على الرغم من محاولة الناقد فخري صالح – المسؤول عن أعمال الشعر والنقد في مهرجان جرش . في اعتماد طريقة اختيار حاول من خلالها تمثيل خارطة الشعر العربي المعاصر. وتوجيه الدعوة لشعراء من اجيال متعددة وأصحاب أشكال كتابية تتعدد ايضا. غير ان هذا كله لم يجعل أمسيات الشعر تمثل لحظة تكثيف للانجاز الشعري العربي، ولا استطاع الشعراء ان يقنعوا الجمهور غير القليل بأن ثمة مختلفا سيصغون اليه ولحظة اكتشاف مؤثرة للوجدان سيكونون في مدارها.
الشعر بغالبيته جاء محافظا وان ذهبت بعض أشكاله الى المغايرة والاختلاف ولم يتخلص من نبرة خطابية ولا من ميل لاظهار الذات الشاعرة بوصفها نبوءة الانقاذ ، كما جلدنا بها العديد من الشعراء. النبرة الخطابية توافقت في قراءات بعض الشعراء مع ذاتهم المفرطة في علوها فجاءت تكثيفا لكارثه في معنى الشعر وجدوى كتابته كخطاب فقد اصبح لدينا من الشعراء عدد لا بأس به من الذين يتمنون التحول فعلا الى سلطة موازية تقدم خطابها موثقا لهدي من خرج عن سواء السبيل .
قصائد في الوصف ، في الهجاء ، وهل تريد في الحماسة فهي موجودة أيضا، ما الذي يجعلنا نختلف هنا عن (أغراض) الشعر العربي القديم ؟ قصائد تحيلك الى ما هو متوقع ، بل الى استرسال تأتي به الموسيقى التقليدية والتقفية وتجعل المتلقي النابه يتدخل ن تشكيل المفردة التي تكون أخر البيت بل آخر القصيدة ! شكل قصيدة التفعيلة كان هو السائد في القراءات . وايهامات الصوت هنا وموسيقى الوزن ، بدت عند أغلب الشعراء وكأنها عدة الصانع الاكثر حضورا فيما بهتت محمولات القصائد نتيجة الاشتغال بالوسائل وتلميعها. وحتى من كنت تجده وقد أجاد كتابته ضمن هذا الشكل ، بدا عند حدود مستوياته ان لم يكن دونها آخذين بنظر الاعتبار بعض المستوى المفقود نتيجة ضعف التوصيل في القراءات المباشرة أمام الجمهور.
أشكال كلاسيكية حضرت الى جانب أخرى حفلت بمغامرة نثرية ، بعضها ذهب الى مطولات وأخرى بمقطعات احتفت بالصورة حد تكثيفها لغويا في لقطة !
أسماء حضرت اعتمادا على قوة تأثيرها الاعلامي وأخرى حاولت ان تحفر تأثيرها في النص . أجيال متعددة مع وفرة للستينيين والسبعينيين ، ظاهرات شعرية على حدة تمثلت بمحمود درويش وسميح القاسم وتلقي شعرهما وسط حالة تعاطف جماهيري لا يمكن اعتماده مؤشرا لتصاعد شعرية النص أو نجاحه في تخطي عقبة الاتصال .
من تقول عليهم مخلصين لروح التجديد الشعري. ساندك منهم وخذلك منهم ايضا . فيما تجد بعض المفاجأة من جهة آخرين ، حيث تكون في موقع الانتظار لمن يأخذ بك مبهورا ببصمة تكوينه ويجعلك تنصت اليه باهتمام لافت مثيرا فيك حيوية ما. حيوية وقع المفردة عندك وحيوية في تنشيط الذهن والروح معا. وقيما حفلت غالبية القصائد بمناكدة للوقائع المعاشة لكنها تميزت بثلاثة اتجاهات في العلاقة نصيا مع تلك الوقائع ، منها وهو الاول ما تماهى مع تلك الوقائع وأقام معها بنى انتقادية في اللغة ، وآخر ما وجد في أناه المتصاعدة حدا لتضخم صورة تشع بأقصى غرائبية وفي أقصى اختيار للعزلة عبر اللغة . فيما جاءنا ولو قليلا اتجاه ثالث أقام مقابلات نصية مع وقائع سنواتنا المجنونة ، دونما فخامة خادعة ولا مبالغة في الشكل الذي بدا منخرطا كما هي المصائر التي تأخذنا اليها وقائع تلك السنوات . في الاتجاه هذا ثمة توصيف لشعرية النص ، أقصى فسحة ممكنة للدلالة عبر لغة مقتصدة غير معتادة في التداول وقادرة على التوليد المتكرر للصورة . الصورة التي عنفها بقسوة الكثير من الشعراء العرب في قصائدهم .
كل هذا الشعر سجال نقدي:
شعر كثير ، وانماط كتابية مختلفة وأجيال متعددة مع كل هذه الوفرة والاختلاف . لكننا لم نجد لقاءات نقدية تقرأ في النصوص وتراجع الانماط الكتابية وتحدد في شعريتها! لا ادري لماذا لا يتم اعتماد طريقة التقديم النقدي للشعراء أي ان تتم مراجعة النصوص قبل ايام من الامسية من قبل ناقد ما وكتابة ملاحظات نقدية يقدم بها للشعراء بدلا من طريقة التقديم الاجتماعي والتي حفلت بها الامسيات وبالغ فيها المقدمون – حد الضجر – بتضخيم أنوات الشعراء. أو أن يتم اعتماد طريقة تقديم اكثر من قراءة نقدية في جلسات صباحية تلي قراءات الاماسي ويتحاور من خلالها النقاد ، الشعراء ومن له (غواية) من المتلقين فهذا ادعى للفائدة واكثر اثارة للحوار والسجال وهو مؤشر حيوية تفتقد نتيجة تلك الالقاب المجانية التي يوزعها مقدمو الامسيات دونما جهد.
ومحاور النقد لمهرجان الشعر في جرش 1995، خصصت بأكملها للموتى/ الاحياء فهي للتأكيد عل مآثر السياب ، خليل حاوي، أمل دنقل وجبرا ابراهيم جبرا الذي تنوعت مآثره بتنوع قدراته ، روائيا، شاعرا، مترجما وناقدا، تنقيب النقاد في مآثر الراحلين لم يأت بالجديد والمغاير عن التعريفات والتوقعات التي عرفت على نطاق واسع نتيجة لما تم تداوله فيما سبق . هنا لا يمكن اغماط حق جهود النقاد فخري صالح ، سعيد الغانمي في دراستيهما عن السياب والناقد الدكتور صلاح فضل عن أمل دنقل ، والدكتور محمد عصفور عن جبرا ابراهيم جبرا شاعرا. فيما ذهبت بقية المساهمات في باب العرض العام ، لا منهجية حديثة ولا صرامة بحث تقليدية . اكاديمية تبدو متأثرة بوسائل بحث جديدة لكنها تقترب في ذائقتها النقدية من تقليدية واضحة ! فبعد كل الذي نسمعه ونقرأه ونتحاور فيه من قرائن البحث النقدي الجديد وكشوفات النقد المعرفي وتطبيقاته ايضا. نجد من يكتب لنا في تعميمات مدرسية وانشائية مقالاتية لا تكشف ولا تعلق ولا تحرك ساكنا.
وكي لا نظل نعيد حكاية عنايتنا متأخرين بالمبدعين / دائما وهم ميتون ! لابد من تنظيم حلقات نقدية عن حداثيين في الشعر العربي لم يزلوا دائبين على جهدهم ، عن اشكال كتابية تعدد في شعرنا اليوم ، عن الشعر في عصر وسائل الاتصال الحديثة ، عن الشعر والتلقي، عن الشعر والنص كشكل كتابي…الخ من الموضوعات التي تفرض وجودها اثناء اشتغالنا في حقل الثقافة بقوة. لا ان نستعير محاور تبدو غير فاعلة أو مؤثرة .
وبقدر ما سجلنا على مهرجان الشعر والنقد لم جرش 1995، بقدر ما سجلنا له ايضا ، فهو لحيويته في اثارة العديد من القضايا التي تهم مسائل شعرنا العربي المعاصر أخذ منا الوقت في المتابعة طوعا ومن ثم في المراجعة هذه . كل هذا يأتي أصلا من توق شديد لممارسة العناء الشعري الذي لولاه لاصبحت الحياة وكأنها نائمة كما يقول الشاعر اليوناني تيتوس باتيركيوس .