اليس مونرو روائية كندية تكتب باللغة الإنجليزية. وصفت أعمالها بأنها صنعت ثورة في بناء القصة القصيرة خاصة من حيث قدرتها على التحرك في الزمن إلى الأمام وإلى الخلف.
ولدت اليس مونرو في العاشر من شهر يوليو سنة 1931 في وينجهام، اونتاريو، كندا. تزوجت من جيمس مونرو (1951 – 1972) ثم تزوجت ثانية من جيرالد فريملين (1976 – 2013) . لها أربعة أولاد من زواجها الأول.
كتبت اثني عشر كتاباً من المجموعات القصصية، حازت على العديد من الجوائز الأدبية سواء في بلدها كندا أم على مستوى العالم.
العزيزان هوج ومارجريت
خلدت إلى نفسي فترة لا بأس بها خلال الاسابيع المنصرمة. مما أتاح لي فرصة التفكير في حالنا جميعاً ولقد توصلت إلى خلاصات عديدة قد تكون ممتعة إلا أنها ليست مبتكرة.
1) الزواج الأحادي ليس حالة طبيعية للرجال والنساء.
2) إن ما يجعلنا نشعر بالغيرة هو شعورنا بالهجران. وهذا شيء غريب لأنني إنسانة ناضجة قادرة على العناية بنفسي.
انا لا أستطيع ببساطة، تحمل الهجران. كذلك نحن نشعر بالغيرة. انا أشعر بالغيرة لأنني استنتج ان هوج في حبه لمارجريت إنما يأخذ شيئاً مني ويعطيه لها. ليس الأمر كذلك فهو إما أن يعطيها قدراً أكبر من حبه لي – او أنه لا يشعر بحب نحوي ولكنه يشعر نحوها. وحتى لو كانت الفرضية الأخيرة حقيقية فهذا لا يعني انني غير جديرة بالمحبة. وإذا ما كنت أشعر أنني قوية وسعيدة في نفسي فإن حب هوج ليس ضرورياً لإحترامي لذاتي.
وإذا كان هو يجب مارجريت فعلي أن أسعد بذلك، اليس علي أن أفعل لكونه يملك مثل هذه السعادة في حياته؟ أو أن لا أستطيع طلب أي شيء منه ..
العزيزان هوج ومارجريت،
ما يعذبني ليس فقط كونكما أقمتما علاقة بل أنكما بهذه العلاقة خدعتماني بمهارة.
شيء فظيع أن يكتشف الإنسان ان فكرته عن الحقيقة هي ليست الحقيقة الحقة. لا شك أن وجود مارجريت في المنزل كل الوقت وكوننا نخرج ثلاثتنا معاً وتظاهر مارجريت بأنها صديقتي لهو خيانة غير ضرورية؟ كم من المرات كنتما تسخران مني وأنتما تتبادلان نظراتكما الحذرة عديمة الإحساس عندما نكون معاً. كان هذا كله مشهداً تمثيلياً وضع من أجل متعتكما الغرامية. أنا أحتقركما كلاكما. لا أستطيع أن أفعل ما فعلتماه. ليس باستطاعتي أبداً أن أسخر من إنسان احببته في يوم من الأيام وتزوجته أو من تلك التي كانت طيبة معي وكانت صديقتي.
مزقت هذه الرسائل ورميتها بعيداً بعد أن كومتها ووضعتها في صفيحة الزبالة.
كل ما في المقطورة مخطط بشكل جيد وكافٍ. في هذا المكعب من المعدن والفرش المنجّد يمكن لإنسان أن يقضي حياته بلا أية عقبات أو إزعاجات. اتجه القطار غرباً من مدينة «كالجري».
جلست أراقب أمواج المحيط البنية في الأرض الجافة وهي ترتفع نحو سفح التلال. أنا أبكي برتابة المصابة بدوار البحر. الحياة ليست كالقصص الكئيبة المتهكمة التي أحب قراءتها، انها كالمسلسلات اليومية في التلفزيون. تفاهة تجعلك تبكي مثل اي شيء آخر.
صديقه. عشيقه. لم يعد أحد أعرفه يقول عشيقة بعد الآن. الصديقة تبدو علاقة هشه ومع ذلك ففيها براءة غير حقيقية وغموض فضولي.. فإمكانيات الغموض والعذاب التي كانت تدور حولها الكلمة القديمة قد اختفت كلياً «فيوليتا»، لا يمكن لها أن تكون صديقة أي إنسان. ولكن «نيل جوين» باستطاعتها أن تكون كذلك، فهي اكثر عصرية.
اليزابيث تايلر: عشيقة
ميا فارو: صديقة
هذا بالضبط هو نوع اللعبة التي مارسناها ثلاثتنا هوج ومارجريت وأنا في أمسياتنا الفائته معاً، أو بشكل أقرب مارجريت وأنا اتخذناها للتسلية ثم لإزعاج هوج باندماجنا الكلي بها.
لا تنطبق أي من هاتين الصفتين بصورة مرضية على مارجريت.
ذهبنا في الربيع الماضي إلى السوق لنشتري لها ثوباً جديداً. سعدتً وتأثرتُ بإقتصادها وذوقها الحذر. إنها فتاة غنية، تسكن في المرتفعات مع والدتها المسنّة، ولكها تسوق سيارة رينو عمرها ست سنوات، تميل إلى جانب واحد، وهي تحمل الشطائر إلى المدرسة، تتمنى أن لا تثير الإنتقادات.
حاولت إقناعها بشراء فستان طويل قطني اخضر اللون مطرز بالفضة والذهب.
قالت لي «إنه يعطيني الإحساس بأنني من الحاشية الملكية» «أو بأنني انسان يحاول تقليد أفراد الحاشية الملكية وهذا أسوأ»
تركنا المكان وذهبنا إلى متجر ضخم حيث اشترت فستاناً من الصوف بأكمام ثلاثة أرباع له أزرار وحزام، نفس الثياب التي ترتديها حيث تظهر طولها وصدرها المسطح كالعادة جافاً خجولاً متمنعاً. ثم ذهبنا إلى مكان كتب مستعملة، وقررنا ان نشتري هدايا لبعضنا البعض. اشتريت أنا لها «لا لا روك» واشترت هي لي نسخة «من الأميرة» حيث بدأنا نقرأ منه ونحن في الطريق:
«أيتها الدموع، الدموع الخاملة، لا أدري ماذا تعني.»
في كثير من الأحيان كنا طائشتين مثل فتيات المدارس الثانوية هل كان هذا شيئاً طبيعياً، لو أخذنا نفكر به؟ ألّفنا قصصاً عن أناس رأيناهم في الشارع.. ضحكنا ضحكاً شديداً كان علينا ان نجلس على مقعد بانتظار الحافلة، وجاءت الحافلة، وما زلنا نضحك ونحن نلوّح بأيدينا.
على حافة الهستيريا. جُذبنا إلى بعضنا بسبب الرجل أو جُذبنا إلى الرجل بسبب بعضنا. كنت اصل إلى المنزل مستهلكة بسبب كثرة الكلام والضحك واقول لهوج، «إنه لشيء سخيف انني لم أحظ بهكذا صديقة منذ سنين».
قالت لنا وهي تجلس إلى مائدة الغداء في مقعدها المعتاد أنها تريد أن تدعى مارجريت وليس مارج بعد الآن. مارج هذا الاسم الذي يدعوها به معظم الناس والذي يدعوها به المعلمات الأخريات. إنها تعلّم الانكليزية والتربية الرياضية في مدرسة هوج. المدرسة التي يديرها هوج.
يقولون أن مارج هونيكر فتاة رائعة عندما تعرفها جيداً، «حقاً إن مارج شخص رائع،» وتعرف من الطريقة التي يقولون بها ذلك أنها ليست جميلة.
«مارج خرقاء جداً غير لبقه، إنها في الواقع مثلي. أعتقد أن مارجريت تجعلني أشعر أنني أكثر رشاقة من الحقيقة». قالت هذا على مائدة الغذاء وقد فاجأتني بأمل متواضع مختفي وراء النغمة التهريجيّة. كنت مهتمة بها كما لو كانت إبنتي وكنت دائماً أتذكر فيما بعد أن أقول مارجريت. ولكن هوج لم يكن يعبأ، كان يقول مارج.
«مارجريت لها سيقان جميلة. كان عليها ان تلبس ثياباً أقصر من التي تلبسها».
«قوية العضلات رياضية البنية».
«عليها أن تطيل شعرها».
«هنالك شعرٌ ينمو على وجهها».
«من الحقارة ان اقول هذا».
«انا لا اصدر حكماً عليه، أنا اقرّ حقيقة»
إنها حقيقة. فمارجريت لها منبت ناعم أمام أذنيها، وفي زوايا فمها. ولها وجه صبي في الثانية عشرة أشقر طائش. متقدة. ذكية ذات وجه بارز العظم بشكل لطيف وكثيراً ما تبدو خجلى. هنالك شيء شديد الجاذبية عند مارجريت، هذا ما أقوله دائماً، ويقول هوج نعم، انها ذلك النوع من النساء الذي يعتبره النساء الآخرون يمتلك شيئاً جذاباً جداً. ولماذا قالوا هذا؟ يتساءل. لأنها لا تشكل تهديداً لهم.
لا تهديد.
لماذا تفاجئنا قدرة الأناس الآخرين، سوانا على ترديد الأكاذيب؟
كنا نقوم بالترفيه عن المدرسين الشباب. الرجال الشباب الذين يرتدون الجينز وكذلك الفتيات الشابات اللواتي يرتدين سراويل مماثلة واللواتي تلبسن التنانير الجلدية الصغيرة، شعورهن طويلة، كلامهن لطيف، سلبيات إلا انهن يمتلكن القدرة على النقد. لقد تغيّر المدرسون، لبست مارجريت ثوبها الصوفي الوردي المتدلي إلى ركبتها، تجلس على وسادة حيث بدت سيقانها أطول منها، ساعدت في صنع القهوة، ولم يخرج من فمها ما يزيد عن عشرين كلمة. كنت أنا ارتدي أحد أثوابي الطويلة الطاووسية، الذي ارتديه لكونه ملائماً. لم اتردد في تهنئة نفسي بقدرتي على التأقلم ومجاراة الجو، نعم، أسلوبي الذي يتنافى مع مرحلة منتصف العمر. كنت اتباهى بنفسي أمام شخص ما. مارجريت؟ هوج؟ سعادة هوج الحقيقية جاءت من مارجريت، عندما غادر الجميع.
«المشكلة أنني لا أدري إن كنت فعلاً أربط الأحداث. لا أدري إن كنت أربط ذهنياً كل هذه العلاقة المتبادلة بين الأشخاص. ما أعنيه انني اعتقد أحياناً أن كل ما أنا عليه هو محض خيال.
ضحكت عليها أنا ايضاً، كنت فخورة بها كما يفخر الأهل بابنهم الوقور الذي يقوم بتقليد ضيوفهم المهمين بعد أن يغادروا المنزل. ولكن الأمر كان بين هوج ومارجريت، حقاً، وبدأت تهب وتظهر، مثل هذه الأجواء الحميمة والشك الذي لا حدود له. لقد أحبها من أجل ذكائها، وسخريتها ومخادعتها. هذه الأشياء تبدو لي الآن أقل من أن تكون مدعاة للحب. هوج ومارجريت كلاهما خجول وغير لبق اجتماعياً، يُحرج بسهولة. إلا أن في اعماقهما برودة داخلية وهذا مؤكد، اكثر برودة من المنطلقين أمثالنا بما لنا من سحر وغزوات. إنهما لا يظهران ما في نفسيهما. لا يتركان مجالاً لأي شيء، غير مضطرين إطلاقا للكلام عن اي شيء، كلا، فقد أنشب اظافري في جلدهما وأجد اصابعي نفسها هي التي تنزف. أستطيع أن أصرخ في وجههما حتى تنفجر حنجرتي، ولا أحرك مطلقاً تمالكهما لنفسيهما أو أبدل نظرتهما الخادعة من وجوه تشيح بنظراتها. كلاهما أشقر وكلاهما يتورد وجهيهما بسهولة وكلاهما ساخران ببرود.
يكنّان لي الإزدراء.
هذا شيء تافه طبعاً. لا شيء يخصّني. كل شيء بينهما سويّة. حب.
أنا عائدة من زيارة أقارب لي في أجزاء مختلفة من البلاد. تربطني بهؤلاء القوم روابط جارفة أكاد لا أستطيع تفسيرها، روابط تعاطف تجعلني اخشى موتهم كما أخشى موتي تقريباً.
ولكنني لا أستطيع أن اقول لهم شيئاً وهم ليس في وسعهم فعل أي شيء من أجلي. اصطحبوني في رحلة صيد سمك وكذلك لتناول عشاء في الخارج لكي أرى المنظر من الأبنية العالية. ماذا يمكنهم أن يفعلوا أكثر من ذلك؟ هم لا يرغبون في الاستماع إلى اخبار سيئة عني. انهم يقدروني لروحي المعنوية العالية ومظهري الطيب ونجاحي المتواضع الملموس – فلقد قمت بترجمة مجموعة من القصص القصيرة وبعض كتب الأطفال من اللغة الفرنسية إلى الإنجليزية، وباستطاعتهم الذهاب إلى المكتبات ليجدو أسمي على اغلفة الكتب – ويشعر الكبار منهم والأقل حظاً بصورة خاصة بأن علي واجب إحضار هذه الأشياء لهم. فحظي وسعادتي هما من الإشارات القليلة لديهم الآن بأن الحياة ليست كلها منزلق إلى أسفل التل.
ينتهى دور الأقارب وتنتهي الزيارة.
لنفترض أنني عدت إلى المنزل وكان الإثنان هناك، أدخل فإجدهما في السرير، تماماً مثل «رسائل العزيزة آبي» في الصحيفة (والتي لا أنوي بعد اليوم اتخاذها مادة للتنكيت)؟
اذهب نحو الخزانة وأخرج ما تبقى من ثيابي، وابدأ في توضيب حقيبتي، أتحدث بدبلوماسية إلى السرير.
«هل تريدان فنجاناً من القهوة، أظن انكما متعبان إلى أبعد الحدود؟»
لأجعلهما يضحكان. لأجعلهما يضحكان وكأنهما يمدان ذراعيهما نحوي. يدعوانني للجلوس على السرير.
ومن ناحية أخرى ربما أذهب إلى داخل غرفة النوم ودون أن أنطق بكلمة، التقط كل ما بوسعي أن أجده – زهرية، زجاجة، مرهم لترطيب الوجه، صورة من على الحائط، أحذية، ملابس آلة تسجيل هوج – واقذف بهذه الاشياء نحو السرير أو النافذة أو الحائط ثم التقط أغطية السرير وأمزقها وأدفع بقدمي المرتبة واصرخ وأصفع وجهيهما واضرب جسديهما العاريين بفرشاة الشعر. كما فعلت الزوجة في قصة «أرض الله الصغيرة» وهو كتاب كنت اقرأه بصوت عالٍ لهوج، بلهجة فكاهية، خلال رحلة مغبرة في السيارة عبر البراري.
قد نكون ذكرنا لها هذا، فالعديد من الاحداث التي مررنا بها خلال فترة تعارفنا وحتى خلال شهر العسل كانت تروى لها. كنت اتفاخر آنذاك. لابد كنت كذلك. ما الذي يفعله هوج ولا سبيل لي لمعرفته.
تصدر صرخة قوية مني معبرة عن احتجاج مذهل. أضع ذراعي على فمي المفتوح وحتى أوقف الألم أقوم بعضّه. اعض ذراعي، ثم انهض واخفض الحوض الصغير، وأغسل وجهى عليه وأمسح وجهي بفرشاة البودرة الملونة وأمشط شعري وأسوّي حواجبي وأخرج.
تسمى المقصورات في القطار بأسماء المكتشفين او الاشجار او البحيرات. كثيراً ما كنت أسافر بالقطار عندما كان الاولاد صغاراً لأنني انا وهوج كنا فقراء والقطار كان يسمح للأولاد دون السادسة بالركوب مجاناً. اذكر الاسماء المكتوبة على الابواب الثقيلة وكيف كنت ادفع الأبواب واتركها مفتوحة وأدفع بالأولاد الشديدي الحركة عبرها. كنت دائماً عصبية المزاج وانا بين المقطورات وكأنما الأولاد سيسقطون بشكل ما، رغم انني كنت أعرف انهم لن يفعلو. كان عليّ ان أنام ملتصقة بهم في الليل واجلس معهم وهم يتسلقون حولي في ضوء النهار، لقد تقرّح جسدي بفعل ركبهم ومرافقهم وأقدامهم. عندئذ اخذت أفكر كم سيكون شيئاً رائعاً لو كنت امرأة تسافر بمفردها قادرة على الجلوس بعد تناول وجبة طعام لتناول القهوة والنظر عبر النافذة، قادرة على الذهاب إلى النادي لتناول كأس من الشراب. والآن فإن أحدى بناتي تسافر (مجاناً) في أوروبا، والأخرى مرشدة في مخيم للمعاقين من الأطفال، وكل هذا الوقت من الإهتمام والفوضى والذي كان يبدو وكأنه لن ينتهي أصبح وكأنه لم يكن.
وبشكل ما وبدون أن أدري دخلنا إلى الجبال. طلبت كأساً من الجن والتونيك. يلتقط الكأس ضوء الشمس عاكساً دائرة من الضوء على البساط الأبيض. وهذا يجعل المشروب يبدو صافياً ومعافياً مثل مياه الجبل اخذت أشربه بعطش.
ومن مقطورة النادي يصعد سلم نحو القبة حيث كان الناس يجلسون بلا ريب منذ «كالغاري» ينتظرون رؤية الجبال. والقادمون المتأخرون يأملون في ايجاد مقاعد فيصعدون إلى أعلى السلالم، ويرفعون أعناقهم ويعودون ساخطين.
«اولئك الجالسون في الأعلى سيبقون لمدة أسبوع،» قالت سيدة سمينة تضع على رأسها عمامة، وتستدير لتنادي مسيرة ممن قد يكونون أحفاداً لها. ضخامتها تملأ كل السلم. يبتسم العديد منا، وكأنما ما نراه من الحجم وارتفاع الصوت والعظمة البريئة لهذه السيدة الكبيرة كانت بمثابة حافز لنا.
يجلس رجل لوحده بعيداً عند أسفل المقطورة وظهره نحو النافذة ينظر إلىّ ويبتسم. وجهه يذكرني بوجه نجم سينمائي من فترة سابقة. وسامة تجاوزها الزمن ذات سحر ملموس ومرغوب، ولكن تسهل هزيمته. «دانا اندروز» .. شخص كهذا.
لدي انطباع غير سار عن الملابس الخردلية اللون.
إنه لا يأتي ويجلس بالقرب مني، ولكنه لا ينفك ينظر إليّ بين الفينة والأخرى. عندما أنهض واترك القاطرة اشعر أنه يراقبني اتساءل إن كان سيتبعني. ماذا سيحصل إن فعل ذلك؟ ليس لدي وقت له، ليس الآن، ليس باستطاعتي منحه اي اهتمام. كنت دائماً جاهزة لأي رجل. عندما كنت دون العشرين من عمري، وفيما بعد أيضاً، عندما كنت زوجة صغيرة. أي رجل ينظر إليّ ضمن مجموعة، اي مدرس يترك عينيه تراقبانني في غرفة صف، غريب في حفلة ما، قد يتحول، احياناً عندما أكون لوحدي، إلى الحبيب الذي دائماً أبحث عنه – شخص ما عاطفي، ذكي، قاسٍ، لطيف – صنع ليقوم بالدور أمامي في هذه المشاهد البسيطة والمتفجّرة التي ترضيني ومشاهد يعرف عنها الجميع. فميا بعد، بعد بضع سنوات من الزواج، اخذت خطوات لتثمين خيالاتي. في الحفلات، وانا البس حمالة صدر ترفع صدري، وتسريحة شعري الإيطالية المنكوشة وفستاني الأسود بشرائط الحذاء المربوطة، أبقيت النظرة التي تغري رجلاً ما بأن يقع في غرامي ويشاركني في علاقة بركانية.
هذا ما حدث كثيراً أو قليلاً. كما ترى فهو ليس بسيطاً، وليس قضية مبسطة كمثل حزني الآن، وشعوري المؤكد بالخيانة والذي يقود اي إنسان لتصديقي. كلا. لقد ترك الرجال علامات على جسدي لم أكن قلقة بشأن إخفائها عن هوج، لأن هنالك أجزاء من جسدي لم ينظر إليها مطلقاً. لطالما كذبت وكذب علي. لقد عبر الرجال عن إعجابهم القاتل بحلمات صدري وندبة الزائدة الدودية والشامة الموجودة على ظهري وقد قالو لي كما هو لائق بهم أن يفعلوا «والآن لا داعي لتضخيم هذا الموضوع».
ومع ذلك، «فأنا فعلاً أحب زوجتي» وبعد فترة من الزمن فلقد توقفت عن مثل هذه الأشياء وذهبت خفية لرؤية طبيب نفساني والذي أوصلني لفكرة انني بما أفعله أحاول جذب انتباه هوج. وقد أقترح أن أتوصّل إلى جذبه عن طريق اللطف واللباقة وايجاد الاجواء الجنسية حول المنزل. لم أكن قادرة على مجادلته ولم يكن باستطاعتي ايضاً مشاركته في تفاءوله. لقد بدا لي أنه لم يكن متمكنا من معرفة شخصية هوج، مفترضاً أن بعضاً من رفضه كان ببساطة نتيجة أنه لم يسأل بشكل لبق، بالنسبة لي كان هذا أساسياً ومطلقاً ولم أتخيّل اية انواع من الخطط يمكنها تبديل ذلك. ولكنه كان ذكيا بشكل كافٍ. قال أنه يعتقد أنني ارغب في البقاء مع زوجي. كان على حق؛ لم اكن لأفكر بل لم أكن أتحمل شيئاً بديلاً.
يقف القطار عند فيلد، مباشرة بعد حدود كولومبيا البريطانية. أترجل منه وأسير بجانب الأعمدة مخترقة الهواء الساخن.
«لطيف جداً ان تنزل من القطار لفترة من الزمن اليس كذلك» كدت أن لا أعرفه. إنه قصير، كما أعتقد ان العديد من نجوم السينما ذوي الوجوه الجميلة كانوا كذلك أيضاً. ثيابه كانت حقيقة خردلية اللون. أعني أن سترته وبنطاله كانا كذلك. قميصه المفتوح أحمر واما حذاؤه فخمرّيٌ غامق. صوته مثل صوت من يضعه عمله في صلة يومية ملتصقة بالجمهور.
«آمل أن لا تضيق بي إذا ما سألتك، هل انت من برج الأسد؟».
«كلا».
سألتك لأنني انا من برجل الحمل. هذه العلامات تنسجم واحدة مع الأخرى.
«أنا آسفة».
«ظننت انك تبدين شخصاً يمتّعني تبادل الكلام معه».
أذهب وأقفل على نفسي باب غرفتي وأقرأ مجلة حتى آخرها حيث الإعلانات عن الخمر وأحذية الرجال. ولكنني أشعر بأسف ربما لم يكن يعني أي شيء أكثر من الذي قاله. انا انسانة ممتعة يحلو للآخرين الحديث معي. والسبب أنني أستمع لأي شيء. وقد يكون هذا بسبب المقالات التي تنشرها المجلات والتي كنت أقرأها في بداية صبايا (حيث كان أي عنوان به كلمة شهرة قد يحولني إلى ثلج ويشدني إليه) ويحثني على عملية تطوير لهذا الفن الإجتماعي المنفتح. لا أعني أنني أفعل ذلك. ولكن وجهاً لوجه مع أي إنسان له قناعات أو أوهام – ومعظم الناس لديهم هذا – او لديهم فقط مسيرة طويلة من التجارب غير الواضحة ليشاركوا بها. أشعر بشيء كالذهول كافياً ليشلّني. «عليك ان تنهضي وتسيري بعيداً، يقول هوج».
وهذا ما علي ان أفعله.
«سؤالي لك ان كنت من برج الأسد، كان لمجرد تبادل الكلام. ما كنت اريد أن أسألك فعلاً كان شيئاً مختلفاً ولكنني لم أدر كيف أضعه. مجرد أن رأيتك عرفت انني قد رأيتك سابقاً».
«أوه، لا اعتقد ذلك. لا أعتقد انك فعلت»
«اعتقد اننا نعيش اكثر من حياة»
تجارب متعاكسة، حيوات متعددة في واحدة. هل هذا ما يعنيه؟ ربما هو يحاول تبرير عدم إخلاصه لزوجته، إذا ما كان له زوجه.
«انا أومن بذلك، قد ولدت قبل الآن ومتّ من قبل هذا صحيح».
أترى؟ اقول لهوج وأنا قد بدأت بتأليف قصة له، حول هذا الرجل، في عقلي. إنهم دائماً يجدونني.
«هل سمعت في حياتك عن الروزيكروشين(1)؟»
«هل هم الذين يعلنون عن سيادة الحياة؟
قد تتلاشى السخرية وتختفي ولكنه يستطيع تتبع زلاقة اللسان فالتأنيب الممل للمتحول يقوي لهجته.
«منذ ست سنوات رأيت احد هذه الإعلانات كنت في حالة سيئة جداً. زواجي تحطم وكنت اصرف وقتاً في التفكير اكثر مما يناسبني. ولكن هذا ليس كل المشكلة. كما تعلمين؟ هذا ليس المأزق الحقيقي. كنت أجلس فقط لأفكر لماذا انا هنا على أي حال. مثل الدين – تنازلت عن كل ذلك. لم اكن استطيع القول إذا ما كان هنالك شيء كالروح. ولكن إذا لم يكن الأمر كذلك، فماذا بحق الجحيم؟ أتعرف ما أعني؟
«ثم راسلتهم وحصلت على بعض ادبياتهم وبدأت أذهب إلى إجتماعاتهم. وعندما ذهبت في المرة الأولى كنت خائفة لأن يكون الجموع مجموعة من المجانين. لم اكن اعرف ماذا اتوقع، كما تعلم؟ يا للصدفة التي حصلت لي عندما رأيت نوعية الأشخاص هناك. رجال ذوي نفوذ. ورجال أثرياء ورجال محترفي مهن. جميعهم مثقفون ومتعلمون إناس من صفوة القوم إنهم ليسوا أغبياء أو معتوهين. وهذا شيء معلوم ومثبت علميا».
انا لا اجادل.
«مائة واربعة واربعون عاماً. هذا هو زمن الدورة الواحدة منذ بدء أحدى الحيوات إلى الثانية. إذاً فلو مت أنت أو أنا لنقل في السبعين وهذا ما يعادل – اربعة وسبعين عاماً، اربعة وسبعين عاماً إلى بداية الحياة الثانية عندما تولد روحنا من جديد».
«هل تتذكر؟»
«من الحياة الأولى إلى الحياة الثانية، هذا ما تعنيه؟ حسناً، انت تعرف نفسك، الإنسان العادي لا يتذكر شيئاً. ولكن بمجرد ان يفتح عقلك، وبمجرد ان تعرف ما الذي يدور حولك، عندئذ تبدأ في التذكر. حياة واحدة انا نفسي اعرف عنها بشكل مؤكد. كنت اجد الفاتحين في اسيا والمكسيك. هل تعرف الفاتحين؟».
«نعم».
«شيء مضحك. كنت أعرف دائماً أنني أستطيع ركوب الخيل. لم افعل ذلك أبداً كما تعلم، فصبي المدينة، لم يكن لديه أي مال. ولم يركب ابداً حصاناً. وكذلك عرفت ذلك كما عرفت هذا. ثم اثناء اجتماع منذ عامين لمؤتمر «الروزيكروشن» في فندق «فانكوفر»، جاءني احد الأشخاص الأكبر سناً، كان من كاليفورنيا، وقال، كنت هناك، كنت واحدة منهم. لم أدري ما الذي كان يتكلم عنه. كنا معاً. قال انني كنت واحدة من الذين ذهبوا إلى المكسيك وكان هو من الذين تخلفوا عنهم كان يعرف وجهي. وهل تريدين أن تعرفي أغرب ما في الأمر؟ وبينما كان ينحني ليكلمني، كان لدي انطباع أنه يضع قبعة. مع انه لم يكن كذلك. تعرف القبعة ذات الريشة. وكان لدي انطباع ان شعره كان غامقاً وطويلاً، بدلاً من كونه رمادياً وقصيراً. كل ذلك قبل ان يقول كلمة من هذا لي. اليس هذا شيئاً ذو دلالة؟»
نعم، شيء ذو دلالة. ولكنني سمعت اشياء من قبل. سمعت من أناس يرون بشكل منتظم أجسام كالنجوم تطوف حول المكان مباشرة تحت السقف، أناس يتحكمون بكل أيامهم بعلم الفلك والذين غيروا أسماءهم وانتقلوا إلى عناوين جديدة حتى يتبركوا بالقيم العددية للأحرف الجديدة. هذه هي الأفكار التي يعيش على أساسها الناس في هذا العالم. وانا استطيع أن ارى السبب وراء ذلك.
«ما الذي تريد ان تراهن عليه انك كنت هناك ايضاً؟»
«في اسبانيا؟»
«في اسبانيا، هكذا فكرت عندما رأيتك. كنت سيدة اسبانية وربما بقيت في الخلف، ايضاً. وهذا يفسر ما أراه. عندما أنظر إليك – ولا أقصد أي افتراء، فأنت سيدة جذابة جداً – اراك أصغر مما أنت الآن، وهذا بسبب أنني عندما تركتك خلفي في اسبانيا كنت في العشرين فقط أو الواحد والعشرين.
ولم أرك مرة ثانية في تلك الحياة لا تمانعين قولي هذا؟ »
«كلا، كلا، هذا شيء يجلب السرور، حقاً، أن يُرى الإنسان هكذا.»
«كنت دائماً اعرف، كما تعلمين، أن لهذه الحياة شيء أكثر مما نراه. انا لست إنساناً مادياً ليس بالطبيعة. لذلك فأنا لم اكن ناجحاً جداً. انا بائع عقارات. ولكنني لا اعطيها ما عليك ان تعطيها من اهتمام، إذا ما أردت النجاح. لا شيء يهم. فأنا ليس لدي سوى نفسي».
انا أيضاً لا أملك إلا نفسي. ولا استطيع التفكير بما علي أن أفعل. لا أستطيع التفكير بما افعل بهذا الرجل سوى ان أحوله إلى قصة اتلوها لهوج، شيء غريب، نكته من اجل هوج. هوج يريد أن يرى الحياة بهذه الطريقة. هو يبحث عن نغمة جافة. مشاعر عارية عليه ان يخطو عليها، مثل اللحم العاري.
«هل تحبني، هل تحب مارجريت، هل تحبنا كلانا؟»
«انا لا أدري».
كان يقرأ مجلة. إنه يقرأ كلما تكلمت إليه. قال هذه الكلمات بصوت ملول، تعب، بالكاد يسمع. دم من حجر.
«هل أطلقك، هل تريد الزواج منها؟»
«لا أعرف»
اقتربت مارجريت من الموضوع وتمكنت من إدارة الحوار حول بعض الفناجين البورسلين التي اشترتها لنا كهدية متأملة ان لا يرميها خارج المنزل اثناء نوبة الغضب لأن مارجريت اذا ما انتقلت إلى المنزل سوف تجدها مفيدة. ابتسم هوج عندما سمع ذلك، وكان شاكراً. إذا ما قمنا بتأليف النكات نستطيع ان نعيش. على ما أظن.
لا أجد مشكلة في تحديد أسعد لحظة من لحظات زواجنا. كنا في رحلة إلى ميتشغان الشمالية عندما كان اولادنا ما زالوا صغاراً. إنه كرنفال الأنسجة الصوفية تحت السماء الرمادية. ركبنا في قطار منمنم. اخذنا في التجوال معاً ووقفنا أمام قفص بداخله دجاجة. وهنالك اشارة مكتوب عليها ان هذه الدجاجة باستطاعتها العزف على البيانو. قلت انني اريد أن اسمعها تعزف البيانو، فوضع هوج دايم (6 بنسات) وعندما سقط الدايم، فتح باب المحبس فسقطت حفنة من الذرة نزلت على مفاتيح البيانو اللعبة. كانت الدجاجة وهي تلتقط الذرة تصدر أنغاماً خاصة. أصبت بخيبة أمل وسميت هذا احتيالاً، ولسبب ما كنت قد صدقت ما اشارت إليه اليافطه. صدقت أن الدجاجة ستعزف البيانو فعلياً. ولكن كان تصرف هوج وهو يسقط الدايم، نوعاً من الطيش الغريب الذي بدا مدهشاً جداً ومعبراً عن الحب اكثر من اي شيء فعله أو قاله في أي وقت آخر، في اي مستوى رفيع من حاجاته ومدى ارتوائه منها. كان هذا الفعل بمثابة شيء مذهل ومؤقت – طائر صغير جداً لنقل، بألوان نادرة – يجلس بالقرب في زاوية نظرك، التي لا تجسر ان تنظر إليها بشكل صريح. في تلك اللحظة لم يكن تبادل اللطف بيننا تغطيه للغيوم ولم يكن تكتيكيا، صراعاتنا بدت غير حقيقية. فتح باب، على ما يبدو.. ولكننا لم نتجاوزه.
أما أكثر اللحظات كآبة فلا أستطيع ذكرها الك. فكل صراعاتنا تختلط مع بعضها البعض وهي في واقع الأمر اعادة تجسيد لنفس الصراع، الذي نعاقب به انفسنا أنا – بالكلمات وهوج بالصمت – كوننا نحن ما نحن. لم نحتج لأكثر من ذلك.
إنه الإنسان الوحيد الذي لا أمانع في أن أراه يتعذب. لا أمانع في أن أرى العذاب يجرّه وحبيبات الأسى منثورة على وجهه، حتى استطيع التحول، «الأن تعرف، اليس كذلك؟ الآن ترى». نعم. في أقصى درجات ألمه قد أظهر له ابتسامتي الصغيرة، المتشفية، المتراجعة. قد أظهرها.
«وعندما توصلت إلى أن أفهم الموضوع شعرت أني أعطيت بداية جديدة».
يؤمن الناس هذه الأيام بالبدايات الطازجة. حتى نهاية حياتهم. عليهم ان يسموا بذلك. وان يبدأوا مجدداً كأناس جدد، ولا يعرف أنفسهم القديمة إلاّ هم؛ لا يستطيع أحد أن يمنع أحداً من فعل ذلك الناس الكرام يفتحون الأبواب على مصراعيها ويوزعون البركات. ولم لا؟ سوف يحدث هذا على أي حال.
تجاوز القطار ريفلستوك، عبر الجبال المتناقصة تدريجياً. مقصورة القهوة خالية منذ فترة، ما عدا انا والرزوكروشن. قام القائمون على خدمة الزبائن بتنظيف المكان.
«يجب ان أعود».
لم يحاول ان يوقفني.
«سعدت جداً بمحادثتك، وأرجو ان لا تعتقدي أنني مجنون».
«كلا، كلا. انا لا أعتقد ذلك».
يتناول بضع كراسات من جيبه الداخلي.
«قد ترغبين في تصفّح هذه إذا ما كان لديك الوقت لذلك».
شكرته.
ينهض، وينحني لي قليلاً، بجلال إسباني.
سرت نحو محطة فانكوفر لوحدي، أحمل شنطتي. اختفى الروزيكروشن في مكان ما. لم يعد موجوداً وكأنني أنا التي اخترعته. ربما لم يأت حتى فانكوفر، ربما نزل في إحدى بلدات وادي فريزر، في الصباح الباكر الشديد البرودة.
لم يكن احد في استقبالي، لم يعلم أحد بقدومي. جزء من داخل المحطة يظهر وكأنه مغلق، مقفول. وحتى الآن، وعندما يكون به بعض النشاطات المضمونة مرتين في اليوم فإنه يبقى مكاناً مهجوراً كالكهف.
منذ واحد وعشرين عاما التقيت وهوج هنا في مثل هذا الوقت من الصباح. كان هذا المكان في ذلك الوقت مليئا بالضوضاء ومزدحماً. جئت إلى الغرب لكي اتزوجه. كان يحمل أزهاراً سقطت من يده عندما رآني.
في تلك الأيام كان اقل تمالكاً لنفسه بالرغم من انه لم يكن اكثر تواصلاً مع الآخرين. وجهه احمر، قاسي النظرات بشكل هزلي، مليء بالعواطف التي كان يختزنها كأنها حزن خاص به. عندما لمسته، لم يفقد تماسكه كدت أحس بعروق رقبته المشدود. يغلق عينيه ويتابع مختلياً بنفسه. لربما كان يرى الاشياء قبل وقوعها؛ الفساتين المطرزة، الحماس، الخيانات. ولم اكن غالباً جاهزة لأكون لطيفة. منزعجة لسقوط الأزهار، متمنية ان يرحب بي بشكل يختلف عن اسلوب الكتب الهزلية، خاب أملي لمواجهة براءته التي بدت حتى تزيد عن براءتي، لم أمانع في أن أتركه يرى زاوية من زوايا عدم اكتفائي. هنالك طبقات وطبقات في هذا الزواج، اخطاء في التوقيت، اخطاء فوق اخطاء، ولم يستطع احد الوصول إلى مصدرها الأصلي. ولكننا توجهنا مباشرة نحو بعضنا البعض، تعانقنا وبقينا كما نحن.
دسنا على الأزهار المجروحة. تمسكنا ببعضنا البعض مثل أناس مسطوحين انقذتهما معجزة. وليس للمرة الأخيرة. ممكن أن يحدث هذا مرة ثانية؛ قد يحدث ثانية وثانية. ودائماً تكون الغلطة نفسها.
آووه
تملأ صرخة محطة القطار. صرخة حقيقية مصدرها خارج نفسي. بإمكاني أن أرى اناساً آخرين يقفون، وقد سمعوها أيضاً الصرخة مثل صرخة أحد الغزاة مليئة بحزن رهيب. ينظر الناس نحو الأبواب المفتوحة، نحو شارع هاستينجز، وكأنما يتوقعون الانتقام يأتي مسرعاً نحوهم. ولكن باستطاعتنا الآن ان نرى أن الصرخة تأتي من رجل عجوز، من رجل عجوز يجلس مع رجال عجائز على مقعد خشبي في أحد زوايا المحطة.
كان هنالك عادة مقاعد خشبية متعددة، والآن لم يبقى إلا واحد، يجلس عليه رجال كبار في السن، لا يأتي على ذكرهم أحد مثل الصحف القديمة. لقد وقف الرجل الكبير على قدميه ليرسل هذه الصيحة، التي هي صرخة غضب ليس إلا، صرخة غضب ضمير ورعب أكثر منها صرخة ألم. وبينما تبهت الصرخة يستدير نصف استدارة، يهتز، يحاول البقاء في الهواء وذراعاه مرفوعتان واصابعه مفتوحة، يسقط، مستلقياً على الأرض وهو يتشنج.
الرجال الآخرون الذين يجلسون على المقعد الخشبي لا ينحنون لمساعدته لم يقف واحد منهم، في حقيقة الأمر بالكاد ينظرون إليه ولكنهم يتابعون قراءة الصحف أو الحملقة في أقدامهم. يتوقف التشنج.
لقد مات، اعرف ذلك. يأتي إلى الخارج رجل يرتدي بذلة سوداء، ربما كان مديراً أو أحد الرسميين، للتقصي عن الموضوع. يتابع الناس حاملين أمتعتهم وكأن شيئاً لم يكن. لا ينظرون في ذلك الاتجاه. ويقترب آخرون مثلي إلى المكان حيث يستلقي الرجل العجوز. ثم يتوقفون؛ يقتربون ويتوقفون، وكأنه كان يرسل نوعاً من الأشعة الخطرة.
«قد تكون حالة قلب»
«سكتة دماغية»
«هل انتهى؟»
«حتما. انظر إلى هذا الشاب الذي يضع معطفه».
يقف الرجل الرسمي الآن بقميصه. حيث ان سترته ستذهب للتنظيف.
استدير مبتعدة بصعوبة وأسير نحو مدخل المحطة. كان من المفروض ان لا أذهب، وكأنما صيحة الرجل وهو يموت، والآن هو ميت، ما زالت تتطلب شيئاً مني، ولكنني لا استطيع التفكير ماذا يكون. بفعل تلك الصرخة اندفعنا إلى الخلف هوج ومارجريت والروزيكروشين وانا وكل مرة هوجي. ما نقوله ونشعر به لم يعد يرن في اذاننا كشيء حقيقي فقد انحرف إلى حد ما عن مساره. كأننا كنا جميعاً مقيدين لفترة طويلة ونحن الآن نفلت خارج السيطرة، نرسل الأزيز ونرفع الضوضاء. ولكن بمجرد لمسه يمكننا ان نتوقف، ونرى بعضنا البعض للمرة الاولى مخلوقات غير مؤذية وساكنة. هذه رسالة، انا أومن أنها كذلك؛ ولكنني لا أدري كيف أستطيع إيصالها للآخرين.
هامش
(1) جمعية سرية اشتهرت في القرنين الـ 17 و18 وزعمت انها تملك معرفة سرية للطبيعة والدين.
ترجمة : مها لطفي \
\ مترجمة من لبنان.