الأبواب الثلاثة الشاهقة والمغلقة, كنت تحصي عددها بأصابع يدك الصغيرة, وتتلمس بعذوبة رائقة دوائر النحاس التي تزينها, يذهلك الصمت المنيخ وراءها, فتحاول بنظرة مهيضة وإصاخة سمع خائبة أن تسبر الأسرار المتعذر اختراقها. في معمار جبل على التكتم والاخفاء وازدراء النوافذ والكوات والشرفات. معمار شحيح وحاذق يعشق في بساطته صمت وسكينة القبور, كان للأبواب سحرها الخاص وجاذبيتها الجارفة. هل يمكن للدور أن تبوح, تومض, تنطفئ, تتلصص, تتكشف, تغيض, وتنصب غواية قائمة وشوقا عارما, وتترنح في مهب خفاء وتجل ملحاحين, الا من هناك? هل أغلقت الأبواب الثلاثة الى الأبد وأسلمت الدار الكبيرة لفداحة وجود فظ لا يدفئه حضور أنفاس حانية? فوق الباب المقابل لزنقة الباشا خطت يد عجلى للتأسي أو للشماتة (الدوام لله). تبدو الحروف الجيرية الناصلة والمنخسفة التي أرادت الاحتفاء بأبدية الله في وجه قدر الزوال الغامض للدار مهددة هي الأخرى بالاختفاء الوشيك, لقد امتدت اليها اليد المصممة, العابثة, والمدمرة للزمن. ومن باب العرصة كنت تسترق البصر من بين الشقوق لترى أشجار الرمان والليمون والخروب اليافعة تتفيأ نور الضحى المبهر أو ترشح في وحشة ظلال الأصيل الخاثرة. ولا تقرب بضراعتك اليائسة أبدا الباب الرسمي المقابل لشارع محمد الخامس. من هناك مر التاريخ المحلي منتشيا ومدججا بالبنادق والطبول والخيل المطهمة والاعلام والشواشي والرسائل والمكائد والأحقاد والأوامر والوجوه المثقلة بأقنعة السلطة وخيلاء المجد الزائف, العظماء المتأففون والتافهون المتلفعون بالدسائس والانتهازيون والوشاة, المرشحون لمص ثدي السلطة, والمهددون بالفطام.. كل التاريخ المريض للسطوة مر من هناك, ونثر قتلاه وصخبه وهباءه, حتى ان الزمن وبقهقهة فاجرة, قيد للباب الرسمي أن يستظل في ترجله نحو الصمت والنسيان بعمارة مؤسسة (تادلة- فارم) فهل تكفي كل الأدوية المودعة فيها لعلاج ما قوضه الزمن بقبضته ثم عافه?
تكفل سي لحسن بفتح الأبواب أمام وجوهكم المغوية المتوجسة. انه ابن الدار, كبر بين الجدران والعسس والخدم, تعلم في أمسيدها, وترعرع في مجدها وهيبتها, ومهره المخزن بخاتمه الذي لا يزول: الذقن الحليقة بعناية فائقة, السروال القسيف المشمر حتى الركبة, الوقفة المنتصبة المعتدة كشموخ صارية مرمر, العين المشعة بالهيبة, واليد التي بقيت تمسك بفرح أخرس البنادق التي كانت ترعى سكينة الباشا. لم تكن هناك حاجة للمفاتيح الكثيرة التي تخشخش في يده, بدفعة خفيفة تهاوى باب العرصة, كان يبدي مناعة كاذبة وشموخا مكابرا. دخلتم, بدهشة حانقة رأيت الدور التي بنيت لتوها, والإسمنت الناشز كحدبة فظيعة في قوام متناسق, وثياب غسيل تجففها الشمس, والأشجار القليلة المهددة بالزوال, وسمعت صخب الأحياء في قرانه العنيف بجلال الموت. قال السي لحسن بأن بعض الورثة باعوهم بقعا أرضية, وعاد بكم نحو الباب ليريكم الشرخ الكبير المحدث فيه بغل فأس: (إنه زمن السيبة) ردد بأسى عميق, فلكي يدخل أحدهم سيارته الى جانب داره حطم بابا أثريا نفيسا. عدتم من جديد نحو الدور, وغير بعيد منها رأيت بضعة زليجات صفراء تتخللها زخرفة زرقاء وسوداء باهتة, لقد نجت من حملة اقتلاع وحشية وسديدة كانت آثارها ماثلة في الجدران, لم يبق من شرفة نزهة الباشا سوى حيطان متهافتة تطاولها الحشائش وتنخرها الهوام. من نافذة إحدى الدور الجديدة رأيت امرأة تراقب بفضول وقفتكم الساهمة غير المرغوب فيها. كيف يضيع تاريخ محلي كهذا في أنصبة الميراث وأنانية الورثة? كيف نحكم فيه العدول والقضاة والمقاولين? كيف نقيس ما هندسه التاريخ وشيد بالمغالبة والدماء واللوعة والعرق فتسامى يرتسم عليه ضنك القبيلة بتفاصيل الشرع وأمتار الورثة?
لم يكن هناك منفذ للدخول الى الدار, فاضطررتم للسير نحو باب زنقة الباشا, وعلى غير ما توقعت سار بكم السي لحسن نحو باب مغلق برتاج, باب مهمل, بسيط, وخشب متفحم غلف أغلبه بالقصدير, لم تكن تحسبه ابدا على الدار. وقفتم عند مصطبة الحراس الاسمنتية حتى تتعود عيونكم الظلمة الشفيفة التي تغشي المكان, وبأنفاس مشبعة بالرطوبة وبعفن يستحيل تنفسه, وبعينين تغمرهما العتمة, فكرت في ليالي الحراس الطويلة الموحشة, حيث تتيبس الأعضاء من البرودة ويقفر القلب, ويستطيل الزمن القلق غير متناه, مفعما بالنشوة والتهتك والآهات التي تتناهى الى عزلتهم ويأسهم, يحرسون بإفراط برودة مرصدهم هسيس الحياة المعاشة قريبا منهم حتى الثمالة وليالي عمرهم المتصرمة حرمانا وعزلة متنبهة وقاتلة. استل السي لحسن من جيبه بحركة فيها نخوة المفاجأة والادهاش صورة للباشا الابن, هي الصورة الرسمية للحملة الانتخابية التي خاضها سنة 1963. عرضها عليكم كما يعرض أحدهم كنزه الصغير أو تحفته النادرة: (هو ذا زين شباب القبيلة) رأيت بود وتعاطف خفي وغير مفهوم, وجها أسمر يفطح بالحياة وعينين تشعان بالثقة في النفس, وثغرا باسما, وشعرا مسرحا الى الوراء تدب فيه طلائع صلع غادر. وجه شبيه في أناقته بوجوه نجوم سينما الخمسينات, وتذكرت ما سمعت حول حملته الانتخابية الصاخبة, حيث ألقت طائرات رش المبيدات أوراقه الصفراء وصوره, وأثخن الجياع في ولائمه, وتقاسم الوصوليون عطاياه, ونفست القبيلة عن كل أحقادها اتجاهه واتجاه الدار الكبيرة: (والله حتى نعركها والصفرا نشركها). دخلتها مسلحة بالمطاوي وشفرات الحلاقة والغل الكبير. مزقت الستائر والزرابي وبقرت الوسائد بحثا عن الصوف, وكسرت الأواني والكؤوس حبا في الخراب, وتركت الصغار يبولون ويتبرزون على هواهم, لم تكن ولائم بل مرورا عاصفا لأفواه شرهة وأيد مخربة. لم تكن حملة انتخابية بل عرس انتقام مرير لملم الباشا بعد خسارته الفادحة فيه ذاته وأنفته وأقداره ليموت بعيدا هناك في تولوز. وليطوي التاريخ في كفنه صفحة الدار الكبيرة, صفحة بدأت بدخول الباشا الأب للقبيلة مخفورا بدوي المدافع وتحويم الطائرات وبرطمة الجنود السود وخطط الضباط الفرنسيين السديدة, وختمت بمشيئة صناديق اقتراع مهترئة ومرتجلة. ما وقعه العسكر بالحديد والنار, محته الديمقراطية الفتية والهشة بأيدي الجياع العراة الحانقين.
هنا بيت المؤونة. هنا بيت استراحة الباشا قبل خروجه للفصل في الخصومات, صعدتم بتوجس شديد درجات تلتقط أنفاسها لكيلا تتداعى, وحاذرتم جدرانا متشققة, وهناك فضحت أحد الأسرار التي كانت تشغلك وأنت تتملى في كل مساء الفرح الخالص والطيران الهذياني لأسراب الخطاف, لم تكن الأعشاش الطينية التي رأيتها في مبنى العمالة تسع حتما هذا الكم الكبير من الطيور. فأين تتستر على أعشاشها الأخرى? كانت الأعشاش متراصة في السقف كطفح جلدي والجدران مطرزة ببزاق دقيق ومنمق كالمنمنمات الفارسية, وكان المكر الحاذق للطيور الصغيرة يصلك دفقا خافتا لخفقة جناح ووشوشة. إن اللئيمة لا تطمئن على أعشاشها الا في كنف دور المخزن.
نزلتم, كان عليكم أن تعبروا أكوام النفايات العفنة لتصلوا إلى باحة الدار, أحشاء دجاج متفسخة, قشور خضر, بقايا طعام, رماد, قهوة مستعملة, أكياس بلاستيكية مليئة, فبغبطة وقصر نظر فظ أحال الجيران الدار الى مزبلة سرية يرمون فيها, وكيفما اتفق, كل ما يصل أيديهم من قمامة, دون أن يكترثوا برائحة الجيفة النفاذة والمهومة فوق الحارة. كأن لم تكن الدار مصدر رجاء وتعلق حميم ورهبة شديدة. كأن لم تصلهم عطايا وتفرج عنهم كرب وتزاح عنهم غصصا, حتى الرحمة التي تغدق على الأموات لا تنال الدار نصيبا منها. وسط القمامة هاجمكم ذباب ثخين وشرس, يكر بثبات وفدائية, ويفر بتراخ شديد, في الباحة, فاجأتكم شجيرات ليمون وتوت وتين طافحة الخضرة اليانعة رغم أن الدار أقفرت من الماء, الى جانب الطيور كانت الشجيرات علامات الحياة الوحيدة وسط الخراب, كأنها تسقي بالصمت والسكينة وحكمة الزوال, قطفتم بضع حبات توت ناضجة, واستعذبتم حلاوتها الفريدة, لقد خلفت في فمك مذاق الشريحة التي توزع فوق القبور, طعم لذيذ ينتزع من قلب الموت ويلتبس بالماوراء بهجرات مستحيلة ولوعة ونحيب.
هنا بيت المحظيات, كم من بهجة, رجاء, هجر, دسيسة, فخر, تعويذة, زينة, غواية وبكاء قد أريق في هذه البيوت البسيطة والموحشة كالزنازن? لا زمن للمحظيات إلا زمن الإحتكام لشهوة حرون, لا فرح غير لهاث الليلة البيضاء الموعودة, لا حياة غير رحاب نفس تأتزر من رهاب الليل بعكاكيز شهوة عجلى وتهتك أخرس..
هنا بيد العبيد, إنشاد الجهد والعرق والحرمان, جدران متفحمة مازالت تتعهد حشرجات وأنين وبكاء مكتوم, ذوات نكرة, تساس بالشدة والأغلال والهراوات الغليظة, وتترك للتفجع وأغنيات الحنين, كما من أحقاد كانت تضطرم بين هذه الجدران?
وجدتم جدران المسيد والمطبخ والحمام ومربض البهائم قد تهاوت إلى الأرض, وفوق أكوامها أخذتم صورا. هناك انتبهت بوضوح لشيء أحسسته في كلام السي لحسن منذ أن وطأتم الدار. لم يكن أبدا حزينا على مآلها ولا متفجعا, كان كلامه يشي بنبرة ابتهاج خفي. لم لا? لقد صار قيما على دار لم يكن يجرؤ فيها على اجتياز حدود مرسومة, كان يقف فوق أكوام التراب باختيال وفخر جندي ظافر.
حين خرجتم وقد اثخنتك وليمة الخراب, كان مزيج من الأحاسيس المتناقضة يعبرك بعنف, ولكن هل تبقي هذه الدار على أحد?
عبدالكريم جويطي روائي من المغرب