توطئة: الكتابة الأدبية، عملية خلق تنشيء عوالمها، وترسم بيئاتها وشخوصها وعواطفها، وتغوص في صميم الحياة، بتناقضاتها ونوازعها، وتصور الأحاسيس والمشاعر الانسانية، في صياغات أدبية لها قواعدها، وفنونها وأدواتها التي تشكلت من خلال تجربة طويلة، من الابداع الانساني. من الأجناس الأدبية المرسلة نثرا، الرواية، والسيرة الذاتية، واليوميات، والمذكرات، والرحلات. بعض هذه الأجناس يستلهم إبداعه الأدبي من الواقع (بالمحاكاة أو التأريخ)، والبعض يستمد من الخيال الخلاق تكويناته وعوالمه. وبالطبع تمتزج أحيانا هذه المصادر وتتعدد، بنسب مختلفة، من كاتب الى آخر، ومن تجربة الى أخرى، متيمة فريدا من التداخل بين الأجناس الأدبية، تضعنا في مواجهة أعمال بتقنيات فنية غير مألوفة تحتمل أكثر من تصنيف.
وهنا أقصد بالتحديد العلاقة بين الرواية والسيرة الذاتية، والأجناس القريبة منها كالمذكرات، والذكريات، واليوميات، من خلال كتاب يطرح أسئلة هامة، حول تصنيف الأجناس الأدبية، الكتاب بعنوان "محطات.. سيرة شبه ذاتية"، للكاتب الليبي كامل حسن المقهور * ".
حفاوة: لم ينل كتاب أدبي من الاهتمام في ليبيا ما خص به كتاب "محطات ! "، من قبل شرائح واسعة من الأوساط الأدبية والثقافية، لأسباب عدة منها أن كاتبه أحد رواد القصة القصيرة في ليبيا، قدم مجموعتين قصصيتين مميزتين " 14 قصة من مدينتي" عام 1965، و "الأمس المشنوق" عام 1968، ثم شغل مناصب رفيعة، كوزير للخارجية والنفط. وبعد سنوات طويلة من الابتعاد عن النشر، عاد الكاتب بإرهاصات سنوات عمره الستين، ليقدم "محطات.. سيرة شبه ذاتية ".
شهادة حية ونابضة عن "الظهرة " المحلة التي نشأ فيها الكاتب سنوات طفولته الأولى، والقاهرة التي سافر اليها في سن العاشرة، مرتميا في أحضانها، ملتصقا بأحداثها في غمار حوادثها الجسام، ومشكلاتها الكبرى في تلك الفترة. ومن أسباب الاحتفاء الكبير بالكتاب، قيمته الأدبية والتاريخية الهامة، ونجاحه في تجسيد ملامح البيئة المحلية، بتفاصيل ظروفها الصعبة في فترة حالكة ومضطربة لم يتطرق اليها أحد، جاءت الأحداث الكبرى، بالاستقلال وظهور النفط والتطور العصري، لتنمحي تلك الملامح، وتذوب التفاصيل وتطوى صفحات، أعاد الكاتب تحبيرها وتشخيصها من جديد، بلغة أدبية رفيعة، وبأدوات فنية متطورة، نجحت في بعث الماضي مكانا وزمانا حيا نابضا، رفعت الستارة عن أعماقه وبواطنه فبانت روح المحلة، ببساطة بنيانها، وشوارعها، وأسرارها، ونسائها، ومهنها، وحرفها، وشخصياتها الأصيلة المؤثرة التي اختارها الكاتب للتعبير عن الزمان والمكان بظروفه الخاصة.
لجأ الكاتب الى تسمية المحطات "سيرة شبه ذاتية"، نظرا لشمول المحطات سيرة المحلة وأهلها، وعدم تركيزها على ذات الكاتب، مما استوجب هذه التخريجة "سيرة شبه ذاتية" التي لم تحسم المسألة، مع تأكيد عدد كبير من الكتاب على روائية المحطات، واصرار البعض على فرادة النص كعمل فني جديد.
الظهرة: "الظهرة " محلة صغيرة في مدينة طرابلس، تعيش أربعينات هذا القرن، تعيد اليها المحطات الحياة فتظهر أرقتها المتربة، وبيوتها المنخفضة، وشوارعها الخالية من الحركة، عديمة النساء، وأهلها الخليط المركب من السكان العرب، واليهود والطليان والمالطية.
تعود الأسماء القديمة للشوارع والحارات، ونتعرف على الحرف التقليدية، والحكايات، والأدوات، والعادات، وتكتمل أمامنا ملامح وجوه شخصيات متعددة ومتنوعة، نتعرف عليها بمحبة، كأننا نستحضر مع الكاتب ذكريات غابرة، شهدناها معا، ووجوها مألوفة نعرفها، وطرقات وأزقة درجنا عليها. تعود الحياة للمحلة فنكتشف عالما متنوعا يكابد ظروفا قاسية، يستعد لتحولات كبرى.
ابن المحلة الصغيرة التائهة بين الأزقة المتربة، يفطن الى كنز القاهرة، فيقتحم زخمها، ويعتلي الرابية التي أعطت الفرصة دائما للرؤية بوضوح، وساعدت على امتلاك أدوات الوعي والتجربة.
المدينة الضخمة المتسعة التي خاف الطفل الغريب من أن تخطفه أو تعضه بأسنانها الشرهة، تفتح ذراعيها له، ليغفو في أحضانها وكأنها أمه "صالحة".
فيستجيب لندائها الصامت بدبيبها العظيم، وبروحها المضطربة، وكأنه جزء أصيل منها وآمالها ومستقبلها.
في القاهرة وجوه جديدة تظهر، وعالم تتضافر الكلمات والجمل، لرسم ملامحه، وتحريك عوالمه، واعادة الروح الى الصورة القديمة، وتاريخه المنقضي. تنتقل الصورة من المحلة الى القاهرة مباشرة، وكأن المسافة قصيرة، وكأن القاهرة أفق المحلة الكبير، أفق ساحر وممتليء، تمور فيه الأحداث وتتطور الحوادث، فتغرف معها ابن المحلة، تجرفه في روحها العظيمة، قشة في النهر الصاخب.
اكتشاف الذات: محطات المقهور خطوات حثيثة لاكتشاف الذات، ونظرات عميقة متفحصة للتعرف على النفس، للخروج من حصارات الرمل والعزلة.
كل خطوة تتجه نحو معرفة جديدة بالهوية، تزيح الظروف المشوهة والطارئة، وتتبع الأصل للتعرف على الواقع بظروفه القاسية، ومعطياته الصعبة من خلال الاحساس بخطر الفراغ الحضاري، والوعي بالشخصية الوطنية وخصوصيتها، وضرورة استكمال مقوماتها وسط خلائط الأقوام والثقافات الوافدة، في حيز صغير يتعرض لأخطار التشويه والتذويب، وسط المجاعات والفقر والاختلالات المتتالية.
القاهرة أعطت هذا الوعي، مزيدا من الخصوصية والوضوح، لتكتمل الذات الحرفية الحقيقية لهوية المحلة، وتدفع بتأثيرها المتعاظم نحو استكمال الهوية الوطنية،وكسر العزلة، والالتحاق بحركة المنطقة التي بدأت تتشكل من جديد آنذاك، وتنهض من سباتها لاستعادة أصالتها وثقافتها وحريتها، للتخلص من الظروف التي أسقمتها وأضعفت إحساسها بذاتها، ومعرفتها بثقافتها وشخصيتها.
براهين الرواية: أنصار كون محطات المقهور رواية يوردون عدة حجج منها، تعدد الضمائر في المحطات، وتقسيماتها الفنية، وتعدد مستوياتها السردية والحوارية، والبعد عن الأسلوب التقليدي في تناول السيرة الذاتية، وأيضا غياب الأسماء الكاملة، والاكتفاء بالاسم المجرد، مع رسم ملامح شخصيات واضحة، واستبطانها نفسيا، وبأدوات فنية قديرة، أيضا وضوح الزمان والمكان، وغياب وجهة النظر الشخصية والتسجيلية المعتادة، كذلك اللغة الأدبية الراقية والتصويرية، وحرية الكاتب في التعامل الفني مع شخوصه من خلال تميز شخصياته وتعددها، والجهد الفني في ابتكارها ورسمها، والتدخل في إعادة كون ضبابي، ما كان ليبعث من جديد، لولا التصوير الفني، والاشتغال الروائي على النص.
براهين السيرة الذاتية: من أدلة هذا الرأي، غياب القصد الروائي الذي لو توافر، لكانت بنية المحطات أكثر قبولا كرواية، مع الدقة الزائدة في تعامل الكاتب، مع ذكريات مشهودة ومحزونة وبحذر شديد، خاصة من الناحية الاجتماعية، وحزم الكاتب في الابتعاد عن التجارب الشخصية السلبية، مما حد من انفتاح النص، وزخم الاصطراع، كذلك كون السيرة الذاتية جنسا أدبيا، له مكانته وأسسه الواضحة في النص، مما لا يدعو الى البحث عن هوية أخرى له، لا تضيف شيئا لكتاب جميل مبدع.
كما يؤكد أصحاب هذا الاتجاه، على خلو المحطات من الخيال باعتمادها على الذكريات الخاصة والعامة، والحرص على حدودها ودقتها.
جنس أدبي جديد: يؤكد بعض الكتاب على حرية المبدع في اضفاء مضامينه، وفرض شكله اللاحق، على أشكال وتقنيات مسبقة، ومن هذا المنطلق يفترضون أن المحطات نص أدبي، تصعب احالته على الرواية، أو السيرة الذاتية، لأنه قائم بذاته، كتجربة أدبية جديدة، قد تكون مقدمة لجنس أدبي، يستوعب معطيات الظروف المحلية، ويقدم إضافة بقدرته على خلق نمط جميل، قادر على التعامل مع البيئة المحلية بعناصرها وأدواتها ولغتها. كما أنهم يستندون في ذلك على تراجع الأجناس الأدبية، بتداخلها وانفتاحها، وتعدد المحاولات والاتجاهات، في عالم يعيش تطورات متلاحقة، تبحث عن قوالب جديدة متطورة، تلاحق تغير الظروف، وتعقد المعطيات، واتساع المدارك والمعارف والعوالم،مع خصوصيات التجارب المحلية، وتميزها بمتطلبات قد لا تعطيها حقها، أجناس أدبية تكونت في بيئات مختلفة وغريبة، ولهذا فأنصار هذا الاتجاه، يقدمون المحطات كجنس أدبي جديد، يمثل بيئة محلية متكاملة، موضوعا وتصويرا، ولغة وبناء.
رؤية الكاتب: في مقدمته للكتاب، يفطن الكاتب الى صعوبة تصنيف نصه فيورد "وما سيأتي ليس تاريخا، تسجل به الأحداث على نحو محايد كما يدعي بعض كتبة التاريخ، ما سيجيء ليس سيرة ذاتية، إذ ليس هناك قيمة، ولا فائدة في حياة شخص واحد، دون ربطها بحياة الآخرين. والصفحات القادمة ليست سجلا لأحداث بعينها، أو تقريرا عن وقائع بذاتها، مرتبة حسب تاريخ قيامها. وما سيرد ليس رواية، أو قصة، يشكل الخيال جزءا كبيرا من ترتيبها.
وهي ليست مذكرات، ولكنها على وجه اليقين ذكريات تم تسجيلها في الذاكرة دون قصد، وربما دون ترتيب، واعتقدت أنه قد حان الأوان للافراج عنها".«محطات ص 24»
أسئلة النص: هل هناك ضرورة لتحديد هوية جنس أدبي وتصنيفه، والتعسف في وضع قوالب مسبقة، اكتملت في بيئات مختلفة، ومطابقتها بنتاج أدبي لاحق ؟ هل يحتاج المبدع شهادة ميلاد، تقرر جنس عمله، أو الأولى أن نعطيه حرية التعاطي مع التقنيات والأسس الفنية، بما يتناسب وعادته وأدواته، ورؤيته الفنية ؟ لقد حرك كتاب "محطات.. سيرة شبه ذاتية" في الوسط الثقافي في ليبيا موجات من النقاش والبحث والاهتمام، تعطي قيمة كبرى للأدب الذي يتعاطى مع الواقع المحلي، ويجعل معينه الذات الكبرى للجموع، بماضيها وحاضرها ومستقبلها، وخصوصيتها التي تحتاج الى جرأة الاكتشاف، وصدق الأدوات، وأصالة التجربة، لتكشف عن معدنها وتعطي خلاصتها وخصبها.
ولعل انطلاق الأسئلة حول نص أدبي هام، يقدم مزيدا من الأفكار الجديدة، والابداعات المتنوعة التي لا يقتصر تأثيرها على منطقة بعينها، بل تمتد لتتفاعل مع المعطيات الأدبية العربية، في تجربة عصرية منفتحة، تسعي الى التواصل والتواشج، لتكتمل التجربة القومية بالخصوصيات المحلية الأصيلة التي في جملة تنوعها، تقدم خلاصة تجربتها الأدبية الصادقة، القادرة على التوصيل، والتحريف بالمضمون الانساني والحضاري، في عالم متنوع يحرص على التعريف بذاته، وحشد امكاناته الفكرية والأدبية واغناء ثقافته بالبحث في الجذور، وتقديم الابداع الجديد.
وترافد الثقافات المحلية، تغني شكلا ومضمونا، النسغ الذي يغذي الشخصية العربية، في مواجهة ثقافات أخرى، تتقوى في كل مكان لتثبت قدرتها على الانتشار، وجدارتها في اكتساح الثقافات الأخرى.
ــــــــــــ
* كامل حسن المقهور، "محطات.. سيرة ذاتية. دار الرواد، طرابلس 1995.
محمد الطاهر امحمد (كاتب من ليبيا)