقة (أو بإلقاء جملة الأنا) بالتلاشي والتصاغر والتطاير فيها بحيث لا يبقى من أنا الأشكال (العادية ) رسم ولا جسم ولا اسم و لا وسم . أي أن يصير أنا بلا أنا . وهي الذروة العليا في إبداع الحقيقة ، لأنها أسلوب صيرورة " أنا الحق " ونموذجها الفردي. آنذاك تصبح "أنا الحق" الصوت الناطق بحقائق المطلق . لان المعنى الوحيد الممكن لعودة الأنا بعد أن تلاشت وتصاغرت و تطايرت ذراتها في نار الحقيقة وجود كلها المتجدد، أو ما دعاه الحلاج يوما "بركوب الوجود( بالفتح )
بفقد الوجود (بالكسر) " . فهو الوجود الذي تتلاشى فيه أنا الماضي والحاضر والمستقبل في " أنا الحق " ، باعتبارها الوجدان المستهتر بفردانية إخلاصه للحق . ومن هنا تجليها الدائم في صور الاستهلاك الوجداني لوحدة الغيبة والحضور، والصحوو السر، والفناء والبقاء، والفرق والجمع . ففي الغيبة و الحضور يمكنها التجلي في :
قد كنت اطرب للوجود مروعا
طورا يغيبني وطورا أحظر
أفنى الوجود بشاهد مشهوده
أفنى ألوجود وكل معنى مذكر
وفي السكر والصحو يمكنها التجلي في :
كفاك بأن السكر أوجد كربتي
فكيف بحال السكر والسكر اجدر
فحالاك لي حالان : صحو وسكرة
فلا زلت في حالي أصحو واسكر
وفي الفرق والجمع يمكنها التجلي في :
الجمع أفقدهم – من حيث هم – قدما
والفرق اوجدهم حينا بلا اثر
فالجمع غيبتهم والفرق حضرتهم
والوجد والفقد في هذين بالنظر
إن الإخلاص في الأحوال هو فردانية الإخلاص للحق والعكس هو الصحيح . وهو الأمر الذي يضع الروح المبدعة في هيئة التحدي الوجداني واستهلاك مفارقاته الدائمة في أحواله . ففي المحو أوصله إلى بلوغ .
أنا عندي محو ذاتي من اجل المكرمات
وبقائي في صفاتي من قبيح السيئات
سئمت روحي حياتي في الرسوم الباليات
فاقتلوني واحرقوني بعظامي الفانيات
وفي الهوى وصل إلى :
إذا بلغ الصب الكمال من الهوى
وغاب عن المذكور في سطوة الذكر
يشاهد حق حين يشهده الهوى
بأن كمال العاشقين من الكفر
وهو الحال الذي جعله مرة يقول :
كفرت بدين . . . . والكفر واجب
علي وعنا المسلمين قبيح !
فهو الوجدان الذي يلف الروح المبدعة في إعصاره ويجعل من حركات الروح والجسد مفارقات لها معناها الجميل في المواقف والأفعال :
إذا ذكرتك كاد الشوق يتلفني
وغفلتي عنك أحزان واوجاع
وهي المفارقة التي تتجل في كل شيء، لأنها تنبع من تلقائية الحقيقة . ففي الجسد يمكنها أن تتجلى في مظاهر الذل :
ذلوا بغير اقتدار عندما ولهوا
إن الأعزاء إذا اشتاقوا أذلاء
لان من شروط الهوى، كما يقول الحلاج ، إن المحب يرى بؤس الهوى أبدا أحلى من النعم . أما في القدر . فيمكنها التجلي في الحال الذي وصفه يوما بقوله :
ما حيلة العبد والأقدار جارية
عليه في كل حال ,أيها الرائي ؟
ألقاه في اليم مكتوفا و قال له
إياك ! إياك ! أن تبتل بالماء!
وهي المفارقات التي لا يمكن الخروج منها إلا بوجدان الكل ( الحق ) أي بالوجدان المتكامل في تجربة الحقيقة ومعاناتها . فالوجدان المستهتر بفردانية الإخلاص للحق هو الوجدان الدائم للكل . وتجربة الحلاج هي تجربة الكل وفي كلها حب الكل . فهو يعشق الحق ( الكل )، لان الحق بداية وغاية حبه التام :
لبيك لبيك ياسري ونجوائي
لبيك , لبيك , يا قصدي ومعنائي
أدعوك بل أنت تدعوني اليك فهل
اديت إياك أم ناديت ايائي
يا عين عين وجودي يا مدى هممي
يا منطقي وعباراتي وايمائي
يا كل كلى و كل الكل ملتبسى
وكل كلك ملبوس بمعنائي
يا من به علقت روحي ، فقد تلفت
وجدا فصرت رهنا تحت أهوائي
و ليس الكل في نهاية المطاف سوى أجزائه في الأنا:
أني لأرمقه والقلب يعرفه
فما يترجم عنه غير إيمائي
يا ويح روحى من روحي, فوا أسفي
علي مني, فأني اصل بلوائي
كأنني غرق تبدو اناملة
تغوثا وهو في بحرمن الماء
وليس يعلم ما لا قيت من أحد
إلا الذي حل مني في سويدائي
وهو الحل الذي يجعل الكل أحب من أجزائه :
ياموضع الناظر من ناظري
و يا مكان السر من خاطري
يا جملة الكل التي كلها
أحب من بعضي ومن سائري
وهي المحبة التي تتكشف فيها حقيقة الأنا:
هويت بكلي كلك , يا قدسي,
تكاشفني حتى كأنك في نفسي
أقلب قلبي في سواك في أرى
سوي وحشتي منه وأنت به أنسي
و تصبح الأنا وعاء الوجود في تقبلها الوجداني لكل ما فيه ( الوجود والكون ) وإعادة نضحه من مسامات معاناتها المخلصة:
وصار كلي قلوبا فيك واعية
للسقم فيها وللآلام اسرع
فان طقت فكلي فيك السنة
وأن سمعت فكلي فيك اسماع
آنذاك تنهد الفوارق والبين والحواجز والعلائق والعوائق والغربة والاغتراب ويصبح الكون ( والوجود)
والأنا كلا واحدا في الهموم والمعرفة :
لما اجتباني وأدناني وشرفني
والكل بالكل أوصاني وعرفني
لم يبق في القلب والأحشاء جارحة
إلا واعرفه فيها ويعرفني
وهي المعرفة التي تخلق الهم الموحد، أو ما اسماه الحلاج بانشغال كل الأنا بالكل :
شغلت جوارحي عن كل شغل
فكلي فيك مشغول بكلي
إن الانشغال الكامل للكل (الفرداني ) بالكل ( المطلق ) هو الذي يجعل من "الاتحاد " و"الحلول "الملجأ النهائي للروح المبدعة في إخلاصها للحق . و يصير الحق المصب الأخير لروافد أحواله الدائمة . أي كل ما يؤدي إلى صيرورة الأنا المتوحدة في الذكر والأحوال والروح والجسد. ففي الذكر:
ذكره ذكري وذكري ذكره
هل يكون الذاكران إلا معا ؟إ
وفي الأحوال :
مزجت روحك في روحي كما
تمزج الخصية بالماء الزلال
فإذا مسك شيء مسني
فإذا أنت أنا في كل حال
وفي الروح :
جبلت روحك في ,روحي كما
يجبل العنبر بالمسك الفتق
فإذا مسك شىء مسني
فإذا أنت أنا لا نفترق
وفي الجسد:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
نحن , مذ كنا على عهد الهوى
تضرب الأمثال للناس بنا
فإذا ابصرتني ابصرته
واذا أبصرته أبصرتنا
أيما السائل عن قصتنا
لو ترانا لم تفرق يبننا
روحه روحي و روحي روحه
من رأى روحان حلت بدنا؟!
إن الاتحاد بالمطلق أو الحلول فيه يعني امتلاك حقائقه في الروح المبدعة ، أو ما ادعاه النفري يوما بصيرورة "الحقيقة صفة الأنا" ، أو "الحقيقة أنا". أي الذوبان والاندماج التام بين الأنا والحق . آنذاك تصبح أنا الحق مصدر الإبداع وشطر تجليه . و ليس الحلاج إلا أحد نماذجها المثلى .
ب – الشبلي : الوجدان وحقائق الآن
: أنا الوقت,وليس في الوقت غيري"
( الشبلي )
الإخلاص للحقيقة يفترض التفرد في معاناتها . والتفرد هو القدر الملازم لإبداع المبدعين . فإذا كان إخلاص النفري للحقيقة قد جرى من خلال وجدها في "المواقف "، والحلاج في "الحق" ، فان إخلاص الشبلي جرى من خلال وجدانه الدائم لحقائق الآن . و لهذا كان شعار النفري " الحقيقة أنا" و شعار الحلاج " أنا الحق " وشعار الشبلي" أنا الوقت " . وهو تباين في "الأنا" رغم وحدتها .ووحدة في الحقيقة رغم تباينها .
إن الإخلاص للحقيقة يبدع الأنا والروح المبدعة . ومن هنا تنوع الإخلاص .والذي مثله الشبلي في وجدانه الدائم للحقائق . ولهذا قال الجنيد عنه مرة "الشبلي سكران . ولو فاق لجاء منه إمام ينتفع به" . وقال عنه أيضا : "أوقف الشبلي في مكانه فما بعد . ولو بعد لجاء منه إمام " . و لا يعني السكر والوقوف هنا سوى الفرق في الوجدان . و لهذا أيضا خاطبه الجنيد مرة : "حرام عليك يا أبا بكر (الشبلي ) أن كلمت أحدا . فان الخلق غرقى من الله .وأنت غرق في الله " . و أن يعنفه أحيانا بخطابه إياه : " يا أبا بكر أشفق عليك وعلى ثباتك ، لان هذا الاضطراب والانزعاج والحدة و الطيش والشطح ليست هي من أحوال المتمكنين " ! وهو مأخذ له معناه في "قواعد الإرادة " لا في الحال والوجدان . فقد دعاه أبو نعيم الأصفهاني بالمجتذب الولهان ، والمستلب السكران .والوارد العطشان . و قال عنه أحد المشايخ " وقفت على الشبلي عشرين سنة ما سمعت منه كلمة في التوحيد . كان كلامه كلا في الأحوال والمقامات " . وهو تقييم دقيق ,لأن الشبلي كان غرق في الله كما وصفه الجنيد . ومن ثم ، فان عباراته القليلة في التوحيد تعكس .أن أمكن القول .تموجات عقله في وجدانه . ومن هنا اكتساؤها ببريق أحواله اللامع . فقد قال مرة "لا يتحقق العبد بالتوحيد حتى يستوحش من سره لظهور الحق عليه " . وفي موضع آخر قال : "من اطلع على ذرة من التوحيد ضعف عن حمل نبقة لثقل ما حمله ". وفى معرض رده على من طلب منه إخباره عن التوحيد بلسان قول منفرد، أجاب :" من أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد. و من أومأ اليه فهو عابد وثن . ومن سكت عنه فهو جاهل . و من اوهم انه واصل فليس له حاصل . ومن رأى انه قريب فإنه بعيد . ومن تواجد فهو فاقد . وكل ما ميزتموه بأوهامكم وأدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم ، فهو مصروف مردود اليكم ".
لقد وضع نفسه والجميع في حالة ابتلاء دائم وطالب بخوضها، لأنها الممر الوحيد لإدراك حقيقة التوحيد، انطلاقا من انه لا حد للتوحيد . فالاستيحاش من السر ما هو إلا الخلاص من الأنا المصطنعة ببقاء ما دعاه الحلاج يوما بالانا بلا أنا، أو ما وضعه الصوفية في فكرتهم القائلة "كنا بنا فأصبحنا بلا نحن " . أي تحول الكينونة المجزئة إلى صيرورة دائمة للكل المتفرد في الصوفي أو روحه المبدعة . و لهذا اعتبر الشبلي إن من اطلع على ذرة من التوحيد ضعف عن حمل نبقة ، أو أن يعتبر الإجابة والإيماء والسكوت و الوهم والرؤية والتواجد والتمييز والإدراك نقصا في الذوق بفعل جزئيته في حقيقة التوحيد .
وهو الذوق الذي حدد تجربة الشبلي وانفراده في وجدان الحق باعتباره وجدانا لحقائق الآن . ومن هنا مخاطبته الحق ( الله ):
إن كنت تعلم
أن في بقية لغيرك
فاحرقني بنارك !
أو مخاطبته القوم مرة "انتم أوقاتكم مقطعة ، ووقتي ليس له طرفان " ! ولا يعني انعدام أية بقية فيه لغير الحق سوى بقائه في الحقيقة ووجدانها الدائم . إذ لا طرف في أوقاته ، ولا أول فيه ولا آخر، بل سريان دائم . ومن هنا شعاره "أنا الوقت ! و ليس في الوقت غيري". ولا يعني ذلك سوى تمثله لتجربة الوجدان المتلأليء بحقائق الآن . الوجدان الذي يرى ويسمع ويتكلم ويعقل ويحدس بمعايير الحق . وهو الأمر الذي طبع كيانه وكيفية استماعه لحقائق المطلق والفعل بموجبها . فقد زعق مرة واحمر وجهه وارتعدت فرائصه وصرخ قائلا "بمثل هذا يخاطب الأحباب ؟!" بعد أن سمع وهو يصلي وراء إمام المسجد قوله :}و لئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا اليك {.لا وعندما نسي مرة ، و هو في تأملاته ، صلاة العصر، وتذكرها بعد أن دنت الشمس إلى الغروب ، قام و انشد مداعبا و هو يضحك : نسيت اليوم من عشقي صلاتي فلا ادري عشائي من غدائي .
وهو عشق أو وجدان دائم للحق حددته الرؤية القائلة بان كل شيء مالت اليه النفس دون الحق وجب إتلافه . مما الزم سلوكه الصوفي ونمط حياته على السواء. فالتصوف
بالنسبة له هو "الجلوس مع الله بلا هم " و"العصمة عن رؤية الكون " . و الصوفي هو " المنقطع عن الخلق المتصل بالحق ". والطريق الصوفي هو" خوف العلائق و الشواغل ، لأن بناء الطريق على فراغ القلب ". و العارف هو من " لا علاقة له بغير الحق " ، لأن "المعرفة أولها الله و أخرها ما لا نهاية له " . فالعارف هو"من لا يكون لغيره لاحظا، ولا بكلام غيره لافظا ، ولا يرى لنفسه غير الله حافظا" . وعندما سئل مرة عن مقام الزهد، أجاب " الزهد غفلة لان الدنيا لا شيء، والزهد في لا شيء غفلة " . وحدد مقام الشكر بحدود " رؤية المنعم لا رؤية النعمة " ، ومقام الفقر بان "لا يستغنى بشيء دون الحق"` . وعندما سألوه عن ماهية مقام الورع .أجاب " أن تتورع الا يتشتت قلبك عن الله" . وعندما سألوه عن ماهية مقام التوكل ، أجاب "أن تكون لله كما لم تكن ويكون الله لك كما لم يزل" . وحدد ماهية المحبة بصيغ عديدة ، مثل "أنها سميت محبة لأنها تمحو من القلب ما سوى المحبوب " ، فهي المحو أو الفناء الذي يثبت بقاء الروح المبدعة في وجدانه الدائم واخلاصه للحق (والحقيقة ) ، ولهذا كان بإمكانه القول :
إن المحبين أحياء وان دفنوا
في الترب أو غرقوا في الماء أو حرقوا
لو يسمعون منادي الحب صاح بهم
يوما للباه من بالحب يحترق
و إن يعبر عن المحبة بـ :
يحبك قلبي ما حييت، فان أمت
يحبك عظم في التراب رميم
إذ الإخلاص للحقيقة هو الوجدان الدائم للروح والجسد في كل النماذج والمستويات الممكنة . ولهذا يمكن توقع أن :
الهجر لو سكن الجنان تحولت
نعم الجنان على العبيد جحيما
والوصل لو سكن الحميم تحولت
نار الجحيم على العبيد نعيما
لان المحبة تسكر الروح و تطيره في ملكوت الكون . وذلك بإخلاصه للحق الساري في الوجود:
إن المحبة للرحمن تسكرني
وهل رأيت محبا غير سكران
فالجلوس مع الله بلا هم .والانقطاع عن الخلق والاتصال بالحق ,وتفريغ القلب مما سوى الحق ، وأن العارف هو من لا علاقة له بغير الحق ,والاستغناء عما سوى الحق ، وعدم تشتت القلب عن الله .و أن يكون لله كما لم يكن و يكون الله له كما لم يزل .ما هو إلا تحسس الحقائق بلا إحساس . بمعنى السير الدائم بضوء الوجدان المتلأليء بحقائق الآن . ولهذا أجاب مرة على سؤال:
– متى يكون العارف بمشهد من الحق ؟
– إذا بدا الشاهد و فنى الشواهد !
إن السير الدائم بضوء الوجدان المتلأليء بحقائق الآن أشد ما يتجلى في الأحوال والمواقف . ففي الأحوال اتخذ نفس مضمون المواقف من المقامات ، بمعنى الأنس بالحق والفناء فيه . و لهذا وجد في حال الخوف "الخوف من أن يسلمك اليك ". وأعطى له مرة أبعادا وجودية طبيعية في جوابه على سؤال وجهوه اليه عن سبب اصفرار الشمس وقت الغروب ، بعبارة : "لأنها عزلت عن مكان التمام . فأصغرت لخوف المقام "! و أن يجد في حال الأنس "وحشة الإنسان من نفسه و من الكون" .
لقد حددت وحدة رؤيته وإحساسه لحقائق المقامات والأحوال ، واستماعه لحقائق الحق سلوكه الصوفي وحياته ككل . إذ تحول سلوكه إلى نموذج "الشطح " و"التحدي الذي بدا في بعض ملامحه كما لوانه جنون . فمما يروى عنه انه اخذ يوما قطعة عنبر فوضعها على النار .فكان يتبخر بها تحت ذنب حمار . في حين كان أحيانا يلبس الثياب الثمينة ثم ينزعها و يضعها فوق النار . و واجه مرة أولئك المشايخ الذين زاروه في المشفى ( المارستان ) .قائلا : قوم أصحاء جئتم إلى مجنون ؟! أي فائدة لكم مني؟! دخلت المارستان كذا و كذا مرة ,وأسقيت من الدواء كذا وكذا دوا، فلم ازدد إلا جنونا!
غير أن جنونه هو جنون الإخلاص للحق . بمعنى "شطحه " عما هو معتاد و متعارف عليه في الأقوال والأفعال . و لهذا رمى مرة في نهر دجلة أحد الأشخاص الذين صاح في مجلسه .ثم قال : " إن كان صادقا نجاه الله .وان كان كاذبا أغرقه الله" . أو أن يقول مرة بعد أن سمع قارئا يقرأ الأية } أخسأوا فيها ولا تكلمون{ بعبارة " ليتني كنت واحدا منهم "! أو ما يرويه عنه بعضهم كيف زاره زمن القحط بعض المشايخ ,و بعد أن خرجوا منه قال لهم : " مروا ! انا معكم حيث ما كنتم . انتم في رعايتي وكلايتي" ! أو أن يأخذ من يد إنسان كسرة خبز ويأكلها ثم يقول "إن نفسي هذه تطلب مني كسرة خبز ولو التفت سري إلى العرش و الكرسي لاحترق "! أو أن يقول مرة "إن لله عبادا لوبزقوا على جهنم لأطفأوها " .
وهي شطحات تستمد مقوماتها من فردانيته المتكاملة في الحق ,و التي وضعها في فكرته القائلة " لو قبلني العالم بمن فيه لكانت مصيبة علي إذا لم يكن شربهم شربي ، وذوقهم ذوقي، و إلا فلم يقبلوني" . مما حدد مصيبة وجوده التي صاغها يوما بمناجاته قائلا:
الهي احبك الخلق لنعمائك
و أنا احبك لبلائك !
وهو بلاء يفعل في همومه كهم واحد وضعه في شعاره القائل " ليكن همك معك لا يتقدم ولا يتأخر" : مما حدد بدوره مواقفه وسلوكه باعتبارهم شطحات تتحدى ما تواجهه في ظاهرها و تستجيب وجدانيا في باطنها لحقائق الآن . فقد اعتل مرة علة شديدة ، فبادره الشيوخ لعيادته إلى داره . فاتفق أن كان عنده ابن عطاء وجعفر الخلدي وجماعة من أصحاب الجنيد، فرفع رأسه وتساءل :
– ما لكم ؟ أيش القصة ؟
– ما لنا ؟! جئنا الى جنازتك !
فاستوى جالسا وقال :
– الجوار ! الجوار ! أموات جاءوا إلى جنازة حي !!ولهذا خاطب مرة أهل عصره بعبارة : انتم قبور ! و عندما سألوه لماذا، أجابهم "لان كل واحد منكم مدفون بثيابه ! " . وعندما لبس في أحد الأعياد ثوبين جديدين ورأى الناس يسلم بعضهم على بعض لأجل ثيابهم طرحها في تنور واحرقها. و عندما سألوه عن سبب ذلك .أجاب :؟
أردت أن احرق ما يعبده هؤلاء !",؟؟.ثم لبس ثيابا زرقا و سودا وجعل يتغنى:
تزين الناس يوم العيد للعيد
وقد لبست ثياب الزرق والسود
أصبحت في ترح والناس في فرح
شتان بيني و بين الناس في العيد
وهو الفرق أو الاختلاف الذي يجري تذوقه بمعايير الفرادة المتسامية كما عبر عنها مرة في شعره :
الناس فطر وعيد أني وحيد فريد
فالشبلي يحزن بوجدان خالص ويفرح بوجدان خالص . وفي كليهما معنى يحدده وجدان الحقيقة في المواقف .ومن هنا قوله " الفرح بالله أولى من الحزن بين يدي الله"،وأن "من عرف الله لا يكون له غم أبدا ".وهو التناقض الذي عبر عنه مرة في قوله :
عيدي مقيم وعيد الناس منصرف
والقلب مني عن اللذات منحرف
إلا أن هذا التناقض ينحل حالما يجري النظر إلى شطحاته على أنها أفعال تتحدى في ظاهرها ما تواجهه و تستجيب في باطنها لحقائق الآن . و من هنا تنوعها في الصور . فمرة يقول :
وتحسبني حيا و أني لميت
و بعضي من الهجران يبكي على بعضي
و في صورة أخرى يقول :
من أين لي أين وأني – كما ترى –
أعيش بلا قلب وأسعي بلا قصد
أو أن يسأل مرة الوزير علي بن عيسى عندما عاده وهو في دار المرضى ليعالج ، بعبارة :
– ما فعل ربك ؟
– في السماء يقضي و يمضي !
– سألتك عن الرب الذي تعبده ( يقصد الخليفة المقتدر) لا الرب الذي لا تعبده !
أوان يجيب على سؤال أحد الفقهاء الذي قال له :
– يا أبا بكر سمعتك تقول في حال صحتك "كل صديق بلا معجزة كذاب " . وأنت صديق فما معجزتك ؟ – معجزتي أن تعرض خاطري في حال صحوي على خاطري في حال سكري فلا يخرجان عن موافقة الله !
أي تكامل أو وحدة الشبلي في صحوه و سكره أو ظاهره وباطنه ، أو أوله و آخره ، لأنه تكامل مبني على أساس احتجابه بالحق " أو تكامله فيه كما عبر عنه مرة بقوله :
ليس مني اليك قلب معنى كل عضو مني اليك قلوب
و هي ذات الوحدة أو الحلول التي تعطي للروح المبدع إحساسه المرهف ومعاناته المخلصة للحقيقة على أنها سر وجوده و تسرمده ,كما كشفها مرة في شعره
تسرمد وقتي فهو مسرمد
وأفنيتني عني فعدت محددا
وكلي بكل الكل وصل محقق
حقائق حق في دوام تخلدا
تغرب أمري فانفردت بغربتي
وأفينتني عني فصرت مجردا
لقد كشف الشبلي في حياته وموته ,شعره ومواقفه عن أن الإبداع هو الإخلاص لحقائق الآن ,وأنه وجدان تتكسر في آهاته وحدة الانتماء للحق .
ميثم الجنابي (كاتب وأكاديمي عربي يقيم في موسكو)