سعيد بن عبدالله الفارسي
كاتب وباحث عُماني
يكاد لا تخلو بقعة في ربوع عُمان من حضور الطيور فيها، فحسب إحصائيات مايو 2015م بلغت قائمة الطيور المشاهدة في عُمان حوالي (522) نوعًا، تنتمي إلى (76) عائلة من عوائل الطيور البالغة (231) والمسجلة عالميًا، تتوزع ما بين طيور مقيمة وزائرة وعابرة. هذا التنوع الهائل في الطيور على أرض عُمان يعود إلى وقوع السلطنة على مسار هجرة الطيور من قارة آسيا (المنطقة الهندية المالاوية) إلى قارة أفريقيا، حيث تقضي الكثير منها فترة الشتاء ثم ترحل إلى جنوب عُمان، وكذلك وقوعها على ما يعرف بمسار العالم القديم الممتد من أوروبا إلى مناطق جنوب الشرقية والمناطق الجنوبية من محافظة الوسطى، كما يعد الشريط الساحلي كذلك مسارًا للطيور الشاطئية التي تتوقف فيه للاستراحة في رحلتها القادمة من القطب الجنوبي والبحار الجنوبية.1
أما بالنسبة لساحل الباطنة فهو يزخر بالعديد من المقومات التي تجعله ملاذًا وقبلةً لأنواع الطيور كافة، حيث الكثبان الرملية الساحلية والأودية الخضراء والمزارع والسواحل الرملية والأخوار الشاطئية وما تحتويه من أشجار طبيعية ونباتات، مثل المانجروف (القرم) وغيرها، خاصة في فصل الشتاء الذي يستطيع فيه الزائر مشاهدة أعداد ضخمة من الطيور البحرية عند الشواطئ الرملية.2 كما هي الحال في شاطئ السوادي، وقنوات المد الشاطئية، المعروفة بالأخوار، مثل خور كشمير وصلان الواقعين في ولاية صحار، وخور حرمول في لوى، وخور شناص بشناص.
ويقصد بالطيور البحرية تلك التي تعتمد في معظم شؤون حياتها من غذاء وتكاثر على البيئة البحرية، فغذاؤها من الأحياء البحرية؛ من الأسماك والقواقع والقشريات… إلخ، وتكاثرها يجري على السواحل وشواطئ الجزر، وتنقلها دائمًا ما بين الماء واليابسة والهواء، كما أن بعضها لها القدرة على العيش بعيدًا عن اليابسة فترة زمنية قد تصل إلى أشهر عدة.
وفيما يأتي أمثلة على الطيور البحرية الأكثر شيوعًا على ساحل الباطنة:
– البلشون: تعرف محليًا بـ (البنغور)، وهي من الطيور الزائرة في فصل الشتاء، لكنها قد تستمر إلى فصل الصيف، ومن أنواعها البلشون الرمادي وبلشون الصخر، وعادة ما تنتشر على طول الساحل، وفي البحيرات الشاطئية والأخوار.
– الخطاف: من الطيور التي تمتلك القدرة على الغوص في البحر لالتقاط الأسماك الصغيرة، كأسماك السردين، لذا كان الصيادون يستدلون بها على أماكن أسراب السردين، وتعرف محليا بالفرخ، ومنه خطاف البحر السريع، والوردي، والمتوج الصغير، والقزويني.
– النورس: من أكثر الطيور البحرية شيوعًا في المحافظة، وعادة ما تجتمع في غير موسم التناسل الممتد من يوليو إلى أكتوبر، وهناك أنواع منها تزور المنطقة وقت الشتاء، ومن أنواعها (الفاحم– مستدق المنقار– أصفر الساق– السيبيري).
– غراب البحر أو الغاق: تعرف على ساحل الباطنة باللوهة، وهي من الطيور متوسطة الحجم أو الكبيرة، وريشها معظمه أسود اللون، وغذاؤها الرئيس الأسماك، ويمكنها كذلك أن تتغذى على القشريات والرخويات. يكثر وجودها على الساحل ما بين أكتوبر إلى نهاية إبريل. ارتبطت بطائر الغاق مأثورات شعبية متنوعة سنتناولها لاحقًا.
الطيور البحرية في المأثورات الشعبية المرتبطة بمجتمع الباطنة الساحلي
تعرف المأثورات الشعبية على أنها التراث الشفهي أو المعنوي الذي يتناقله أفراد المجتمع جيلًا بعد جيل، وتتمثل في العناصر الآتية:
العادات والتقاليد، والمعتقدات والأساطير، والخرافات والحكايات الشعبية والأمثال الشعبية، والألغاز والألعاب الشعبية، وأغاني العمل، والصناعات التقليدية. وتُعرف كذلك بالثقافة الشعبية والموروث الشعبي والتراث الثقافي غير المادي.3
والطيور البحرية بوصفها مكوّنًا رئيسًا في البيئة، ارتبطت بها مأثورات شعبية جاءت نتيجةً للتفاعل الذي يحدث بين الإنسان والطير، تلك المأثورات تداولها أبناء المنطقة وتوارثوها جيلًا بعد جيل. وفيما يأتي استعراض لنماذج من عناصر المأثورات الشعبية التي ارتبطت بالطيور البحرية على ساحل الباطنة:
– العادات: ارتبطت حرفة الصيد في محافظة شمال الباطنة بعادات عمل كانت لها علاقة مباشرة بسلوك الطير، منها مراقبة الصيادين لتحركات الطير وسلوكه، فكانوا عندما يشاهدون أسراب الطيور وهي جاثمة على الشاطئ، يدركون أن هناك أنواء مناخية قادمة؛ لذا عليهم أخذ الحيطة والحذر، كما أن طيرانها على ارتفاع أمتار قليلة من سطح البحر له دلالة على أن الرياح ستهب من الجهة المتجه إليها الطير، ومن خلال نوع الطير يستطيع الصياد تحديد نوع السمك المتوفر في ذلك المكان، فطير الخطاف كلما كان صغيرَ العمر يكون لونُ ريشِ رأسهِ أبيضَ، ومع مرور الوقت وزيادة عمره يتحول من اللون الأبيض إلى الأسود، ومع مراقبتهم الخطافَ الصغير ذا الرأس الأبيض لاحظوا أنه يبحث دائما عن أسماك السردين أو ما يعرف محليًا بالبرّيّة؛ لذا عندما يغطس في الماء يدرك الصيادون أن أسماك السردين موجودة في تلك البقعة، أما الخطاف ذو الرأس الأسود فعادة ما يغطس للأسماك كبيرة الحجم، فعندما يُشاهَد في بقعة جغرافية معينة يدركون أن أسماك السردين غير متوفرة في تلك البقعة، لأن سمك السردين هو غايتهم وهدفهم، وهكذا، ومن خلال عمر طائر الخطاف يمكن تحديد نوع السمك وهو في قاع البحر، كما أن مشاهدة طيور النورس وهي تحلق عاليًا على هيئة حلقات دائرية يُستدلُّ بها على أن هناك أسماكًا في عمق البحر، وأنها أي (طيور النورس) تنتظر اقترابها من سطح الماء؛ لذا يعمد الصيادون إلى مراقبة مستوى ارتفاعها حتى يحددوا الوقت المناسب لنصب شباك صيدهم.
ولمعرفة موعد اقتراب موسم صيد السردين، يحرص الصيادون على تتبع فضلات الطيور، ومخلفاتها، والبحث في مكوناتها عن بقايا لعظام أسماك السردين، فإن عثروا على بقايا تلك العظام فهذا يعد مؤشرًا قويًا على اقتراب موسم السردين، كما أن وجود أحد أنواع الطيور البحرية في منطقة محددة في البحر، يُعدّ كذلك مؤشرًا على توافر أسماك التونة فيها..
وللطيور البحرية أيضا حضورٌ في حرفة السفر الشراعي، فمن المتعارف عليه أن السفن التي تعبر المحيطات تبتعد عن الساحل لمسافات كبيرة؛ وبالتالي قد لا يرون الساحل لفترات زمنية قد تتجاوز الشهر خاصة تلك السفن التي تنطلق من موانئ الهند إلى شرقي أفريقيا، ولأن الطيور عادة ما تكون قريبة من الشاطئ، فإن مشاهدتهم لها تجعلهم يستبشرون باقترابهم من الساحل، كدليل على قرب نهاية رحلتهم.
الأهازيج البحرية والفنون
المُغَنَّاة (النهمات):
كان البحارة يتَغَنَّوْن بالأهازيج البحرية وهم على ظهر السفينة ، فقد كان لتلك الأغاني والأهازيج الأثر الكبير في نفوسهم سواء أكانوا بحارة أو نواخذا4، فهي وسيلتهم لإثارة الحماس، وتحفيز نشاطهم ودافعيتهم للعمل، وبذل الجهد المضاعف، بل هي أداة للتعبير عن شعور الشوق والحنين للوطن وللأسرة بشكل خاص.5 والمتتبع لتلك الأهازيج والأغاني يجدها توظف مفردة الطير في الكثير من كلماتها الشعرية المغناة، فتارة يُستخدم الطير رسولًا لإيصال مشاعر الحب والحنين إلى المحبوب ونقل الأخبار، كما في كلمات نهمة التعويف، التي جاءت على هيئة حوار بين الطير وأحد البحارة:
يا طير الليلة وين الزام
أسميك يالخضراء خدمتي
شرق سدرة بن هزام
فالبحار يسأل الطير عن المكان الذي يجتمع فيه الطير، لأنه يدرك أن وجود الطيور في مكان محدد يُعدّ مؤشرًا ودلالة على توفر الأسماك في تلك البقعة من البحر، فيأتيه الرد من الطير، بأن الضغوة6 التي يُطلق عليها الخضراء، قد اصطادت سمكًا وفيرًا، بجوار منزل بن هزام المقابل لشجرة السدرة، لذا سيكون لقاؤهم في ذلك المكان، وكلمات النهمة كذلك فيها تمجيد ومدح لضغوة الخضراء، فمن عادة البحارة كذلك خلق جو من التنافس بينهم؛ لذا يسعون إلى التغنّي والتفاخر بصيدهم الوفير.
أما النهمة القائلة كلماتها “اللوهة غاصت على المحار قالت محمومة ورأسي حار” فهي من النهمات التي يتغنّى بها البحارة أثناء تحميل البضائع من السفينة وإليها، أو تحميل الأسماك سواء الطازجة أو المجففة، وكلماتُ النهمة فيها إظهارٌ لمعاناة البحّار في حرفة الغوص، فعلى الرغم من أن طائر الغاق أو اللوهة يُعرف بقدرته على الغطس بحثا عن فريسته، إلا أنه عندما قرر الالتحاق بحرفة الغوص بحثًا عن اللؤلؤ لم يستطع الاستمرار؛ للجهد والإرهاق المصاحب لها، فأخذ يسوق الحجج والأعذار للتخلص من المأزق الذي وضع نفسه فيه، فادّعى بأنّ حُمّى سكنت جسده، ودُوارًا أصاب رأسه، ولا تخلو النهمة من كونها ترغب في الإساءة إلى طائر الغاق وإظهاره بمظهر الضعف، خاصة وأن الصياد يحسبه العدو اللدود له، حيث يعمد، كما أسلفنا، إلى الغطس في الماء للحصول على فريسته من الأسماك، وعادة ما يهاجم أسراب الأسماك فتتفرّق؛ وبالتالي يقلل من حظوظ الصياد في اصطياد السمك الوفير.
ومن النهمات الأخرى التي وظفت الطير في كلماتها، تلك الأبيات التي تجسد حوارًا دار بين أحد البحارة والنوخذا، تقول أبيات النهمة:
يا نوخذا مجرى7 السفن دار
مجرى الثريا والميازين
يا نوخذا هذا ولم الكبار
من هو يجاسي في بحر قرنين8
الإمام صلى والبلد9 تندار
ونحن صلاتنا شرق ثنتين
والطير لمن صفق وطار
ما تلحقه لو طاف دورين.
في كلمات النهمة السابقة، يخاطب البحار النوخذة بأن سفن الغوص المجاورة أخذت في العودة إلى الموانئ، وأن موسم الغوص قد انتهى، وهو مازال يأمرهم بالغوص، ويتابع حديثه بالقول، إن الرزق بيد الله سبحانه وتعالى، ومن لم يحالفه الحظ في العثور على اللؤلؤ طوال فترة الغوص، لن يجدي نفعًا بقاؤه أو استمراره فيما تبقى من أيام قليلة، فالرزق إن لم يكن من نصيبك، فحاله مثل مَنْ يحاول أن يمسك طيرًا يحلق في السماء.
الأمثال الشعبية:
هي شكلٌ من أشكال التعبير الشفويّ، وعنصر مكون للأدب الشعبي لأي مجتمع، وعادة ما يقوم المثل على حكاية أو قصة أو موقف مر به الإنسان، لذا تُعد الأمثال الشعبية أداة الجماعات للتعبير عن نفسها، سواء أكان تعبيرًا عن الرضا أم السخط، من خلال توظيف الألفاظ والمفردات السائدة في المجتمع، التي تناسب طبيعته.10
وتقوم الأمثال الشعبية بدور واضح في إبراز القيم الاجتماعية والاقتصادية في أي مجتمع كان، وعن طريقها تترسخ وتتعمق المعايير الأخلاقية والاجتماعية؛ ليصبح أفراد المجتمع أكثر إيجابية وتفاعلًا مع الآخرين، وغالبًا لا يتعدى المثل الشعبي في طوله بضع كلمات، لذا يسهل حفظه وتداوله فيصبح واسع الانتشار.
وللطيور البحرية حضورٌ كبير في الأمثال الشعبية، على اعتبار أنها جزءٌ من البيئة الساحلية، باختلاف أنواعها وأشكالها، وتوظيف الطير في الأمثال الشعبية محاولة للتعبير عما يدور في نفس الإنسان، ومن الأمثال الشعبية المتداولة التي ارتبطت بالطيور البحرية ارتباطًا مباشرًا على ساحل الباطنة:
“اللوهة تصيد والبنغور يأكل”، يُضرب هذا المثل للدلالة على من يعتمد على الآخرين في تحقيق أهدافه أو من يستغل جهد الآخر خدمةً لمصلحته وغاياته، كطائر الغاق أو الغراب السقطري، الذي يطلق عليه محليا باللوهة، كما أسلفنا، حيث يُعرف عنه قدرته على الغطس في أعماق البحر، لاصطياد فريسته من الأسماك، ثم يخرج إلى سطح الماء ليقتات منها، وما يتبقى منها تتقاذفه الأمواج إلى الشاطئ، حيث يوجد طائر البلشون (البنغور) الذي دائما ما يكون على الشاطئ، يتغذى على الأسماك النافقة أو بقايا السمكة التي اصطادها طائر الغاق.
أما المثل القائل “إذا سكعت أكلني السمك واذا غفيت أكلني الطير” فيُضرب للدلالة على كل من كان في حيرة من أمره، أو يكون أمام خيارين كلاهما مُرّ، أو عواقبهما وخيمة، تشبيهًا بحال الشخص في عرض البحر، فهو إن غطس في الماء قد يكون فريسة للأسماك الكبيرة، وإن خرج لسطح الماء كان في مرمى طيور البحر.
ومن الأمثال الشعبية التي وظفت فيها الطيور البحرية، المثل القائل: “ما يطير بعيد ولا ينصاد بالييد”، هذا المثل يرتبط بأحد أنواع الطيور البحرية، التي عادة ما تكون على الشاطئ، وهو طائر صغير الحجم، يقتات على القشريات والأصداف البحرية، وغير قادر على التحليق لمسافات عالية وبعيدة، لكن يعجز كلُّ مَن يحاول الإمساك به؛ نظرا لقدرته على الجري السريع، لذا يضرب المثل في الشخص الماكر أو الشخص الذي له قدرة على المراوغة والخروج من المأزق.
الحكايات الشعبية:
تعرف الحكاية الشعبية بأنها درة الأدب الشعبي، والموروث الشعبي بشكل عام، ذلك لأن الحكاية الواحدة منها قد تحتوي على مجموعة من عناصر الموروث، فيمكن لراوي الحكاية أن يسرد المثل الشعبي أو اللغز أو الموال أو الحِكم والعِبر، كما يمكن أن يستعرض عادات المجتمع وتقاليده ومعتقداته، والبيئة التي يعيش فيها. والحكاية الشعبية قد تكون قصة تقليدية أو قصةً متشظيّة من أسطورة تتبع ثقافة شعبٍ من الشعوب، تناقلها جيلٌ بعد جيل؛ لذا فأحداثها قد تكون عرضة للتغيير حسب الزمان والمكان حتى تكون ملائمة مع الواقع الثقافي الجديد الذي تسرد فيه الحكاية.11
وفي أحداث الحكايات الشعبية غالبا ما يتشارك الإنسان والحيوان، وأحيانًا قد تأخذ الحيوانات الدور الرئيس أو دور البطولة، ومن تلك الحيوانات الطيور التي ارتبطت بدلالات ثقافية ورمزية متعددة، ومازالت تُتَدَاوَل إلى اليوم، كما هو الحال في الغراب الذي يرمز إلى التشاؤم، كما أن هناك حكايات شعبية عرضت موضوعاتها على ألسنة الطيور، لتسليط الضوء على قيم إنسانية؛ مثل الصداقة والوفاء والرحمة وغيرها. ومن الحكايات الشعبية المتداولة التي وظفت في أحداثها أكثر من نوع من الطيور السائدة في مجتمع الباطنة الساحلي، ما يعرف بحكاية “بديحتي بديحتي”.
تدور أحداث الحكاية حول بنت الصياد التي كلفتها زوجة أبيها بالذهاب إلى البحر لتقطيع سمكة البدحة، وتنظيفها، وفي أثناء قيامها بذلك سمعت البنت السمكة وهي تطلب منها أن تُعيدها إلى البحر مقابل أن تحقق رغباتها كلها، وتقدم يد العون وتساعدها في التخلص من أساليب العقاب التي تقوم بها زوجة الأب تجاهها، وفي إحدى المرات دعا الملك أفراد المدينة جميعهم للحضور لاختيار زوجة لابنه الأمير، فأرادت زوجة الأب منع بنت الصياد من الذهاب، خشية أن يُفتن الأمير بها، ويختارها زوجة له، بينما ترغب هي بتزويج ابنتها له، فقامت بنثر حبوب القمح في فناء المنزل وطلبت منها جمعه، لتضمن بقاءها حتى انتهاء الحفلة، فاستنجدت البنت بالسمكة لتساعدها في الخروج من هذا المأزق؛ لرغبتها في الذهاب إلى الحفل، فاستدعت السمكة مجموعة من العصافير لالتقاط الحَبّ، وفي فترة زمنية قصيرة تحقق حلم البنت، وجمعت العصافير الحَبّ، فخرجت بنت الصياد للحفل، ولكن أثناء عودتها سقط حذاؤها ولم تتمكن من العثور عليه، فعثر عليه الأمير وطلب من الحرس إحضار صاحبة الحذاء، وعندما كان الحرس يجوبون المدينة بحثا عن صاحبة الحذاء، قامت زوجة الأب بوضع بنت زوجها الصياد في التنور حتى لا يشاهدها الحرس، إلا أن الديك الموجود بالمنزل أخذ ينادي بصوت عالٍ ويقول: “عمتي حمدة بالتنور”، فالتفت الحرس لكلامه وأخرجوها فكان الحذاء يناسب قدمها، فتزوجها الأمير، وتخلصت البنت من قسوة زوجة أبيها.
في هذه الحكاية قامت الطيور المتمثلة في العصافير والديك بدور المنقذ لبنت الصياد، ورفع الظلم عن البنت ومساعدتها في التخلص من قسوة زوجة أبيها وتحقيق حلمها بالزواج من ابن الملك.
الألعاب والألغاز الشعبية:
تعد الألعاب الشعبية وسيلة من وسائل الترفيه، بل إنّ دورها لا يقتصر على ذلك، بل تقوم بوظائف اجتماعية ونفسية وتربوية، وترتبط الألعاب الشعبية بمكونات البيئة، وعناصرها التي يعيش بها الفرد أو ينتمي إليها. فالألعاب التي يمارسها أطفال المناطق والقرى الساحلية تختلف عن تلك التي يمارسها أطفال المناطق الصحراوية أو الجبلية، فالإنسان كما يقال ابن بيئته، لذا من الطبيعي أن تكون هناك ألعاب يمارسها أطفال المناطق الساحلية ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالطيور البحرية بوصفها مكوّنًا رئيسًا في البيئة البحرية، وتصنف ضمن ألعاب الصيد، حيث يُظهر فيها الأطفال مهاراتهم الفردية في نصب الفِخاخ للطيور البحرية، ففي موسم صيد السردين، حيث تتكاثر طيور النورس على الساحل بحثًا عن غذائها، سواء أكان عند البحيرات الشاطئية الناتجة من ظاهرة المد والجزر أم عند رمال الشاطئ حيث أماكن تجفيف السردين، التي عادة ما تكون بحاجة إلى مراقبةٍ لمنع اقتراب الطيور من تلك الأسماك المجففة، يعمد الأطفال المكلفون بالمراقبة إلى نصب الفخاخ المصنوعة من جريد النخيل الأخضر، أو استخدام طريقة الصيد بالخيط والسنارة من خلال وضع صغار السمك في السنارة بعد تثبيتها في الأرض، وحينما تحاول طيور النورس خطف الطعم يعلق منقارها في السنارة، فتصبح غير قادرة على الخلاص، كل تلك الطرق فضلا عن طرق أخرى يمارسها الأطفال من باب التسلية في جو يسوده التنافس والحماس بينهم.
أما فيما يتعلق بالألغاز الشعبية، فهناك الكثير منها يتداولها أبناء المناطق الساحلية في أوقات السمر والتجمعات الأسرية للتسلية، خاصة في فترة المساء، وقد كان للطير حضورٌ في محتوى الكثير من الألغاز، ومضامينه، مثل طائر الغاق أو الغراب السقطري، الذي يصفه اللغز بأنه أرفع (أكبر حجمًا) من الديك وأهبط (أقل حجمًا) من الجمل، ولونه أسود من الظلام كناية عن السواد الداكن للريش الذي يكسو جسمه.
كما وُظِّفَ الطير في لغز يعبر عن ظاهرة طبيعية تحدث بين حين وآخر تعرف بزبد البحر أو رغوة البحر، تحدث نتيجة امتزاج عوالق عضوية وأملاح وبقايا نباتات ميتة وأسماك متعفنة، لتتشكل على هيئة رغوة خفيفة جدًّا تتطاير في الهواء، ويمكن أن تمتدّ لمسافة بعض كيلومترات؛ لذا وصفها اللغز بأنها “طائر يطير في البحار، ليس له ريش ولا منقار”.
ومع نهاية استعراض حضور الطيور البحرية في المأثورات الشعبية، يمكن القول إن البحث في مثل هذه المواضيع غاية في الأهمية، خاصة وأنها تُسهم بشكل مباشر في حفظ الموروث الشعبي، وتوثيق عناصره، وتُبرز رؤية الإنسان وتصوراته عن الكائنات الحية بشكل عام، والطيور بشكل خاص؛ لذا يجب أن يُبذَل المزيد من الجهد في الأبحاث العلمية والأكاديمية، والعمل على رفد المكتبة التراثية بالدراسات والأوراق العلمية التي من شأنها الإسهام في حفظ هذا الإرث، وتوثيقه قبل اندثاره وزواله.
الهوامش
ناصر الكندي، الطيور في عُمان، وزارة الإعلام، مسقط، 2014م، ص6.
هنا وينس اريكسون، الطيور الشائعة في عُمان، ترجمة راشد الذهلي، الرؤيا، مسقط، 2008م، ص 99.
أحمد علي مرسي “حول الملكية الفكرية والمأثورات الشعبية (الفلكلور- التراث الثقافي غير المادي)”، مجلة المأثورات الشعبية، العدد 81، وزارة الثقافة والفنون والتراث، الدوحة، 2013م، ص12.
مفردة أصلها فارسي، تطلق على قائد السفينة.
يوسف عايدي، نهمة الخليج في وصف النهمة البحرية والنهام في الخليج، معهد الشارقة للتراث، الشارقة، 2022م. ص27-39.
الضغوة: من طرق الصيد الجماعية التي كانت ومازالت تمارس على ساحل الباطنة، وتستخدم لصيد أسماك السردين، وتعرف كذلك بالعاملة.
مجرى: مسار
قرنين: مغاص للؤلؤ يقع ما بين أبو ظبي وقطر.
أداة تستخدم لقياس عمق البحر، ومسبار لمعرفة طيبة تربة قاع البحر.
محمد العمدة، دلالة الطير في التراث الشعبي، معهد الشارقة للتراث، الشارقة، 2024م. ص27.
العمدة، مرجع سابق، ص145
قائمة المراجع:
أحمد علي مرسي «حول الملكية الفكرية والمأثورات الشعبية (الفلكلور- التراث الثقافي غير المادي)»، مجلة المأثورات الشعبية، العدد 81، وزارة الثقافة والفنون والتراث، الدوحة، 2013م.
محمد العمدة، دلالة الطير في التراث الشعبي، معهد الشارقة للتراث، الشارقة، 2024م.
ناصر الكندي، الطيور في عُمان، وزارة الإعلام، مسقط، 2014م.
هنا وينس أريكسون، الطيور الشائعة في عُمان، ترجمة راشد الذهلي، الرؤيا، مسقط، 2008م.
يوسف عايدي، نهمة الخليج في وصف النهمة البحرية والنهام في الخليج، معهد الشارقة للتراث، الشارقة، 2022م.