لهذا الصباح طعم آخر
خشخشة المفتاح في باب المحل حملت مذاقا لا يشبهه الا حدث لم يتم بعد، حتى الإفطار كان شهيا رغم أنه الفول ذاته الذي يجيئون به من عربة الرجل العجوز
الثابتة في نصف الشارع.
((صباح الخير)) التي أمطرته بها زوجه، تفاصيل البيت لما أفاق مع الفجر.
الأشياء في موضعها كأنها وجدت للتر، الندى على أوراق شجرة الليمون قبلات
لم
تمسح بعد، صوت أطفاله وهم يستعدون للخروج للمدرسة ضوضاء تعيد سيرة الماضي.
دفع الباب ثم أخذ يزيل من طريقه كومة الصفائح المعدنية المغطاة بحبات الكروم.
المكان تفاصيل أشياء وبقايا أجهزة، كراكيب مختلفة.
المخيم حالة أخرى من الوجود، صورة عتيقة عن الأشياء التي تحملها الذاكرة.
صفان
من أجهزة التلفاز التي جاء بها أصحابها ليصلحها لهم، بعضها أنجز، وبعضها الآخر
ينتظر الوقت. هو أيضا ينتظر الوقت، غير أن عربته لا تمر مثل عربة بائع الترمس
والنابت يوم الجمعة.. الآن فقط يدرك حاجته للساعة، اليافطة الكبيرة التي علقها سكان الحارة ترحب بابنه القادم من تيه الليل. مع الليل جاءوا أيضا. قفزوا من كل مكان، ولما صاروا داخل البيت، فتحوا
الباب
بهدوء ليدخل كبيرهم. ثلاث كلمات سبقت الذعر المطل من عيون الأطفال، أخذوا أحمد وساروا، تركوا خلفهم عويل أمه يرسم ظلالا لنجمة سقطت من سماء لا يرقى اليها
أحد، أفاقت الحارة، والبيت el من الدموع، ثمة شيء آخر لا يمكن للممت أن يحتويه..
الألم الذي يتآكل داخله، يعصره ليمونة ناشفة.. يتلوى كثعبان لا يرى شيئا أمامه
الفقد الذي يشعر فيه طوال سبع سنين غاب فيها. الزيارة التي كان يراها
خلالها
عشرون دقيقة كانت تكفيه شهرا حتى يسمحوا له بواحدة جديدة. خلال هذا الشهر
يمضي
نصف الوقت يفكر في تفاصيل الرحلة: الاستيقاظ قبل العصافير، الخروج للباصات
في
وسط المدينة، بائعو الساندويتشات، الانتظار
ساعتين أو أكثر عند الحاجز،.
التفتيش
المرهق والتوتر من أن جهاز الكمبيوتر قد يتآمر مع الجندي فلا يسمح له بالمرور،
الرحلة الطويلة إلى نفحة. بيوت مهدمة في الطريق كأنها بقايا جسد. شجر
الصبار
يقول إن قرية كانت تحتل الفضاء هنا قبل زمن. يافا هناك ! لا يأتي بها
النظر، غير
أن القلب عنه لا تغيب. الوصول جولة أخرى للذاكرة وللألم. البوابة الإلكترونية
والجندي يتشاغل عنهم بأزرار سترته، الانتظار رحلة أخرى ووقت آخر.
الأسماء. ثم
يندفع مع ذوي الآخرين.. غرفة الزيارة تفصلهم بسياج طويل لا يبيح إلا سماع
الصوت. أما الرؤية فشيء آخر. يكفي الضباب الذي تأتي به الدموع.
النصف الآخر!
أما النصف الآخر فيمضيه في الحديث الذي دار بينهما، أحاديث بعيدة تفد من
نواح
مختلفة. فيها من الأحلام والآلام والأماني والذكريات وفيها عن التفاصيل
والحياة
واللحظات الواهنة، وعن اللحظة القادمة حين ينتهي الليل ويخرج، قال له طال
الوقت
والشيخوخة لا ترحم، أمه رحلت بعد نزاع مع المرض. في البداية كذب عليه، بعد
ذلك
بزيارة اضطر لقول الحقيقة. أراد أن يشرح له حتمية النهاية، اللغة لا
تساعده..
– أريد ان أراك.
– الا تراني!
– أقصد ألمسك بيدي-
تمتم بدعوة تتمنى ما يصبو إليه، ثم
ثم انسحب في صمته يسترجع الزمن كمن يستفرغ
ما تحوي صعدته. ثمة أشياء كثيرة
لا
يفيها الصمت حقها في التعبير.. العمر أقصر من ضربات القلب ورمشات العين.
عندما جاء المذيع بالخبر، مثل كل مرة، قال لنفسه قد تصيب هذه المرة، جاءه
الشباب قائلين إن اسم أحمد ظهر في الكشوفات التي أعدت للذين سيفرج عنهم.
لم يخف
فرحته رغم محاولته التظاهر بالحيادية كيلا يباغته الفشل. أراد أن يداري
فرحته
بالصمت. كل مرة تنزف السماء دمعا، وهو يطوي روحه عائدا بعد أن يخرج آخر
أسير
محرر ولا يأتي أحمد. صورته على صدر الجدار تتوق لمطابقة الوهم للجسد.
– أنت مثلهم تتركني حين أنتظرك
…..
– كيف لا تعرف الألم الذي يدمرني وأنا أنتظرك !
– …..
– كان علي أن أتخلص من ضعفي لأن من ينوي الانتظار عليه الا يعرف الملل.
– أما من ينتظر غده مثلي فعليه أن يلفي فكرة الانتظار من رأسه.
هذه المرة قرر الانتظار بلا ملل..
كل الأشياء بدت عادية حتى ملابسه، على غير عادته حين كان ينتظره قرب الحاجز. الشارع بدا من خلف شاشة التلفاز، والمذيعة تعرض مع الكاميرا احتفال
المواطنين
بعودة المحررين. قرابة عشرين جهاز تلفاز سليمة تعمل في المحل وقرابة خمسة عشر
جهاز عاطلة. هكذا تظهر الأشياء متشظية. المذيعة تسأل كل الناس في الشارع عن مشاعرهم وهم ينتظرون البطل: بائع الفلافل
تحدث عن ذكرياته معه أيام كان يأتي لشراء فلافل
الإفطار (ضحك)، بائع الترمس
والنابت له ذكريات جميلة معه كما قال (مجموعة أطفال تخترق الكادر). الشاب المقعد على كرسي متحرك ذرف الدمع وهو يروي حكاية اصابته يوم كان يشاركه المواجهات (الكاميرا تهتز في يد المصور).. المرأة العجوز تروي عنه طفلا في شارع الحارة (لفت رأسها وهي تغادر الكادر).. الأطفال يتحدثون عن المعاني التي مثلها
لهم رغم أنهم لا يعرفونه، المسؤول أبرز دلوه / دوره هو الآخر.. الكل تحدث إلا هو.
فاصل ثم أغنية ثم عودة للبث.
عشرون تلفازا تعرض الجماهير الغفيرة التي تستقبل المحررين عند الحاجز الفاصل
بين مناطق الثلاثة ألوان. لما سمع خبر الإفراج قرر الا يعرض نفسه لنكسة فشل جديد، سينتظره في المحل، غير أن له أسبابا أخرى،
منها
لابد أنه سيزور قبر أمه قبل أن يعود للبيت.. ولابد أن
يعرج على قبر كل من
رحلوا خلال المسيرة من رفاق دربه كما كان يؤكد
له خلال الزيارة، المحل الصغير،
الذي يستأجره منذ ثلاثة عقود، ينقل العالم
الخارجي عبر صناديق بلاستيكية وجهها
من زجاج.
فاصل آخر ودعايات كثيرة، ثم الكاميرا تتجول قرب الحاجز، وجوه الناس رسو مات باهتة في دفتر تلميذ فاشل، النساء يتأهبن لفقع الزغاريد، خلف الحاجز يتكهن الناس بوجود حافلتين تقلان المنتظرين، بعد تصريح قصير لشخص مهم بانت الحافلتان
تجتازان الجندي المدجج بالصمت، عندها جاء
هتاف من الشارع. رفع رأسه، لم يستطع
مقاومة إغراء المحاولة، ربما تصيب.
في صناديق التلفاز عبرت الحافلتان.
بعض الشبان يخرجون رؤوسهم من النوافذ الجانبية، لم يطلع رأس أحمد، نزل
الشبان
وسط الهتاف والعناق والقبل، حدق مليا فالعين تخدع أحيانا، اقترب من أحد الصناديق تفرس كل الذين خرجوا، عرف بعضهم، ولم يعثر على ضالته،
عشرون
صندوقا
تأتي بالصورة ذاتها والمشهد نفسه.
فاصل آخر، وأغنية هائجة ثم دعايات لملابس
مستوردة.
انحنى يكمل تصليح الجهاز يستلمه صاحبه قبل
العصر.
الوقت.
عاطف أبو سيف (كاتب من فلسطين)