معلوم ان عجز الانسان وضعفه امام ظواهر الطبيعة المتقلبة وقواها، مع قصور تجربته ومعرفته، كان هو الدافع لتصور قوى مفارقة ميتافيزيقية، هي التي تقف وراء متغيرات الطبيعة وثوراتها وغضبها وسكونها، لان تلك الظواهر لم تكن مفهومة، فقد جاءت تلك القوى ايضا غيبية و لذلك ارتبطت عقائد الناس في اربابها بوسطها البيئي ، حيث عبرت عن ذلك الوسط واظهر مظاهرة واكثرها تكرارا وديمومة، ومن هنا قدس العربي اجرام السماء التي تظهر بكل وضح في ليله الصحراوي المنبسط، دون حواجز حتى الافق بدائرته الكاملة، كما قدس الاحجار خاصة ذات السمات المتفردة منها، فبيئته رمال وصخور واحجار، وقد غلب انتشار الصخور البركانية في جزيرة العرب لانتشار البراكين فيها، واطلقوا عليها سم الحرات من الحرارة والانصهار.
لكن اتساع رقعة الجزيرة على خطوط عرض واسعة، ادى الى تبيان ظروف البيئة والمناخ، مما ادى الى تعدد مماثل في الظواهر، وبالتالي تعددية مفرطة في العبادات، هذا ناهيك عن وعورة المسالك في الجزيرة ، والتي ادت الى ما يشبه العزلة لمواطن دون مواطن، خاصة تلك التي في الباطن، مما ادى الى احتفاظها بالوان من العقائد الموغلة في قدمها وبدائيتها، نتيجة عدم الاحتكاك بالثقافات الاخرى التي تساعد على تطور الراسب المعرفية من ثم العقائدي.
التعدد في العبادة
وهكذا يمكنك ان تجد اضافة لعبادة اجرام السماء وعبادة الاحجار والصخور، بقايا من ديانات بدائية كالفيتشية والطوطمية ، وعبادة الأوثان وعبادة الأسلاف .
والفيتشية أكثر ديانات الجزيرة انتشارا بين أهلها، وهي تقدس الأشياء المادية كالاحجار، للاعتقاد بوجود قوى سحرية خفية بداخلها، أو لأنها قادمة من عالم الآلهة في السماء أو من باطن الارض حيث عالم الموتى، وقد ظلت تلك العقائد قائمة حتى ظهور الإسلام .
اما الطوطمية ، التي تعتقد بوجود صلة لأفراد القبيلة بحيوان ما مقدس ، فتظهر في سميات قبائل العرب ، مثل (أسد، فهد، يربوع ، ضبة ، كلب ، ظبيان … الخ ). لذلك كانوا يحرمون لمس الطوطم أو حتى التلفظ باسمه ، لذلك كانوا يكنون عنه ، فالملدوغ يقولون عنه السليم ، والنعامة يكني عنها المحلى ، والأسد أبي حارث ، والثعلب ابن آوى، والضبع أم عامر، وهكذا. هذا اضافة الى تقديس الأشجار، مثل ذات انواط التي كانوا يعظمونها، ويأتونها كل سنة فيذبحون عندها ويعلقون عليها اسلحتهم وارديتهم .
كذلك عبد العرب كائنات أسموها (الجن ) خوفا ورهبة ، ودفعا لأذاها، وظنوها تقطن الاماكن الموحشة والمواضع المقفرة والمقابر، وكان العربي إذا دخل إلى موطن قفر حيا سكانه من الجن بقوله : عموا اطلاها، ويقف قائد الجماعة ينادي : إنا عائذون بسيد هذا الوادي، وتصوروا الجن كحال العرب ، فهم قبائل وعشائر تربط بينهم صلات الرحم ، يتقاتلون ويفزر بعضهم بعضا، ولهم سادة وشيوخ وعصبيات ، ولهم من صفات احر بان كثير، فهم يرعون حرمة الجوار ويحفظون الذمم ويعقدون الاحلاف .. وقد يتقاتلون فيثيرون العواصف ، ويصيبون البشر بالأوبئة والجنون . وقد نسبوا الى الجن الهتف قبل الدعوة مباشرة ، حيث كثر الهواتف اي الاصوات التي تنادي بأمور وتنبىء بأخرى بصوت مسموع وجسم غير مرئي.. وقد اعتمد الكهان على تلك الاعتقادت فزعموا انهم يتلقون وحيهم عن الجن ، وان الجن بامكانها الصعود الى السماء والتنصت على فصائر البشر في حكايات الملأ الأعلى مع بعضهم عمن في الأرض , وان الكاهن بامكانه معرفة مصائر البشر عبر رفيقا من الجان .
عبادة الاسلاف
أما أشد العبادات انتشارا واقربها الى الظرف المكاني والمجتمعي، فهي عبادة الاسلاف الراحلين ، ويبدو لنا أن تلك العبادة كانت غاية التطور في العبادة في العصر قبل الجاهلي الاخير، حيث كان ظرف القبيلة لا يسمح بأي تفكك نظرا لانتقالها الدائم وحركتها الواسعة وراء الكلأ ، وهو التنقل الذي كان يلزمه لزوجة جامعة لأفرادها، ثم تمثله في سلف القبيلة وسيدها الراحل الغابر، فأصبح هو الرب المعبود وهو الكافل لها الحماية والتماسك ، بوصفها وحدة عسكرية مقاتلة متحركة دوما، فاستبدلت بمفهوم الوطن مفهوم الحمى، والذي يشرف عليه سيدهم وأبوهم القديم وربهم المعبود، حيث تماهى جميع أفراد القبيلة فيه ، ومن هنا كان الرب هو سيد القبيلة الراحل القديم ، الذي تمثلوه بطلا مقاتلا أو حكيما لا يضارع ، ومن ثم تعددت الأرباب بتعدد القبائل ، ونزعت القبائل مع ذلك نحو التوحيد، وهى المعادلة التي تبدو غير مفهومة للوهلة الأولى ، لكن بساطة الامر تكمن في ان البدوى في قبليته كان لا يعبد في العادة ويبجل سوى ربه الذي هو رمز عزته ورابط قبيلته ، ولا يعترف بأرباب القبائل الأخرى، وهو الامر الذي نشهد له نموذجا واضحا في المدون الاسرائيلي المقدس ، حيث عاش بنو اسرائيل ظروف قبلية شبيهة ، فيقول سفر الخروج : "من مثلك بين الآلهة يارب "، أي ان القبلى كان يعرف أربابا أخرى لقبائل اخري، لكن ربه هو الأعظم من بينها. لذلك لكن البدوي في قبليته يأنف أن يحكمه أحد من خارج نسبه، لأن نسبه هو ربه، هو سلفه، هو ذاته، هو كرامته وعزته، لذلك كانت عبادة الاسلاف أحد أهم العوامل في تفرق العرب القبلي ، وعدم توحدهم في وحدة مركزية تجمعهم .
ولم يأت الاعتراف بآلهه أخرى لقبائل أخرى الا فيما بعد، بعد دخول المصالح التجارية للمنطقة، واستعمال النقد، وظهور مصالح لافراد في قبيلة ترتبط بمصالح لافراد في قبيلة اخرى، مما ادى لاعتراف متبادل بالأرباب ، وهو الامر الذي بدأ يظهر خاصة في المدن الكبرى بالجزيرة على خط التجارة ، في العصر الجاهلي الأخير، كما حدث في مكة والطائف ويثرب وغيرها.
المستوى المعرفي
دأب بعض مفكرينا في شؤون الدين – عافاهم الله – على الحط من شأن عرب الجزيرة قبل الاسلام، وتصويرهم في صورة منكرة ، وسار على دربهم أصحاب الفنون الحديثة في القصة والسيناريو والأعمال الفنية السينمائية ، بحيث قدموا ذلك العربي عاريا من أية ثقافة أو حتى فهم أو حتى انسانية ، حتى باتت صورته في ذهن شبيبتنا، إن لم تكن في أذهان بعض المثقفين بل والكتاب أيضا، اقرب الى الحيوانية منها الى البشرية . وقد بدا لهؤلاء أن القدح في شأن عرب قبل الإسلام ، وابرازهم بتلك الصورة المزرية ، هو فرش أرضية الصورة بالسواد، لابراز نور الدعوة الاسلامية بعد ذلك ، وكلما زادوا في تبشيع عرب الجاهلية ، كلما كان الاسلام اكثر استضاءة وثقافة وعلما وخلقا وتطورا على كل المستويات . وان الامر بهذا الشكل يبعث اولا على الشعور بالفجاجة والسخف ، ثم هويجا في ابسط القواعد المنطقية للايمان ، فالأيمان يستدعي بداية قيمته من دعوته ، ومن نصه القدسي، وسيرة نبيه ، فقيمته في ذاته ، قيمة داخلية ، وليست من قارنته بآخر، اما الأنكي في الأمر، فهو ان تتم مقارنة الالهي بالانساني، لابراز قيمة الالهي ازاء نقص الانساني، في تلك الحال ستكون ظالمة لكليهما: الإلهي والإنساني، فالإلهي لا يقارن بغيره ، كما ان مقارنة الإنساني به فداحة في التجني على الانساني بما لا يقارن مع الالهي.
وقد فطن (الدكتور طه حسين ) الى ذلك الامر وعمد الى ايضاحه في كتابه الادب الجاهلي مبينا مدى تهافت الفكرة الشائعة حول جا«لية العرب قبل الاسلام ، وكيف أن تلك الفكرة أرادت تصوير العرب كالحيوانات المتوحشة ، لإبراز دور الاسلام في نقله الاعجازي هؤلاء الاقوام المتوحشين ، فجأة ودن مقدمات موضوعية ، الى مشارف الحضارة ، فجمعهم في أمة واحدة ، فتحوا الدنيا وكونوا امبراطورية كبرى. هذا بينما القراءة النزيهة لتاريخ عرب الجزيرة في المرحلة قبل الإسلامية تشير بوضوح ، إلى أن العرب لم يكونوا كذلك وفي تطورها الانساني، اما الركون الى عقائدهم لتسفيههم ، فهو الامر الاشد فجاجة في الرؤية ، فيكفينا ان نلقى نظرة حولنا، على الانسان وهو في مشارف قرنه الحادي والعشرين ، لنجده لم يزل بعد يعتقد في أمور هي من أشد الأمور سخفا.
معارف العصر
والمطالع لاخبار ذلك العصر المنعوت بالجاهلي ، في كتب الاخبار الاسلامية ذاتها، سيجد في الاخلاق مستوى رفيعا هو النبالة ذاتها، وسيجد المستوى المعرفي يتساوق تماما مع المستوى المعرفي للاهم من حولهم، وان معارفهم كانت تجمع الى معارف تلك الامم معارفهم الخاصة، فقط كان تشتتهم القبلى وعدم توحدهم في دولة مركزية ، عائقا حقيقيا دون الوصول الى المستوى الحضاري لما جاورهم من حضارات مركزية مستقرة . وهو الامر الذي اخذ في التطور المتسارع في العصر الجاهلي الاخير نحو التوحد في احلاف . كبرى، تهيئة للامع العظيم الآتي في توحد مركزي ودولة واحدة كبرى.
فعلى مستوى المعارف الكونية ، كان لدى العرب تصورات واضحة ، تضاهي التصورات في الحضارات حولهم : فالأرض كرة مدحاة ، والسماء سقف محفوظ ، تزينه مصابيح هي تلك النجوم، وفيه كواكب سيارة ، اطلقوا عليها (الخنس الجواري الكنس )، فهذا (زيد بن عمرو بن نفيل) يحدثنا عن التصور الكوني المعروف في بلاد الحضارات ، في قوله :
دحاها فلما رآها استوت
على الماء أرسى عليها الجبالا
بينما نجد (أمية بن عبد الله الثقفي)، يصور لنا ما درج عليه العالم القديم من تصور لسماء سقفا بلا عمد، وانها طبقات سبع ، وان الشهب فيها حماية ورصدا ومنعا للجن من استراق السمع على الملأ الأعلى ، وذلك في قوله :
بناها وابتنى سبعا شدادا
بلا عمد يرين ولا حبال
سواها وزينها بنور
من الشمس المضيئة والهلال
ومن شهب تلالأت في دجاها
مراميها اشد من النضال
المعارف الدينية
أما على مستوى المعارف الدينية ، وكانت سمة عصرها، وهى المنحولة عن عقائد الرافدين القديمة ومصر القديمة وبلاد الشام وفلسطين ، وجاء تفصيلها مجملا في مدونات التوارة ، فهو الامر الذي كانت تعرفه جزيرة العرب ، فهذا (الأفوه الاودي) يأبي الا ان يسجل اسماء ابناء نوح في في قوله :
ولما يعصمها سام وحام
ويا فت حيثما حلت ولام
اما طول العمر النوحى فكان مضرب المثل ، وهو ما يؤخذ من مديح الأعشى لأياس
جزى الله إياسا خير نعمة
كما جزى المرء نوحا بعدما شابا
في فلكه اذا تبدأها ليصفها
وظل يجمع ألواحا وابوابا
وهو ما جاء ايضا في ضرب الواجز، رافضا عمرا كعمر نوح
فعلت لو عمرت سن الحل
او عمر نحو زمن الفطحل
والصخر مبتل كطين الوحل
صرت رهينة هرم أو قتل
وكان انتشار قصص التوراة في معارف الامم يجد صوابه في معارف ذلك العصر، فها هو (أمية بن أبي الصلت) يقدم حوارا شعريا بين موسى وهارون وبين فرعون ، يقول فيه :
وأنت الذي من فضل ورحمة
بعثت إلى موسى رسولا مناديا
فقلت له : اذهب وهارون فادعوا
إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
وقولا له : أذنت سويت هذه
بلا وتد حتى اطمأنت كماهيا
وقولا له : أذنت رفعت هذه
بلا عمد، ارفق ، إذا بك بانيا
بل وعرف العرب قصة مريم وولدها، وسارت فيهم كقصة معلومة ، وهو ما صاغه (أمية) شعرا بدوره ، إضافة لما جاءت به المسيحية عن يوم بعث ونشور، مضافا اليه ما سبق اليه المصريون من القول بحساب للموتى أمام موازين العدل في قاعة الحساب السماوية ، فهذا شعر بقى عن (قس بن ساعدة) يقول:
يا ناعي الموت والأصوات في جدث
عليهم من بقايا برعم خرق
دعهم فان لهم يوما يصاح بهم
فهم إذا انتبهوا من نومهم فرقوا
حتى يعودوا لحال غير حالهم
خلقا جديدا كما من قبله خلقوا
فيهم عراة ومنهم في ثيابهم
منها الجديد ومنها المبهج الخلق
وهو الأمر الذي يوضحه شعر (زيد بن فضيل) وهو يصور أحوال الحساب ونتائجه في قوله:
ترى الأبرار دارهم جنان
وللكفار حامية السعير
وخزى في الحياة وان يموتوا
يلاقواما تضيق به الصدور
وهو ذات الامر الذي فصل أمره (أمية الثقفي) في قوله :
باتت همومي تسرى طوارقها
اكف عيني والدمع سابقها
مما أتني من اليقين ولم
أوت برأة يقصى ناطقها
ام من تلظى عليه راقدة النار
محيط بهم سرادقها
أم أسكن الجنة التي وعد
ألابرار مصفوفة نمارقها
لا يستوي المنزلان ولا
الاعمال تستوي طرائقها
وفرقة منها أدخلت
النار فساءت مرافقها
أما (علاف بن شهاب التميمي) فيؤكد:
وعلم ان الله يجازي عبده
يوم الحساب بأحسن الاعمال
كذلك جاء تقرير (زهير بن أبى سلمى واضحا) في قوله :
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم
ليخفي، ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضح في كتاب فيدخر
ليوم الحساب، أو يعجل فينتقم
المعالم الادبية
ليس جديدا التأكيد على شعرية العربي، حتى قيل إن كل عربي شاعر، وحتى اصبح الشعر ديران العرب ، رواية حالهم وظروفهم وعقائدهم ، وسجل لمعارفهم ومستواهم الثقافي الاخلاقي، وسجل لحياتهم العملية وطرق عيشهم بل ورؤاهم الفنية والفلسفية .
وإلى جانب الشعر كان معلم الخطابة بما حواه من ذات المحتويات الشعرية ، بنثره المنظوم المسجوع ، اضافة الى سجع الكهان ، المرسل منه والمزدوج .
وكان للعرب اسواقهم ، التي عادة ما كانت تفتتح افتتاحا ثقافيا، بإلقاء الخطب النثرية ، والقصائد الشعرية ، واجراء المسابقات حول افضل القصائد، وهو ما برز في (المعلقات السبع)، مما يشير الى ديدن أمة اهتمت بتنمية الثقافة وتشجعيها، رغم تشتتها شيعا في قبائل لا تجمعها وحدة مركزية .
النثر المسجوع
وكان العربي حريصا على تقديم معارفه وثقا فته شعرا، وان نثرها حرصا على الجرس الموسيقى فيها، مما يشير الى رهافة في الحس وارتقاء في الذوق ، ونماذج من ذلك النثر، ما جاء قسما بالمظاهر الكونية عند (الزبراء) وهى تقول : "واللوح الخافق ، والليل الفاسق ، والصباح الشارق ، والنجم الطارق ، والمزن الوادق ، إن شجر الوادي ليأود ختلا، ويرق أنيابا عملا، وإن صخر الطوا لينذر ثقلا، لا تجدون عنه معلا".
ومن ألوان هذا السجع سجع ديني، جاء في وصف " ربيعة بن ربيعة " ليوم البعث والنشور، بقوله : "يوم يجمع فيه الأولون والآخرون ، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون"، وهو ذات الرجل الذي يقسم بصدق قوله : "والشفق والغسق " والفتل اذا اتسق، ان ما أنباتك به لحق" أما (شق بن صعب ) فيصف ذات اليوم بقوله "يوم تجزي فيه الولايات، يدعى فيه من السماء بدعوات ، يسمع منها الاحياء والاموات، ويجمع فيه الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات ".
ويقسم (ابن صعب ) لسائله بأنه يقول الحق : "ورب السماء والارض ، وما بينهما من رفع وخفض ، ان ما أنبتك به لحق ، ما فيه امض ". اما الكاهن الحزاعي الذي احتكم اليه هاشم وامية في نزاعهما، اصدر قراره سجعا يقول : "والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من ستجد وغائر، قد سبق هاشم أمية الى المفاخر".
أما "قس بن ساعدة الايادي" فيرسل سجعه مصورا معارف العصر الكونية في نثره قائلا: " ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وأرض مدحاة ، وانها مجردة ، ان في السماء لخبرا، وان في الارض لعبرا ".
المعلم الشعري
والشعر الجاهلي وثيقة هامة في يد الباحث العلمي، تأخذ سمت المعلم التاريخي، رغم ما أثير حول الشعر الجاهلي من تشكيك في صحة انتسابه لعصره فعلا، وكان ابرز ما قيل بشأنه قضية النحل التي اثارها (الدكتور طه حسين ) في كتابه الشعر الجاهلي ، والمحاكمة المشهورة التي جرت آنذاك بشأن ذلك الكتاب وصاحبه .
لكن ما يدعو ال الاطمئنان في الغالبية مما وصلنا من ذلك الشعر، مدونا باقلام المسلمين ، هو ان القافية والوزن كانا يضمنان منع حدوث تغيير كبير على ذلك الشعر، كما ان المحتوى البسيط لذلك الشعر، وماجا، به من أخبار التخاصم على الابل والمراعى يضمن عدم التصنع ، وعلى رأي (د. حسني مروة ) أننا لو حكمنا على شعر الاخطل وجرير …… بشكله ، لتعذر علينا نسبته الى ما بعد الاسلام .
وكان (ابن سلام ) اول من بحث قضية الانتحال ، وعزا اسبابها الى العصبية القبلية ، والرواة الرضاعين ، مثل حماد الراوية ، وخلف الأحمر، وسبق
الجميع الى مسألة الانتحال (المفضل الضبي) الذي نقد خلفا الاحمر،اما ( طه حسين ) فقد ردد ما سبقه اليه المستشرق (مرجليوث ) بشكل مختلف بعض الشىء. وان كان اهم حيثيات محاكمته هي انكاره هبوط ابراهيم واسماعيل عليهما السلام جزيرة العرب .
وقد قامت جمهرة السلفيين تؤكد قبولها صحة نسب الشعر الجاهلي دون تحفظ او تشكك ، وقد ظهر ذلك واضحا في المؤلفات التي وضعت للرد على (طه حسين )، ونموذجا لذلك ما جاء في كتاب (نقض كتاب في الشعر الجاهلي ) لمحمد أحمد الغمراوي، و(مصادر الشعر الجاهلي) لناصر الدين الاسد، وغيرهم . ونسبة الشعر الجاهلي لعصره ، قد اتفق أمرها بين المسلمين السلفيين ، وبين كثير من المستشرقين ، وهو ما يمثله نموذجا قول المستشرق (ليال): "والواقع أن هذا الشعر الجاهلي، قد أفاد المؤرخ الباحث في تأريخ الجاهلية، فائدة لا تقدر بثمن، وربما زادت فائدة هذا الشعر من الوجهة التاريخية، على فاشدته من الوجهة الادبية، لانه حوى أمورا مهمة عن أحداث العرب الجاهليين ، لم يكن في وسعنا الحصول عليها لولا هذا الشعر".
الخطابة
والخطابة كانت من ابرز الأنشطة الفكرية والثقافية للعوب ، وكانوا يلجأ ون فيها الى كل الوسائل الابداعية والجمالية والبلاغية لاقناع المستمع بوجاهة محتوى الخطبة ، وعند التعامل مع ملوك الدول كان العرب يختارون اكثرهم تفوها، وقد ذكر (ابن عبد ربه لم في عقده الفريد، أن كسرى تنقص من أمر العرب في حضور (النعمان بن المنذر) لديه ، مما استفز (النعمان) لعروبته ، فارسل في طلب خطباء العرب وأوفدهم الى كسرى ليعرف مآثر العرب وقدرهم الثقافي .
وكان الخطباء يخطبون في ونادتهم على الامراء، فيقف رئيس الوفد بين يدي صاحب السلطان ليتحدث بلسان قومه ، ومن هذه الخطب ما قيل بين يدي رسول الله عليه السلام عام الوفود وأوردته كتب السير والأخبار. ومن أشهر الخطباء، أولئك الذين وردت أسماؤهم في الرد على كسرى، وهم أكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة التميمي، والحارث بن عباد، وقيس بن مسعود، وعمرو بن الشريد السلمى، وعمرو بن معد يكرب الزبيدي، ومن خطباء مكة (عتبة بن ربيعة) و(سهيل بن عمرو)، ومن الخطباء ايضا (هرم بن قطبة)، و(عامر بن الظرب العدواني) ، وهى نماذج تشير الى خطباء كثر لقبائل العرب ، اوردتها لحب الاخبار والسير تفصيلا وحصرا.
المستضعفون
لعب جدل الاحداث العالمية دورا أساسيا نشطا فيما جرى من تحولات داخل جزيرة العرب ، وكان تحول طرق التجارة العالمية الى الشريان البرى المار بمكة قادما من اليمن متجها نحو الامبراطوريتين ، عاملا مؤسسا لتغير أنماط الانتاج الاقتصادي في الجزيرة ، التي أخذت تنحو نحو التجارة كعماد أساسي للاقتصاد، وما تبع ذلك من تغيرات في البنى الاجتماعية ، التي اخذت بدورها في التحول النوعي عن الشكل القبلي القائم على المساواة المطلقة بين أفراد القبيلة ، الى تفكك ذلك الشكل بتراكم الثروة في يد نفر من افراد القبيلة دون نفر آخر، الشكل الطبقي الذي فجر الاطار القبلي ، لصالح تحالفات مصلحية بين اثرياء القبائل المختلفة ، وكان الناتج الطبيعي لتفاوت توزيع الثروة ، ظهور شكل مجتمعي جديد على جزيرة العرب ، لترصد لنا متب الاخبار الاسلامية اهم الشرائح المجتمعية الجديدة ، على خريطة النظام الطبقي الطالع، مقابل الطبقة المترفة من أثرياء تجار الغرب .
فقراء العرب
وإعمالا لجدل الاحداث اخذ الفارق الطبقي بالاتساع السريع والهائل ، ليصبح سواد العرب من الفقراء المستضعفين ، يعملون في رعى الانعام والفلاحة وتجارات البيع البسيط ، يسكنون الخيام والعشش والاكواخ الحقيرة ، ويسمعون عن الخبز ولا يأكلونه ، حيث كان الخبز من علامات الوجاهة والثراء، ولا يعرفون عن اللحم سوى الصليب ، وهو ودك العظام تجمع وتهشم وتخلى على النار طويلا، ليحصلوا منها على الصليب ، وغالبا ما عاشوا على مطاردة ضباء الصحراء وأورالها ويرابيعها. ونقصد بهؤلاء الفقراء، عرب صرحاء، من أبناء قبائل متميزة ، دفعتهم إلى الاسفل آلة التغير الاقتصادي والمجتمعي.
ويلى تلك الطبقة في التدني، طبقة الموالى ، وهم من ابناء قبائل أخرى ترعوها ولجأوا لقبائل مخالفة ، أو كانوا أسرى فك أسيادهم أسرهم ، أو أعاجم أرقاء أعتقهم سادتهم بمقابل. وقد شكل هؤلاء طبقة بني أبناء القبيلة الخلص الصرحاء، وبين العبيد.
ثم طبقة أخرى ظهرت بدورها نتيجة التفاوت الطبقي الحاد، وتكونت من افراد تلبستهم روح التمرد على اوضاع المجتمع الجديد، فتصرفوا بتلك الروح فأضروا بمصالح السادة ، فخلعتهم قبائلهم وتبرأت من فعالهم باعلان مكتوب أو في الاسواق العامة ، وهى الطبقة التي عرفت باسم "الخلعاء".
الصعاليك
أما أبرز تلك الطوائف أو الطبقات التي أفرزها المتغير الاقتصادي المجتمعي، فهي "الصعاليك"، وهم فئة لا تملك شيئا من وسائل الانتاج ، تمردت على الاوضاع الطبقية ، بل وشنت عليها الحرب ، بخروجهم افرادا عن قبائلهم باختيارهم ، وتجمعهم على اختلاف اصولهم في عصابات مسلحة ، وأبرز الاسماء التي وصلتنا منهم : عروة بن الورد، وتأبط شرا، والسليك بن السلكة ، والشنفري، وقد اطلق علهيم العرب (الذؤبان)، و(العدائين) لسرعتهم.
وقد روى عن هؤلاء انهم كانوا ذوى سمات متميزة ، من الشهامة والمروءة والنبالة ، واخلاق الفروسية، فكانوا لا يهاجمون الا البخلاء من الاغنياء، ويوزعون ما ينهبون على الفقراء والمعدمين، بعد ان شكلوا لانفسهم مجتمعا فوضويا، شريعته القوة ، وأدواته الغزو والاغارة، وهدفه الاول السلب والنهب، وهدفه الاخير تعديل الموازين المجتمعية.
وتروى لنا كتب السير والاخبار وطبقات الشعراء، أشعارا للصعاليك ، ينعكس فيها الاحساس المرير بوقع الفقر عليهم وفي نفوسهم ، ويضج بشكوى صارخة من الظلم الاجتماعي،وهوان منزلتهم، فهذا (قيس بن الحدادية) يخبرنا انه لم يكن يساوى عند قومه عنزا جرباه جذما،، اما الاخبار عن الشنفري فتروى كيف اسلمه قومه هو وامه وأخوه رهنا لقتيل عن قبيلة اخرى، ولم يغدوهم ، وكيف تصهلك الشنفري ورفع سيف ثورته بعد ان لطمته فتاة سلامية ، لأنه ناداها: يا أختي، مستنكرة أن يرتفع الى مقامها.
ومن مثل تلك الاخبار، نستطيع تكوين فكرة واضحة عن المدى الذي فعله المال داخل القبيلة، مما ادى بالصعاليك الى فصم علاقتهم بقبائلهم ، وتكوين جماعتهم المسلحة ضد الاغنياء، لينزعوا منهم مقومات الحياة الانسانية التي اهدرها الواقع ، وهو المبدأ الذي يتجلى واضحا في شعر (عروة بن الورد) وهو يقول :
إذا المرء لم يبعث سواما ولم يرح
عليه ولم تعطف عليه أقاربه
فللموت خير للفتي من حياته
فقيرا، ومن موي تدب عقاربه
العبيد
وفي ضوء الحاجة لليد العاملة في خدمة آلة الاقتصاد الجديد، بدأت بلاد العرب تعرف النظام العبودي، وكان مصدره السبي والنخاسة وعبودية الدين، حتى جاء وقت اصبحت تجارة العبيد بمكة تجارة منتظمة ، تأتي بهم من سواحل افريقيا الشرقية، وهم الطائفة السوداء، ومنهم من كان يشتري من بلاد فارس والروم وهم الطائفة البيضاء. لاستخدامهم في حراسة القوافل ، واعمال الري الصناعي والزراعة والحرف وليس ادل على كثرة هؤلاء العبيد. من ان هندا بنت عتبة اعتقت في يوم واحد اربعين عبدا من عبيدها، كما اعتق ابو احيحة سعيد بن العاص مائة عبد. اشتراهم واعتقهم.
ومع النظام العبودي انتشرت عادة التسرى بالإماء، فكان للرجل ان يهب أو يبيع او ينكح أمته أو يجعلها مادة للكسب بتشغيلها في البغاء، ثم يأخذ ناتجهن المولود ليباع بدوره وعندما جاء الاسلام حرم البغاء، ولكنه أبقى علي نظام ملك اليمين ضمن ما أبقى عليه من انظمة الجاهلية وقواعدها المجتمعية ، لكنه رغب في العتق وحض عليه .
الاساطير
مع التطور الرتيب البطىء للقوى المنتجة ، نتيجة للتعددية والتشظى القبلي، تواضع العقل العربي على القاء تفاسير ميتافيزية ، لما يجابهه من ظواهر طبيعية ، يحاول بها تبرير ما يحدث حوله، وهو ما اصطلح بعد ذلك على تسميته بالاساطير بين العرب انفسهم، خاصة بين الطبقة المثقفة من اثرياء تجارهم ، وهو ما يعلن عدم قناعة مستبطن بتلك التفا سير، التي أدرجت ضمن أخبار السالفين وأنبياء الأمم وقوادهم تحت عنوان واحد يجمعها هو (الاساطير).
اساطير الماء
ولما كان المطر اهم الظواهر واخطرها لحياة البدوى، فقد وضعت بشأن انقطاعه أو تواتره سيولا تفاسير اسطورية بدائية بسيطة بساطة حياة البداوة ، فاذا أمطرت السماء نسبوا المطر الى فعل النجم او المجموعة النجمية التي توافقت من الظهور مع سقوط المطر، فيقولون : أمطرنا بنوء كذا. وكان لفيض المطر أحيانا ودوره المدمر تفاسير من لون آخر، فيبدو أن الذاكرة العربية احتفظت بأحوال عرب قدماء، دمرت بلادهم بسبب الامطار العاصفة ، فحكوا عنها روايات تفسيرية، تكمن الاسباب فيها بيد الآلهة الغاضبة البطوش على من خالفوا اوامرها أو نواهيها، وهو ما روته العرب مثيلة عن هلاك عاد وثمود، ويمكن الرجوع بشأنه تفصيلا للفصول الأولى من كتب الاخبار الاسلامية ، وعلى سبيل المثال تاريخ الامم والملوك للطبري.
كذلك كان لندرة المطر أساطيرها الخاصة ، والتي دفعتهم الى ابتداع الوان من الطقوس ، قصدوا بها تحريض الطبيعة على العمل ، ويبدو أن ملاحظة سكان السواحل للضباب الصاعد من الماء ليكون سحابا ممطرا اثر، في تصور اصطناع حالة شبيهة ، فكانوا يوقدون نارا تخرج عادتها دخانا شبيها بالضباب الصاعد للفضاء، بقصد الاستمطار، ولأن البقر كان رمزا للخصب عند الشعوب القديمة، فقد عقدوا بين النار والبقر في طقس يجمعون فيه الابقار، ويصعدون بها ا لمرتفعات، ويربطون في ذيولها مواد قابلة للاشتعال يوقدون فيها النار، فتهرع الابقار مذعورة تثير الغبار وهى تهبط من الجبل ، لتصطنع حالة شبيهة بالعواصف الممطرة، واثناء ذلك يضجون بالدعاء والتضرع، ويرون ذلك سببا للسقيا بعد ذلك .
أساطير السماء
وفي العصر الجاهلي الاخير، ومع النزوع نحو توحد قومي وديني تحت ظل إله واحد، ارتفع العرب بذلك الاله عن المحسوسات ، ونظروا الى الههم ساكنا السماء في قصر عظيم تحفا حاشية من الملائكة ، لذلك قدسوا السماء وأجرامها، والقسم بها، وبظواهرها، وحفوا بالقدسية كل ما تساقط من السماء بحسبانه قادما من ذلك ا لمكان المقدس حيث العرش ، فكان تقديس الاحجار النيزكية احد نتائج ذلك الاعتقاد.
وقد نسبوا الى الافلاك اثرا عظيما في حياة البشر والأمراض والاوبئة ، وكان تساقط الشهب يعني وقوع احداث جلل، كالحروب، او الكوارث الاقتصادية او الطبيعية، او ولادة رجل عظيم، أو موت لآخر.
ويبدو أن تلك القدسية امتدت عند بعض القبائل الى تأليه نجوم السماء، بينما اتجه البعض الآخر الى اعتبارها هي ذات الملائكة ، وقالوا انهن بنات الله ، أولهن علاقة بالله على الجملة في اكثر من شأن ، ويعبر عن ذلك الرواية المشهورة بشأن كوكب الزهرة والملكين هاروت وماروت، وكيف أغوت الزهرة الغائبة الملكين الورعين فارتكبا الخطيئة وعصيا الله خالق السماوات والارض ، وكيف تحولت تلك المرأة الفاتنة التي أغوت ملائكة السماء بدورها الى كائن سماوي يتمثل في ذلك الكوكب الجميل المعروف بكوكب الزهرة .
اساطير البشر
كذلك لم يجد العرب في تميز بعض الاشخاص الا سمات خارقة ، نسبرها اليهم احيانا انبهارا واحيانا تمجيدا، فهذا خالد بن سنان يطفىء النار التي خرجت بجزيرة العرب وكانت لها رؤوس تسيح فتهلك البلدان ويبدو أنها كانت ذكرى بركان مدمر، لكنهم جعلوا لنار البركان رؤوسا آكلة حاربها ابن سنان حتى اطفأها وردها الى مقر الارض .
وهذا الصعلوك القوى النبيل ، يشتد الاعجاب به وبقوته حتى يقولوا انه قتل الغول واتى يحمل رأسه تحت ابطه ، فاسموه (تأبط شرا) وهذا عنترة بن شداد يشد على الاعادي فيكسر رماح الحديد وينزع النخيل من مواضعه ويحارب الغزاة ، حتى يتحول مع النزوع القومي في الجاهلية الاخيرة الى بطل عربي قومي يحارب اعداء العرب بقواه الجبارة .
وذاك سيف بن ذى يزن يدخل الحلم القومي الهروبي بعد تحرير بلاده من الاحباش ، فيتم التعتيم على استعانته بالفرس الذين يحتلون بلاده عوضا عن الاحباش ليتم تصويره بطلا شعبيا عظيما يقاتل الجيوش ويهزمها بقوته ومهارته .
وهو ما يشير إلى نزوع جديد نحو أساطير البطولة للجاهلية في عصرها الأخير، لتصنع رمزها القومي العربي، وهى تنحو نحو التوحد الآتي.
أنماط الزواج
في جزيرة العرب ، تعددت أنماط الزواج ، كناتج ضروري لشكل العلاقات المجتمعية ، والتوزع القبلي ،وتباعد المضارب عبر مساحة تكاد تكون قارة متباينة ، تشكل فيها كل قبيلة وحدة قائمة بذاتها، ومن هنا فرضت تلك الاوضاع انماطا عدة للنكاح ، عددتها لنا كتب السير
والاخبار الاسلامية .
النكاح لاجل
والنكاح لاجل كان يقع على طريقتين تمثلان نوعين من الزواج ، وهو لون من النكاح الصريح الذي لا يعني زواجا بالمعنى المفهوم، والنوع الاول منه هو ما عرف بنكاح (الذواق) الذي يتم دون أي شروط تعاقدية ، ويحل برغبة اي من الطرفين متى ما شعر بعدم الرغبة في الاستمرار، وقد اشتهر بهذا النكاح (أم خارجة) التي تناكحت وأربعين رجلا من عشرين قبيلة، فكان يأتيها الرجل متوددا يقول ؟ خطب ، فترد: نكح ، فيأتيها، حتى ضرب بها المثل فقيل : أسرع من نكاح أم خارجة ، وهو الخبر الذي اورده الزبيدي في تاج العروس والميداني في مجمع الامثال .
اما النوع الثاني فهو نكاح المتعة ، وقد عرف بعد ذلك في عهد النبي (ص) كمشروع للمسلمين دون حرج ، وكان قبل ذلك واسع الانتشار بين عرب الجاهلية ، وكانت دوافعه لديهم التنقل والاسفار والحروب ، حيث كان الرجل يتزوج على صداق محدد لاجل محدد، وبقضاء المدة ينفسخ التعاقد، وقد كان لاثرياء مكة الدور الاساسي في ارساء هذا اللون من النكاح ، حيث كانوا اصحاب قوافل وسفر، وممكنات مادية تسمح لهم باقتناء الحريم على تلك الطريقة ، على محطات سفرهم بالقوافل ، ويبدو انه لون من التقنين الأحدث للطريقة الأولى "الزواج بالذواق". انكحة في عداد الزنى وعرفت الجاهلية ألوانا أخرى من النكاح وكرهته رغم عمل البعض به، فكان في عداد الزني، وتمثله عدة الوان ، أولها نكاح الشقار، وهو ان يزوج الرجل ابنته على ان يزوجه الآخر ابنته دون امهار، فكانت كالتبادل البضائعي، لاحق للمرأة فيه ولا مهر لها، وقد نهى الاسلام عن هذا اللون من النكاح (لا شنار في الاسلام)، ورغم ذلك لم يزل معمولا به خاصة بين فقراء المسلمين ، كحل غير مكلف لعدم وجود المهر فيه . وهناك لون آخر عرف باسم المضامدة ، تتخذ فيه المرأة خليلا أو اكثر على زوجها، وكانت تفعله نساء القبائل الفقيرة زمن القحط ، وكان يتم بعمل الرجل فتذهب الى السوق وتعرض نفسها على ثرى يكفلها ويمنحها المال ، ثم تعود بعد ذلك لزوجها بعد أن توسر بالمال الكافى لاعاشة اسرتها، وبدوره كان نكاحا بدفع العامل الاقتصادي أساسا.
ثم ألوان أخرى من النكاح البدل المعروف بتبادل الزوجات، وزواج المقت، وكان مكروها من العرب واسموه المقت كرامة له، وكان يتزوج بموجبه الرجل زوجة ابيه كجزء من ميراثا عند موت ذلك الاب ، وقد ابطل الاسلام هذا اللون من الزواج ، هذا ناهيك عن نكاح الاستبضاع الذي يطلب فيه الرجل بذرة سيد عظيم في رحم زوجته عساه يرزق بولد عظيم .
ومن انكحة الزنى الصريح ، نكاح صاحبات الرايات الحمر، وهن بغايا مكة اللائي كن ينشطن في مواسم التجارة وموسم الحج ترغيبا للتجار واهل السوق ، وقد شجع أثرياء مكة صاحبات الرواية الحمر، لمزيد من الانعاش الاقتصادي، لكنهم مع ذلك كانوا على مروءة إن حملت المرأة، حيث يلحق ولدها بما يرى أهل الفراسة والقيافة أو بضرب القداح ، فيصبح ابن من تقع عليه الحظوظ .
انكحة بالعرف
وقد تواضع العرف القبلي في ظل ظروف التشتت القبلي ، والإغارة والاقتتال بين القبائل وبعضها، على لون بشع من ألوان النكاح ، هو لون صريح من الاغتصاب المهين ، ينزل بالقبيلة المهزومة ونسائها، حيث كان من حق المنتصر سبي النساء والاستمتاع بهن حيث تصبح ملكه بالسبي، ويصبح من حقه بيعها ان لم يجد من يفتديها منه . ومثله نكاح الاماء بالشراء والامتلاك ، وهذا اللون من النكاح كان لا يعرف عددا للنساء الحريم على سرير الرجل . وهو شبيه بالزواج غير المحدد لعدد الزوجات الذي كان معرفا بدوره بين الطبقات الثرية ، لكنه كان نادرا معدودا، حتى تجده في خبر اوا ثنين ، كما جاء عن غيلان الثقفي الذي أسلم وتحته عشر نسوة .
مكانة المرأة
حول مكانة المرأة في جاهلية العرب الاخيرة ، اختلف الباحثون ازاء ما بأيديهم من معطيات تتضارب اشد التضارب ، وتتناقض الى حد عدم الالتقاء ابدا. فذهب الباحثون الى طريقين على ذات الدرجة من التضارب والتناقض ، منهم من رأى للمرأة في الجاهلية مكانة تتميز بها عن وضع بنى جنسها عند بقية الشعوب ، وأنها سمت الى وضع السمت في المجتمع ، بينما ذهب فريق أخر ال النقيض وهبط بها إلى أسفل سافلين .
الشكل الارقى
ومن ذهبوا بمكانة المرأة في ذلك العصر إلى مكان السمت المتميز، اعتمدوا على ما جاء بديوان العرب من أشعار، تبين كيف كانت المرأة هي الوتر الحساس في قلب كل عربي، ومبعث كل الهام ، حيث التزمت القصائد جميعها تقريبا نهجا يهيم بالمرأة ويمجدها، وما يلاحظ على المعلقات التي لا تخلوهن الاشادة بالمرأة والتغزل فيها بل والفخر بها.
ويعود الاتجاه نفسه الى المأثور العربي وماروا من اخبار عرب الجاهلية في المصادر الاسلامية ، ليجد العربي حريصا على كرامة المرأة ويعتبرها موضع شرفه ، حتى شنت من اجلها حروب ، وابرزها موقعة ذى قار التي انتصرت فيها ثلاث قبائل عربية متحالفة ، على الفرس ، بسبب رفض النعمان بن المنذر تزويج ابنته للملك الفارسي . كذلك حرب الفجاع الثانية التي قامت بين قريش وهوازن تلبية لاستنجاد امرأة بآل عامر للذوذ عن شرفها، ولا ننسى حرب البسوس التي دامت اربعين عاما بسبب انتهاك جوار امرأة ، وما قصة عمرو بن هند وعمرو بن كثلوم إلا ابرز مثل لآنفة العربي وحرصه على كرامة المرأة وعزتها.
وتروى كتب الاخبار وطبقات الشعراء كيف كانت المرأة تستشار في عظائم الامور، كما في حادثة سعدى ام اوس الطائي، ناهيك عن مشار كتها للرجال في ساحة القتال ، تحثهم على المثابرة وشد ازرهم ، وتداوي الجرحى وتدعو للاخذ بالثأر، فيستبسل الرجال مخافة سبي نسائهم ، وقد كان لواء (الحرثية) في شعر حسان بن ثابت وراء نصر تريش في احد على المسلمين ، فعندما سقط لواء المكيين هرعت اليه (الحارثية) وسط الرماح والسيوف وحملته ، فتجمعت حوله فلولى المنهزمين ، وظلت تهتف بهم حتى عادوا وحملوا على المسلمين حملة شديدة . ودور (هند بنت عتبة ) في ذات المعركة من أهم الأدوار في تاريخ تلك الحروب، حيث أتت بنساء مكة وقيانها يشحذن الرجال وينشدن الأناشيد الحماسية لتأجيج الحمية القتالية. وكانت (هند) من شاعرات العرب اللائي يصفن المعارك ويحسن تصوير الأبطال ، واشتهرت أيضا كفيلة بنت النضري، وأروى بنت الحباب ، وبنت بدر بن هفان والهيفاء القضاعية ولامراء أن الخنساء ذهبت من بينهن بعمود الشعر رثاء وفخرا وحماسة وحربا.
ولا يغيب على فطن انتساب قبائل العرب الى أمهاتها مثل بجيلة وخندق وطهية ومعاوية ونويرة ، ويبدو أن الحرص على مكانة الام كان وراء حرص العربي على كرم النسب وطهارة الرحم ، وقد ذكر كتاب الاغاني في حديثه عن حرب الفجاع أن (مسعود الثقفي) ضرب على زوجته (سبيعة بنت عبد شمس ) خباء وقال لها: من دخله من قريش فهو آمن، فجعلت توصل في خبائها ليتسع .
وفي الاشعار تقدير عربي شديد للمرأة ، فيخاطبها إذا كانت زوجة بأفضل الألقاب ، فهو يقول لها:
يا ربة البيت قومي غير صاغرة
ضمي اليك رحال القوم والقربا
واللقب، وتعبير (غير صاغرة ) يشير إلى أي درجة من السمو كانت .
الشكل الآني
أما أصحاب الاتجاه الآخر، فيستندون الى ذات المعطيات وذات المادة التاريخية ، ليعطونا صورة من أشد الصور بخسا بحق المرأة ، فكانت تورث مع المتاع إذا توفى عنها زوجها، ويرث الولد زوجة أبيه ويتصرف فيها حسب مشيئته ، فبامكانه أن يتزوجها، أو يزوجها لغيره ويأخذ مهرها، أو يعضلها حتى تموت ، أي يمنعها من الزواج حتى تدفع فدية عن نفسها. فهي في منزلة بين الانسان والأنعام، أو هي مثل متاع البيت متعة لصاحبه ، وسميت متاعا بالفعل، مهمتها الاستيلاد والخدمة، وشاع الكثير عن بفض العرب للبنات ، حتى سئل إعرابي: ما ولدك؟ قال : قليل خبيث ، قيل: وكيف ذلك ؟ قال : لا عدد أقل من الواحد، ولا أخبث من بنت.
وهذا (ابو حمزة العيني) يهجر زوجته الى بيت مجاور بعد ان ولدت بنتا، حتى أمست تقول شعرا:
ما لأبى حمزة لا يأتينا
يظل في البيت الذي يلينا
غضبان الا نلد البنينا
تالله ما ذلك في أيدينا
وإنما نأخذ ما أعطينا
ونحن كالأرض لزارعينا
ننبت ما قد زرعوه فينا
وغنى عن التنبيه تلك الرؤية المتقدمة للرجل كسبب في جنس الوليد، وأن المرأة مجرد أرض تقبل الجنس المزروع وتنبته .
هذا ناهيك عن ظاهرة الوأد كأبشع الظواهر طرا، وقد ذهب بعضهم الى قصر الميراث على الولدان الذكور وقالوا، لا يرث إلا من يحمل السيف .
التحليل التاريخي
ومثل هذا التناقض في المعطيات ثم التناقض بالتبعية في تقارير الباحثين حول وضع المرأة في الجاهلية، لا يحله الا رؤية تاريخية موضوعية ، قد عاش العرب في قبائل متعددة موجودة جنبا الى جنب في زمن واحد، ولكن في مناطق مختلفة ، وهى تتداخل معا، ففي مكة جمع شكل المجتمع القبيلة الى جوار الواقع الحضري، وطريقة العيش ووسائل الكسب ، من رعى وغزو الى استقرار زراعي، الى تجارة ، اثرها الذي يجب اخذه في الاعتبار عند مناقشة وضع المرأة في الجاهلية ، وهو موضوعنا التالي .
العامل الموضوعي ووضع المرأة
سبق وأشرنا إلى اختلاف آراء الباحثين في وضع المرأة زمن الجاهلية ، كما ألمحنا إلى أن ذلك الاختلاف ناتج من تعدد القبائل والاشكال المجتمعية على التحاور في زمن واحد، في مناطق مختلفة ، كذلك تنوع الاقاليم وطرق الكسب !لتي تتباين ، وما تبع ذلك بالضرورة من اختلاف في وضع المرأة ، ولا ريب أن دخول الشكل الطبقي أدى الى ثراء قبائل ضاربة على طرق التجارة ، مقارنة بقبائل ظلت على فقرها في باطن الجزيرة ، اضافة الى التفاوت الطبقي داخل القبيلة الواحدة ، وما ارتبط به ذلك التطور الاقتصادي في تفجير الاطر القبلية في المناطق التي اصابها ذلك التطور، فتغيرت بناها المجتمعية وسعت نحو نزوع وحدوي على مستوى الارض والسماء،مما أدى الى نشوء وعي قومي وحدوي، استشعرت فيه قبائل العرب بوحدة جنسها، وكان لكل تلك التطورات دورها في اختلاف وضع المرأة ، مما أدى لاختلاف رؤية الباحثين بدورها.
ظاهرة الوأد
يقول القرآن الكريم معقبا على ما آل اليه حال المرأة في العصر الجاهلي ، آمرا، ناهيا ((لا تقتلوا أولادكم من إملاق ، نحن نرزقكم وإياهم ))، وينبه (الدكتور على عبدالواحد وافي) هنا إلى أن الوأد الناتج عن الفقر لم يكن فيه تمييز بين الذكر والانثى، فكانوا يندون على الجملة ، وهو رأي فيه نظر، حيث لم يثبت وأد الذكور على الاطلاق ، حيث كانت البداوة ونمطها بحاجة دائمة الى ذكور شغيلة محاربين ، لكنه يطرح من جانب آخر وجهة نظر بشأن وأد الاناث، فيقول انهم اعتقدوا ان البنت من خلق الشيطان ، أو خلق إله غير إلههم ، فوجب التخلص منها.
وفي هذا التفسير الديني نجد تفسيرا اقرب للمقبول عند الدكتور (على زيعور) حيث يقول : انه كان لونا من طقوس التقرب لإله القمر (ود) رمز الأنوثة في رأيه ، وإنه كان من بقايا القرابين البشرية ، التي درجت عليها الشعوب القديمة ، قبل استبدالها بذبح الحيوان فداء للانسان .
لكن ما يعني الامر هنا هو أن المطالع لكتبنا الاخبارية لن يجد ظاهرة الوأد أمرا متفشيا، كما هو شائع ، بل كان على العكس نادر الوقوع ، ذكرت حالات بعدد قليل لا يرقى بالحالة الى ظاهرة منتشرة ، وقد عابه العرب وانكر وه . أشهر حالتين يتم ذكرهما حالة (قيس بن عاصم) وحالة (عمر بن الخطاب).
ولعل صدق الوحى والتنزيل هو الفيصل بشأن سبب الوأد، في بعض مواضع وبعض قبائل الجزيرة ، حيث أشار للوضع الاقتصادي وأثره في تلك العادة ، فالفقير بحاجة للولد المنتج ، وليس بحاجة لأنثى فم يلتهم في مجتمع ندرة على العموم، ثم كان حال القبائل المتحارب يعرض الاناث للسبى والعار، وكان محتما أن تهزم القبيلة الفقيرة وتسبي بناتها، لقلة عتادها وخيلها.
والدليل على عدم تفشي الوأد، وأنه بالفعل كان ناتج الإملاق كما قال الوحى الصادق ، أن علية القوم ومن تيسر معاشهم فتهذبت نفوسهم ، استهجنوا ذلك بشدة ، فكانوا يفتدون البنات من الوأد، واشتهر من بين أجواد العرب (صعصعة بن ناجية ) جد (الفرزدق )، الذي اخذ على نفسه الا يسمع بمؤودة إلا فداها، فسمى محيي الموءودات ، وقال الفرزدق فيه :
وجدي الذي منع الوائدات
وأحيا الوئيد فلم يوأد
وتعبر حادثة (أم كحلة الانصارية ) عن كون السبب الاقتصادي وراء تعاسة المرأة كفم آكل غير منتج في وسط فقر وندرة ، حيث ذهبت الى رسول (ص) تقول : يا رسول الله توفى زوجي وتركني وابنته فلم نورث ، فقال عم ابنتها قوله فيها صدق الحال ، قال : يا رسول الله هي لا تركب فرسا ولا تحمل كلا ولا تنكي عدوا، يكسب عليها ولا تكسب .
وهناك سبب اخر ادى الى حالة واحدة أخرى من حالت الوأد النادرة ، ويتعلق بالظاهرة في قبيلة تميم ، حيث كانت تميم قد امتنعت عن اداء الاتاوة للنعمان ملك الحيرة ، فجرد عليهم حملة سبت نساءهم ، فكلموا النعمان في نسائهم ، فحكم بترك حرية النساء في الاختيار لقرار النساء انفسهن ، فاختلفن في الاختيار ما بين البقاء في حوزة من سباهم وبين العودة لذويهم، وكانت فيهم بنت (قيس بن عاصم )، وهي الحالة النادرة المشار اليها، فاختارت سابيها على زوجها، فنذر (قيس ) ان يدس كل بنت تولد له في التراب ، وافتدى به بعض تميم نكاية في النساء.
الوضع الطبقي
كان نشوء الطبقة عاملا اساسيا في تحديد وضع المرأة ، فكان هناك الاماء، والحرائر، وكانت الحرائر تتمتع بمنزلة سامية ، يخترن أزواجهن ، ويتركهن اذا اساءوا معاملتهن ، ويحمين من يستجير بهن، وكن موضع فخر الازواج والابناء، بعكس ابناء الاماء الذين كانوا يستحيون من ذكر امهاتهم.
وعلا شأن المرأة في الوسط الثرى، خاصة اذ اتمتعت هي بالثراء، فكانت تختار زوجها كما حدث من السيدة خديجة أم المؤمنين وكانت احدى ثريات مكة المعدودات ، عندما خطبت لنفسها الرسول عليه الصلاة والسلام ، وكان اخررن يفخرون بنسب أنفسهم إلى أمهاتهم.
وكما سبق وأشرنا فقد ارتبط ذلك التطور الاجتماعي ونشوء الطبقة بنزوع قومي واضح، كانت المرأة طرفا في جدله التاريخي، حيث كانت امرأة سببا في حرب العرب والفرس في ذى قار، والفرح الاحتفالي الهائل في الجزيرة بالنصر العربي، اما النزوع القومي وشعور قبائل العرب انهم جنس له فوعيته وخصوصيته ، فقد دفعهم الى عدم تزويج بناتهم من اعاجم مهما بلغ الاعجمي من مراتب الشرف والسؤدد والمال.
الحب والزواج
يبدو انه رغم ما نسمع عن قيود وأعراف عربية ، وضعها المجتمع على علاقة الشاب بالفتاة، فاننا نسمع ايضا مع نشوء الطبقة الثرية عن مجالس سمر تعقد في أفنية الدور، ويجتمع فيها الشباب والشابات حيث تضرب الدفوف ويرقص الحداءون ويلقى الشعر، خاصة في اخر سنوات الجاهلية الاخيرة .
وكان الشاب منذ بلوغه يبدأ التشبيب بالنساء ويلاحقهن ، وكان ذلك احدى علامات الرجولة والفخر، ولان الشعر كان اغنية العربي وفصاحته ، فقد كان كل شاعر يبدأ شعره بالغزل ، الا ان الشعر النسوي كان يخلو تقريبا من ذلك الغزل ، حيث كان بوح المرأة بمشاعرها لونا من خلق الحياء التقليدي بين العرب .
اختيار الزوج
واذا تأخرت خطبة الفتاة ، التي عادة ما كانت تتزوج في سن مبكرة (حوالي الثانية عشرة)، فانها كانت تلجأ الى طلب الرجل ،فتنشر شعرها، تكحل واحدة من عينيها، وتسير تحجل في الشارع ليلا تنادي: يالكاح، أبض النكاح ، قبل الصباح .
وهو امر يشير الى ان العرب وان درجوا على عادة اختيار الفتى لفتاته، فان العكس كان حادثا، وتشير الاحداث الى ان المرأة كانت حرة في اختيار زوجها، خاصة اذا كانت من علية القوم، فهذه (هند بنت عتبة) تقول لأبيها: اني امرأة ملكت أمري، فلا تزوجني رجلا حتى تعرضه علي، فقال لها وذلك لك.
وتقول المصادر ان حق ابن العم في بنت عمه كان عرفا مقدما ومسنونا، الا ان العرب بعد ذلك صارت تدرج على التزاوج من خارج القبيلة ، ويقول الباحثون ان ذلك كان ناتج ملاحظة ان زواج الاقارب يأتي بالضاوين (الضعفاء والمشوهين )، فصارت لهم في ذلك امثال مضروبة، من قبيلها : لا تتزوجوا من القريبة فيأتي الولد ضاويا، والزواج من البعداء انجب للولد وابهي للخلقة واحفظ لقوة النسل ، لا تتزوجوا في حيكم فانه يؤدي الى قبيح البغض، النزائع لا القرائب .
زواج الغريب
ويبدو لنا ان الزواج من قبائل أخرى، كان مرحلة متطورة تساوقت مع التطور اللاحق ، الذي دفع بأفراد القبائل للخروج عن الحالة القبلية الأولى ، ونظام التحالفات الذي كان ارهاصة بالقومية والتوحد، سعيا وراء توفير ممكنات اقامة احلاف قبلية كبرى قوية . وابرز الامثلة على ذلك عندما بلغ الصراع ذررته بين كتلتي هاشم وأمية في مكة ، وبدأ كل من البطنين يعقد تحالفاته الكبرى ضد الآخر، وكيف وهى السياسة التي اختطها هاشم بنفسه، وتبعه فيها بنوه من بعده.
لكن ذلك لم يمنع استمرار الزواج من داخل القبيلة بالطبع وكان للطبقة والفقر والفني دوره في ذلك، فكانت الفتاة في الطبقات الادني تفضل زواج الأقارب لانهم اكثر معرفة بشئونها من الغرباء، وأحرص على ستر عيوبها وسلامتها، وفي حكاية (عشمة البجلية ) ما يشير الى هذا المعنى، فقد نصحت شقيقتها (خود) عندما جاءها خطاب أغراب حسان ، بقولها: تزوجي في قومك ولا تغرك الأجسام ، فشر الغريبة يعلن ،وخيرها يدفن ، ترى الفتيان كالنخل ، وما يدريك ما الدخل ؟!
الطلاق
معلوم ان الطلاق كان بيد الرجل ، وكانوا يطلقون ثلاثا عل التفرقة فاذا تمت امتنعت العودة، لكن ايضا كان من حق المرأة الثرية ، ويشار اليها بالشريفة لمالها، حق الطلاق ، وقد أشار أبو الفرج الأصفهاني في أغانيه إلى ذلك في حديثه عن نساء الجاهلية يطلقن الرجال ، وبلغ الأمر حدا لا تجبر فيه المرأة على المصارحة بالطلاق ، بل كان يكفيها أن تحول باب خيمتها من الشرق الى الغرب فيفهم الرجل انه قد طلق من امرأته.
سيد محمود القمني: باحث انثربولوجي، واستاذ جامعي من مصر