يجب ان تكون نقطة الانطلاق الأولى التي تفرض نفسها على الشاعر هي أن الشعر الأندلسي ذو علاقة شديدة الوثوق بنظيره في المشرق, تكاد تكون تعايشية معه, وفي الوقت نفسه يجب أن نحاذر من الاعتقاد بأن نتاج الشعراء الاندلسيين لم يكن غير انعكاس لتأثير شعراء المشرق عليهم, فالشعر العربي في المغرب لم يكن محض تقليد واعادة انتاج واعية لرديفه في المشرق, بل هو فرع من فروعه ووليد من صلبه. كما أن بعض الصفات البارزة فيه, كالمجاز الذهني ووصف الحدائق والأزهار، لم تكن محض اقتباس من شعراء المشرق. فالأحداث الكبرى في الشعرلا تتم عن طريق المحاكاة والتقليد. وعندما تنجح تجربة في الشعر (أو في أي فن من الفنون)، وتنتشر على نطاق واسع, فان ذلك يحدث, أولا، لأن ذلك الفن نفسه كان قابلا لذلك, وكان اولئك الذين يتولونه قادرين, فنيا ونفسيا، على تمثل التجربةالجديدة، وثانيا، لان تلك التجربة تناسب المزاج, أو ترخي التوقعات والحاجات والذوق لدى جمهور الشعر في ذلك الزمن.والذي يحدث في مثل هذه الأحوال أن يظهر شاعر يمارس على الشعر سيطرة أقوى من سواه, ويمتلك من الجرأة أكثر مما عند معاصريه, فيحدث تجديدا يتبعه فيه غيره من شعراء جيله (وقد يحدث هذا على يد عدد من الشعراء في الوقت نفسه يعملون منفردين أو مجتمعين )، ثم تشيع التجربة الجديدة، أحيانا بعد فترة "التريث المألوف " كما وصفه جورج كبلرGorge Kubler مما يؤدي إلى تمثل هذا التجديد تمثلا هادئا، وأحيانا دفعة واحدة كأنما بفعل السحر. ان تاريخ الشعر العربي, في الواقع, يقدم كثيرا من الأمثلة على مثل هذه التغيرات العامة التي قد تحدث, كما أسلفنا، إما سريعا ودفعة واحدة، أو خلال فترة قصيرة من الزمن. ويجب أن يوضح هذا لنا أن الاتجاه الجديد لا يمكن أن يتم نتيجة الميل للمحاكاة عند جيل بأكمله من الشعراء، بل نتيجة قابلية في الفن واستعداد كامن فيه لتمثل هذا النوع من التغير في هذا المنعطف الزمني المعين. وقد يكون التغيير في الشعر في اتجاه معين امرا لا مفر منه. وهكذا، فان ما حسبه كثير من النقاد ومؤرخي الأدب قضية "محاكاة واتباع" في الشعر الاندلسي قد لا يكون سوى علامة على أن الشعر العربي كان في حاجة إلى أن يتطور تطورا متماثلا في تلك المواطن من العالم الناطق بالعربية التي تشابهت فيها الحياة بوجه عام – وفي هذه الحالة في تلك المواطن "المتمدينة" في المشرق والمغرب حيث ازدهرت حياة حضرية مترفة كانت جزءا حيويا من حضارة عظيمة مزدهرة.
لقد كانت احدى المشاغل الكبرى التي شغلت النقاد ومؤرخي الأدب الذين كتبوا عن هذا الشعر، من عرب وغير عرب على السواء، هي محاولة التعرف على مظاهر الاستمرارية والاختلاف في الشعر الاندلسي, يدفعهم إلى ذلك أن الاقليم كان كذلك موطن أقوام ولغات أخرى. وليس ثمة س ت مقياس دقيق يمكن ان يحدد الحوافز التي قد تكون أثرت علي الشعر العربي في الاندلس (وفي المشرق) بفعل ذلك التجمع العجيب لعدد من الاقوام والثقافات تحت راية الإسلام التي وحدت بينها، ولكن مهما يكن من أمر تلك الحوافز فانه قد تم تمثلها في الشعر وانصهرت بروحه وظهرت بشكل طبيعي في المصطلح الشعري العربي الخاص. ولاشك أن روح الشعر والمصطلح الشعري العربي, لم يصبهما – فيما أظن – أي تغيير جذري بفعل أية مؤثرات خارجية، على الرغم من تطورهما الدائم لمسايرة أزمنة بعينها.
ولكن الإسلام الذي خاطب العالم باسم ديانة لا عرقية وشاملة، لم يكن عامل التوحيد الوحيد داخل الحضارة الإسلامية نفسها، فقد كانت اللغة العربية عنصر توحيد معادلاللإسلام, وهذه مسألة ذات أهمية كبرى في دراسة الشعر الاندلسي. لقد كانت العربية قبل كل شيء لغة القرآن والأحاديث النبوية، وثانيا كانت لغة السلطة السياسية؟ لغة طبقة حاكمة لا ترى لغة أخرى يمكن أن تعادلها في غناها وقدرتها الاستيعابية _ وهو موقف نخبوي تنامى خلال العصور حتى غدا علامة تفوق للعرب ولغير العرب على السواء، أن يتميز المرء في كتابة الشعر والنثر بعربية راقية. وقد نهض هذا الموقف حائلا دون أي تراخ ازاء اللغة النقية والتركيب المتماسك والدقة النحوية، وكان غير العرب غالبا هم الذين أخذوا على عقاتقهم مسؤولية تدوين اللغة والنحو. ثالثا، كانت العربية لغة الشعر، وهو فن العرب الأعظم والأكمل الذي تبوأ مكان التكريم الأكبر، سلاح الدعاوة عند الخلفاء والأمراء، سجل وقائع التاريخ, ديوان حكمة العرب جميعها، والمحتفي بالأبطال والمعارك والمعبر الأعظم عن الحب والشوق والألم والفرح, وأداة تمثيل الرفيع في جمال الأنوثة واكتمال الرجولة. ومع أن اللغة كانت متجذرة محصنة، فقد كانت أيضا ذات حيوية كبيرة، لذا كانت عرضة لمؤثرات واسعة لا تخضع للسيطرة الواعية وليس من السهل ملاحظتها.
ويجب أن نذكر أن المؤثرات الاجنبية في الشعر العربي الرسمي (أي الشعر المكتوب بالفصحى وبنظام الشطرين والقافية الموحدة) كانت محدودة في مداها حتى بدايات القرن العشرين. وبالاضافة إلى عناصر التوحيد المذكورة، فان الحاجة الدائمة الى شعر المديح على امتداد الامبراطورية الاسلامية بما في ذلك الاندلس, أدت الى ظهور أنماط معينة من التناول, غدت ذات صيغ ثابتة، فازدادت مقاومتها للعناصر الخارجية (ولو أن فن المديح نفسه قد دفع بالشاعر إلى محاولة الابتكار في نطاق الحدود الصارمة المفروضة). ثم إن الأسلوب الخاص بنظام الشطرين والقافية الموحدة له أثر متميز أنتج خصائص شكلية غدت متجذرة في وجدان الشعراء والجمهور على السواء وبقيت على ذلك حتى العصور الحديثة – كما يتضح من المعركة الصاخبة الساخنة التي احاطت بحركة الشعر الحر في العربية في عقد الخمسينات من القرن العشرين.
وهكذا، فعلى الرغم من التغيرات الهائلة قي اللغة والاستعارة وغيرها من العناصر الشعرية كدخول الرمزية المعقدة إلى الشعر الصوفي, فان عناصر الايقاع والوزن وبنية العبارة إلى حد كبير، إلى جانب النظرة الأساس إلى العالم لدى الشعراء أنفسهم, لم تعرف إلا قليلا من التغير الجذري عبر القرون. وثمة سبب آخر ساعد هذا الوضع إلى حد كبير في الشعر العربي التراثي في الاندلس. فقد كان الشعر الاندلسي مقتلعا من جذوره وعلى شيء من العزلة (إذ لم يكن شمال أفريقيا مركز نشاط شعري كبير في العصور الوسطى)، في الوقت نفسه فإنه في "العصر الذهبي " بين القرن الرابع / العاشر والخامس / الحادي عشر، لم يجابه في محيطه المباشر تحديا من أي شعر مهم في لغة مختلفة كان يمكن ان يفرض نبوغه الخاص على الشعر الأندلسي ويؤكد أساليبه في التناول, فيدفع به إلى الابتعاد عن أساليب التناول الموروثة. وهكذا بقي الشعر الأندلسي كامل الانشغال بالشعر المشرقي, يتلقى منه الغذاء الدائم.
قبل البدء بدراسة الشعر العربي في الأندلس, من المهم النظر في بخط الأراء التي عرضها بعض كبار مؤرخي الأدب من غير العرب حول هذا الموضوع. يرى هنري بيريز Henri Peres أن "على المرء ألا ينظر دوما إلى الأصل السامي وحده في هذه الأمثلة (الشعرية)، فيجب ألا يغيب عن البال أن السكان المسلمين من الأسبان في القرن الحادي عشر لم يكونوا سوى امتداد عرقي للسكان القدامي. وحسب هذه الفرضية يؤكد بيريز بأنه يمكن متابعة تراث محلي قوي بخصائصه المميزة في كثير من المظاهر الثقافية في شعر الجزيرة الايبيرية بغضى النظر عن اللغة المكتوبة فيه. غير أن هذا الرأي يجعل من "العرق "أساسا يقرر عملية الابداع, ويفترض ان التقاليد الشعرية المحلية يمكن ان تنتقل بسهولة عبر الحدود بين لغات وثقافات شديدة الاختلاف ورؤى لا تشابه بينها الى العالم, كما يوحي ذلك ايضا بحرية الانتقال بسهولة بين مصطلح شعري واخر على الطرف النقيض منه لا سيما أن المصطلح الشعري العربي يقوم على تراث شديد الرسوخ – ويحتفظ في الوقت نفسه بخصائصه المحلية (التي تعني هنا الخصائص الايبيرية). إن هذه فرضية لا يمكن الأخذ بها، لان اللغة العربية والثقافة الاسلامية لم تكن لهما أية علاقات فعلية باللغات والثقافة الايبيرية.
من ناحية اخرى يزعم ليفي بروفنسال" Levi- Provencal"ان الازدواجية اللغوية التي شاعت بين الاندلسيين في العصور الوسطى توحي بأن هؤلاء الذين كانوا يتكلمون غالبا اللغة الرومانسية مع أفراد أسرتهم واللغة العربية في المجالات العامة، كانوا ينظمون الشعر بلغة هي في الاساس غريبة عليهم, فبقيت نتيجة لذلك ثقيلة مصطنعة تشبه لغة الشعر اللاتيني الملقنة تلقينا التي كان يكتبها علماء عصر النهضة". إن نظرية ليفي بروفنسال تصور عالما غدت فيه العربية لغة ثانية، وغدا فيه العرب وغير الأسبان من المسلمين في الأندلس أقواما اكتسبوا المزايا الايبيرية من جميع الوجوه. لا شك انه يتضح من كتب المراجع العربية الكبرى ان المسلمين كانوا يتكلمون بعض اللغات الأيبيرية، وان المجتمع الاسلامي في الاندلس كان ذا طبيعة مختلطة، فاثر ذلك في تطور اللغة المحكية بين الناس. لكننا نجد كذلك نموا مستمرا معا للفصحى حيث استجد فيها الكثير منالكلمات ذات الأصل العربي النقي, لكنها اندلسية محضة ونحن نعلم كذلك أن مخزون الكلمات العربية الاندلسية الدالة على الأدوات والأطعمة والتداخل الاجتماعي وغيره, أي الكلمات المستعملة في الحياة اليومية، كان هائلا. كما نجد كذلك أشارات إلى كثير من الأمثال الأندلسية الصرف مما يدل على استعمال اللغة العربية في السياق الاجتماعي هناك. ونقرأ عن الاهتمام الكبير باللغة والدراسات اللغوية عند الاندلسيين, وعن الاهتمام بالشعر والشعراء بشكل واسع لا يقل عما كان يجري في المشرق.
لا شك أن اللغة الرومانسية تسربت فعلا الى لغة الكلام اليومي, ولكنها لم تأخذ مكان العربية قط, بل اختلطت بها في الكلام الدارج, ونلمس الدليل على ذلك في اللغة الاندلسية الدارجة التي نجدها في الزجل, وهو فن شعري أصبح ناضجا في القرن السادس /الثاني عشر، كما نلمسه في بعض خرجات الموشحات التي ترد فيها مفردات مختلطة. أما العربية الفصحى فقد بقيت لغة الدين والقانون والدولة، وفوق ذلك لغة الثقافة والشعر المستعملة في ما يمكن تسميته بالأدب الراقي, وقد كانت لغة حية ذات نمو مستمر. أن المقارنة مع المشهد الحديث واردة هنا إذ نجد الشعر المكتوب بالعربية الفصحى اليوم قد طور مصطلحه الشعري من داخل رديفه الموروث, كما كان يفعل دوما خلال العصور. ولو تيسر لهذا المصطلح الشعري المعاصر بالفصحى، وهو واحد من حيث الأساس في جميع انحاء العالم العربي, أن يدرس في ضوء المعايير اللغوية الحديثة، لتبين انه يختلف جذريا عن المصطلح الشعري الذي نجده في اللهجات المحكية المختلفة، رغم أن الأمر في الحالتين لا يخرج عن كونه تعبيرا إبداعيا طبيعيا عند العرب. ويجب أن نؤكد هنا أن شعر الفصحى في يومنا هذا يعبر عن التجارب الأصيلة العميقة لدى العرب المعاصرين في كل مكان, وقد كان الأمر كذلك في الأندلس.فقد كان الشعراء العرب ومازالوا يكتبون في مصطلح تمكنوا من تمثله غريزيا ومن التفاعل معه على مستوى عاطفي كامل.
وهنا يرد السؤال في محله. هل الشعر الاندلسي فن "حدود"؟ هل يسعنا النظر إلى الشعر الاندلسي الرسمي بوصفه أدبا معزولا، ولد في محيط غريب, تتسرب اليه على الدوام نوازع حضارة مختلفة ولغة مختلفة؟ هل كان الشاعر الاندلسي يشعر بالولاء نحو أكثر من ثقافة واحدة, فينظر إلى نفسه وثقافته من خلال مفهوم متعدد الأبعاد؟ هل كان ذلك الشاعر يختزن ذاكرة شعرية فيها غير الشعر العربي, وهل كان يعاني من أزمة هوية؟ هل كان وهو يكتب يتخطى حدود ثقافته ولغته فيتداخل مع أية تقاليد مختلفة؟ وهو إذ كان يعيش في محيط ذي لغتين وثقافتين, أي نوع من الصراع كان يعاني وهو الشاعر المسلم, وريث تراث عريق من الشعر العربي ؟ هل أدى ذلك إلى واقع ذي مفهومين ؟ هل كان يحس بأنه مطوق فيشعر بحاجة إلى تكوين جبهة متماسكة؟
يبدو لي أن الأدب الاندلسي الرسمي لا يعكس إلا القليل الذي يشير إلى أنه كان أدب حدود ذا هوية منعزلة، بل يبدو أنه كان أدب كان كاتبوه يحسون بالاطمئنان في أوطانهم. ولأنه أدب مكتوب بلغة القوة، لغة البلاط والطبقات العليا المثقفة، فقد كان الأدب الأهم في المنطقة، يرتبط بالمسار الرئيسي لتقاليد الشعر العربي, ولا تظهر عليه اثار تلاقح مع اثنين أو أكثر من التقاليد الشعرية المختلفة، لا في جمالياته ولا في نظرته الأساس. ومع أن شعراء الاندلس كانوا يعيشون في محيط ذي لغتين وثقافتين,فانهم كانوا يكتبون بهدف واضح, لا يدعو إلى الشعور بوجود محاولة دفاعية من جانبهم للتوكيد على توجه ثقافي مختلف, أو التنافس مع أي أدب غير عربي في أي مكان.
إن اصطلاح "الأدب المنعزل " يجب الا يؤخذ على انه ينطوي على حكم قيمي, بل انه يشير الى وضع هذا الأدب ضمن حدود تراث ادبي اخر اكثر شمولا. فمثل هذا الأدب يعبر في العادة عن تجربة جماعية لا ذاتية، وهو شديد الارتبا!ط بالسياسة. ويطمح كذلك الى توكيد هويته باستخدام لغة "على درجة عالية من الانعزالية،" أي أنها تتضمن خصائص لغوية تعكس وضعها المنعزل. وإذ يستخدم الأدب مثل هذا اللغة "يغلب ان يلاحظ اتجاهان مترابطان : فقر في الأشكال اللغوية وفي تركيب العبارات وفقدان لبعضها، وفي الوقت نفسه توسع عجيب ذو اثار متراوحة.، وميل نحو المبالغة اللغوية والتفسير النثري").
إن انشغال الشعر الأندلسي بالصراع السياسي الخارجي مع "الاخر" وهم الاسبان في هذه الحالة، يكاد يشبه انشغال الشعر في المشرق بحروب البيزنطيين المستمرة مع العرب, كما احسن التعبير عنها عدة اجيال من الشعراء مثل ابو تمام (188/804 _230 / 845) والبحتري (205 / 822 / 284 / 898) والمتنبي (303 / 916 ـ 354 / 966). وبوجه عام لا نجد في الشعر الاندلسي الرسمي أي أثر لقلق سياسي لشعب منعزل ومحاصر، ومن المؤكد انه لم يكن أدب حصار في حاجة الى التكاتف – فقد كان الشعراء في الغالب في صراع بعضهم مع البعض الاخر، ومع الحكام في بعض الاحوال. وقد كان الشعر الاندلسي لا يختزن سوى ذاكرة الشعر العربي في المشرق, مؤكدا بشكل انتقائي او عشوائي على هذه الفترة او تلك, واحيانا على عدة فترات معا، فيدين بالولاء لذلك الشعر. وكان الشعر الاندلسينفسه مشربا بدرجة عالية من الحنين الى الثقافة الأم في المشرق, وعلى الرغم من جميع محاولات الكتاب الاندلسيين التوكيد على تفوق الابداع الاندلسي, فقد تخلف شعور كامن بالنقص تجاه المشرق. ولئن كان ذلك الشعر يكشف عن أية أزمة في الهوية، فان ذلك لا يقع الا في حدود موقفه تجاه المشرق نفسه, ولئن كان ثمة من علامة على "أدب حدود" في النتاج الأدبي الاندلسي الرسمي, فان تلك الحدود هي أصوله الخاصة، جدوده, لا الأصول الايبيرية. إن الجهد الأكبر للشعر الاندلسي يكمن في طموحه إلى البقاء ضمن حدود الشعر العربي الموروث, لا إلى تخطيها وألا يفقد، من خلال علاقاته الثقافية المزدوجة أيا من "الاشكال اللغوية والتركيبية" في أصوله الشعرية. والحق ان الخصائص الكبرى في الشعر المشرقي قد تم الحفاظ عليها بنجاح, ولكن كان لابد للجهد أن يتتبع كذلك محاولات دؤوبة في "المبالغة اللغوية" و،"التوسع المعبر" وفي ذلك التوهج والتصميم البالغ بعبارة فرانز كافكا الذي يميز أدبا يجهد دومالإثبات نفسه. غير أن هذا الصراع تهاوى أمام الموشح, وهو التجديد الاندلسي الحق, الذي يعكس ازدواجية اللغة والحضارة. وهكذا فقد تزامنت في الاندلس تجربتان شعريتان, الاولى تكاد تكون مستعبدة في ولائها نحو الأصل, مقيدة بمبادئه وافضلياته, والثانية تتكيف بشجاعة مع محيطها المباشر، وتعبر عن نفسها بتلك الاغاني المشذبة السهلة على ما فيها من تعقيد في الشكل,وجنوح في الاسلوب, وتحول في بنية الجملة والايقاع, ومغامرة في اللغة (ويكفي أن نجد في اختلاط العربية بلغة الرومانس في بعض الخرجات ما يصور هذا الفن المعقد) مما جعلها اندلسية بالدرجة الأولى. إن هذا التداخل العربي – الايبيري قد جرى،على ما يبدو، في سهولة ويسر من دون أزمة هوية ظاهرة، ربمالأن هذه الأشكال الشعرية قد ارتبطت مباشرة بالموسيقى، فاعتبرت منذ البداية من الشعر الخفيف الذي يناسب الغناء، ولم ينظر اليها على انها تنافسى الشعر الرسمي – وهو فصل بين الاصناف ما يزال قائما في العالم العربي حتى يومنا هذا.
ومع ذلك, فان ملاحظة ليفي بروفنسال الدقيقة حول وجود بعض الكلمات والتعابير الوعرة في الشعر الاندلسي تستحق نظرة خاصة في هذا المجال. ان القارىء الذي ألف الانسياب والتناغم في الشعر العربي المشرقي لابد له ان يلاحظ منذ البداية شيئا من الوعورة في اللغة، وعدم التناسق في الاسلوب,وميلا الى الغريب في كثير من الشعر الاندلسي. واحسب أن أحد الأسباب وراء هذه المظاهر أن الشاعر الاندلسي لم يكن شديد التمكن من العبارة الشعرية التي كان يمتلكها الشاعر المشرقي بشكل غريزي – لا بسبب ازدواجية اللغة التي سبق الحديث عنها، بل لأن الشعر في الاندلس قد عانى من انقطاع شديد عن تقاليده في المراحل المبكرة من الفتح الاسلامي لشبه جزيرة ايبيريا، ذلك لأن القادمين الجدد انصرفوا في البدء، الى بناء مجتمع اسلامي بكر واقامة طريقة في العيش والتعامل, ثم بعد ان أسسوا دعائم الحياة الجديدة غدا بوسع الثقافة ان تنتعش.وقد بدأ ذلك بدرجة محدودة في عهد اول امراء بني امية، عبدالرحمن الأول الداخل (الذي حكم من 138/ 756 ـ 172/ 788). ولكن على الرغم من اهتمام هذا الامير شخصيا بالشعر والثقافة (اذ كان هو نفسه شاعرا)، فان النشاط في هذا المجال بقي مترددا، حتى ان الشعراء الاندلسيين بعد جيلين أو ثلاثة لم يعد لديهم السيطرة التلقائية نفسها على التقاليد الشعرية الموروثة كما كان لدى نظرائهم في المشرق. ان مسألة الانقطاع عن التقاليد الشعرية تستحق نظرة فاحصة. وانا إذ لا أقول إن الأدب يسير حسب خطة تسلسلية حتمية تؤدي الى تطور في خط مستقيم منتظم فاني ارى أن الاستمرارية في الأدب غاية في الأهمية. إن التطور المستمر والمتوقع أحيانا للمدارس الأدبية والأنماط القائمة ليس هو الاتجاه الوحيد الذي لابد للعرف الشعري المتواصل أن يتخذه, فان ذلك التطور يمكن أن يعرف بشكل غير متوقع تحولات مفاجئة مثل تفرعات الأنواع الأدبية، أو تطرف غير منتظر في الموضوع والأساليب.. الخ ومع ذلك, من المهم ألا يحدث انقطاع في تواصل هذا العرف لأية فترة من الزمان, فلا ينفصل عن الذاكرة المباشرة لجيل جديد من الشعراء والكتاب.
لقد سبق للشعر العربي أن عرف مثل هذا الانقطاع مع ظهور الاسلام, عندما تراجع الشعر امام رفعة القرآن الذي انتزع اعجاب العرب بما فيه من نفيس الصفات الجمالية والأدبية. وعندما اتهمت قريش النبي الكريم بأنه شاعر مفتون, حمل القرآن على الشعر، حتى فقد الشعر منزلته الأثيرة خلال عهد الخلفاء الراشدين. إن هذا الانقطاع النسبي الذي دام أربعين سنة وحسب (انتهت عندما تولى الامويون الحكم وشجعوا الشعر والشعراء خدمة لاغراضهم السياسية) كان كافيا لبعض كبار الشعراء الأمويين الذين انتقلوا إلى دمشق وبعض المدن الجديدة مثل البصرة (التي بنيت عام 14 /636) والكوفه (التي بنيت عام 638/17) فأساءوا فهم بعض التقاليد الشعرية التي سبقت ظهور الاسلام. انهم, على سبيل المثال, لم يدركوا تماما بعض معاني الاعراف الصحراوية الرمزية او تلك التي تضمنت النماذج العليا في الشعر الجاهلي.فالتدهور التلقائي في فهم هذه التقاليد شديد الوضوح عند شعراء من أمثال الفرزدق (4 2/ 0 4 6 – 1 1 1 /729) وهو من اهم الشعراء الامويين, وهذا مثل واحد وحسب. اما الانقطاع في التواصل الشعري في بواكير الفترة التي اعقبت فتح الاندلس فقد امتد لفترة اطول في الواقع. مما نتج عنه اغتراب اكبر لدى شعراء فقدوا سيطرتهم التلقائية على العبارة الشعرية. ويجب ان نذكر انه عندما حان الوقت لانعاش الشعر في شبه الجزيرة الايبيرية، لم يكن للشعر العربي في الاندلس اي جذور مباشرة يعود اليها،لكنه في المشرق, عندما اعاد اليه الامويون اعتباره السابق, سرعان ما بدأ بالتطور في المراكز الكبرى لدار الخلافة، واستطاع الشعراء أن يستحضروا ذاكرة شعرية غنية لم تكن غائبة تماما،بل كانت مغيبة الى حين, كانت بعض الاشارات الرهيفة قد ضاعت عند الشعراء، لكن الذي لم يضع هو تملكهم للعبارة الشعرية العامة نفسها، لذا غدا بمقدور الشعراء ان يستمدوا قوة وطلاقة من هذه العبارة الشعرية التي وجدوها كاملة بين ايديهم وكانوا يحاولون دائما، في الوقت نفسه, تكييفهالتلائم طريقة الحياة الجديدة، والواقع ان الشعر غدا بالغ النشاط في الفترة الاموية، لانتشار استخدامه : لا سلاحا سياسيا بيد الخلافة وحسب, بل مصدرا رئيسا للمعرفة اللغوية كذلك,يتطلبه علماء اللغة والدين, حتى غدت الحصيلة الشعرية المتراكمة في المشرق تتنامى مع الزمن. اما في الاندلسى، من ناحية اخرى، فان الادب والشعر قد انقطعا قليلا عن اصولهما، ولم يحفل بهما كبار الادباء في المشرق. فمراكز الأدب في المشرق,حيث ينشط اكابر الشعراء والنقاد، ويحتدم الجدال حول الابداع الشعري, كانت مراكز قصية، منشغلة بما يتكاثر فيها من انتاج, وغير معنية كثيرا بالنشاط الأدبي في الاندلس, حتى عندما صار ذلك النشاط مرموقا. ان قراءة الشعر الاندلسي تحمل على الاحساس بان ذلك الشعر كان يخضع طوال تاريخه لصراع كبير، فهو شعر ولد من تراث عظيم لكنه انفصل عنه مكانيا، وبقي يحن اليه بشكل بالغ وان كان يعاني في الوقت نفسه من مشاعر العداء البسيط ايضا، اي ان علاقته كانت علاقة حب وبغض معا، وقد انعكست في ذلك الجهد الدؤوب الذي ابداه الشعر الاندلسي لكي يتفوق على نظيره المشرقي, وهو ما يفسر الميل لدى كثير من الشعراء ان يعودوا الى جذور اللغة،ويحاولوا جهدهم الاحاطة بالشوارد والأوابد والغريب في اللغة،وما فيها من مفردات غير مألوفة وقواف نادرة.
ولكن يجب ان نسارع الى القول ان هذه العزلة قد خففت منها الاتصالات الشخصية، وتبادل العلماء والشعراء واستيراد الكتب, وقد جرى ذلك كله على نطاق واسع, وخصوصا منذ نهايات القرن الثالث للوجود الاسلامي في الاندلس, ويعزو الباحثون اهمية كبرى لاقامة ابي علي القالي في الاندلس, وما حمله من كتب, وما يقال عما نشره من معرفة أدبية. فقد وصل القالي الى الاندلس عام 330/ 941، ربما، حسب ما يرى احسان عباس, بناء على دعوة من الحكم المستنصر عندما كان ولياللعهد، وكان القالي مايزال في الاندلس في عهد الحكم (350/ 961ـ 366/ 976) الذي كرمه وعامله باحترام بالغ (وقد كتب القالي للحكم كتابه الشهير الامالي في الزهراء) ويبدو أن وصول القالي كان يمثل نهضة في الدراسات اللغوية والأدبية في الاندلس… وأثر القالي في الاندلس بحاجة الى دراسة مستقلة… ولكن يكفي ان اشير هنا الى كثرة ما هاجر معه من كتب الى الاندلس, فيها من الدواوين عدد جم وبخاصة دواوين الجاهليين والامويين والمجموعات الشعرية الهامة كالمفضليات وشعر الهذليين والنفائض, فما ادخله من دواوين الشعر؟ شعر ذي الرمة وعمرو بن قميئة والحطيئة وجميل! (ابن معمر) وابى النجم والنابغة الذبياني وعلقمة بن عبدة والشماخ والاعشى وعروة بن الورد والنابغة الجعدي وكثير عزة والاخطل. وغير هؤلاء كثير.
كان الحكم المستنصر راعيا للثقافة في شتى فروعها، فقد جلب اعدادا كبيرة من الكتب الى المشرق (ويقال انه كان يمتلك مكتبة هامة تضم اربعمائة ألف مجلد)، وكان متحمسا في تشجيع الحياة الثقافية الناشطة، يدعم الشعراء والعلماء،ويكلف هؤلاء شخصيا بتأليف الكتب, موجها أكثرها نحو الأدب والحياة الثقافية في الاندلس, معبرا بذلك عن روح وطنية اندلسية اصيلة، ورغبة في توكيد الثقافة الاندلسية نفسها،اضافة الى التنافس مع المشرق العربي.
من الواضح إذن ان الشعر الاندلسي لا يكشف عن أي تسرب فعلي من اللغات الايبيرية المحيطة به (والواقع أن الشعر العربي له تاريخ من التماسك الشديد والمقارنة، مما وفر له الحماية والاستمرار)0 ان الذي يضعف الشعر هو التفكك في بنية جمله,والضعف في تراكيبه, والتغريب في عبارته الأدبية، واضطراب في منطقه التلقائي, والأمر الأخير يرتبط بالنظرة الاساس الى العالم لدى شعب بعينه, لكن هذالم يحدث للشعر الرسمي في الأندلس, الذي تميزت لغته بالابتكار غالبا، وبالجزالة دائما، ولم يكن فيها ما يدل على ضعف اساس. ثم اني أرى أن التراث الشعري في الاندلس, إن لم يكن غريزيا قدر ما كان عليه الشعر في المشرق, فإنه لم يكن عميق التأثر بنظرة مختلفة إلى العالم,كانت لدى المحيطين بالشاعر من غير المسلمين, فقد بقيت المتطلبات الموضوعية في الجيد من شعر المشرق على حالها، مع ما يتبع ذلك من نظرة إلى العالم. فقد ظهر الكثير من شعر المديح, كما استمر الفخر والهجاء، وشعر الوصف, وهو العنصر الرابع الذي اعتبره النقد المشرقي اساسا في الشعر الجيد، تكاثر هو الآخر في تطور مبدع.
وربما كان أهم جنوح للشعر الاندلسي عن مسار الشعر في المشرق هو ضعف عنصر الحنين فيه بالقياس الى الشعر المشرقي – ويتضح هذا النقص حتى عند شاعر شديد التعلق بالقديم مثل ابن هانيء, بالرغم مما يفعم عبارته من حماس لميوله الشيعية (وهو ما يؤدي دائما الى تسرب عنصر من الحنين العميق الى شعر الشيعة في المشرق)0 ان طبيعة هذا الحنين في طبيعة الشعر التراثي نفسه, يتغذى من حياة التنقل في الصحراء، من وحدة الانسان وما يحكمه من فراق, من فقدان مفاجىء لأشياء عزيزة على القلب : العزة والحرية بعد هزيمة في غزوة مفاجئة، الحب, الاشياء الحميمة. وكان يحفزه كذلك التنقل الدائم المرهق في المنازل, بفعل الترحال والانتقال في طلب الكلأ. ثمة صوت معذب في الشعر العربي القديم, فيه تمزق ومعاناة، وارتعاش على حدود الحياة والموت, دائم الوعي بتقلبات الزمن, بمخاطر الوجود ومخاوفه. لكن شيئا من هذالا يصدق على الشعر الأندلسي, على كثرة الحروب والاضطرابات.وعندما حلت المآسي في القرن الخامس / الحادي عشر وبعده,وعم اضطراب مفاجىء لا تفسير لأسبابه في وجود كان ينعم بالعزة والاستقرار، استجاب الشعراء للأمر بأساليب واضحة المعالم. ويصف ابن شهيد التفكك والكابوس الذي نزل على قرطبة أيام الفتنة بين الأعوام399/ 1009ـ 422/ 1031، ويندب ابن اللبانة أفول نجم صديقه القديم وراعيه الملكي المعتمد بن عباد، ويكتب الرندي مرثاته الكبرى حول ضياع قرطبة، لكن أسى هؤلاء الشعراء ملموس, محدد وشديد الوضوح في ما يشير اليه, يرتبط بموضع الرثاء المحدد، ويتجه الحنين فيه نحو حدث أو مكان معين. اما في المشرق العربي فقد تبقى في الشعر صوت صحراوي شجي, مثل ناي وحيد،ومازال فيه حتى هذه الأيام, لا في الاغاني الشعبية في جبال لبنان وحسب, ولا في بطاح الأردن وكثبان العراق, بل حتى عند شعراء الطليعة المعاصرين. ثمة الكثير من الحنين والحزن يسري في تضاعيف الروح العربية في شتى مظاهرها. والواقع ان الروح العربية طالما غيبها الحنين واستعادتها الذكرى. لماذا لم يكن الأمر كذلك في الاندلس ؟ احدث ذلك في المشرق العربي بسبب استمرارية التقاليد الشعرية الى جانب التقاليد الاجتماعية، والتواصل غير المنقطع في الموتيفات منذ العهد الاموي؟ أكان السبب أن الذاكرة الاندلسية قد أصابها انقطاع كامل عن حياة الصحراء وروحها المهيمنة، إذ كان أغلب الشعراء مرتبطين بأسلوب حياة حضري ؟ أكان السبب ان "اللذة" كانت مطلبا يمكن نواله عادة في مدن الأندلس المزدهرة،التي كانت تزخر بالجواري والغلمان.
الى جانب أنواع أخرى من اللذة ؟ مهما يكن السبب, فانني لا اجد في هذا الشعر لوعة الروح, وضيعة نفس الشاعر، والعطش الذي يبقى أبدا دون ارتواء. والكثير من الشعر الاندلسي هو شعر ارتواء وشبع وقناعة، شعر فراغ وراحة لدى شعراء انغمسوا في فن الوصف الدقيق لتجارب خارجية، كما نرى في فن الربيعيات الزهريات الذي انتشر في الاندلس انتشارا واسعا. كان في المشرق شعراء حضريون مثل ابن المعتز ( 249 / 861 – 296 /08 9) والصنوبري (المتوفي عام 324/ 939) قد كتبوا هذا الشعر ايضا، لكن الشعر العباسي,بما فيه شعر هذين الشاعرين, ينطوي على مسحة غير خافية من الحنين – ويصدق هذا حتى على أصلب الشعراء عودا، ابو العلاء المعري (947/363 – 58/449 0 1). ان الذي نلمسه مباشرة في الشعر الاندلسي هو هذا الفرح الخالي من الميوعة،وبهجة بالحياة تكاد تكون وثنية. والواقع اننا نجد مثل هذا عند المشرقي ابي نواس (141/760 – 200/816) في اشعاره عن الحب والخمر، لكن في شعره اندفاعا أكثر، وحماسا أشد،وبهجة بالحياة أعمق تكشف في الوقت نفسه عن رؤية وجودية أبعد غورا، وادراكا أشد دقة لما في الحياة من خديعة، وتشاؤما جعله يحس بتربص الموت في مطاوي المجهول, حتى غدا فرحه في النهاية ممزوجا بهذا الادراك. ان محاذرة الميوعة العاطفية في الشعر الاندلسي تسترعي الانتباه فعلا، لكن احساس الشاعر بالحرمان حتى في لحظات الحب, وهو احساس ينبع من ادراكه الداخلي العميق بالتغير الدائم في الحياة، لا وجود له اجمالا.
سلمى الخضراء الجيوشي (شاعرة وناقدة واستاذة بجامعة كولومبيا-نيويورك)