*
المحاكاة الصنمية والتقليد لا يخلفان الا شعرا اعتياديا.
*
دون النبش في التراث يخلو العمل الفني من حجر الزاوية.
*
يمكن ان يجد الشعر مراميه في فيلم إيطالي او لوحة تشكيلية.
*
سر بقاء عمر بن أبي ربيعة والمتنبي وأبي تمام وغيرهم، هو اقتحامهم لاماكن مجهولة وغير مألوفة
*
مقاييس التذوق من تلك الحقب البعيدة الى زمننا هذا.
*
عندما أترجم فكأنني أنتقل من كهف مظلم الى غرفة مضيئة.
وديع حد الطفولة، يداه ترتعشان قليلا وقلبه يخفق بالألفة، تمتد تجربته الابداعية الى قرابة الأربعة عقود، التقيته في بغداد وكان هذا اللقاء عن تجربته في الشعر والسرد والترجمة.
* مقاييس الشعر العظيم في نظرك.
– حقيقة الشاعر هي اضافته لما سبقه، سواء كانت هذه الاضافة واهنة في عصرنا هذا أو تلك الاضافات التي اضافها عظماؤنا القداس، وان سر خلودهم وأهميتهم التي نستشعرها الآن بقوة رغم بونها الزمني. هي في مدى اضافتهم وليس في كمية ما كتبوه.
* تقصد الاضافة الحياتية ؟ بمعنى التعمق في إذابة التجربة في العمل الابداعي ام الاضافة الثقافية القائمة على النبش في اللغة ومفرداتها؟
– الانطلاق من التجربة الشخصية أساس الشعر العظيم، ولكن يجب أن يحاذيه خلق لمفردات ورؤى جديدة، تستطيع أن تقرب الأحاسيس وترقى بمحتوياتها، فالشاعر إن لم يضف شيئا آخر، شيئا غير مشابه، لم يكن الا تكرارا أو إعادة لما سبقه، فعمر بن أبي ربيعة، سر بقائه ليس في صدق ترجمته لأحاسيسه فقط، وإنما في اقتحامه لأماكن شعرية غير سائدة،وهذه إضافة عمر بن أبي ربيعة،وعندها ننظر الى شعر أبي تمام مثلا نجد إضافة من نوع آخر، وقس على ذلك المتنبي. وأبا نواس. لكل من هؤلاء اضافته التي تختلف عن إضافة من سبقه، سواء في اللغة أو في الصياغة أو في اختيار المواضيع.
* ولكن لا يكون هذا مدعاة الى التخلي عن المواضيع الشعرية ذات الالتصاق الشديد بالحس البشري منذ الأزل. أم ان التجديد عليه بالضرورة إلا يلغيها.
– بل يثبتها. ولكن بحس مغاير، فمثلا عندما نستدعي موضوعة الحب تلك التي تتضاعف أهميتها عبر الأزمنة والحقب، فمكمن الأهمية ليس في تكرار طرحها وتناسخه، بقدر ما يحمله كل طرح من تجديد ومغايرة عما سبقه، فهل الشاعر الحديث عندما يشحذ همه لطرح تجارب من هذا النوع. أن يطرحها كما طرحها عمر بن أبي ربيعة مثلا. لا أعتقد. فالأهمية تكمن في طرح هذه التجربة مجددة، أي بطرح رؤى وصور وإضافات جديدة لا تذكر القاريء بعمر بن أبي ربيعة أو بمجنون ليلى أو بعمر أبو ريشة أو السياب، فأهمية الشاعر هي أنه عندما يطرق موضوعا الا يذكر القاريء بشاعر آخر. أما المحاكاة الصنمية وترجمتها بنفس ما ترجمت، فإنها لا تخلق الا شعرا اعتياديا، يمكنها أن تخلق أبياتا وقوافي وشعرا ولكنه بالتأكيد ليس الا شعرا اعتياديا. فالخطوة الأساسية في الشعر هي الاضافة وعدم التذكير بأي تجربة أخرى.
* في تجربتك الشعرية نرى أنك تسعي الى شعرنة التفاصيل وذلك بتصعيد هذه التفاصيل وإرقائها الى مستوى الشعر، نرى الى جانب الرصد الشعري هذا، ومن جانب أخر من جوانب الشعر العربي الحديث اشتغالا من نوع أخر يمكن تسميته اقترابا بشاعرية الرؤيا تلك التي تشحذ نسغها من الذهني والغيبي واللاملموس.
– أنا أحبذ تقسيما من نوع آخر وهو الابلوني والباخوسي، وهذا التقسيم كان شائعا حتى بعد نيتشة،والابلونيه تعني الاشراق والوضوح في طرح التجربة بينما تعني الباخوسية الغموض والتشابك والفوضى. فعندما ننظر مثلا الى الشعر العراقي ونقسمه حسب هذين التقسيمين،نقف في الابلوني أمام قصائد سعدي يوسف لأنها تجربة صافية ومنسجمة وذات أبعاد واضحة، ونقف في الابلوني أمام تجربة السياب والبياتي، لما تكتنفه قصائدهما من تأمل وشرود وتحليق واجتياز آفاق غير واضحة المعالم.
وتجربتي أنا أقرب الى الابلونية منها الى الباخوسية.
* نسألك عن رؤيتك لقصيدة النثر في العراق وتقييمك لها؟
أستطيع التأكيد على أن لتجربة حسين مروان وسركون بولص دورا في وضع حجر الأساس لقصيدة النثر في العراق.وأنا حقيقة من المشدودين لقصيدة النثر.
* رغم أنك لا تزاولها.
– لأن الرؤية الجمالية لدي لا تؤطر بإطار معين. فلا تمييز لدي بين اللوحة الخلابة والقصيدة الخلابة. التأثر واحد، قصيدة النثر في العراق أصبحت الشكل الأكثر الحاحا لدى الاقلام العراقية الجديدة.
* من حيثيات كلامك أرى أنك تقر التجانس والتعايش بين الشعر ومختلف الفنون الابداعية. رواية، مسرح، سينما، تشكيل، موسيقى…الخ.
– أنا حقيقة لا أضع الشعر في خانة معينة هي خانة الشعر أو خانة الدواوين الشعرية المكتوبة. إنما أجد الشعر في لوحة أو في سيمفونية أو في فيلم سينمائي، وتحديدا يمكن أن أجد جوهر الشعر ومراميه في فيلم سينمائي إيطالي أو في لوحة من لوحات فان جوخ. فأجد هنا نفسي شاعرا أقرب الى فان جوخ منه الى شعراء عديدين، لماذا انطلق هذا المنطلق ؟ لأن الشعر ليس محددا بقوانين فنية، إنما الشعر في تصوري هو هذه الروح الكامنة في أي نص إبداعي سواء كان فنا تشكيليا أو شريطا سينمائيا أو مسرحية، أجد نفسي أحيانا أقرب الى صفحات كافكا وفوكنر من عشرات الشعراء الآخرين، في الفصل الأول من رواية (الصخب والعنف) أجد نفسي أمام حقيقة الشعر التي لا أجدها وتطفر من بين يدي في كثير من الدواوين الشعرية، فأنا أنظر الى قصيدتي ليس قياسا الى قصائد الشعراء الآخرين، إنما قياسا الى ما استطاع الفنان التشكيلي أو السينمائي أو الموسيقي العظيم طرحه في أعماله.
* نلمح أن الغربة واصطراع نوازع الحنين والفقد هي التيمات الأكثر بروزا في تجربتك الابداعية.
– الشاعر الفذ والحقيقي يعيش غربتين غربة مكانية وغربة زمانية. لأن الشاعر لا ينتمي الى مكان جغرافي بعينه. إنما ينتمي الى العالم ككل. وانتماؤه الى العالم ككل يجعل منه غريبا، فأنا شخصيا انتمى الى العالم ككل أو في الأقل الى بقع جغرافية محددة هي التي أجد نفسي فيها منسجما وعندما أجد نفسي في بقعة لست على اتفاق معها فهي ليست بالنسبة لي وطنا، كما أن القرية الطفولية أو المدينة الطفولية هي المنطلق الأول لغربة الشاعر، فأنا عندما انتقلت من العمارة الى موسكو أي من العراق الى بلد أجنبي، لماذا أصبحت موسكو بالنسبة الي كشاعر تشكل الرعشة الفنية أو الخفقة الفنية التي ظلت ترافقني أكثر من ثلاثين سنة، بقوة تلك الخفقة أو الرعشة التي ابتعثتها في نفسي القرية الطفولية، فأنا أنتمي روحيا الى مكانين في الآن نفسه، الى مكان قروي طفولي وهو العمارة ومكان روسي ثلجي غابي سهوبي عواصفي، فأجد نفسي ممزقا بين منطقتين وهما منطقة الطفولة التي تشكل بالنسبة لي الهور والطيور البرية والجواميس والفلاحين والخضرة العراقية والتلال القديمة وتشكل أيضا امرأة معينة، امرأة قروية كانت الحلم الجمالي الذي استطعت من خلاله أن أنتمي جماليا الى الرؤى الجمالية الأخرى، أي مازلت الى الآن أنظر الى أي امرأة انطلاقا من الرؤية الجمالية الأولى التي شكلت ملامحها امرأة قروية معينة اسما وجسدا، فقد كانت السنوات الأولى من حياتي في موسكو هي مجرد حنين أو انشداد عنيف الى مكان آخر وهو العمارة، كنت طيلة السنين التي عشت فيها بموسكو اتطلع الى العودة الى هذه القرية الى هذه المرأة القروية الى تلك التفاصيل التي حفرت أخاديدها في روحي، ولكن بعد أن عدت جغرافيا الى هذه القرية الأولى وجدت نفسي أعيش حالة أخرى وهي الحنين المعاكس أو الردة الحنينية الى موسكو التي كنت غريبا طيلة أقامتي فيها ومشدودا بوتر عنيف الى القرية، وعندما عدت الى القرية وجدت أن ذلك الوتر الحنيني قد رافقني وانشد محولا اتجاهه الى موسكو وظلالها وغاباتها وثلوجها وهكذا، فالآن عندما أعود الى موسكو سأعيش تلك الغربة التي اجتاحتني فور اطراقتي الأولى الى سمائها الشاسعة هذا ما كنت أعنيه بالغربة المكانية للشاعر، أما فيما يخص الغربة الزمانية فإن الفنان مثلما هو ينتمي الى بقع مكانية متعددة فهو ينتمي كذلك الى بؤر زمانية متعددة وهذه البؤر أو المدارات لا تحدد بقرن أو عقد أو فترة معينة، أنا قد أجد نفسي مثلا قريبا الى المدار العباسي أو المدار الخيامي الفارسي أو الى المدار الاغريقي فحنيني وتشكلي الروحي يدفعانني لأن أعيش مراحل زمنية غابرة، فحفنة السنين التي عشتها الآن بجسدي لا تشكل بالنسبة الى إشباع فنيا أو حياتيا كما تفعله تلك الحقب والسنوات الماضية التي تشكل طموحي الجمالي فقد تشكر مثلا إحدى الشخصيات النسائية الروائية من القرن التاسع عشر الجمال الجسدي أو الجمال الا نسوي بحيث أظل أبحث عن هذا الجمال الضائع رغم معرفتي أنه لم يعش زمننا، وما أنشدادي الى هذه النماذج الفائرة في الزمن إلا لكونها تشكل بالنسبة الي رؤيا جمالية مطلقة.
* عودة الى قصيدة النثر هناك نقاد يبرهنون على أن قصيدة النثر هي المحطة الأخيرة للشعر. وما سيأتي إنما هو امتداد واستمرار لها.
– كل مرحلة شعرية لا يمكن أن تكون هي المرحلة الأخيرة في الشعر فقصيدة النثر مثلا لا تعني لدي سوى نص فني وشعري، كانت تفعل التأثير نفسه الذي تفعله المسارات الشعرية السابقة، فهي ليست سوى محاولة شعرية جادة للوصول الى المنطلق الجمالي، فهي ساقية ضمن السواقي التي مر بها الشعر العربي تلك السواقي التي تصب في النهر الجمالي الكبير، فأنا أجد نفسي أقرب الى النماذج العليا من قصيدة النثر روحيا وذهنيا من عشرات القصائد الموزونة.
* غموض طرحها. والتباس تأثيرها على المتلقي، مز العبارات التي يلوكها مهاجمو قصيدة النثر.
– ما يجعل النص غامضا هو غموض الرؤيا. غموض طرح هذه الرؤيا وليس غموض التجربة، فقد أعيش تجارب حياتية مبهمة ومعقدة في تشابكها وتعددها. ولكن ليس بالضرورة أن يكون طرحي الشعري بهذا التشابك وفي المسألة التباس كبير.أتذكر حكاية لسارتر سمعتها منه بأذني من معهد غوركي بموسكو عندما كنت طالبا، أثناء حديثه عن تجربته الفلسفية، قال: أنا أحيانا أقرأ الصفحات التي كتبتها قبل مدة فأجدها غامضة في نفسي فأضحك، فسأله أحد الطلبة. هل هذه الحالة تمر عليك دائما. فقال سارتر أحيانا.
* الاشكالية في وعي المتلقي.
– أو في النص نفسه. مادامت الأذن العربية التي اعتادت الأوزان تقبلت ايقاعات خارج وزنية فلماذا لا تتقبل قصيدة النثر، فالسر يكمن في النص سواء كان موزونا أو غير موزون، فالنص الجيد لابد أن يخترق الذاكرة الشعرية ولو بعد زمن، فكيف استطاع النص البودليري بمرور سنين طويلة أن يطرح نفسه أقوى من النص اللامارتيني أو الهوجوي.
* رغم أن النص البودليري لم يكن يحسب للمتلقي حسابا مباشرا.
– نعم. فعلى الشاعر الا ينتظر ردودا فورية، طالما أنه كتب نصه عن اقتناع وحسب ايقاع تمليه عليه لحظات انسجامية مع الذات فطالما ان الشاعر مقتنع بنصه فإن هذا هو الحكم النقدي الأكثر صلابة.
* إذن ما الذي يعوق القصيدة نحو توجهات فنية راقية ؟
– القصيدة التي تقف أمام حواجزها ليست قصيدة عظيمة، أن القصيدة الراقية هي التي تصل الى ذررتها انسيابيا دون الخضوع أو الاستجابة لأي عوائق فنية تعترضها، فالقصيدة أو العمل الابداعي الذي يقف أو يتعطل أمام العوائق التي تعترضه ليس سوى محاولة فنية كسيحة، فمنذ الأوائل. القصائد المهمة والتي نستقبلها الآن بذلك الاصغاء الراقي هي تلك القصائد التي استطاعت أن تبتلع عوائقها والا لما وصلت الينا بهذا الدفق الذوقي الآسر.
* لو نتطرق قليلا الى تجربتك السردية. ونستوضح بعض المحفزات التي يوقظها السرد لديك. هل هي محفزات استذكارية واستطراد لما اختزلته القصيدة بقوانينها التكثيفية مثلا؟
– هل تقصد السردية الشعرية. أم سردية الفنون الأخرى؟ لأن قصائدي بها هذا المنحى التفصيلي المنفتح على السرد.
* ما أعنيه تحديدا هو تجربتك السردية الخالصة. لاسيما عملك الرائع والثري بعوالمه "الريح تمحو والرمال تتذكر" حين تعتمد الانفصام السردي والنقلات الشاهقة بين حياة موسكوفية راهنة وحياة بعيدة كل البعد زمانيا ومكانيا حيث الطفولة وردهاتها المظللة ما يحفز قوة الانشداد والاستذكار الأمر الذي لا توفيه القصيدة الشعرية حقه كاملا حين استعادته شعريا.
– نعم. ان النواحي السردية شائعة أيضا في كتاباتي الشعرية، فمثلما أجد نفسي في كتابي الأخير "الريح تمحو" أمام رؤيا جمالية قد أقول أنها جديدة، فأنا كذلك في قصائدي أقف أمام نفس الرؤيا، لأن ما كتبته في "الريح يمحو" ينطلق من خلال نفس المؤثرات الشعرية أو نفس ذلك الرفق السحري الغامض الذي تولد منه قصائدي الشعرية، وهذه النقلات التي تفضلت بذكرها سبق وأن مررت عليها عبر التكثيف الشعري من تجربتي، ولكن يبقى الفارق وهو انه في حالة كتابة القصيدة أكون محاطا بالضبابية محاطا بالغموض، ومقيدا بدفقاتي الروحية الوميضة الخاطفة أما في الكتابة النثرية فإنني أسبح في مساحات ورقع واسعة وغير محددة بالقانون أو الدفق الشعري.
* هل نستطيع أن نلمس الأبواب التي تدخل بها الى ذلك الوصف الجمالي المرصع بالظلال وبأصابع الخفة التي ترش خدرها الناعم على الأشياء والعناصر. بمعنى هل الحالة الوصفية تسبق المادة الموصوفة. لديك أم أنها تخرج ضمن دفق أحادي واحد؟
– في الحقيقة إن ما أحاول الامساك به يأتي من موقع الوصف وليس متخلفا عنه أو تابعا له، سأضرب مثلا فقد تجدني مارا في شارع معين أو في ساحة معينة فما يعنيني أو يستوقفني في كل هذه المساحة هو واجهة أو زاوية معينة وهذه الزاوية التي تختصر بالنسبة الي الشارع كاملا واتصور أن الظلال التي تفضلت بذكرها أقرب الى هذه الزاوية الضيقة التي تشكل البؤرة لمساحة مكانية هائلة، واذكر أكثر تقريبا في زمن ما من حياتي في 1968 بالتحديد كنت أرتاد مقهى معينا في بغداد اسمه مقهى البرازيلية، وقبالة المقهى يوجد مخزن للأحذية، في واجهة المخزن تجلس بائعة، هذه الفتاة بملامحها وبتقاطيع وجهها استطاعت أن تتشكل في ذهني باعتبارها وجها سومريا، هكذا بكل تحديد، ثم بعد ذلك بزمن. اكتشفت أنها فعلا ذات اسم عراقي قديم، رغم اني لم أحاول التقرب منها أو إثارة وجودي أمامها، ولكن لماذا هذه الفتاة استطاعت أن تشكل بالنسبة الي شارع الرشيد بأكمله، ولماذا كان وجودي في هذا الشارع يختصر بهذه الزاوية وبهذا الظل الذي يتأرجح حول الفتاة. وقد استطعت أن أنطلق من مخزن الأحذية هذا والوجه الفاتن الذي يتصدره الى عوالمي الشعرية ودفقي الشعري المترامي والشاسع الى بابل وسومر والعالم كله.
* قد يقول قائل، أن حسب الشيخ جعفر أنجز مشروعه الشعري وأكمله بالشكل الذي اقتنع به واتجه الى الاستجابات الاستطرادية التي يوفرها ويتيحها السرد أكثر من غيره، ما مدى حقيقة هذا الرأي؟
– أنا أحترم هذا الرأي. انني لم أحقق طموحي الشعري. لم أحقق الا جزءا بسيطا منه ولو أن الصحة والزمن قد لا يسعفانني بتحقيق هذا الطموح فمازال مشروعي الشعري مشروعا مستمرا، أما الاتجاه الى الرواية أو السيرة فهو محاولة أخرى للامساك بحفنة الصفاء الأزرق، كما أسماها صلاح عبدالصبور، أنا الآن انتهيت من انجاز رواية جديدة، حاولت فيها أن أطبق أصابعي على حفنة الصفاء هذه. وهذه الرواية تختلف عن "الريح تمحو"، منحى وتكنيكا، ففي هذه الرواية اقترب من الطرح التراثي البعيد كمرصد أصيل أو كنافذة هامة للتعبير.
* كيفية الاستفادة فنيا من التراث واذابته في الراهن الابداعي؟
– في تصوري إن حجر الزاوية الفني هو التراث، فبدون النبش في التراث يخلو العمل الفني من حجر الزاوية، فالكاتب بالتأكيد ينتمي الى لغة يطرح بها نفسه وفنه الى الآخرين، فهو يطرح ابداعه عبر لغة تختلف كمفردات عن اللغة الشائعة والعامية وهذه اللغة الفنية بطبيعة الحال تتحاقب وتتوالد عبر قرون ملصقة بها كل طاريء ومستحدث ومتغير، فالكاتب عن طريق توسعه وابحاره ونحته في التراث يتيح لهذه اللغة خصوصيتها ويبرر ثباتها واستمرارها، فالتراث مهما بعد وتوغل يبقى محافظا على نفس طراوته كما كانت منذ زمن امريء القيس والنابغة، فمقاييس التذوق تنتقل مختصرة هذه الشساعة الزمنية من تلك الحقب الى زمننا هذا، وهكذا بالنسبة الى ما نعتقده الآن فنا جيدا، فسوف يتحول بدوره الى تراث مع مرور الزمن.
* ما الحقب والرموز التاريخية التي تراها أقرب الى ذائقتك من غيرها؟
– أنا شخصيا أنظر الى التراث العربي كذائقة استمرارية من خلال ثلاثة أعمدة شامخة: القرآن الكريم ونهج البلاغة وديران المتنبي، مع تقديري لشوامخ أخرى مثل أبي نواس وأبي تمام، ولكن هذه الأعمدة الثلاثة تشكل بالنسبة الي مثلما قال توفيق الحكيم مرة عن الأعمدة اليونانية التي تقف بثبات أمام الزمن وتحولاته، فبعد هذه الأعمدة الثلاثة تتدفق الانجازات المهمة الأخرى، فبالنسبة الي يأتي بعد هذه الأعمدة أبو نواس ثم أبوتمام.
* أبو تمام بعد أبي نواس !!
– نعم أبو نواس أولا ثم أبو تمام وقبل هؤلاء جميعهم المتنبي الذي أعتبره اختصارا ثقافيا وفلسفيا لمن كانوا قبله، وفي هذا اختلف مع صديقي الشاعر سعدي يوسف، الذي يعتبر أبا تمام هو الذروة عندما كتب عام 1990 مقالا أسماه "الخضرة" متحدثا عن أبي تمام قال فيه، لقد ذهبت الى مضيق جبلي شمال العراق حاملا معي كتابين فقط "أوراق العشب" لوايت واتمان وديوان ابي تمام، وهذا الميل يشاركه فيه السياب حين يعتبر ابا تمام هو النقلة الهامة في الشعر الحربي.
* وما الذي جعله يحتل مرتبة متأخرة نسبيا في ذائقتك ؟
– هو استغراقه وتشبثه بالمقدمات الطللية، مع الصورة الهائلة طبعا نلحظ ذلك بقوة في قصائد المديح لديه، مما جعله مأسورا للبنية الجاهلية والأموية، رغم اشتقاقاته اللغوية الجديدة والهامة، وأضيف شيئا أخر وهو أن الرعشة الجمالية التي استشعرها لدى قراءتي للشعر التقليدي استطاع أن يستعيدها الجواهري في قصيدته "المقصورة" التي أعتبرها أحدى شوامخ الشعر العربي، والتي أحسست من خلالها بنفس الرعشة الجمالية لدى قراءتي لقصيدة "المنارة" لسان جون بيرس.
* السيرة العظيمة والفذة في رأيك هل هي تلك المخلصة لتسجيل الحذافير وابرازها بحرفيتها أم أن هناك عوامل يجب أن تولى أهمية أكبر مثل اللفة الجمالية وابراز الحالات الملتصقة بالمناخ الموصوف ؟
– أنا أتصور أن كتابة السيرة ليست استعادة لما كتبه وعاشه الفنان أو الشاعر فإذا كان الكاتب قد استنفد عبر كتاباته العديدة السابقة جزءا من حياته أو من عوالم محيطه ومناخه فلماذا يكون مضطرا بعد هذا الى كتابتها مجددا، اذا كانت ابداعاته تشكل درجات ضمن سلم سيرته أو حياته، ومن ناحية أخرى فالقوانين التي تحكم السيرة الذاتية ليست نفس القوانين التي تحكم الرواية ففي السيرة ينبغي الصدق في ذكر الجزئيات، فعظمة اعترافات جان جان روسو هي تأكيده على استعادة تجاربه بصدق، بحيث استطاع أن يطرح تجربته الطفولية وكأنها حزمة من الأعشاب الطاهرة والطرية، ولكن اعتقد أن ذلك الصدق يجب أن يكون مصحوبا بالمؤثرات العاطفية لكل مرحلة أو حالة زمانية يريد الكاتب ابرازها، فكاتب السيرة مقيد بالصدق أولا بصدق ابراز التجربة، عكس الرواية التي ينفتح فيه خيال الموضوع على آخره وعبر بناءات متنوعة ومنفلتة.
* الا ترى بأن هذا مدعاة لتقييد المخيلة وحصرها بالمنجز الحياتي للكاتب ؟
– نعم ولكن الخيال يجد منفذه وانسراحه من خلال زوايا أخرى وهي زوايا الوصف الظلالي والارتعاشات الخفية للحالات الماثلة في ذاكرة الكاتب، ففي تجربتي حاولت أن أطرح انفعالاتي وأرصد الحالات المصاحبة لزمن الأحداث من شتاء وخريف وثلج ومطر وبكاء وحزن وافراح… الخ.
* علاقتك بالترجمة هل تزامنت مع الخط الابداعي لديك ؟
– أنا لم أدخل مجال الترجمة الا متأخرا زمنيا، أي بعد أن أصدرت أربع مجاميع شعرية، والذي دفعني تلك الدفعة المباشرة هو حديث جرى بيني وبين أستاذ لي وهو البروفيسور آرتومونوف الذي كان يمتلك اللغة الفرنسية امتلاكا كبيرا وكان يتحدث عن ترجمة بوشكين الى اللغة الفرنسية بأنها ترجمة قاصرة،وأنا شخصيا عندما حاولت ترجمة بوشكين كنت أتذكر ما قاله هذا الأستاذ، لأن ترجمة بوشكين لابد أن تعرض النص الأصلي الى خدش، لأن بوشكين يكتب بتقنية فريدة، ونستطيع أن نصفها بأنها تلك الخالية من الزخرفة والرتوش الفنية فهو عندما يكتب مفردته كأنما يستخرجها من الآبار ومن الرصيف ومن الشارع ولكنه يذكرها كما هي بوحلها وبأعشابها بنفس حالتها وطراوتها، فعندما تقرأ بوشكين بالروسية تجد نفسك أمام شعر عال، عال جدا، ومما دفعني الى ترجمة مجموعة "غيمة في بنطلون" لمايكوفسكي هو قراءتي لها بالعربية حين اصطدمت بترجمة لا تمت بصلة الى العمل الأصلي وكانت هذه هي أول خطواتي في الترجمة، بعد ذلك توالت اشتغالاتي في هذا الحقل، ترجمت قصائد يسينين معتمدا على الدراسات الروسية ثم ترجمت بلوك، ثم ترجمت أنا اخما توفا، ثم مختارات للمجموعة من الشعراء الروس، ضمنهم شاعرة روسية مهمة اسمها بنسنس كتابفا وشاعر اسمه ماسر ناث وآخرون.
* اذا كان المترجم شاعرا، هل تتقاطع ترجمته للشعر مع أسلوبه ورؤيته الشعرية، أم أنه يخضع ما يترجمه الى رؤاه الشعرية الخاصة ؟
– كتابة القصيدة شيء والترجمة شيء آخر، فأنا عندما أترجم كأنما انتقل من غرفة الى أخرى، من مكان الى أخر، فعندما أكتب قصيدة فإنني أكون في سرداب أو كهف، باحثا عن جذور الروحية في أقبية مظلمة أتلمس فيها طريقي من خلال سلالم متعددة من خلال كوى متعددة، أما عندما أترجم فأنني أكون في غرفة مريحة كل شيء فيها مضاء وواضح فعندما ترجمت بلوك أو بوشكين كنت أعيد كتابة القصيدة أكثر مما أعيد قصائدي الخاصة، كنت أجهد نفسي كثيرا حتى أستطيع الوصول الى أقرب الأماكن لروح وتجربة الشاعر، وما زالت تراودني الى الآن، رغم إنجاز هذه الترجمات محاولة اعادتها، لأن وسواسا يحفر داخلي حيال ايفائها حقها كاملا. فالترجمة قاصرة دائما خاصة ترجمة الشعر.
* في اعتقادي ان الكاتب الموثوق به ابداعيا وفنيا عندما يترجم يتحول الى مترجم جيد.
– في الشعر صعب، لأن ترجمته مهما كانت واعية وحساسة فإنها ترجمة قاصرة
* مكمن القصور..
– الروح، روح الشعر لا تدخل الى الترجمة، فأنا عندما أقرأ قصيدة رائعة كأنما أعانق امرأة حية، ولكن عندما أقرأها مترجمة فكأنما أعانق امرأة مريضة أو ميتة. جسد رائع جميل ولكن بدون روح.
* وترجمة الرواية.
– تختلف. فأنا مثلا عندما قرأت ترجمة سامي الدروبي لدستوفيسكي مع النص الأصلي، كان يبهرني فعلا، فقد وجدت نفسي أمام ترجمة حية ونابضة بحيث تكون هناك أحيانا مفردات روسية خاصة ومعينة استطاع سامي الدروبي رغم ذلك أن ينقلها بنفس إيحائها وشحنتها الأصلية.
حاوره: محمود الرحبي ( كاتب من سلطنة عمان)