رانية العرضاوي
ناقدة وأكاديمية سعودية
تأتي أُحجية تلاقح التاريخي مع الشعري صعبة الحَلّ، فهنالك التقفي وراء دَعية: «الشعر ديوان العرب» الحاكمة بمُطلَق تاريخية الشعر العربي، ورميه بوَسم السّجْل الموثوق برشاء يجرّ حكايات الأجداد من بئر لم تمرّ به سيّارة دون أن تلقي فيه بِدَلْوها، ثم تتّسع حدقة العَين البصّارة كلّما قرأت طوالع الشعر، وخواتم القصائد، متلمّسة ثنايا الحكاية، وشِعرية الرواية، لتصل إلى أنّ الشعر أعلى من لفّه في قارورة التاريخ وإلقائه في بحر التأويل الواقعي القارّي الذي يحمّله حمولة الحقيقة والحقّ. وتعلن المواجهة الفاحصة مع نمطية التأويل التاريخي للشعر، ومآل اللمز والهمز بما في بطن الشاعر، خالعة عباءة الحِشمة في التسليم، سافرة عن وجه آخر للتاريخ في بطن الشاعر وشيطانه الملوّح دائما بعيدا عن صِدق الرؤية.
ولم يكن في حسبان الشاعر المعاصر أن يتخلّص من هذه الوصلة التاريخية التي أجاد زمرة من النقاد والدارسين ترديد موّالها على مدار عقود طويلة، حتى أعلن القارئ أنّ المقام مقامَ حضرةٍ لَعِبَ الخيال فيها بعصا التاريخ الموسوية، وقلبها بكل يُسر إلى عصا سليمان التي وارت حقيقة الموت عن الجن والإنس، حتى ثقبت حجابها الأرَضة الناخرة لتصنع منها التابوت الأول للحقيقة. وهكذا كان إعلان الشعر المعاصر هو الأرضة التي تخلت عن السكون، ومثّلت سطوة الصورة ونداء التحرّر من روَى وحدّث الشعر، ولبّى أبناء عبقر هذا النداء بلا تردّد، وكان الخليج رافدا بزمرة من المخلِّصين الذين سجّلوا شعوذة شعرية أخضعت جلمود التاريخ، ولان بين يديها ولاءه للحقيقة، فكانت «الشعرنة التاريخية» بدلا عن «ديوان العرب».
الشعرنة التاريخية والصورة الشعرية
إنّ من يسبر أسفار الشعراء الخليجيين المعاصرين، يقنع من أول سبر بأنّ التاريخ هنا يفوح، لكنه فَوح محمّل بحمولات أخرى غير الواقعة والوقيعة. إذ يتأذّن في مدّه بمفارقة الجمود المروي، ويتلملم تجاه فسحة «الشعرنة التاريخية». ويُعنى بها تحرير التاريخ من سَمْتِ الوظيفة التحقّقية المعتمدة على المقاصد المعلَنة أو الضمنية التي تُولد في محضن الحكم التأريخي الذي أعلن «فرمانه» الانتقاء والتقصي المسنَد إلى المؤرّخ. فكما أنّ التخيّل التاريخي في السرد نجح في جعل «الروائي الموظِف للتاريخ متحرِّرا من كل سُلطة مسبقة» كما يقول جمال بندحمان (سيمياء الحكي المركّب، البرهان والعرفان، 2015، ص215)، فإن رؤية الشعرنة التاريخية تحمل ذات التأويل ونفس البوصلة. حيث يصنع الشاعر من المادة التاريخية صورة شعرية لا تؤدي وظيفة نفعية توثيقية أو وصفية، بل تشكّل وجودا جماليا، يعلن التمرد على الحقيقة التاريخية، بل وتتشبع هذه الصورة بطاقات إيحائية عبر السياق والنسق الذي تركزه بوتد الخيال. وهنا، تنهار أوتاد التاريخ الثابتة في رواياتها المحكية بين سرود الوثائق، ويحل الخيال عبر الصورة؛ لتتكوّن الشعرنة التاريخية المنفتحة على التعالق بين الشعر والتاريخ، دون أن تحرم الشعر من حق تأويل القارئ، أو تحوله إلى مدونة وثائقية أرهقت أسماع القارئ المعاصر بحمولاتها التاريخية التقليدية.
وحتى تتضح الشعرنة التاريخية أكثر، لنضرب بِوَدع من مثال، يقول الشاعر غازي القصيبي -رحمه الله-:
أجل أجل نحن الحجاز ونحن نجد هنا مجد لنا وهناك مجدُ
ونحن جزيرة العرب افتداها ويفديها غضارفة وأُسدُ
ونحن البيد راياتٌ لفهد ونحن جميع من في البيد فهدُ
ونحن شمالنا كبر أشمّ ونحن جنوبنا كبر أشدُّ
ونحن عسير مطلبها عسير ودون جبالها برقٌ ورعدُ
ونحن الشاطئ الشرقي بحر وأصداف وأسياف وحشد
يظهر من الوهلة الأولى لقارئ النص أنّ الأبيات تحكي عن المملكة العربية السعودية، ومجدها العريق الممتد بين الحجاز ونجد، والشمال والجنوب، وعسير والشرقية، بل الجزيرة العربية التي تشكل المملكة العربية السعودية أكبر مساحة فيها. فيقدم النص صورة (خارطة) الوطن السعودي بتفصيل أسماء مناطقه الأصيلة التي عرفها التراث منذ القدم، مع تمثيل تام لصورة القوة والشدة والإباء التي تضج بها القصيدة مع قرعة القافية الدالية التي زادتها الضمّة معنى الالتئام الكامل بين كل أجزاء الوطن السعودي، تحت راية خادم الحرمين الشريفين -آنذاك- الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله-. هذه الصورة توجّه خيال القارئ صوتا وتفصيلا وإجمالا، وتلفته إلى عظمة هذه الأرض وقوتها بكل تأكيد يضج من أول كلمة (أجل أجل نحن)، دون أن يكون هنالك أي تلميح أو ذِكر للمثير التاريخي (خطابات صدام حسين في حرب الخليج عام 1990) الذي تسبب في كتابة هذه الأبيات. مما يحرّر النص من ظرفية التاريخ، وسجن الحدث، ليغدو نصا ممتد الزمن في صورته الثابتة، وفي قوة معناها. إنها الشعرنة التاريخية التي مارستها الصورة دون أن تسمح للتاريخ بشدها إلى الحدث التاريخي الذي كان وراء النص مثيرا للشاعر الوطني العظيم: القصيبي. ولعلّ عصيان الصورة على التوثيق الصارخ للحدث طوّع النص للتحرك في عالم تأويل ممتد، وتلقٍّ جعله يتحرك تجاه التأثير على القارئ في كل زمان ومكان يتلقى فيه وطنية النص من خلال صورته التي وظفتها الشعرنة التاريخية، إذ حفظت للنص معناه وحررته من جمود اللحظة التاريخية، ونقلته إلى رحابة الصورة التي تقبل التأويلات والقراءة مع بقاء الأصالة والمعنى الوطني فيها.
الشعرنة التاريخية ومجتمع
الفُرجة والاستعراض
لا يغيب التاريخ غيابا تاما عن مولوية الشاعر الخليجي فيما نسميه بالشعرنة التاريخية، لكن حضوره هو حضور الخرقة الحمراء التي يلقيها الشيخ على قارعة طريق المريدين، ولكل مريد طريقة، وليس للشيوخ هنا حق الطاعة أو الاقتداء. إذ تستجيب الشعرنة التاريخية للمتغيرات التي لحقت بالمجتمع الخليجي، والشاعر الخليجي طرف في هيكل التغيير الذي أحاط إيجابا وسلبا، كعادة كل تغيير مجتمعي أفرزته موجات التغيير العالمية لطبيعة الحياة وطوارئ العصر. ولعلّ الجمهور المتلقي للشعر الخليجي هو المتغير الأكثر تموجا وتبدلا، إذ يظهر هذا الجمهور في استجابة عالية للسيولة المعرفية التي تغرق الإدراك الجمعي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وقنوات المعرفة السريعة عبر شبكة الإنترنت وغيرها من الوسائل الجديدة. وهو ما يجعل الجمهور في تلقيه يتموضع موضع الماسح الضوئي السريع، يلتقط من كل ما يمر به ثمرة، بما فيها من نضج وبِرّ أو فساد كامن. وهذا بطبيعة الحال انجرّ على الذائقة الجماهيرية بشكل عام، وألبسها ذائقة الفُرجة.
ومن ثمّ، صارت الفرجوية هي السمة التي يتحسّس المتلقي المعاصر منابتها، إنه المعتاد على الحركة، واللقطة، والصورة، والنغمة، والكبسولة المعرفية. فأحيا طقوسيّته الأولى التي كان يضجّ فيها بشعائرية فرجوية احتضنتها الديانات القديمة، والمسرح البدئي للفن والإنسان. وهذا الأمر صعّب مهمة الشاعر الخليجي في إحداث الدهشة المنوطة بقوة الصورة وجمالية أصالتها الحلمية المتجددة. ولمّا يكون التاريخ مادة الثبات والتقادم مصدرا رافدا للشعر الخليجي، تكون الشعرنة التاريخية هي الحل الفرجوي المناسب لتكوين الدهشة الشعرية المرجو حضورها لدى المتلقي الخليجي. إذ يوظف الشاعر الخليجي الشعرنة التاريخية لإحداث الموقف الفُرجوي، حيث تتحرك ثوابت التاريخ وتتغير رواسبه الثقيلة، وذلك في نسيج شعري تخييلي يسعى لإرضاء المتلقي الفرجوي، ويسمح له بمتابعة اللحظة الشعرية، خاصة مع وجود تحدي قوة الرواية وسطوة السرد. ومن أمثلة الشعرنة التاريخية الفرجوية قول الشاعر الكويتي دخيل الخليفة:
وحيدًا أتنفس
وجوه الآخرين
.. كل ليلة أخسر ضحكة
أهدي وردة للجدار
.. وحيدًا أقدم
القهوة المرة لضيوفي
وأشربها
حينما تختفي ظِلالهم
إذ يظهر في النص الاتكاء على صورة تاريخية جمعية تدغدغ المتلقي الفرجوي، إنها صورة الكرم والقهوة المرة، إذ تنعقد الصورة في حركة سوريالية ترفع وتيرة التلقي تجاهها، حركة النفس، وعبور الوجوه، وتقدّم الذات، وهنا تكون لحظة يطل من خلالها تاريخ طويل للضيافة ومجالس القهوة ودقة الفنجال ودفء الضيافة والمضايفة، وهو ما يسمح بظهور الصورة التاريخية الأثيرة على المجتمع الخليجي، صورة البداوة التي يفخر بها كرمه، ولكن الفرجة تسوقها إلى دراما مسرحية تعطّل الاعتيادية التاريخية الجامدة، وتميّع بشعرنة التاريخ حال الضيف والمضيف والفنجال إلى صوت الأنفاس الوحيدة، وهو ما يغير منظومة الضيافة من حالة جمعية إلى حالة فردية تهاتف تاريخا تبدّل في زمن المتغيرات التي يضج بالذاتية والفردانية.
وليس هذا فحسب، بل تمتد يد الفُرجة وتتضافر مع الشعرنة التاريخية لتقف مجهدة بين يدي الاستعراض الذي يغدو يوما بعد يوم سمة لكل فنّ، والشعر ليس بريئا من ذلك. والاستعراض هنا هو تلك الحالة التي تقشع عن النص حريته، وتربطه بالسوق والطلب، والرائج المستحسن من المتفرجين، هو موقف يبغض انفلات الصورة من تجذر السطوة الجماهيرية، ويذكّر بحال أصحاب المعلقات والنقائض والموشحات عندما استجابوا لنداء الاستعراض آنذاك، استعراض القدرة اللغوية، والمكنة الشعرية العمودية، والاستثارة الجماهيرية الموقدة لاستجابة الجمهور من قدح زناد القفز فوق العادي إلى المخترق للمتوقع الاعتيادي. لكن الشعر الخليجي لن يقفز إلى قمم الأدب الرفيع، بل سيتعمق مستعرضا جذور التاريخ بشعوذة الشعرنة التاريخية، وذلك عبر التصوير الاستعراضي للمعرفة، المعرفة السائلة الفائضة على آذان الفرجويين، معرفة الحكاية القديمة والأسطورة العتيدة، التي نبتت في أرض التاريخ، من ذلك قول الشاعر العماني سيف الرحبي:
وروت القابلات حكايات عن طفولتهم
ونائحات الخرافة بالأجرة
حكايات بددها النسيان
وبقيت مِزَقًا كالأجنة الميّتة في الأرحام.
حكايات ليست عن قوم عاد وثمود ولا قوم لوط ولا
أساطير سدوم وعمورية العامرة بالرذائل والفسوق
وبطر الثروة حين تنطلق من عقالها بعد جذب وقحط
ورياح سموم هوجاء. ليست حكايات الأقوام الغابرة
ولا تلك المقبلة من القرن الأربعين وعالم النجوم.
حكايات الطفولة البسيطة التي ذهبت بددا
وعاث جنباتها التلف والخراب
أرض بوار
وفيافي ينعق فيها الغراب.
ويظهر هذا المقطع من النص استعراضا عاليًا يمنح جمهور الفرجة مساحة واسعة من الشعرنة التاريخية، إذ يتلو سِفرًا من أعلام تاريخية، يحمل كل منها حكاية ذات مسحة حركية ودرامية عالية، وترتبط بالحالة الراهنة وفق النص، حال الإنسان المعاصر الذي يناهض البقاء على هويته، لكنه موكول إلى مشاهدة خراب العالم، منصت إلى صوت الحياة المختنق في أهوال الموت والدمار. والمقطع هنا يرسم لوحة كاملة، من السهل جدا تأديتها على مسرح مكشوف يجمع بين جمع غفير ومسرحيين متشحين بأسبال التاريخ البعيد. إنها صورة تستعرض قدرة النص على المتابعة للهاث المعارف، واستحضار الرموز والوصل مع زمن قد ظن المتلقي بأنه بعيد، لكن النص بشعرنة التاريخ استعرض رموزا ثقيلة الحمل بحكايات طويلة ينفق السرد في تفاصيلها كتبا وكتابات.
بلا خاتمة
إنّ الشعرنة التاريخية تبوح بلا احتشام عن بقاء التاريخ رافدا للشاعر الخليجي، لكنها تخضعه لوجود مختلف، موظفة أدوات الصورة والفرجة والاستعراض وغير ذلك، لتواجه تحديات المعاصرة العابرة للحداثة، والكاشفة عن خطورة موقف الشعر الخليجي اليوم، إنه يقف موقف الطالب الكفيف وسط درس ألوان شيطانية وملائكية، يسأل عن التفريق بينها بدون معونة برايل. ليس سهلا البتة أن يحافظ الشاعر الخليجي على أصالة صورته ومتانة نصه في وجه الشعرنة التاريخية، لكنه في الوقت ذاته أمام فسحة من إبراز القوة الشعرية وبقاء نوع الشعر أمام كل الانقراض الإنساني للثقافة البشرية، والرحمة التواصلية. ولعل فيما طرح هنا من نرد القراءة السريعة، وتأويل العبارة الشعرية دفع للباحثين إلى مزيد من التقصي في أدوات الشعرنة التاريخية التي أعلنت أن الشعر ليس ديوان العرب، بل هو صوت بقائهم، وعلامة وجودهم.
وهنا يتمثل حال الشاعر الخليجي عندي بما قاله الشاعر السعودي محمد إبراهيم يعقوب، وجعله على متصفحه الخاص بمنصة (X) وكأنه يرجو من الدنيا والمتلقي وصخب التاريخ وجنون الشعرنة التاريخية شيئا من حفيف الرحمة، يقول:
نحتاج
من يحنو على أضلاعنا
ما كل روحٍ عن أساها تُفصحُ
رفقًا بنا يا وقت ..
إن لم تنتبه
لم يبقَ شيءٌ في الحنايا يُجرحُ !