يتسم المكان في الخطاب الشعري بخاصيات يتميز بواسطتها الشعر من أنواع وأنماط القول الأخرى. في مقدمة تلك الخصائص أن المكان الشعري من جهة أنواعه يتحول إلى مكان وإن لم يكن كذلك في الأصل وهو ما ندعوه بقابلية «التأمكن». وبهذه الخاصية تتداخل في النص الأماكن «المتأمكنة» أصلا بنظيرتها المتأمكنة شعريا. مما يجعل النص الواحد فضاء لتعدد الأماكن التي تتسم في تعددها بخاصية ثانية هي قابليتها للتشظي حيث يتحول المكان الواحد إلى كثرة، وهذا من جهة أنواع المكان الشعري.
رشيـــد يحيـــــاوي
كاتب واكاديمي من المغرب
(١)
ومن جهة ماهية هذا المكان وحقيقته نلاحظ وجود خاصيتين أخريين هما اتسام المكان الشعري بالتشتت والاختراق. فمن الصعب أن نحصر طبيعة المكان في الشعر لأنه عبارة عن شتات من الأماكن بحسب تداعيات الحالات والصور والمشاهد والأفعال والذوات. غير أن هذا الشتات يتميز بكونه مخترقا ببعضه حتى أن المكان يتحول إلى ضده أو يخترق به فضلا عن أن الشاعر يستطيع باستثمار لغة الاستعارة والمجاز والـمفارقة أن ينسب مثلا فعل المكان المائي إلى المكان الناري، وفعل مكان الموت إلى مكان الحياة…إلخ.
وإذا كان المكان الشعري يتسم بخاصيات التأمكن والتشظي والتشتت والاختراق، فإنه من جهة رؤية الذات لمكانها، نجد أن الذات تعبر عن قلق دفين ترى به مكانها معتبرة إياه مكان عبور لا يتوقف نحو حالات وأفعال وأماكن جديدة.
في ديوانه « انتماءات» ، كتب قاسم حداد مجموعة مقاطع ضمن نص بعنوان« أوراق الجاحظ الصغيرة» ضمنها مقطعا بعنوان رسالة:
لست منسجما
ولست قابلا للانسجام.
هذه الشذرة تصلح في رأيي أن توجه من المكان الشعري إلى متلقيه، وكأن تتمتها تكون بهذه الجملة: لستم منسجمين، ولستم قابلين للانسجام، فانظروا كيف تجدون انسجامكم وانسجامي. معنى هذا أن المكان في تمثله الشعري لا يأتي – ضرورة – على شاكلة المكان الأوقليدي المنسجم ذي أبعاد الطول والعرض والعمق. فالشاعر ليس مهندس عمارات وقناطر تأخذ حيزا في الأماكن المستقلة عن أجسادنا ظاهريا، ولكنه خالق صور أماكن ومضفٍ عليها قيم الترميز والتدليل الثقافي. وإذا كانت له عمارات وقناطر فهي عمارات الدلالة وقناطر التخييل. والشاعر أيضا كجل المتلقين للكون، ليس منسجما لأنه ليس واحدا، بل هو جملة الذوات التي تتلبسه حال الكتابة. وليس قابلا للانسجام بوصفه كينونة غير مستقرة على منطق وبرهان، بل هو ذات مترحلة في تقلب الإدراكات. وهذا ما يميز خاصيتي التشظي والشتات اللتين تطبعان المكان الشعري، وما يجعله أيضا منطويا على الرؤى العبورية الممتدة عبر لانهائية المكان.
القراءة الفاعلة تأتي في هذه المرحلة التالية مزدوجة بتلقيين: تلقيها للمكان الشعري وتلقيها للمكان المرجعي، ناظرة من ثم في الاحتمالات الممكنة لصور تنقل شتات الأماكن لانسجامها، وتشظيها لوحدة مهما كانت أنساق المفارقة والتضاد مشتغلة في التمثل الشعري للمكان.
في نص لقاسم حداد بعنوان « صوت»
جلست في غمدي/ فليس سلطان بني العباس أو مروان/ قضيتي/ فقلت يا وحدي/ فجاءني جيش وأغويته/ بمائي المغسول بالقند/ صرت كثير الجمر في عزلتي/ كأنني …/ كأنني وحدي.
نعتبر أن الدخول للغمد صورة مسكوكة لصفة من يستسلم وينقطع عن المواجهة الخارجية، وقد يبقى له الشعر الذي يخلق به مواجهات من نوع آخر. كما أن الدخول للغمد فعل مكاني بما أن الغمد أيضا مكان. الإضافة هنا كون السطر الأول يفيد أن الحلول في الغمد ليس حالة مستجدة، فالجديد هو الجلوس فيه. أما حال الدخول فقديمة. الانسجام يبدأ من تقابل الصوت مع الحلول في الغمد. فالصوت يتجه للخارج والغمد يتجه نحو الداخل. الصوت خروج من الوحدة والغمد تكريس لها. ثم إن المتكلم يعلن عن اللامبالاة تجاه الخارج السياسي العسكري (بمعنى أدلجة المكان) ، ويجعل من الداخل الضيق المحصور فضاء للجيش بقطع النظر عن رمزيته. الوحدة ذاتها تصبح فاعلا وحافزا للحدث. وبين دلالة الصوت الواردة في عنوان المقطع، وبين دلالة آخر كلماته تتشظى الدلالات المكانية حاملة لقيم الشك التي تشتغل في صيغة بؤرة لهذا النص بواسطة حالة مكانية هي الوحدة.
إن المكان الشعري الحديث لم يتغير على مستوى نوعيته فقط، بل تعدى ذلك أيضا إلى تغيير الوظيفة الشعرية نفسها للمكان داخل نصه. لقد تحددت شعرية المكان القديم بالذات في الإبدالات الممكنة لعلاقة الذات بالمكان، في حين بقي المكان نفسه في حدود معينة لوضعه المرجعي. أما في الشعر الحديث فطال التغيير هوية المكان والعلاقة به معا. لم يعد الشاعر يكتفي برصد صورة المكان أو التقديم التخييلي للعلاقة به. أصبح المكان إما عتبة لما بعد المكان من محتمل، أو مكانا إشكاليا يوضع موضع سؤال لا إجابة عنه. حيث يصبح المكان مكانا للا مكان. لأن علاقة الشاعر بالمكان الواقعي وخاصة المديني منه، هي في حد ذاتها علاقة تنابذ وتناف يتحول بها المكان في تلقي الشاعر له إلى هاوية فراغ وتيه. فكيف تنبني صورة المكان داخل الشعر؟ هذا ما سنعمل على الاقتراب منه مسترشدين بمقاطع شعرية مختارة على سبيل التمثيل:
لو نظرنا في هذا المقطع لأدونيس ضمن «أغاني مهيار الدمشقي»:
حول خطاي تبتكــــر
جزيرة من الحجـــــر
أمواجها مقيــــــــمة
وشطها على ســــــفر.
سنجده مقطعا مكثفا من حيث العلامات المكانية، فلا يخلو منها سطر شعري منه. ومنها: (حول، خطى، جزيرة، حجر، شرر، أمواج، مقيمة، شط، سفر).
إن هذا المقطع يتحدد شعريا بواسطة بنية طرفاها هما الذات المتكلمة والمكان المتمثل في الجزيرة.كما أنه يشتغل أيضا بواسطة التضمين المكاني. إذ نتساءل في هذا الإطار عن الفضاء أو المكان الأكبر الذي يحتوي الذات والجزيرة معا. هذا المكان يبقى وليد التلقي، لأن المتلقي يخلقه بالتأويل حين يفكك رمزية الذات النصية والجزيرة معا.
ومع أن المدونة اللغوية المنسوبة للجزيرة هي المهيمنة ( لا يشار للذات المتكلمة سوى مرة واحدة بواسطة ضمير المتكلم، الياء في كلمة خطاي)، فإن الذات المتكلمة هي البؤرة الأساسية. ليس مدار النص هنا هو انفصال الذات عن موضوع تراقبه، بل مكانا ملتحما بهذه الذات، فلا يتحدد طرف منهما دون الآخر.
لا تظهر صورة الذات إلا بواسطة صورة المكان. ولا تكتسب صورة المكان شعريتها إلا لكونها تفصح عن صورة الذات. بهذا تتخلى الذات عن تقديم صورتها إلى تقديم المكان بوصفه المجسد لصورتها التخييلية.
إن التعالق بين الطرفين يتشكل شعريا عبر دينامية تفعل فيها مجموعة من الثنائيات الضدية المؤطرة بواسطة بنيتين :
أ – الحركة / السكون :
– شرر / حجر
– شـرر / جزيرة
– أمواج / مقيمة
– أمواج / جزيرة
– سفـــر / شـــط
– سفـــــر / جزيرة
ب – المـــاء / النـــــــار :
– جزيـــــــرة / شـــــرر
– أمـــــواج / شـــــرر
وإذا كانت هذه الأمثلة تخص دائرة الجزيرة في حد ذاتها، فإن الثنائية الأولى بصفة خاصة تتدخل لتنظيم مماثل في العلاقة بين الذات وبين المكان:
الذات / المكــــان ــــــــــــــ الحركة / السكـــــون
خطى / جزيــــــرة
خطى / مقيمــــــة
خطى / شــــــــط
خطى / حجـــــر
وبالإضافة إلى هذا التنظيم الثنائي الضدي، نواجه في النص تشاكلات إما في الحركة أو في السكون، وتخص إما المكان أو علاقة الذات بالمكان.
أ – تشاكلات في الحركة ( الجزيرة)
– شرر/ أمواج
– شرر/ سفــــر
ب – تشاكلات في السكون ( الجزيرة)
– جزيرة / حجر
– شط / مقيمة
– جزيرة / شط
– شط / حجر
ج – تشاكلات في الحركة (الذات والجزيرة)
– خطى / أمواج
– خطى / شرر
– خطى / سفر
إنها أمثلة لتعالقات المتكلم (الذات) بالآخر (الهي)، ويحتاج كل تشاكل منها سواء أكان تماثليا أم ضديا إلى وقفة خاصة لتجلية حمولاته الرمزية بوصف كل طرف منه علامة قابلة للتأويل والحفر في سماتها الدلالية العميقة. بيد أنها تشاكلات تجد مفتاحها في السطر الأولى من النص بالذات : «حول خطاي تبتكر». فهذا السطر وإن كان وسم الذات بالحركة بأن نسب لها فعل السفر والتنقل، فإنه جعل هذه الحركة محاصرة ومحدودة بأن أدخل عليها مؤشرا مكانيا يفيد الحصر والتحديد هو مفردة (حول). وفي مقابل ذلك أعطى للجزيرة وهي المكان الثابت صفة حركة لانهائية بأن نسب لها فعل «تبتكر» بزمنه الحاضر المستمر. فهذا مكان في حركة لا نهائية تمثل دائرة لا تستطيع الذات تجاوزها واختراقها بالرغم من صفتها الحركية تلك، إنه تلازم بين الفعلين. فبقدر ممارسة الذات لفعل التنقل، تمارس الجزيرة بواسطة تدخل الغائب فعل توالد لا يتوقف. فمن يتدخل لجعل هذه الجزيرة تبتكر؟ لا يحدد النص ذلك. كأن الذات المتكلمة لا تستطيع أن تقر للمكان بأن يكون في حد ذاته فاعلا يواجه هذه الذات، فتستسلم للاعتقاد بكونه خاضعا لقوة ما، غيبية أو مادية. أو ربما تلجأ لهذا التفسير لعجزها عن مواجهة هذه الفاعلية الخارقة للمكان.
إن الجزيرة مكان خارق، فهو ساكن ومتحرك معا. ولكنه في مفارقته هذه يمثل مكانا مجدبا ومقفرا، إنه من حجر وشرر وأمواج ثابتة. بهذا تكون الذات محاصرة بدائرة الجدب. وبقدر ما تمارس الذات فعل حياة هو الحركة، فإن الجزيرة بواسطة فعل حركة أيضا تمارس فعل موت. بهذا تكون الذات في مواجهة مصير يهددها في بقائها واستمرارها دون أن تقوى على فك إطار العزلة التي هي إحدى السمات الدلالية للمكان الجزيري. هل لهذا السبب اختارت ثلاثة مكونات بدئية للعالم، أي الماء والنار والتراب لتسمها مجتمعة بالاشتراك في ممارسة أفعال الحصار والعزلة والجدب والموت؟
إن الجزيرة ليست إذن مكانا مرصودا لذاته. فالشاعر ليس منصرفا لاستغلال المكان بوصفه فضاء يسمح له بإدارة سلسلة أحداث أو رسم موقع شخصيات، ولا حتى بوصفه نظام أماكن لتوسيع مجريات سرد معين على حد ما نجده في الأعمال الروائية مثلا. ما نحن بصدده هو استغلال للقيم الرمزية للشخصية وللمكان معا. فالفاعل المشخص في المتكلم ثم اختزاله في حركته التي اختزلت بدورها في السير. أما المكان فلم يعد مجرد فضاء لذلك السير ولا حتى حافزا له أو مضيئا لطبيعته، بل أصبح شبكة رمزية ليس لها وجود إلا لكونها متفاعلة مع فعل السير. إن الطرفين معا «متأمكنان»، الذات «متأمكنة» بواسطة فعل مكاني هو السير. والجزيرة «متأمكنة» بواسطة مجموعة مدونتها اللغوية. وشعرية النص هي بالذات في ما يثوي خلف هذا « التأمكن» من صور للمتخيل.
يمثل المكان في الصورة السالفة رافدا أساسيا. فبواسطته أنجزت الصورة وبواسطتها تم تشكيله. إن هذا التضافر بين المكونين له جذوره وامتداده في صياغة القول الأدبي قديما وحديثا، وخاصة إذا وسعنا مدار الصورة إلى آليات الوصف. بذلك نجد في أشكال سردية قديمة في مقدمتها السرد الرحلي، صورا للمكان يصفه راء مترحل بتدقيق وتفصيل. وكذلك في الأشكال السردية الحديثة وفي مقدمتها الرواية، وإن كان الوصف في هذه الأخيرة يكتسب خصوصيته حسب النوع الروائي المقصود.
وإذا كان الوصف صيغة مشتركة بين الأنواع الأدبية. فإنه يخضع بالتأكيد – في هيمـنـته وخصوصيته – للنوع الأدبي المعين. بذلك تصبح الصورة بآلياتها البلاغية والمجازية أكثر بروزا في الوصف الشعري وبخاصة في الشعر القديم، حيث يميل الشعر عامة إلى التكثيف بدل التفصيل الذي يناسبه القول النثري في العادة. كما أن الصورة في الشعر الحديث ليست خاضعة بالضرورة لترتيبات البلاغة كما تم التعارف عليها. بدليل ما رأيناه في الصورة السالفة حيث يتحول النص في كليته إلى صورة مركبة تشتق بلاغتها الخاصة بمخالفة البلاغة النمطية، عاكسة لرؤية عبورية لاتسم الإنسان وحده بل تمتد أيضا لتسم المكان. إذ بابتكار الجزيرة تدخل في عبور توليدي دائم، وبسفر شطها تمارس عبورا في المكان.
هناك بالتأكيد أيضا اختلاف بين طبيعة الصورة القديمة والصورة الحديثة، مما يترتب عليه اختلاف في اشتغال المكان في الصورة واشتغال الصورة في المكان. إذا تأملنا في هذه الأبيات :
وإذا المنية أنشبت أظفــارهـــا ألفيت كل تميمة لا تنفـــــــــع
٭ ٭ ٭
وكأن أجرام النجوم لــــوامعـا درر نثرن علـــى بــــساط أزرق
٭ ٭ ٭
كأن مشيتها من بيت جارتها مر الســــحابة لا ريث ولا عجـل
نلاحظ أنها أبيات تمتح صورها الشعرية من الصور البلاغية مرتكزة على الاستعارة والتشبيه حريصة على تحديد الأطراف وذكر وجه الشبه ضمنيا أو ظاهريا. كأن الصورة تعتبر متلقيها فقير التخييل، ضعيف القدرة على توليد الصورة وتركيبها من بعض إشاراتها. ومرد ذلك إلى الوظائف التي حددتها البلاغة القديمة للصورة حيث جعلت في مقدمتها وظائف الإفهام والإيضاح. وقد ترتب على هذا الفهم أن حصر دور الطرف الثاني في الصورة أي المــشبه به في تقريب الصورة وجعلها أقرب إلى المادي الحسي والمعاين بدل إيراده لفتح تلك الصورة على المحتمل واللانهائي. قد نستثني من هذا الحكم العام بعض الصور الشعرية التي نواجهها مبثوثـة في قصائد من الأنواع الشعرية التي كانت سائدة أو ضمن آداب اخترقت ذلك السائد كأدب الصوفية شعرا ونثرا. بيد أنها استثناءات لم تستطع أن تفرض نمط تعبيرها على التوجيهات الأساسية التي ظلت راسخة في البلاغة القديمة مفهوما وإبداعا.
في الشعر الحديث أصبح من البديهي القول بأن الشاعر تجاوز الخضوع للصيغ البلاغية الجاهزة بأن أبعد الاستعارة والتشبيه من القوانين القديمة سواء في المقاربة بين أطرافهما أو في أهدافهما، كما فتح القول الشعري على صيغ تصويرية أخرى حيث أعطى للوصف دورا أكثر فاعلية في الصورة المشهدية ووظف السرد في أنساق تصويرية أكثر غنى و شعرية. وبذلك جعل المتلقي خالقا مشاركا في بناء الصورة ومنحها الدلالة المحتملة.
وقد أثرت هذه الطرائق المستحدثة في القيم الرمزية التي أصبح يكتسبها المكون المكاني داخل الشعر، سواء أكان هذا المكان متمثلا في علامات مكانية أم بنيات مكانية ذات مرجعية مادية أو مجردة. لا بد أن نذكر هنا بأن مفهوم المكان نفسه قد اختلف بين الشاعر القديم والشاعر الحديث، إنه الاختلاف ذاته الذي خضع له مفهوم المكان في النظر الفلسفي والعلمي وكذا الإيديولوجي والسياسي والثقافي. وبالتالي فإن عملية موقعة الشاعر لذاته ضمن هذا المكان وموقعة المكان تجاه ذاته جسديا ونفسيا وثقافيا … تأتي ضمن سياقات جديدة. ترتيبا عليه أصبحنا نتحدث عن المكان السياسي والقومي ومكان الثروات والمكان المسلوب ومكان القرية التي يسكنها العالم. كما نتحدث عن مكان المفارقات ومكان الأضداد ومكان اللا مكان والمكان اللا متناهي ومكان الزمن ومكان الدلالات اللانهائية وغير ذلك من صفات المكان الشعري ومن تشاكلاته مع مكونات النص الأخرى، ومع مفهومنا للزمن في حركته داخل المكان.
لننظر في مثال آخر لأدونيس : «ينبت الناس كما ينبت الحب في السيل». ينبني هذا المثال على مرجعية مكانية تدخل فيها الذات في علاقة بالمكان على حد ما رأيناه في المثال السابق للشاعر. غير أن اختلاف آليات الصورة ونوعية الذات والمكان في هذه الصورة ولد أبعادا دلالية مغايرة.
لقد جمع الشاعر في استعارة المثال بين طرفين متباعدين هما: أولا « ينبت» وثانيا «الناس». فنسب للناس صفة نباتية خارقا بذلك ما ترسخ لدينا من معارف عن الفروق بين الكائنات الحية. حيث نعتبر الإنسان في مرتبة أعلى بكثير من مرتبة النبات. إن الإنسان في سطر أدونيس ينحدر إذن إلى أدنى مرتبة في سلم الكائنات الحية. بهذا يخرق أدونيس نسقا مكانيا منظما لكائنات الكون. نقصد بنية : أعلى/أسفل. هذا ما تقودنا إليه القراءة الأولى للصورة. أما لو تأملنا عميقا في المقومات الدلالية لفعل «ينبت» لوجدنا أن الدلالة المحتملة ليست هي ما حددناه سابقا.
يرتبط فعل « ينبت» بعدة مقومات دلالية نذكر منها : اللون، القدرة، الفعل، الكثرة، النمو، الانغراس… من بين هذه المقومات تبدو لنا الثلاثة الأخيرة أكثر مناسبة لمقاصد الصورة. حيث يمد فعل « ينبت» فاعله «الناس» بمؤشراته المكانية لكي يولد لنا دلالة الانغراس والتجدر في المكان الأرضي مما يتولد عنه إنجاز فعلي النمو والتكاثر.
دلالة هذه الصورة الاستعارية لن تكتمل مع ذلك إلا بوضعها داخل سياقها اللغوي المتمثل في السطر المذكور. فبالعودة إلى هذا السطر، يتبين أنه مكون من صورة مركبة إطارها العام هو التشبيه. وداخله تمثل الصورة السالفة طرفا يقوم بدور مزدوج. إذ أنها صورة استعارية ومشبها في الوقت نفسه. وهذا المشبه بتعدديته الدلالية يستدعي مشبها به لا يقل عنه في تلك التعددية، خالقا بدوره صورة. تبعا لذلك يتكون السطر من ثلاث صور نوضحها كما يلي :
الصورة المركبة:
تولد الصورة الثانية دهشة وغرابة بالرغم من عدم انبنائها على مواضعات البلاغة المألوفة. فمن أين استمدت إذن شعريتها؟ الإجابة عن هذا السؤال تأتينا من المقاربة بين مثالين هما:
أ – ينبت الحب في الأرض.
ب – ينبت الحب في السيل.
المثال الأول مثال واقعي، أما الثاني فيقدم معرفة جديدة مغايرة للمعرفة الجاهزة. إن السطر الشعري مكون من فعل وفاعل ومكان للفعل. العلاقة الأولى بين الفعل والفاعل علاقة عادية يشترك فيها المثال الأول بالثاني. أما العلاقة بين الفعل ومكان الفعل فهي بالتحديد التي تشكل شعرية السطر وتكسب الصورة حداثتها.
إن المكان يقوم هنا أيضا بخلق هذه الشعرية وذلك بعد أن تم استبدال مكان بمكان. لقد حذف المكان المتعارف عليه وعوض بمكان مغاير فجر صراعا وتضادا بين الفعل ومكانه. فالسيل مكان مقاوم وقاهر ومانع لفعل نبات الحب. لكن النبات يملك القدرة على إنجاز فعله وتحقيق موضوعه. إنها إذن حقيقة شعرية مخالفة للحقيقة الواقعية. هذه الحقيقة الفنية هي التي نعيد في ضوئها استكمال دلالة الصورة الاستعارية الأولى رابطين بينها وبين الصورة الثانية مولدين الصورة المركبة. ففي الأخيرة يتبدى بشكل أكثر حدة، الصراع بين إرادتين : إرادة الحياة وإرادة القتل والقهر، حيث الإنسان في صراع دائم لأجل أن يجعل إرادة التجدر والارتباط بالمكان أقوى من إرادة السلطة المضادة للمكان نفسه. بذلك يتغلب الاستقرار على اللاستقرار والحياة على الموت.
يسعى المثال السالف لإقناعنا بمغزى معين للحياة، كأنه عصارة تجربة تحولت إلى حكمة بمنزعها الجماعي وتقديمها لحقيقة جديدة. فهو إذن بخلاف سابقــه حيث ذات المتكلم فردية تواجه مصيرا وجوديا مدعمة ببطولتها الخارقة التي رحّلت معها المكان المقفر دون أن تفلح ببطولتها تلك في قهره وتجاوزه. وفي المثالين معا، يتدخل المكان بوصفه ذاتا فاعلة مواجهة وصادمة لذات إنسانية. على مستوى شكل العلاقة بين الذات والمكان نلاحظ أنها علاقة حلول. بمعنى أن الذات حاضرة ضمن المكان الذي صاغ المقطع صورته. فليس بينهما انفصال مكاني.
نقف عند مثال لشاعر آخر هو عبد الوهاب البياتي. في هذا المثال تكون قناة العلاقة بالمكان هي الحلم. أي أن صورة المكان قدمت بواسطة صيغة الحلم، حيث تواجه الذات الفردية مصيرها الوجودي. ولا يكون المكان في هذه الحالة هو الفاعل الصادم الأساسي بل المساعد في ذلك الصدام. يقول البياتي:
حلمت/ أني هارب طريد/ في غابة/ في وطني البعيد/ تتبعني الذئاب/ عبر البراري السود.
يلاحظ هنا مستويان لشكل العلاقة بين الذات والمكان؛ فالمستوى الأول هو المكان الذي تم فيه زمن الحلم، ويستفاد من المقطع أنه مكان منفصل عن المكان الذي صاغه فعل الحلم ذاته. أقصد أن الذات تحلم في مكان أول بمكان ثان هو ذاك المعين بالغابة وبالوطن البعيد، وهو ما نركز عليه هنا. ويمثل هذا المقطع شذرة سردية، الفاعلون فيها ثلاثة هم المتكلم والمكان والطرف المضاد المتمثل في الذئاب. من بين هذه الأطراف الثلاثة، ينهض المكان بدور بارز في توليد شعرية هذا السرد الحلمي وتوسيع الصورة إلى صيغة كلية تتعدى السطر الواحد إلى كلية المقطع. بيد أن هذا المكان ليس منفصلا عن الذات. إنها بتقديمها له، تخضعه لرؤيتها وتحدد صورته في إحساسها به عبر تشظياته وشتاته (الغابة، الوطن، البراري)، وعبر الاختراقات التي يتعرض لها.
تتحول موضوعة الاغتراب في هذا المقطع بواسطة الحلم إلى كابوس. فبدل أن يحتفظ الوطن بصفة المكان الآمن المانح للحماية والدفء والاستقرار، أصبح مكان قهر. هكذا يتم اختراق مكان الأمن بمكان التهديد والقهر. لقد تشاكل المكان الذي احتوى زمن الحلم مع المكان الذي احتوى موضوعه في صفة واحدة هي الغربة والاغتراب. أصبحت الذات غريبة في المكانين معا. إنها منفصلة عن موضوعها المحلوم به انفصالا موضوعيا مكانيا بسبب البعد الذي كان من شأنه أن يولد الشوق والحنين لذلك الوطن بدل تحويله إلى مكان متوحش أو وحشي.
لقد قدم الحلم مكانه عبر إبدالات مكانية ثلاثة هي على التوالي :
١ – الغابة
٢ – الوطن البعيد
٣ – البراري السود.
إنها إبدالات لغوية ثلاثة لنفس المكان المحلوم به. إن الحلم لم يستطع إذن سد النقص الذي تعيشه الذات تجاه افتقادها لموضوعها المكاني، أي الوطن. لقد احتفظ الحلم بمعاناة الذات من غربتها مقدما لها صورة قاسية عن الوطن.
أول تحديد مكاني يتولد في الصورة هو «الغابة». وهي مكان يشير إلى القسوة والكثافة الموحشة المرعبة والانغلاق والصراع من أجل البقاء وانعدام الحماية ومواجهة الكائن لمصير أعزل. بعد ذلك تصبح هذه الغابة وطنا تضفي عليه صفة البعد خاصية مكانية أخرى تعمق معاناة الذات من عدم القدرة على الارتباط به. غير أن أكثر الصفات تفجيرا لوحشية المكان هي الصفة الثالثة التي يغدو فيها الوطن براري سوداء. هنا تواجه الذات المكان المقفر المظلم اللامحدود، حيث مأوى فاعل مضاد هيأ له المكان شروط مطاردة الذات المتكلمة كأنها طريدة أو فريسة طارئة على المكان وليس مكانها. لقد تحول الوطن إذن إلى لا وطن وذلك بواسطة صيغة الحلم التي شاكلت بين الإبدالات المكانية المذكورة محتفظة منها بمقومات الوحشية والبعد والقتل، مجسدة للقلق الغائر في كينونة الشاعر وهو يسائل مكان وجوده بمكان حلمه:
الغابة: مكان الحياة/ مكان الموت
الوطن: مكان البعد / مكان القرب
البراري: مكان الحرية/ مكان القهر
في هذا المقطع هناك ذات حالمة وذات محلوم بها. تقدم الأولى الثانية بوصفها منفصلة عنها تراقبها عبر صورة مشهدية ذات صيغة سردية كما لاحظنا. وفي العديد من النصوص الشعرية تطالعنا هذه الصيغ المشهدية في تقديم المكان. حيث تتحول صورة المكان إلى تشظ لمجموعة من التفاصيل والجزئيات تبدو أكثر وضوحا كلما ركزت الذات الراصدة على الحسي أو اليومي.
في نص لمحمد القيسي يحمل العنوان هذه الصيغة من عرض صورة المكان. يقول في «مشهد منزلي»:
«ورق الخريق على الممر/ على النوافذ/ أسفل السور الذي مالت به الأوصاف/ والصفصاف يلهو في فضاء الدار/ مأخوذا بثوب الريح/ يحفظ ما قرأ/ ورق الخريف على المخدة والسرير/ على الزنابق والكلام/ على نحاس اليوم والليمون/ غطى منزلي والياسمين ولا نبأ/ ورق الخريف/ هنا بدأ.»
الميتالغة في هذا المقطع تؤشر لوعيها بصورة المكان بمفردتين هما: مشهد وأوصاف. لكن الحرص على رصد الصورة المشهدية للمكان يتجلى في خاصيتين:
أ – علامات المكان : وهي كثيرة نذكر منها : مشهد، منزل، ممر، نوافذ، صفصاف، فضاء ومخدة.
ب – بنية المكان : ويلاحظ أن الطاغي عليها هو ثنائية: أعلى / أسفل. المؤشرات اللغوية لهذه البنية عديدة بدورها نمثل لها بالحرص على الأداة «على» وتكرارها ست مرات، إضافة إلى مؤشرات: نوافذ، أسفل، ريح، حط وغطى.
يمكن أن نلاحظ أيضا:
– جدل الزمن والمكان: الخريف/الممر، النوافذ، السور…
– جدل المكان «المتمكن» والمكان المجازي: على النوافذ/على رنين القلب.
– جدل المفتوح والمغلق : على الممر/فضاء الدار.
– جدل الخاص والعام : مخدة، سرير…/ريح، ممر…
– جدل الداخلي والخارجي : مخدة، سرير…/ريح، ممر…
يمثل هذا المقطع نموذجا لما ذكرناه عن خاصيات المكان الشعري، فبقابليته للتأمكن تحولت مثلا علامات المخدة والرنين والغيتار والزنابق ونحاس اليوم والليمون والياسمين إلى مكان. وبسبب الموقف القلق للذات في زمكانها، أصبح المكان وأشياؤه في حالة عبور نحو زمن الخريف، إن لم نقل إن هذا الزمن هو العابر المكتسح للمكان وأشيائه. وفضلا عن ذلك تدل كثرة الأماكن وتنوعها على خاصية التشظي والشتات. فالمقطع لم يبدأ بمكان الممر وهو مكان عبوري إلا لينفتح على هذه التداعيات الملحوظة في المكان. إنه نص مكثف الدلالات، وخاصة أن صورة المكان فيه هي في الوقت نفسه صورة للزمن. ولذلك فالصيغة المشهدية فيه ليست من النوع الذي يركز على بروز الأشياء مقابل غياب الذات، حيث الراصد يقدم صورة ما يجري على المكان مركزا على شخصيات الحدث وكأنه لا صلة له بالموضوع.
ما بين الراصد وموضوعه فجوة مكانية هي التي تسمح له بمراقبة تموضع الأشياء انطلاقا من منظور الرؤية ومجريات الأحداث. لهذا السبب بالذات كان حضورها الفاعل في صوغ الصورة سواء أكانت للمكان أم لغيره. والعين تمارس فعلها أولا بواسطة بنية مكانية هي : هنا/هناك.
قد تخضع هذه البنية لتحويلات معينة، لكنها على العموم تمكن الرائي من الإشراف على المشهد وتقديم صورة له من موقع ينفصل فيه مكان فعل الإطلال عن المكان المطل عليه. ربما لهذا السبب تميل بعض النصوص الشعرية إلى توظيف كلمات مؤشرة لفعل إشراف مثل الشرفة والنافذة، بما في ذلك استغلال المعطى المكاني الذي تهيئه هذه العلامات.
في هذا السياق نقرأ نصا لمحمود درويش وظف الصيغة المذكورة. وبدءا من العنوان نلاحظ هذا التموقع في بنية: هنا/هناك مع استحضار فاعلية العين. يقول في نص: «أرى شبحي قادما من بعيد»:
أطل كشرفة بيت، على ما أريد
أطل على أصدقائي وهم يحملون بريد
المساء: نبيذا وخبزا.
وبعض الروايات والاسطوانات…
أطل على نورس، وعلى شاحنات جنود
تغير أشجار هذا المكان.
إن الذات الرائية «تؤمكن» نفسها بواسطة التشبيه، فتتحول إلى شرفة بيت منجزة فعل الإشراف على المكان وما يجري فيه أو يتحرك عليه من فاعلين، إنها من «هنا» ترى «هناك» ما تريده. ترى المكان الذي تتحكم فيه العين وترى المكان الذي يوجد هناك أيضا خلف المكان:
أطل على هدهد مجهد من عتاب الملك
أطل على ما وراء الطبيعة :
ماذا سيحدث…ماذا سيحدث بعد الرماد؟
في «هناك» ترى العين الزمن المحتمل أيضا. إنه نظام مكاني لإعادة ترتيب الماضي والراهن والآتي، ولإعادة ترتيب قلق الذات في مكانها، ولإعادة ترتيب المكان ذاته.
في العديد من نصوص محمود درويش هذا الحرص على توظيف مكون الرؤية والعين بالذات. وذلك لفصل الذات عن موضوعها لأجل ربطها به من جديد بمنحها فعل امتلاك الإرادة والرؤية. ويمكن المقارنة في هذا الإطار بنص له بعنوان «رباعيات» ورد ضمن ديوانه «أرى ما أريد». في النصين معا ينتظم المشهد المكاني من «هنا» نحو «هناك» بما يتضمنه «هناك» من جدل الحاضر والغائب، الكائن والممكن. قد تنقلب هذه المعادلة عند درويش وعند شعراء آخرين حيث يبدأ المشهد من «هناك» نحو «هنا» وخاصة حين يكون «هناك» الزمن أو الذكرى كهذا النص لسيف الرحبي بعنوان «ذكرى الحاضر». ففي بدايته نقرأ:
وحيدا، وخلف الجبال البعيدة في الذكرى
…سادرا أرقب المغيب
هذا الدم المنساب على أجنحة طائر
ثعبانا يفترس النهار بعينيه الدامعتين بالسواد
وخلف الأكمة يلعب النمر مع صغاره، مضيئا
طلائع هذا الليل القادم.
إن الذات الرائية هي أيضا «كشرفة» أو كجبل ترقب من هناك هذا المغيب «هنا». وفي عنوان الديوان :«رجل من الربع الخالي»، نستشف أيضا هذه البنية المكانية. حيث من «هناك» من الربع الخالي رجل «هنا» يرصد مشاهد المكان المجدب المظلم المفتقر لإرادة النهوض والتجاوز. إن المكان الذي «هناك» أي الربع الخالي يتحول إلى المكان الذي «هنا» أي الربع الخالي أيضا. بذلك يتبادل «الهنا» و«الهناك» المواقع مخترقين ببعضهما. وتعيد العين الراصدة المشرفة خلق صورة المكان الحاضر بقراءة شعرية للمكان الغائب.
بيد أن صورة المكان وهي تقدم برصد العين، قد تعمل على محو الامتداد بين «الهنا» و«الهناك» حيث يصبح الحديث عن طرف حديثا عن الآخر. ويتعمد النص في ذلك أن يزيح كل ما يفيد تموضع العين في علاقة: قريب بعيد، أو بعيد قريب. كهذا النص لمحمد بنطلحة، بعنوان «قبر الشاعر المجهول»:
هذا الذي أراه :/ غصن شيح/ أم نورس يضع غصنا/ فوق قبر الريح؟
ما تقدمه العين الشعرية ليس كمية معلومات. المكان الذي تقدمه هو زاوية إدراكها للدلالة. ليس مطروحا علينا أن نعرف إن كانت العين قد وقفت وقوفا ماديا على قبر ما. وليس مطروحا علينا أيضا أن نحمل هذا القبر بوصفه مكانا مرجعيا عاما على ما نعرفه عن القبر. فنحن أمام تمثل العين لوجود معين للشاعر بوصفه دالا من دوال إدراك الأنا الرائي للكون، الأنا هنا في موقع سؤال بعد أن أزاح الجندي «المجهول» واستبدل به «الشاعر المجهول». ولكي يعبر عن إدراكه لهذا الأخير لجأ إلى الصورة المكانية المتمركزة حول القبر بوصفه دالا على جدل الحضور والغياب. الحضور في المكان والغياب عنه وفيه معا.
إن المكان الواحد الذي بدأ متمركزا ينشطر إلى مكانين: قبر الشاعر وقبر الريح. أية علاقة إذن بين الشاعر وبين الريح؟ إن التحويلات الشعرية للمكان تجيب عن هذا السؤال. ذلك أن القبر انتقل عبر علامات ذات إشارات مكانية ليفقد صفاته المرجعية نقصد:
لقبر : مغلق + أرضي+ ساكن+ موت.
الى :
لقد فقد مكان القبر إذن مرجعيته وأصبح مطلقا شمل الأرض والنبات والطيور والسماء إضافة إلى الإنسان المتمثل في الشاعر. بذلك تتجاوز العين تفاصيل المشهد العادي وتحول الجزء إلى كل : الضيق إلى شاسع، والمغلق إلى مفتوح، والأرضي إلى سماوي والثابت إلى متحرك، والميت إلى حي…
إن توظيف فعل «رأى» ومشتقاته ومرادفاته، وتوظيف عتبات وأماكن الرؤية، مما نطالعه بشكل شائع في نصوص الشعر، سواء أقصد بذلك الرؤية البصرية أم الحدسية والحلمية. أما المتغير داخل هذا الثابت فهو الصورة التي تولد الرؤية للمكان. وفي هذا المثال لشوقي عبد الأمير قلب للمعادلات المكانية بواسطة عين تنفعل فيها الذات الـرائية بالمكان الذي تراه وهو مكان خاص لا وجود له سوى في المتخيل البصري لعين مجازية :(٥)
رأت شجرا شاحبا في عين المساء فأرخت يدا/ وارتمت غابة من عناء/ لها يترجل ليل مصابيحه/ وتلم المطر/ ضفة قبل أن تمنحني جسدا أو نهر/ ويلم اليدين/ سوار من الفضة اللاهـثة/ بين جفني وبين الحجر.
فأن ترى (هي) شجرا شاحبا معلومة مألوفة، غير المألوف هو ألا يكون مكان الشجر الشاحب هو الأرض. إن العين انتقلت هنا من مصدر صورة مكانية إلى مكان أوسع من محتواه (الشجر الشاحب)، وليس هذا المكان سوى زمن محدد هو المساء. قد يكون التشاكل بين الشجر الشاحب والمساء تشاكلا مألوفا يفيد الحزن والذبول والزوال والموت، وقد يكون في هذه الصورة ما يذكر بمطلع »أنشودة المطر» حيث العينان غابتان لهما ارتباط بزمن آخر مجاور لليل هو السحر بما يدل عليه من سرعة زوال، لكن الصورة في هذا النص تكتسب وظيفتها في ما تولده من صور وتشظ لحالات تتداعى من تحول الذات الرائية إلى مكان مجازي هو الغابة التي من عناء. ليس المشهد المكاني إذن هو ما تريد العين أن تقدمه، بل ما تتحول إليه الذات الحاملة للعين.
بعد أن تتحول الذات الغائبة إلى مكان غابوي، تتوالى مجموعة صور «تؤمكن» الزمن وتعيد «أمكنة» المكان بما يخدم صورة المكان الغابوي :
– المصابيح مكان لزمن هو الليل الممارس لفعل مكاني هو «يترجل«.
– الضفة وهي مكان، تمارس فعلا مكانيا هو «تلم»، ثم تفقد هويتها المكانية الأصلية وتتحول إلى مكانين هما الجسد والنهر.
– السوار مكان اليدين.
– تبرز ذات المتكلم ممارسة فعل الرؤية متموقعة داخل النسقية المكانية : هنا/هناك. هنا الجفن وهناك الحجر. بينهما مكان فعل السوار.
في هذه الأمثلة التي قدمناها هناك دائما حركة من العين نحو المشهد. العين فاعلة والمشهد موضوع الفعل. وحتى حين تنفعل العين بما تراه فإن انفعالها يكون نتيجة رصدها الأولي. وبما أن ما ذكرناه يحدث فيه قلب للمعادلات المكانية وتتحول فيه الصورة إلى مفصح وحيد عن مكان لا يوجد إلا من خلالها، فإن بعض الاستخدامات الشعرية تكسر نسق الرائي/المرئي. فيتحول الرائي إلى مرئي. أي تصبح العين هي الصورة التي يولدها المشهد بوصفه في هذه الحالة هو الرائي. يقول الشاعر العماني عبد الله الريامي :
«كإطلالة المشهد على عين مدربة
لم يجد هذا الصباح بدا من غيابي».
ومن بين هذه الاستخدامات الشعرية كلها، فإننا نجد الشعر (ما يسمى عادة بالغنائي والذاتي) تندمج فيه العين الرائية بالمرئية. أي أن الأنا يصبح موضوع صورة الأنا ومكانها الواسع الذي «يؤمكن» بوصفه محتضنا للمشهد، ويتشظى مكانيا بوصفه مجال تحرك صور ذات مرجعيات مكانية متعددة. الأنا هنا يبصر ذاته ويقدم صورتها عبر اللعب بنسقية: هنا/هناك :
الأنا هنا / الأنا هناك
الأنا هنا / الأنا هنا
الأنا هناك/ الأنا هناك
الأنا هناك/ الأنا هنا
وفي هذه التشاكلات النسقية يمكن أن يتقاطع المكان المتخيل المرئي بالأنا حين يتحول بدوره إلى مكان متخيل مرئي. إنها صيغ إضافية للانهائية الصور المكانية ولتعقدها وتضافر اختلافاتها المرجعية. كما تصب إجمالا في ما ذكرناه حول الاختلاف بين التمثل الشعري القديم للمكان وبين تمثله الشعري حديثا. وبصرف النظر عن آليات الاشتغال المكاني التي ذكرنا بعضها وسنعرض لبعضها الآخر في الفقرات اللاحقة، فإن عين الشاعر الحديث المبدع تبقى حديثة، كما أن صورته عن مكانه تأتي مغايرة لأي صورة سابقة.
(٢)
يجري المكان في النص الشعري الحديث على زمن لا يثبت على امتداد خطي مفرغا الأبعاد الثلاثية للمكان من محتواها. ثباته آهل بالحركة والانشطارات، وحركته لا تمتد في غالب الأحيان سوى نحو الفراغ والتيه. وفيما تتصادى تفاصيل اليومي فيه بأغوار الكون السحيقة، تتشابك أدغال غموضه حتى تتضح للأعيان، فتروض الذوات النصية أجسادها على الانهيار مستنجدة بالعبور المتاهي للأشياء والكائنات والأحياز التي تنبذ ذاتها وتنقذف في مخيلات الشعراء وانجرافات أرواحهم.
النص الشعري من هذا المنطلق دغل يحتمي بجناح التيه وأشلاء العواصف، فتتكاثف فيه اللغات لتؤمن وجوده المتصدع أصلا. يغدو زمنه ومكانه منقلبين بعضهما وكأنهما يهويان نحو العوالم السفلى هربا من بقايا الأساطير على الأرض. يقول سيف الرحي :
كل هذه الأشباح والمجازر
كل هذه الكوابيس والصحاري
كل هذه الأرواح المحطمة
كلها من وحي أفكاري التي نسجتها الحمى والمتاهة.
في أدغال القصيدة تتهاتف المستنقعات والصحارى، والبحار والجبال، ثقوب الأرواح ومهاوي الذاكرة، الجذور الأولى للذوات الإنسانية وهي تنعتق من طمي الشعر. في القصيدة كما في الدغل لا تتضح رؤيتنا حتى لو وضعنا عدسات اصطناعية تجسم السطوح. فهناك بالتأكيد أماكن لا مرئية تحتجب عنا حتى لو تكاثرت وملأت الهواء. إنها موجودة بين فجاح المعنى وعتمة السياقات. فهي أوسع إذن من تدركها الرؤية مهما اتسعت. فإن زمن البعد عنها لإدراكها بالإشراف عليها اختفت بين أعراش اللغة، وإن زمن إدراكها بالقرب منها كبرت عن التقدير.
هذا الغموض الذي تتداخل فيه أزمنة الشعر بأمكنته، هو ما يسم أدغاله بالوحشية والبدائية حتى لو كان من نمط شعر اليوميات وتفاصيل المدينة. فالغموض الاصطناعي غموض خدعة. أما غموض النمط البدائي فهو الذي لا ينفصل عن نسغ الروح الأولى التي ظلت تتناسخ في قصائد الشعر. لهذا السبب تحتفظ القصيدة الواحدة بكل أرواح أسلافها من القصائد بنفس القدر الذي تحتفظ فيه بشذرات من رفات أجساد الشعراء، وبتصادم الرؤى الغائرة في وحشية الكينونات اللامرئية، كما في نص للرحبي:
أرواح الغائبين التي تخفق دائما
أجنحتها تجرف المسافة
هذه الكثافات الرمزية غير القابلة للتجلي إلا في الحدوس هي التي تجعل كل داخل لدغل الشعر يوشك أن يصبح شجرة من أشجارها تسقي جذوره أمطار الكون وتجتثه عواصفه. وبهذا التجاذب تتحرر الإشرافات ذات الوميض الكوني متدافعة من كثافة اللغة، متحررة من كلمات تبدو في ظاهرها مثل قشور صدفية لفظها البحر، مع أنها في العمق مازالت تحتفظ بقليل من عبور إحدى آلهات الخصب.
إن وعي الشاعر الحديث انتهى إلى رؤى متضاربة لأنه يحف بمكان لا ينتظم في خطوط متوازية ذات أبعاد أحادية. العالم أمامه لم يعد يستحق سوى التوبيخ على حد تعبير الشاعر المغربي الراحل أحمد بركات:
أحب/ أحيانا أتوزع قبائل تتناحر على بلاد وهمية/ أحيانا أضيع./ ولكنني دائما أحمل في كفي الوردة التي توبخ العالم.
عالم صادم ملغز وفارغ من المعنى ومن الوجود. سواء أكان واقعه عبارة عن منفضة سجائر تنقلب على قدم شاعر في إحدى المقاهي، أو كان واقعه كونا تعوي فيه ذئاب الأبدية وتتطاحن فيه أرواح الأسلاف.
في مهب هذه الرياح النصية تنجرف شذرات الزمن والمكان وتتلاشى ذوات الشعراء وكأنها مصابة بلعنة التيه. التيه الذي يتقاذفها في صحراء اللغة وعتمات المعنى ومطاحن الواقع اليومي المديني. فتصبح علامات الوجود متدافعة نحو الزمن والمكان في لحظة واحدة جارة معها الميتولوجيا المتراكمة في متخيل الشعر.
في نص بعنوان « لا فريسة في الأفق» لسيف الرحبي رؤية فجائعية لواقع المدينة، إذ يصبح المكان المديني علامة على زمن القتل والقهر والاستعباد :
العقبان تسطع في الظهيرة/ كأنما تسبح في ظلام خاص/ بعيون مغمضة قليلا وناعسة./ روحها القلقة تحلق فوق المدن/ التي بنيت على عجل/ من رفات حطابين وجماجم قتلى.
يبدأ هذا النص بعلامة الأفق المكانية التي تنقلب دلالتها، فبدل أن تفيد الرحابة القصوى والتطلع للبعيد بوصفه ملاذا للأمل، وبديلا للمكان المحاصر والضيق والمحدود، تفيد هذه العلامة الزمن الفجائعي للمدينة نفسها. لأن المدينة مكان متفجر بأضداده، يتساوى فيه النور القوي (تسطع في الظهيرة) بالظلام (تسبح في ظلام خاص). والعقبان بما تدل عليه من موت تصبح بالشعر زمنا نورانيا؛ تتشظى علامات الزمن والمكان وتنخرق ببعضها: الشمس/الظلام، النار/الماء. الظهيرة/الليل المكان العلوي /المكان السفلي. إن مكان المدينة يقدم في النص بوصفه معطى على اندحار القيم وانطحان الكائنات. إنها فضاء الذوات ومؤشر تتوارى فيه الأرواح مقابل المادة، وتتمعدن المشاعر بدل أن تنبض بالدفء:
لكن فريسة في الأفق/ ربما الخواء اللامع بمعادنه الثقيلة/ التي تغطس في القلب.
ضمن نص لجمال القصاص من ديوان «السحابة التي في المرأة» نقرأ المقطع الآتي:
للحظة واحدة/ سنفكر أننا في صحراء/ يسمونها المدينة/ اننا خلف النهاية/ تماما…/ أو في أول الرحلة.
يشخص هذا المقطع رؤية تتحول بواسطتها المدينة بكل عمرانها وأماكنها إلى أرض يباب يسودها العطش والجدب. المكان المديني يتحدد هنا من منطلق الذات التي تدركه. فالذات الشعرية تذوب فردانيتها في الجماعة لتعطي لصورة المدينة كما تتلقاها هي، صيغة المشترك والجمع. ولكن الذات الغائبة المجهولة تثبت للمكان واقعيته الاسمية.
يهمنا الانقلاب الذي يحدث في صورة المكان، من مكان مليء إلى مكان فارغ، ومن مكان مغلق إلى مكان مفتوح. ومن مكان الاستقرار إلى مكان السفر والعبور. فالمكان لم يعد في الواقع سوى معبر زمني دائر على نفسه يتساوى فيه زمن العبور اللانهائي ( خلف النهاية) مع زمن البدء والانطلاق. كأن مصير هذه الذات ليس شيئا آخر سوى الكينونة في التيه بوصفه عبورا لا يتوقف في المكان والزمن المجهولين ونحوَهما. وهكذا فالمدينة بكل واقعيتها وماديتها لا تتحدد إلا بواسطة زمكان نابذ للذوات يفجر قلقها ويلاشيها في رؤية خرابية فجعائية تغدو فيها القيم المادية للتمدن مجرد قتلى ويباب صحراء.
بأمثال هذه الرؤى الحافة بانجرافات الشعر، تغدو مقاربة التشاكلات الزمكانية في النصوص منخطفة بدورها بتشذر المقومات الدلالية وتبادل الأدوار والوظائف بين علامات الزمن وعلامات المكان. فالعلامة الواحدة قد تقوم بوظيفة مزدوجة. فإذا قال الشاعر «الأقمار في نهر»، أفادت كلمة «أقمار» المكان السماوي وزمن الليل، فضلا عن الزمن النفسي وغير ذلك مما يدخل في رمزية القمر. وكذلك كلمة «نهر» فبقدر ما تفيد المكان لها أيضا رموز أخرى ومن بينها إفادة الزمن المتمثل في الحركة.
(٣)
في ديوان « أرى ما أريد» لمحمود درويش يطالعنا نص لم يضع له الشاعر عنوانا ولم يثبت له مكانا في الفهرس. بل إن صيغة عرضه توحي بكونه غير مكتمل. ومرد ذلك إلى كون هذا النص أطر بعلامة ترقيم مكونة من نقطتين متتابعتين في بدايته ونهايته. قد توحي صيغة العرض هذه في ذاتها بكون النص المذكور متصلا بزمن لا نهائي ولا بداية له. إن لم نقل إنه متصل أيضا بمكان طباعي أكثر شساعة من أن يحصر في أوراق ديوان.غير أن الموقف الشعري للأنا المتكلم في هذا النص غير منفصل بشكل عام عن موقف هذا الأنا كما يتمثله باقي متن الديوان، نقصد مواجهة هذا الأنا لواقع أكثر ضغطا و قهرا.
أما المتخيل الزمني لهذا النص والمحدد في الليل، فإنه جزء من المتخيل العام لقصيدة «رباعيات» الواردة في نفس الديوان. فالليل كمتخيل لفضاء أحد مقاطعها، حاضر هنا ليشغل المقطع كاملا. يقول الشاعر:
.. وأنا أنظر خلفي في هذا الليل/ في أوراق الأشجار وفي أوراق العمر/ و أحدق في ذاكرة الماء وذاكرة الرمل/ لا أبصر في هذا الليل/ إلا آخر هذا الليل/ دقات الساعة تقضم عمري ثانية ثانية/ وتقصر أيضا عمر الليل/ لم يبق من الليل ومني وقت نتصارع فيه.. وعليه/ لكن الليل يعود إلى ليلته/ وأنا أسقط في حفرة هذا الظل…
أول ما نلاحظه بالإضافة إلى تكرار كلمة «ليل»، أن «الأنا» له موقع مؤطر بالنسبة للمكان اللغوي الذي تمتد فيه لغة النص. حيث للأنا مكان في السطرين الأول والأخير. ويتصل في الموقعين بالليل الذي ينوب عنه الظل في السطر الأخير. هذا التلازم الذي له حضوره في باقي أسطر النص يملي علينا أن يكون تلقينا لهما معا كذاتين. حيث من جدلهما ينمو المتخيل الزمني. ومن ثم فإن تأويل العلامتين من خلال العلاقات والصور سيبين أن وعي الذات بواقعها ليس شيئا آخر سوى وعيها بزمن ذلك الواقع المتشعب في أبعاده المادية والنفسية.
إن بين السطر الأول والسطر الأخير علاقة تركيب متواز:
– وأنا أنظر خلفي/ في هذا الليل
– وأنا أسقط/ في حفرة هذا الظل.
والعلاقة بين مكونات السطرين بينة:
– وأنا / وأنا
– أنظر/ أسقط
– في هذا الليل/ في حفرة هذا الظل
– الليل / الظل.
وبناء على مركب التوازي يمكن أن نمارس تأويلين : فإما أن فعل السقوط مترتب على فعل النظر، وإما أن بين الفعلين راهن زمني. بمعنى أن فعل النظر هو نفسه فعل السقوط. وفي الحالتين يجرد فعل النظر من فاعليته الإيجابية المتمثلة في ممارسة الذات لحريتها وامتلاكها ما تريده إن لم نقل بأن الرؤية التي كانت في الأول شاملة لليل ومخضعة إياه لسيطرتها أصبحت الآن خاضعة له مشمولة من طرفه.
إن الذات المتكلمة تنظر ولا تنظر. تنظر في الليل فلا ترى سوى الليل، الليل مكان يحتويها وزمن يخضع صيرورتها بمنعه لها من أن تتبين ماضيها. إن مكان الخلف مكان زمني موقعه في الماضي لكن استمراريته ذات بعد مكاني زمني متجلية في تناظر العمر مع عناصر الطبيعة المتحولة زمنيا. وبهذا تتوزع بين شرخ تناقضي : أبصر / لا أبصر. إذ أن موقع أداة النفي «لا» موقع جد هام في جدل العلاقة بين ذات الإنسان وذات الزمن على حد ما سنرى. أما الأداة «في» ذات المحتوى المكاني فلا نجدها في السطرين المتوازيين وحدهما، لأن تكرارها في النص لافت للنظر، مما يحملنا على تأويل ذلك بتضخم إحساس الأنا بالحيز الذي توجد فيه. ويهمنا أن نؤكد هنا أن ما تعنيه «في» ليس هو الحيز المكاني بل الزمني. وهي بذلك تمارس كباقي العلامات ذات البعد المكاني في النص وظيفة في هيمنة المتخيل الزمني وتجريد المكان من رسوخه المكاني قصد تحويله إلى زمن.
ترتيبا على ما سبق، نرى أن ذاتي الأنا أو المتكلم و الليل لهما حضور يتولد بالتعالق معه متخيل هذا النص. وإذ تقترن ذات المتكلم بأداة النفي «لا»، ينكشف موقف حاسم في العلاقة بين الذاتين الفاعلتين. ضمنه تجتاح سلطة الليل سلطة المتكلم وتفرض عليه سلطة الظلام بحيث يتعذر تواصله مع كل الأشياء والكائنات التي قد يكون رغب أن يقرأ فيها ماضيه.
وإذ ينعت الأنا نفسه بالعمى، فإن هذا النعت لا يجب أن ينسينا أن العمى غير مصرح به إلا في السطر الرابع. ومعنى ذلك أن الذات قبل ذلك مارست فعل النظر على الليل وعلى الأوراق والماء والرمل. لكنها لم تبصر بعد ذلك سوى الليل. وبما أن الليل حاجز للبصر، وبما أن البصر علامة وجود، فمعنى ذلك أن الذات في خضوعها لسلطة الزمن الليلي، هي في حالة وجود وعدم وجود معا.
إن النص لا يقدم في الحقيقة علاقة ثابتة بين الفاعلين. فإذا استحضرنا اشتغال الزمن، تبدت لنا علاقتان بين الذات المتكلمة وبين الليل: هما علاقة الماضي وعلاقة الحاضر. وكل علاقة تسم موقفا بين الطرفين:
علاقة الماضي/صراع
علاقة الحاضر/ثبات
الأسطر الثلاثة الأخيرة تفصح عن ذلك. ويجسد السطر الثامن علاقة صراع موضوعها الوقت. الليل يرغب في امتلاك الوقت والمتكلم يرغب في نفس الموضوع. مما يعني أن الفاعلين طرفان متقابلان متضادان. ولما كان الفاعل المضاد لليل في الاستحواذ على الوقت هو النهار، لزم أن يكون المتكلم والنهار في موقع واحد، وهكذا تثبت سيادة الليل انسحاب النهار وتواري الذات الشاعرة فتنطمس معالم الأشياء وتختلط السبل وتضيع الرؤى الكاشفة للمسارات الصحيحة.
السطر الثامن يقرر أن الصراع بين الطرفين انتهى وأن الوقت الذي كان موضوع الصراع ودائرته انتهى بدوره. فلصالح من انتهى الصراع؟ يجيب السطران الأخيران عن هذا السؤال بدءا بورود أداة الاستدراك (لكن) لصرف الوارد في السطر الثامن إلى ما يليه حيث يقدم لنا الليل وهو يستعيد وضعه السابق بعودته إلى ليلته. أما الذات الشاعرة فلا تعود، بل تسقط. إن الليل إذن ينتصر والذات تنهزم.
يمثل فعلا العودة والسقوط تحولين ضديين، العودة تؤكد إنهاء المهمة في حين يفيد السقوط عدم إنهائها. ويتدعم هذا التحول الضدي بالفضاء الذي يؤطر الفعلين. فالليلة وهي المكان الزمني الأليف الخاص بالليل، تفيد رجوع الليل إلى وضعه السابق واستعادته لظلاميته وحلكته. وهي بذلك تثبت السلطة التي ما زال الليل يتمتع بها. «الليلة» ترتبط إذن بالقوة والسلطة، أما حفرة الظل فبخلاف ذلك، توحي أغلب معانيها بتمثيلها لحالة سلبية تؤكد أن الذات فقدت معركتها مع الليل. وبذلك يكون سقوط الذات الشاعرة في حفرة الظل بظلامها النسبي سقوطا في أحضان الليل نفسه :
١ – الظل : احتجاب الشمس + الهامش + حالة من الليل.
٢ – الحفرة: الحضيض + التعثر+ القبر.
إن السطرين الأخيرين يجسدان قمة التوتر في النص لجمعهما بين الأطراف الضدية :
– أنـــا/الليل
– يعود/أسقط
الليلة/الحفرة
تقودنا العلاقة بين المتكلم وبين الليل لأن نستخلص أن الحركة الظلامية للزمن هي التي لها السطوة والنفوذ. ويتأكد هذا في النص حين ننظر في تجلي العنصر الزمني فيه.
أول من نلاحظه أن المكان في بعده المادي ومرجعه الجغرافي يكاد يختفي في مقابل حضور الزمن. بل نذهــب إلى أن المكان كحيز مجسد يختفي تماما من النص. فالعلاقات والمحددات والعلامات المكانية الـواردة : ( خلفي، أوراق، في، آخر…) لا تشير في الواقع إلى المكان المعروف، وتنهض في مقابل ذلك بالإيحاء بالزمن نفسه عبر انزلاق معناها المعجمي. وعلى سبيل المثال، ليس المقصود بمركبات : أوراق الأشجار وذاكرة الماء وذاكرة الرمل وحفرة الظل، الشيء المكاني بل الزمن الذي نقرؤه فيها أو توحي هي به.
إن اختفاء المكان بالمعنى السالف من النص مبرر. والسبب المعلل لذلك كون المتكلم نفسه يقدم ذاته في حالة غير مكانية. إنه قرين الوقت والنهار. وعليه لكي يصارع الليل أن ينتقل في حركة زمنية يلاحقه فيها. أما الزمن الليلي فبامتلاكه القدرة على الفعل، يحول الذات الشاعرة إلى ذات منفصلة عن المكان. ويأخذ هو حالة استقرار، جاعلا تلك الذات جزءا من موضوعه مادام يحتويها وينقلها معه في ديمومة الليلة.
ويتأكد الوجود المستمر لحركتي الليل والذات بالنظر في الأفعال الواردة في النص، فكلها في الزمن الحاضر، مما يفيد أن العلاقة بين الفاعلين خاضعة لحركة حاضرة مستمرة لا تنتهي. ومادام الطرفان يفعلان في نفس الزمن، انتفت من ثمة أي مسافة زمنية بينهما واشتركا في اللحظة الواحدة.
هناك زمن آخر في النص يقدم نفسه مستقلا عن الفاعلين ويمتلك بدوره القدرة على الفعل، تمثله دقات الساعة. إذ تمارس فعلها في نفس الزمن اللغوي الحاضر المستمر. ويقع فعلها على الطرفين المتقابلين مخضعة إياهما لنفس النتيجة. أي إنهاؤهما التدريجي. فبقدر ما هما فاعلان، منفعلان أيضا.
ظهور فعل الساعة في المسار السردي للنص ليس سوى إحدى حالات الإحساس بالزمن لدى الفاعل الأول، الذات الشاعرة. وهذه الحالة ستختفي وتكف عن ممارسة فعلها ليدخل بعد ذلك عمر الطرفين في استمرارية من غير أن يتناقض : فالليل يستمر في العودة والذات تستمر في السقوط. (لنلاحظ أنه اختار « أسقط» وليس «سقطت») واستمرارهما الزمني لا يعني أنهما في موقع واحد. وقد بين التــقابل بين فضاءي الليلة والحفرة أن النشاط الاستعاري يطبع النص بطابع حي يولد توترات دلالية سبقت الإشارة إلى بعضها. الصورة الشعرية تجسد بذلك كل الحركات المعبر عنها في النص. إن خلو النص من التشبيه وميله إلى الاستعارة يجعل المتكلم يندمج في العالم الذي يبنيه بدل أن يجد له بديلا آخر. فتعبيره عن تعاقب الزمن بأوراق الأشجار لا يجعل هذه الأوراق شبيهة بالتعاقب، بل يجعل التعاقب هو هذه الأوراق نفسها. واختياره «أوراق الأشجار» للتعبير عن تعاقب الزمن وتغير أثره، يعود لما ترتبط به الأوراق في الذاكرة من إيحاء، ولكونها تجسد في علاقتها بالزمن كل آثاره عليها، منذ تمكينها من الحياة إلى سلبها منها.
الذاكرة الزمنية للأوراق ستلتقط من طرف المتكلم في الصورة الموالية ( السطر الثاني نفسه)، حيث يجعل للعمر أوراقا. وواقع الأمر أن الصورة الثانية هي صورة للصورة الأولى، أي أنها انتقال مجازي لا انتقال أول مشابه:
الزمن/ أوراق الأشجار / أوراق العمـــر.
وتكونت الصورة الثانية بواسطة العملية الاستبدالية الثانية :
الأشجـــــار / العمـــــــر
إذ تم إثبات كلمة العمر بدل كلمة الأشجار للسبب المذكور. أي أن المقصود بالأشجار دلالتها الزمنية. إنه نفس التحويل الاستبدالي في الصورتين الواردتين في السطر الثالث (ذاكرة الماء، ذاكرة الرمل). وهما صورتان استعاريتان تصلان الإنسان بالمصدر الطبيعي وتجعلان كل ذلك معرضا لتجلي الزمن. ومن هذه الصور التي يتجلى فيها الزمن، صورة أخرى يشخص فيها في صفة كائن حي يقضم العمر (السطر السادس).
ومع ما لهذه الصور من أدوار في الاشتغال في النص، فهي لا تكاد تستوقفنا في ذاتها. وربما يعود ذلك إلى كونها شبه مستهلكة. فأي جدة في جعل الزمن أوراقا للأشجار، وتعاقبه أوراقا للعمر، وكونه يقضم كالكائن الحي؟ هذا يجعلنا نرى هذه الصور كمجرد وسيط يمتلك الفاعلية في إضاءة الأطراف الفاعلة.
غير أن السطرين الأخيرين – لدينامية الحركات والأطراف الضدية فيهما – يتشكلان تصويريا بما يعمق تلك العلاقات. فالصورة الحركية الأولى : (الليل يعود لليلته) ليست صورة بلاغية بل سردية. يقوم فيها الفاعل (الليل) بفعل يتمكن بواسطته من إحداث تحول أفضى به الى الانتقال من حالة أولى كان فيها منفصلا عن الليلة إلى حالة ثانية اتصل فيها بها.
وتتولد بين هذه الصورة وبين الصورة الكلية الواردة في السطر الأخير مفارقة ضدية. ففي صورة السقوط في حفرة الظل يتدخل فاعل آخر هو حفرة الظل ليعاكس الذات المتكلمة ويمنعها من الاتصال بالموضوع الذي تبتغيه من العودة، بعد أن كانت اتصلت قبل ذلك بموضوع العودة نفسه. والفاعل (حفرة الظل) يشخص بلاغيا من خلال هذه الاستعارة التصريحية التي يصرح فيها الشاعر بحفرة الظل وهو يريد الزمن الشقي التعيس وإحساسه به. وهذا الاختلاف بين الذاتين الفاعلتين أي ذات الأنا وذات الحفرة يمثل تجليا آخر لجدل الأنا بالمكان في أبعاده الزمنية والرمزية.
يمكن في ضوء هذا أن نعيد قراءة الصورة التي شكلها النص عن الاستبدالات الزمكانية: ففي هذا النص تواجهنا علاقة : هنا/هنا. ثم وقع استبدال علاقة «هنا خلفي» بعلاقة «هنا أمامي». النظر في الخلف علاقة مكانية فتحت القول الشعري لاسترجاع الزمن :
مكان الهنا / مكان الخلف/مكان الآن/ مكان الماضي
إن الصورة المكانية في هذا النموذج وفي نماذج ذكرناها سالفا تتوزع بين الجزئي وبين الكلي، لو أخذنا نفس المثال، للألفينا أن المكان الكلي هو الليل (إنه مكان زمني في حالتنا هذه)، أما الأماكن الجزئية فهي الماء، الرمل، وقت، ليلة، حفرة. ويهمنا أن نشير إلى :
– تحول علامات غير مكانية إلى علامات مكانية: (ليل، ليلة، وقت).
– إضمار علامات غير مكانية لأماكن (أوراق، أشجار)
– تدخل علامات لبنينة المكان الجزئي والكلي : (في، علي، خلف، آخر).
– تدخل أفعال ذات مرجعية مكانية في كلا النوعين من الصور : (أنظر، أحدق، أبصر، تقصر، يعود، أسقط).
نميز كذلك بين وظيفة المكان داخل الصور (خاصة الصورة السردية) بوصفه حيزا لفعل أو لشيء : «حلمت/ أني هارب طريد/ في غابة) وبين المكان بوصفه حيزا لأمكَنة غـير المتأمكن ( في الاستعارة والتشبيه خاصة):» عيناك غابتا نخيل ساعة السحر».
إن نص محمود درويش الذي وقفنا عنده بقدر من التفصيل، يؤكد أن الشعر الحديث لا يضع حدودا في تشغيله لصورة المكان. فالمكان يتفجر بتناقضاته وأضداده. ومرد ذلك لكون الشاعر قلقا بأسئلته، غير متصالح مع واقعه، مصارعا ومجابها للضغوط الناشئة عن المكان بتقلباته الثقافية والحضارية والاجتماعية والسياسية فضلا عن الانسحاق الذي تواجهه الذات بوصفها كينونة فردية. وهذه العوامل نفسها كانت من أسباب التحول الذي وقع في لغة الشعر ومن العوامل التي أدخلته في متاهات الحداثة. وأصبح طبيعيا أن نتحدث عن وعي جديد بالمكان في لغة الشعر الحديث مقابل وعي كل الأنماط والاتجاهات الشعرية السابقة به. فالمكان في الشعر السابق غلب عليه تصور يعتبره معطى يقع في مقابل الرائي أو يوجد ضمن ما يراه بالبصر أو بالذاكرة. بالبصر يرى إيوان كسرى أو مقدم الربيع أو صحراء الرحلة والصيد…وبالذاكرة يرى أندلس المجد ووطن الحنين وربوع الطفولة….المكان في هذه الحالات يصبح موضوعا للرغبة في امتلاكه شعريا وتثبيته بتفاصيله. إنه بمثابة ذخيرة إما تقصد لذاتها لإظهار البراعة في الوصف، أو تقصد لتشكيل حالة الذات النفسية والجسدية، كالتعبير عن حدة الشوق وطول الرحلة وتحويل الجسد الأنثوي إلى خرائط جغرافية. إن هذا لا يعني خلو المكان الشعري القديم من أبعاده الرمزية وحتى الأسطورية، ولكن ذلك ظل في حدود متواطأ عليها بين الشاعر ومتلقيه، ولم تقع خلخلة ذلك التواطؤ إلا في نصوص ونماذج مذكورة في النقد القديم وصفت بالكذب والغلو والاستحالة. الفيصل الأساس بين القديم والحديث كامن في شكل الوعي بالمكان ما دام مفهوم المكان ذاته تغير على حد ما أشرنا إليه سالفا. الشاعر لم يعد أمام مكان جاهز. إنه مكان متصدع بمكانيته وبقيمه يحضر في تلك الصيغة التي تجمع ما بين صورة الشاعر عن ذاته وما بين صورته عن ذلك المكان. أما تشكيله في النص فوحده يبنى قيمه وأنساقه وقد يفضي به إلى الانتقال من صفة الحيز الذي يحتوي الحدث والأشياء إلى حالة الفاعل الذي يمارس الحدث في المكان الجسدي والزمني والنفسي متداخلا مع قيمه ورموزه، ومتصدعا بالذات التي تدركه صائرا إلى مأوى للمفارقات والأضداد.
إن صورة هذا المكان تأتي متسمة باختلاف مزدوج على هذا النحو: نحن آلاف نعيش في دغل كذاك الذي شبهتُ به القصيدة. ولكل منا أصابع عشرة في يديه، لكن بصماتنا تختلف. كذلك يحدث أن نُكون صورا عن المكان، لكن صورنا لا تأتي متشابهة . قد نحتفظ بثوابت مشتركة في صورنا، غير أنها ثوابت كتلك القائمة في أيدينا بأن كانت لنا عشرة أصابع، مع وجود فارق طبعا بين ثوابت الصور وثوابت الأيدي. ففي صورنا عن المكان نحتفظ بخطوط مائزة بيننا كما في خطوط البصمات. فنحن إذن مختلفون في تمثلنا للدغل. أضف إلى ذلك مستوى آخر من الاختلاف ويخص العلاقة بين الصورة التي يكونها كل واحد منا وبين المكان المرجعي والمقصود به الدغل في حالنا هذا. فلا يمكن للمطابقة أن تجد طرقها بين الطرفين. وهذا في تمثلنا الواقعي للدغل وللمكان عامة، فكيف بالتمثل الشعري له؟ أريد القول بأن كل واحد منا يتلقى صورة الدغل تبعا للتفاعل الناشئ له معه. فمن تربطه بالدغل علاقة حصار ليس كمن تربطه به علاقة خوف، وليس كمن تربطه به علاقة نمط عيش. نستنتج أن الصورة المكانية تخضع لمبدأ الاختلاف المزدوج؛ اختلاف بين الصورة والمصوَّر، واختلاف بين الصور عن بعضها. بعد ذلك تتدخل أنماط وصيغ القول الشعري في تشكيل الصورة تبعا للمقاصد منها والقيم التي تحملها. كما يتدخل متلقو الصورة، ولكل منهم صورة أو صور قبلية عن الدغل، وصورة أو صور عنه تنشأ عندهم حين القراءة. وجميع الصور بينها اختلاف، وقد تبقى لها ثوابت لا تنفي الاختلاف كما في أصابع أيدينا.