" … وأبقى مرددا حلما منذ الولادة ، أمارس نوعا شاقا من رياضة اليوجا. متضرعا لأيامي المتشابهة . وأرى الحلم الرائع يقترب مني.. بفضاءا ته الشاسعة الجميلة .. بصخبه العنيف ..
يقترب .. ويقترب ..
مثلما تقترب القارات كل يوم "
مرزوق
صمت يتعمق
يولج البيوت المرهقة ويسبح في الانسجة .
يهز ديك جناحيه ويصمت . وتهز أبقار الحظائر مؤخراتها وتسكن . وتغفو الحشرات المتكاثرة على اعمدة النور مستسلمة لذلك الهدوء العنيف ، وتطفأ الأنوار.
تسمع خشخشة عوام وسط الليل ، سرعان ما تذبل وتضمحل ، الهدوء الجامح يستبد بالمساحات اللانهائية ، والظلمة وديعة هي الاخرى.
كانت الحوارات الاخيرة غير مسموعة بوضوح ، في إحدى الغرف :
-اريد طفلأ يكسر علينا مزهريات البيت والصمت .
ويضحك بعينين تملؤهما رغبة حادة .
تضحك هي، وتهرول بخفة وغنج لتغلق عليها باب الحمام . في غرفة أخرى، حيث يجلسان بنشوة سكر عميقة ، يغيبان في احاديث طويلة لا يذكرانها عند الصباح القادم ، ويفتشان في
جيوب ملابسهما، بتحسر، عن ورقة لشراء قنينة الغد.
وفي غرفة ثالثة ، انتهى رجل وامرأة من هضم وجبة ثقيلة من اسماك الحبار واخطبوط البحر.
ورابعة يثقل رأس امرأة بنعاس ممزوج بقلق مر قدام وليدها الصغير الذي يشتكي من صرعة مستديمة .
في الخارج ، صمت .
"ترفق بي أيها الليل .. صوته الجميل حاضر في الزوايا اسمعه وأنا ممزقة حزينة ، دون ان أقوى على فعل شىء سوى البكاء"
ميمونة
السماء المملوءة بالنجوم ، هادئة تماما.
والشوارع خاوية هذه الليلة من نباح الكلاب المعتاد،
ومواء القطط امام صناديق القمامة وداخلها.
في تلك اللحظة ، تبدأ الكائنات رحلتها نحو النعاس .
هذا الهدوء السيد يسرع في إطفاء العيون المثقلة .
بالكاد وسط كل ذلك الطقس ان تسمع دقات الصدور.
تنساق الانس ، فرادى وجماعات .
تنساق الجن ، فرادى وزرافات .
ويطبق السكون على الموجودات سائرها.
وبعد برهة من الوقت ، والكل يغط في سبات عميق ، عداه ، يشرع صوت ما في التصاعد التدريجي. صوت عذب ، يقوى تارة فتارة .
لا يزال مبارك وحيدا في شرفته المطلة على رصيف مظلم . قدامه على بعد أمتار بسيطة، بحر صامت على غير العادة . ينفخ في شبه ظلمته المفضوضة بضوء شمعة يتيمة على الطاولة الصغيرة ، سيجارته . فيتلوى الدخان ، يتصاعد ويمضي مختفيا في أفق مظلم . يحدق للسماء، فيلمح في البعيد لمعان نجمة يعرفها لوحده .
لمعانها الذي يخبو أكثر فأكثر كلما احترقت ليلة بصمتها وظهرت أخرى تحترق بعد قليل .
ويتذكر فجأة كل المشاهد التي صفها أمامه منذ الطفولة ، واتسعت ابتسامته على رؤيتها كل لحظة .. انفاس موج البحر المسافر، عربدات روائح البخور الحادة على الشواطىء والممرات والبيوت ، المروج الطافحة بالجمال ، الأنهار، وتلك المرأة البعيدة ، والنبتة الحلم .
يعيد قراءة مدخرات جمجمته المصدعة اناء اناء الليل ، وفي صبحا يرحل نحو بؤس شاق لا مندوحة عنه .
"أعيننا الحزينة ، مصابة بالليل الطويل . فمنذ مدة بعيدة ، تركتنا الازمنة مرميين في المنفى، غير ملتفتة لأعيننا المنتظرة بقلق ، تعبرنا أتربة الأياد التي نراها، واقفين بصمت في انتظار القادم الذي نجهله ".
الصوت الآن يغدو أصواتا متشابكة بتشكيل رائع بديع ، تلتقي وتنفرد بأعذوبة طرية .
ربما تكون تلك أصوات كمنجة ، ناي، بيانو، فيوليه ، فلوت ، قيثارة ، أو كلها مجتمعة .
ربما تكون إيقاعات ساحرة مصحوبة بآلات وترية ، وربما تكون مزامير سماوية تخص الملائكة وحدهم .
الصوت يرتفع ، فيرتفع رأسه ، تنفتح أذناه ، فيدلف الصوت ناحية الأعماق الموحشة ، يغوص فيها، ويستشري بسرعة فائقة . يحطم سدودا صلبة ، ويقابل مناطق نائمة فيوقظها وجزرا يابسة فينعش فيها المسامات . يرتع بحرية دون خوف ،
وحين يتمكن تماما…
تبرز ابتسامة ..
ينتعش رأس ..
تهطل دمعة مرة ..
تنبت كآبة ..
يسود هدوء عميق ..
أو تشتعل جمجمة .
حين يصحو نصف الليل ، تبدأ رحلة يعرفها لوحده .
يرتدي فيها ملابسه الهادئة . يختارها بعناية فائقة للمناسبة غير العادية . يحمل شمعته ويدلف الشوارع الهادئة الوحيدة ، ميمما وجهه شطر البحر. يقعد هناك وحيدا في انتظار شىء بديع
عيناهما مصوبتان باتجاه البحر. يقعد هناك وحيدا في انتظار شئ بديع لم يظهر له في الليل ويرحل. يتخطفه الهدوء الثقيل والرؤى فيبقى هناك حتى تهزه يد عابر او صياد عند بداية الصباح.
هذه الليلة ساحرة تسلب حتى الاعماق. دقق كثيرا في اختيار ملابسه. كانت الابتسامة قد غطت وجه ممزوجة بقلق غير عادي.
النجمة في السماء تبعث لمعانا شديدا هذه الليلة، والفضاء بارد بنعومة مخالفا قوانين تموز المعروفة.
يلمح من خلال ضوء الشمعة البسيط وجها ناضبا وعينين ذابلتين . وهو يمضي بهدوء ، تطالعه على احد الارصفة المظلمة ، صفحة وجه لشاب يقعد معزولا عدا من همه. وحيدا دون ونيس. تحت سقيفة من القلق المتقاطر من مقلتيه.
وفي الاطار، تبدأ الاشجار الان حركة بسيطة منتظمة استجابة لهبة ريح باردة وتراقصا مع ذلك الصوت الخلاب.
تتراقص موجات البحر الان، تصل للساحل بهدوء، ترتد بخفة لتبدأ رحلتها من جديد.
يلتفت مبارك بجانبه الايمن ، فيلمح الشاب ماضيا معه.
لكن مبارك يبقى ماشيا دون ان تبدو عليه علامات انزعاج او رفض. في عمق مبارك يقين حاد: لست انا … انه الصوت الذي اشعل فيه الجمجمة وحرض الساقين.
عيناهما مصوبتان باتجاه البحر.
يمضيان بصمت اشد عمقا، ورأساهما فضاءات بعيدة بعيدة .
في عمق عيني مبارك ،. تسكن قرية مشمولة بغياب لذيذ.
قرية بديعة تستوطن العقول وتهبلها، وتجبل الاجساد على التسربل بهدوء سحيق . القرية محفوفة بالانفاس المعطرة ، تتماوج فيها الأ شجار الكثيرة وتغرد بلابلها عند النبع .
الربوع المعطرة بالروائح الباذخة تدفع البشر الهادئين للرقص الطويل عند حواف النهر وفي البساتين . يعودون بعدها بابتساماتهم الواسعة ، محملين بسلال مملوءة بالورود والريا حين والنعناع وأنا غيم المساء ا لمنتظر بلهفة .
عينا مبارك المصابتان بالليل تعجزان عن قراءة عيني الشاب الذي قفز بجانبه فجأة واللتين تبدوان وكانهما مصابتان بتوتر عنيف وأرق .
وحين حانت منه التفاتة ثانية نحو الشاب ، لم ير إلا شحوبا أعمق من شحوب الوجه ، ويأسا ضارما ينفر من ارجائه الناحلة .
"الليل يعرفني جيدا، يعرف من اكون ، ويعرف مأساتي الطويلة معه ، الليل رفيق قديم يعى كل اسراري الحارقة ، وربما حن علي اخيرا وأشفق على حالتيا لذابلة منذ مدة وكابتي العميقة فقرر أن يمنحني بهجة ولو قصيرة . لكنني لازلت اخشى ان كل ما اراه الآن واحس به رائع جميل ، كل ما يجري من تألق بهي، هو المأساة الكبرى التي ستوصلني للنهاية الأخيرة "
مبارك
في عمق عيني مرزوق المصابتين بالتوتر، تصرخ قصيدة ملحمية قصيدة طويلة جدا مليئة بالجنون والثورة واحتراقات الليالي التي قضاها وحيدا يعيد ترتيب أوراقه لصبح لطيف قادم .
وفي عمق تلك العينين ، يصرخ طفل صفير حطمت لعبته الجميلة دون سبب ، فبكي، وظل يبكي منذها.
وفي عمقه ، تنز الآلام بالبطل الذي قطع صعدته هروبا من القادم الغريب .
كان مرزوق قد أشعل سيجارة ونفخ بحدة دخانها الذي خرج محروقا مملوءا بالمرارة .
وظل الاثنان ، دون ان يلتفت احدهما للآخر، يمضيان بهدوء.
***
في حوش أحد المنازل النائمة ، تقعد ميمونة بصمت ، تداعب هواجس سحيقة وألما في الداخل.
الشمعة ساكنة بهدوء في يد مبارك اليمنى. وخطواتهما المتزنة الهادئة تقتربان كثيرا من المرسى.
وحين تحين من مبارك التفاتة مفاجئة لجانبه الأيسر، يرى فتاة ريانة نضرة تمضي معهما. فيذكر في الحال وجه صبية حلوة اعتاد على رؤيته عند باب احد المنازل محدقا في وجوه الرجال العابرة ، ممعنا النظر في سحنة كل وجه ، باحثا على ما يبدو عن وجه مألوف له لم يره منذ زمن . تبقى الفتاة فترة ما بعد الظهر وحتى الغروب على حالتها تلك ، يسقط بعدها نظرها مهزوما محطما دائما.
لا يفاجئهما الموقف ، ولا يثير ازعاجهما.
لا تحدثهما،
ولا يحدثانها،
متأكدان : ليس واحدا منا …. انه الصوت البديع ، يشملنا، ياسر اجزاءنا ، يلفنا ويحملنا واحدا تلو اخر، ماضيا` بنا بهدوء عظيم .
يستطيع مبارك من خلال الضوء البسيط الساقط على وجهها ان يلمح خدين بديعين مملوءين بالدهاء، وعينين حزينتين . لكن حتى التفانته الثانية نحوها، وتحديقه الطويل في وجهها لم تفلح فى سبر اغوار سحيقة تبدو للوهلة الأولى صارخة . في عمق عيني ميمونة الواسعتين ، يسكن رجل قادم من بحور عميقة ، مليئا بالغياب .
في عمقها، يسكن صوته الرائع الذي انساب برقة ولحن في ليلة مقمرة ، وفي الليلة التالية … غاب
وفي عمقها، رغبة حارقة توشك على الطفح .
اسفل الحواجب تبزغ ميمونة ، مليئة بأمل ما، زاه ، يتحطم
عند ظهور الفجر.
يعرفها الليل والقمر والنجوم .
تعرفها القطط الليلية ، وتعرفها حتى الحشرات الصغيرة التي تلتف حول تدميها محدقة بحزن في العينين المنتظرتين بقلق تعرفها الوجوه الكثيرة .
الوجوه ذاتها تتزين ، ترتدي الملابس الزاهية الجميلة ، تسكب عليها العطور المختلفة ، وتسرح خصلات شعرها، وباستعراض تعبر من امام وجهها بين الحين والآخر. لكنها تبقى باحثة عن وجه بعينه ، متعلقة بحلمها الذي لا يعرفه سواها.
***
الصوت الآن يتضح أكثر فأكثر، وبدا وكأن مركزه نقطة ما في وسط البحر.
بهدوء تخطو الاقدام . هي الاخرى متوافقة مع الصوت ، متناسقة مع الايقاع .
الصوت الموسيقى الفريد، يجبر الكل على الانصات ، الاجساد تتحول لآذان صدغية .. القلوب نبضاتها هادئة رقيقة ، العيون تتحرك في مجالها المحدود بلطف ، الجلد ينفذ برضى اوامر سرية .. فيقشعر. والعقول تغيب وتسافر.
مدة طويلة ، بقى فيها الكل صامتا قبل ان يفض مبارك بكارة الصمت الجاثمة بصوت هادىء وقور:
-انه ينبعث من غياهب سماوية بعيدة لا يدركها أحد منا وقد يأتي من تلألؤ نجمة أو من بطن غيمة راحلة . قد يأتي من أماكن مجهولة في الفضاء قالها، دون ان ينظر لأحد منهما.
كانت نظراته باردة تتجه للسماء. وكانت نجمته تلمع وتكبر. فيبتسم . يرفع يديه في الفراغ ، ويشير بسبابته : .انظرا.. انها تلمع هناك في البعيد.
قال مرزوق بصوت ضعيف :
– انه يبزغ من داخلنا المصاب بالتفسخ والقلق ، من عمقنا الأسود المهشم .
وقالت ميمونة بصوت متناه في الرقة وممتزج ببحة خفيفة :
-او قد يخرج من أعماق البحر، من بلد في وسط ، يسكن فيها المحظوظون من الناس .
وبعدها ساد الصمت من جديد.
عدا صوت اهتزاز الاشجار البعيدة وحفيف اوراقها.
عدا صوت طائرة في الأجواء الشاهقة تلمع مثل نجمة .
عدا صوت الانفاس الثلاثة .
عدا صوت موج البحر الهادىء الذي انتصبوا عل شاطئه المالح ، في انتظار الاشارة والمحمل الذي سيحملهم بعيدا، نحو الصوت ، ونحو الأعماق .
" أيها الزمان الذي يسافر مثل قطار دون توقف . . غير عابئ بالأجساد المتراصة ودمائها النازفة فى المحطات عابرا كل الوجوه والازمنة كريح هانا أنتظرك في المحطة القادمة "
مرزوق
مبارك
يأتي وقته مزحوما بأشياء عديدة .
صباحاته مريضة . تجرجر نفسها بتثاقل جم ، ويصبح هو أسير هم مستديم .
خلف الكثيرين وامام الكثيرين ، يزج بجسده الضئيل بين الاجساد المتراصة .
يعرف مبارك ان يومه هذا مثل امسه الذي ولى خاليا حزينا.
مثل يوم مشابه قبل عام ، ومثل يوم قادم بعد مائة سنة . ورأسه محشو بفراغ صباحي شاسع ، جمجمته مخترقة وقدره مدية حادة مسمومة في قلب يردد على نفسه ، بجنون دائم ، اغنية للاحلام القادمة عن المساحات الصافية ، عن امرأة اسطورية وعشق وثني. أو عن رحلة طويلة لا منتهية ، ومناظر ما يردها جميلة كل صباح ، ووجوه أخرى مختلفة تماما يحبها، وتحبه .
عن دعة مجهولة ..
عن مكان ما يكتشفه لوحده دون أن يعلم أحد باكتشافه . تلك الاحلام التي يلمحها في مكان ما أمامه …
مكان بعيد جدا.
يمضي صباحه وما بعد الظهر بين وجوه يحسد فيها الضحكات المستمرة . وجو« معدة سلفا للحلو منذ قطع حبل المشيمة منذ ان مسحت عليها السماء بماء كالثلج . وبين وجوه يكرهها. بين حينة وأخرى تندس تلك الوجوه ، المتطابقة في كل شىء، داخل دهاليز سرية ، في المراحيض ، بين الملفات المخزنة المتراكم عليها غبار قرن ، والمحشوة بالخصم والشكاوي والانذارات واوراق الاجازات والتقارير السرية .
تلك الوجوه يعرفها جيدا، تشتمه ، وتنحو باللائمة عليه لأتفه الاسباب التي قد تحدث ، وتعففه أحيانا. وهو اعتاد كل ذلك ، فبقى صامتا بهدوء، يتنفس هواء المكاتب ذاتها بين وجوه كثيرة تتبدل ، تتغير، تتجدد بين سنة وأخرى. بقى محدقا فيها طيلة عشر سنين وربما تزيد.
هو لم يعد يذكر الساعة المشؤومة التي خطت فيها قدماه تلك البناية . كان صديقه يدفعه كل ساعة وبالماح نحوها.
وأهال على اذنيه كلمات حلوة عن العمل والمركز والمال ، عن الفسحة الواسعة والحرية ، عن السفر الجميل والنساء المحدقات بشراهة . وكلمات بذيئة أخرى عن الدراسة والكسل والتشرد في الطرقات دون مال في الجيب .
كان أبوه يومها بعيدا، ملقيا بشباكه وسط البحر، مغنيا للرزق القادم .
وكان مبارك بعد أسابيع بسيطة يلعن حظه ووجه صديقه ذاك .
ومنذئذ ومبارك يعيش حياة غريبة مرة ، الوجوه التي تحتضنها البناية مريضة تكره وجهه والصمت المرسوم في عينيه تكره ملامحه الموشومة بالحزن والوحدة .
كان بينها ذات مرة ، حين تقاذفت سيرته بسخرية لم يكترث لها، ولم يحدق اصحابها مليا في العمق السحيق في عينيه المصابتين بالليل :
"مبارك محظوظ ..
لا يزعل ..
ولا يغضب ..
لا يهش ولا ينش ..
ولد خدوم .. وسكير..
ما يهتم بأحد..
ولا حتى النساء..
ولد لوحده، ما عنده حتى صديق .. ولد عفريت !"
يظل محدقا في تلك الوجوه ، ينقل عينيه بينها مبتسما، صبورا، حتى ما بعد الظهر بساعات ، حينها يخرج متأبطا صباحا مملا سقيما، زافا معه صمته وحزنه باتجاه حر الشوارع وانتظار الباصات وتزاحم الروائح الخيفة واختلاط الانفاس الجائعة والعفنة و…..
ويبقى بعدها أكثر صمتا في انتظار مساءاته الغريبة ، مساءاته المرهقة . حيث يقعد وحيدا بذاكرة ناقصة وهدوء متأملا في الجذور البعيدة .
يمشط الحزن رأس مبارك المنهك بصباح ولى بمآسيه ، فيسكنه ويثبط جماحه الحاد بسوائل كثيرا ما تلهبه فتصل رجفته وعناء ملتهبة الى كهوف قصية .
ويبقى ليله قلقا، يقلب ذكرى ، يقلب احلاما محروقة ، يقلب كتبا ومجلات ويهيىء نفسه لغد مشحون ووجوه متعفنة وحلم قادم لم يحترق بعد.
مثل قلقه المرسوم في الجبهة ، مثل انتظار العاصفة في الكتابة ، مثل انتظار القصيدة الأعظم .
واللوحة الخارقة ،
وموسيقى النفس البديعة .
وتبقى أمنياته لليوم الآتي مزدهرة ، تتلالا بين ثنايا العتمة الرابضة تزداد تألقا عند ومضة نجمة ما في السماء. يلمحها فتتهيج عنده احساسيس سحيقة تنام في اعماق نفسيته المريضة . فتبزغ من اللاشىء امرأة تشظى القلب واللب، امرأة فاتنة . أو تنبت أمام العينين أرض ما.. أرض جديدة رائعة . يربط حينها، على أعمدة ملتبهة ، كل الوجوه التي يكرهها، والتي تحنق على صمته ، ويبقى مع امراته الجميلة ، يشاطرها الليالي وتشاطره فرحته العنيفة . النهر ا لمنساب قدامه ، تلعب فيه طيور حلوة . ويسبح فيه الجمال الاسطوري، وتخرج منه حوريات بديعات ، وهو مستلق في استراحة طويلة في أرضه الجميلة ، بجانبه الحسناء وخلفهما تقف البساتين واصوات البلابل والعصافير الصادحة في الاركان .
يسألها:
– ماذا ستعدين لنا من عشاء لذيذ؟
وتجيبه بصوت حنون ..
– كل ما تريده
يخلل اصابعه بين خصلات شعرها الذهبي الناعم ويميل رأسها ناحية صدره ، فتبتسم وتميل .
– عشت كل عمري لأجل هذه اللحظات الرائعة ..
– وانا عشت في انتظارك ..
ويقتحم همس طفل المكان .
تلك الليالي البعيدة ، لا تظهر نفسها لمبارك .
يبقى حالما بها، فتنهال عليه طقوس مختلفة ، ويسمع فيها اناشيد حلوة ، ويلمح اجسادا بضة تتراقص حول الشموع ، ويشتم انفاسا عبقة بالنعناع .
في المكتب ، يأمره سالم مسؤوله المباشر ان يكتب رسالة سخيفة عن احتياجات القسم وان يختمها. ويتبجح امامه زميله الجامعي أحمد:
– في الجامعة ، درست علم النفس ، واقدر اذا تريد ان اشرح لك الحالة النفسية التي تعيشها الان .
ويهرب مبارك كذا مرة من أمامه دون ان يسمع شيئا، لكن صوت زميله يقطع عليه حبل تفكيره عند صبيحة اليوم التالي :
– صدقني، أنا أريد مصلحتك . لو تسمعني وتفهم ما أريد أن أقوله لك .
فيتأفف مبارك ويصفي مغصوبا لكلمات سخيفة عن فصام الشخصية وتأثير الطفولة المجروحة بالعادات والتقاليد. ويستمع لاسماء غريبة : ارسطو، فيفل ، نيتشة . يتركه حتى يفرغ فيبرحه متأففا ليقابله صوت زميلته العجوز شريفة :
– لو تتزوج يا مبارك ، تتعدل احوالك وامورك . فيترك صوتها ناصحا واعظا خلفه ويدخل الحمام موشكا على التقيؤ.
كيف يهرب مبارك من كل ذلك الجحيم ، واين يهرب . حين قرر ذات يوم العودة ناحية قويته المطلة على البحر، والمسكونة ببشر ينامون عند الغروب ، وجد دباه يذبل ويتحطم على السرير.
لا مفر لمبارك من انتظار حلمه الزاهي الجميل القادم . كم من الومضانات بقى مبارك ساهرا يقلب المصحف ويصلي خاشعا عابدا اناء الليل ، ساجدا مرتلا طوال النهار. لا ينام مبارك في
ومضاناته اكثر من ساعتين . يبقى متضرعا، متصوفا في الشرفة ، لا يبرحها في انتظار الليلة.
أكثر من ثلاثين ليلة لم ينمها مبارك ، له يغمض له جفن . يحتسي قهرته بكثرة ، ويبقى حين يرتفع اذان العشاء وحتى تحرق وجهه شمس الصباح التي لوحدها فقط قادرة على ارغامه دخول الغرفة لينام قليلا. يستيقظ بعدها مغتسلا زاجا بنفسه في سلسلة من الصلوات التي لا تنتهي.
في كل رمضان ، يبرح مبارك حياته المعتادة ، ويبعثر ما ادخره من اجازة في انتظار الليلة التي لم يرها.
فأيقن محبطا بأن وجهه المتعفن بالسجائر ليس مهيأ اطلاقا لاستقبال الليلة الطاهرة .
غدت مساءاته بعد ذلك باب غرفة مغلق وشرفة مضاءة دوما بشمعة يتيمة فوق طاولة الغياب .
من ضوء الشمعة الساقط على وجهه ، تلمح احراشا موحشة وطيورا جميلة ميتة ، وانهارا ناضبة وأودية جافة وأياما جرداء عدا من مرارة .
ويبقى راحلا مع ذكرى ما..
ذكرى قديمة ..
فيرى امرأ ة احبته ذات مرة ، وهربت منه .
ويذكر صديقا جميلا سقط في الغياب . وأخر حمل حقيبته ورحل . ووجه رجل وسط البحر، وامرأة عجوزا طيبة تسهر فوق رأسه في العريشة .
ويذكر شوارع سافر اليها منذ زمن ، وكانت سفرته الأولى والاخيرة ارتاد مقاهيها، واحتسى فيها قهوة لذيذة وتسامر مع وجوه أخرى احبها ساعتها. كل تلك الشوارع والوجوه اختفت ، وبقى هو كما كان . يلملم اوجاع النهار وحرقة العمر المهدور سدي. يعبئها فى سلة هشة لينفشها في لياليه الموجعة . فيغدو شجرة هرمة وسط غابة تمرها الطيور الجميلة والمتوحشة، تمرها القرود والخفافيش ، واشياء أخرى كثيرة .
ويشيخ هو أكثر..
يسود الأفق في عينيه ..
وتصهل في أعماقه الاسئلة ..
وتكبر الاحتراقات .
ويهتز فجأة شاخصا في النجوم . باحثا عن نجمته تلك . قال له ابوه حين كان يصطحبه معه لصيد السمك ، وقبل ان يستعمره النعاس ويخلد لنومة مالحة رطبة في مقدمة القارب :
– لكل واحد منا نجمته في السماء، وحين يموت ، تسقط نجمته وتحترق .
فيسأل أباه :
– واين نجمتي يا ابي ؟
فيقول الأب مشيرا الى نجمة تبدو أكثر لمعانا وبريقا:
– تلك نجمتك ، تلك اللامعة الكبيرة .
– ونجمتك يا أبي، أين هي؟
– تلك هي بجانب نجمتك .
– وهل هي لامعة وكبيرة مثل نجمتي؟
– نجمتك تلمع أكثر لأنك مازلت صغيرا.
فيسأله ببراءة :
– ونجمة أمي؟
وربطه بالسماء منذ حينها:
– وتلك النجمة التي بجانبنا هي نجمة أحلامنا الجميلة التي تزداد لمعانا كلما كبرنا.
وكبر هو، فألفى النجمة تخبو كل مساء.
وربطه بالبحر:
– البحر صديقنا الدائم ، لا يخوننا ما دمنا معه أصدقاء، وهو الذي سيحملنا ذات ليلة لتحقيق أحلامنا.
– فيسأل أباه:
– وأين نجمته يا أبي؟
ويسأله أبوه
– بماذا تحلم ؟
– لا ادري يا أبي…
ويهرش الأب ذقنه ويحدق في الفضاء، مسترسلا في التفكير،
ويسأل ابنه :
– هل تريد ان تصبح صيادا مثلي ؟
– لاأدري يا أبي..
– هل تريد ان تتزوج بنتا حلوة ؟
– لا أعرف يا أبي.
– هل تريد ان تسافر مثل جدك ؟
– وهل نستطيع ان نسافر مثله ؟
– كل منا له حلم ، سيحققه لنا البحر يوما ما.
ويسأل أباه ببراءته المعتادة :
– وهل يمكننا ان نصعد الى نجمتنا تلك يا أبي.
وحين كبر مبارك قليلا، كان يحلم بمدى اوسع وبلدة مشمولة بشذى الزهور وأريج الياسمين .
بأنفاس البحر..
بمريم الهمسات ..
ومشاهد من الجنة .
وكبر أكثر. فكبرت معه الرؤى وتألقت عيناه وازداد الجموح الغريب في داخله .
الان يأسره منظر الطائرات في سمائه الليلية .
ينزف حزنه بمرارة على طائرة حلقت فوقه دون ان يكون فيها.
ويبقى على حالته تلك ..
البحر أمامه يحمل صمتا وبرودا كل يوم .
والسماء مضببة .
وهو صامت ..
رجل نام ليصحو مثقلا بليلة عصيبة ،
او صحا ليتخطفه صبح غامق البشرة منذ الشفق . تعقبه ليلة شبيهة .
رجل سهر ليلته .. ليحترق قربانا للاحلام الشاردة .
قربانا للطيور المسافرة ، المغادرة بصفيق اجنحتها باتجاه الأرض البعيدة ..
البعيدة جدا.
***
في تلك الليلة ، حين داهم الصوت مسامع مبارك المتوحد مع الظلمة ، ولج أغوارا سحيقة وخاطب أحاسيس معقدة ، فأحس حينها بشعور ورغبة لا تقاوم . احساس انتظره زمنا وهطل فجأة . فخرج مقتفيا أثر الصوت ، متسربلا بحكاية قديمة وهاجس ما، يلمع ، يتلألأ في العمق ، يبرق وسط الظلمة ، وبعد حين سيزدهر.
ما خطة مرزوق قبل هذه الليلة
ا .الليلة المائة
في ليلة غير عادية ..
وبعد سابق اصرار وترصد..
تستيقظ الكآبة في النفس
باحثة عن أماكن مجهولة لم تكلأها
وتصحو الذاكرة المريضة
باحثة عن ايام ما
ظل لأرق مستبد منذ الأزل .
بعيدة هي تلك الأيام الجميلة
التي تشبه أغنية حلوة
الذاكرة مريضة
والرأس محطم ..
فانا مثل طفل صغير لا يعي شيئا
تحمله سفينة ليفترسه البحر
دون سبب .
في ليلة قادمة .
سأحمل همي وأبحر نحو الكهوف
التي تشبهني في السواد
نحوا لليالي التي تشبهني في الصمت
او نحو الغابات المليئة بالقوارض والخوف
لا يهم
فكل الاتجاهات متساوية
وكل الأماكن واحدة
لها طعم واحد
حرقة وانكسارات .
2- المساءات المتشابهة
في المساءات المرسومة لانكسارات مدوية
لعبوس قمطرير
في لجة محنة تبزغ اثر محنة
لا اجد مواسيا أو أنيسا..
لا أجد احدا..
اقعد مسجى في انتظار صلاة الجنازة
على بقاياي التي احترقت عند بداية العمر
3-لوحة لحزني
الصباحات مرارة دائمة
المساءات احتراق
أرى من خلال الثقوب
بشر يتنزهون بوداعة
النساء كثيرات ..
بشر يتزاحمون في الشوارع ..
كل وجه يحمل بصمة ما..
لا اعرفها.
وفجأة ، تبرز المأساة دون سبب
وجهه المحروق الجوانب ..
شعره الأشعث المغبر..
قامته المنكسة
اكتافه المهدلة
وثيابه الممزقة
يحدق في الثقوب التي أطل منها
يمكث مكانه منذ زمن طويل دون ان يلتفت اليه احد.
4.الليلة الالف
تسلب اللحظات مني كل الذي أريد، وتخطف مني أزمنة أحسبها تزهر، وتقذف بها في الهشيم ، وتزج بي في مغارات سحيقة مملوءة بالفزع والجفاف – أرجاؤها تلتهب بحدة ، ومخارجها لا تقود سوى لجهنم . والسماء غير موجودة هناك . السماء غائبة عن تلك المغارات الغريبة وعن وجهي الوحيد.
اجابة ، وحيدا، انكسار ا يدويا..
اجابه احتراقا مستمرا..
هذه اللحظات التي تكرر نفسها أمامي
كل آن ..
هذه اللحظات السقيمة ..
تمارس ضدي، دون توقف
ودون رأفة .. عذابا يتعاظم .
5- حبيبة
هل من حبيبة رائعة وسط هذه الظلمة
المستمرة ..
هل من ضحكة حلوة ،
وصوت رقيق ..
هل من يد حانية تداعب جبهتي.
وجه حبيبة يتخطف صباحاتي مثل مساءاتي..
وجه هادىء جميل ..
يشبه قصيدة بديعة ..
ولرأسها مدارات .
6.ايقاعاته الحلم
مساء حلوا.
تهمس الاشياء حول قبل أن أنام
مساء عذبا.
تمسد الحبيبة ظهري وتمشط شعري
المجعد الأسود.
مساء الأزمنة الآتية :
قمر يزور برقة زرقة البحر
وهدوء الامكنة ..
شاي الأعشاب
لن يأتي الحزن بعدها..
ولن تزورنا الكآبة
حارقة تتلظى..
وربما لن تزول عنا أبدأ.
فهكذا أنا كل ساعة .
مثل خاسرين
يواسيان بعضهما البعض
ويحلمان
يثرثران عن الحلم القادم
الذي سيغزو المساءات الجاثمة فجأة ..
ويغزو السماء المألوفة ..
أو عن العشق المنتظر
الذي ستظهر بشائره الأولى
عند مطلع الفجر،
فتزدهر الأرجاء..
وتتألق المآقي..
أو عن الأرض الموعودة
التي ستنبت هنا أو هناك
حيث نغادر نحوها بمواويلنا
المجروحة ..
وعيوننا المملوءة بالملح ..
حاملين معنا جنازات أيامنا الماضية
واغاني المساءات القادمة ..
هناك تصحو الطيور سكرانة بالقصيدة
في عيني الحبيبة الخرافية .
وحيث تشرق الشمس باردة
لتمسح على وجهها
وحين تغيب الشمس تبقى الحبيبة
مشتعلة لا تخبو..
وأبقى مرددا حلما منذ الولادة ..
كل ليلة ونهار..
أمارس نوعا شاقا من رياضة اليوجا
متضرعا لأيامي المتشابهة ..
باكيا بحرقة ..
وأرى الحلم الرائع يقترب مني
بفضاءاته الشاسعة
الجميلة ..
بصخبه العنيف ..
يقترب ويقترب
مثلما تقترب القارات كل يوم "
رأس مرزوق هاجس مالح .
تنحدر ابتسامته في عمق اللحظة الحزينة بردائها الغامق .
وذاكر ته الشابة نصف زمان بائس ولى وآخر يموت يائسا في الغد.
حلم مرزوق ، تخاطفته الترهات والأيام المضببة . وحطمته السدود الفاصلة بين الخطوة والخطوة الآتية . بين اللحظة واللحظة القادمة . يعرف مرزوق كل شىء عن ألف ليلة وليلة ويحلم أحيانا كثيرة بمارد يظهر له من بين ثنايا الاوراق الكثيرة المبعثرة دوما امامه . ماردا يحمله بعيدا حيث يجد نفسه فارس الحلم العظيم ، يتقدم جماعة عظيمة تحييه وتتمدح في كلماته العذبة التي تنساب في الآذان كما ينساب النهر.
ويعرف مرزوق كذلك كل شيء عن الحضارات العريقة ، عن الحروب الكثيرة ، وعن القادة العظام المنقوشة اسماؤهم في ذهن التاريخ فيحلم أحيانا ان يصبح قائد أمة عظيما، تمشي خلفه الأمم العظيمة . يحلم ان يغدو التاريخ نفسه . باقيا مخلدا ودون نهاية .
ويعرف مرزوق كل شيء عن زرادشت ، فيحلم ان يكون هو.
ويحلم ان يصبح مثل غوركا.
أو مثل جان فلجان .
أو حتى متعب الهذال .
ورغم كل الذي قرأه، فإن مرزوق ضعيف أمام ليلة مريضة ، يسوقها نهار مضبب ، وارق يتربص به مثل ذئب .
يقف قدامها معزول الارادة ، عاجزا سوى عن الكلمات العاجزة . حتى ذكريات صباه قاسية غريبة .
قادته قدماه مرة نحو عراك عنيف ، زج به بعد ذلك في قفص صفير نتن بين وجوه متوحشة وأياد خشنة كادت ان تنخطف مؤخرته لولا ذراعي ابيه التي انتشلته ثم انهالت عليه ضربا مبرحا، تلك الليلة خط فيها مرزوق أولى كلماته فاحترقت سنواته بعد ذلك .
منذ تلك الحادثة التي كاد ان يودع بها احلامه التي خططها، والسفوح التي أمامه ، مضى مرزوق حزينا، مغلقا على نفسه باب الغرفة ، قارئا عزلته .
وكبر مرزوق بعد ذلك .
في سنوات مراهقته ، لم يقبل امرأة ، ولا عاكس فتاة في الشارع ولا انتابته رغبة لرائحة انثى.
مرزوق يعشق البياض الذي امامه ، يسكب عليه رحيقا حارا فتتهيج البواطن ، وتخرج الافرازات ساخنة مالحة . يسجد فوقها طائعا حتى يثمل .
بعدها يسقط متعبا، شاعرا بسقم عظيم في الرأس . قبل ساعات ، كان اليأس قد دب في اعضاء مرزوق كلها، فكتب : يوشك الرأس ان ينشطر
فليس ثمة أمل في انقشاع الغيمة
التي تتكاثف
وانا أطيل التحديق
نحو الفراغ الاصم
انتظر حتفي المكتوب منذ زمن وكتب :
انا قائد القصيدة
احمل العالم على رأسي
وأمضي للبحور العظيمة
وأعلم يقينا: انني احلم
وحين يمضي في الشوارع ، ينحرف ناحية مقهى يقعد فيه الصيادون والحمالون . يستمع لحكاياتهم دون ان ينبس ببنت شفة . «ان الصيادين والحمالين هم الجزء الو حيد من البشرية الذين وجدوا قيمة لحياتهم دون تعب ».. يقول مرزوق .
ويأتيه صوت صياد:
– يا رجل لا تشيل هم للدنيا..
فيبتسم .
ويقترب منه الصياد:
– اذا كانت امرأة ، ضاجعها طول الليل حتى ينشف رأسك ، وترتاح . واذا كان مرض ، كلنا اسقام لا تفكر. ما يفيد الهم ، وما يجيب غير الهم .
ويسأله الصياد عن اسمه :
– مرزوق صالح
وعن مهنته :
– كاتب
– متزوج ؟
– لا
وينهض عنه هامسا له بكلمات أخيرة :
– تسمع مني، تزوج وترتاح
فيبتسم مرزوق في وجه الصياد:
– قريب
لا يعرف الكثيرون شيئا عن مرزوق سوى انه مثقف و«يتكلم عربي زين» و«عنده لسان شيطان». لكن احوال مرزوق كانت قد تبدلت منذ زمن طويل ، فهو لم يعد يصاحب أحد، او يتكلم مع احد.
عند الصباح يحمل مرزوق الصفحات التي كتبها، ليسلمها لمحرر الصحيفة التي يكتب لها عمودا يوميا عن السياسة والتاريخ والحروب .
قبل ان ينبثق الصوت جميلا مترقرقا هذه الليلة ، كان مرزوق قد برح ظلمة الغرفة وكآبة الساعات نحو ظلمة الرصيف . اقتعده بهاجس مر، مهموما بقذى يرمد اعماقه ويلطخ رأسه بضباب غامق خانق .
كان اليأس المتخلل عظامه في قمته ساعتها، ولم يعد واعيا بما هو آت في الطريق .
حين بزغ الصوت ، اشتعلت خلاياه ، وغردت سرير ته . انتشله الصوت من مكان ما في العمق اللامرئي، وعلق حواسه . تخطفه وشمله حتى حدود النخاع ، وأسكر قلبه ودمه .
كان يدرك تماما أن هذا الصوت العميق الحزن ، سيأخذه باتجاه رحلة جديدة نحو حزن أشد وطأة ومرارة .
وربما سيبقيه هناك ابدأ.
وسيشتعل رأسه اكثر.
ميمونة
في كل ليلة تقول : أيها الزمان الذي يصلح الخواطر، ويعمر الدروب الوردية . ايها الزمان الذي يسافر مثل قطار دون توقف . غير مكترث للدماء النازفة في المحطات ، غير عابىء بدقات القلوب المتوجهة من شدة الانتظار والعيون المحروقة . عابرا كل الوجوه والأزمنة كريح. في المحطة القادمة ، ايها العابر، رجاء توقف ، وانظر بعينين رؤوفتين الى وجهي.
تكرر نشيدها وتبقى اسيرة رغبة جارفة .
في حوش المنزل تقعد واجمة ، فيأتيها صوت ابيها من الخلف :
-بنتي ايش تسوين .. الدنيا ليل .
وتهمس الام في أذن زوجها:
-تريد زوج .
-بعدها صغيرة
في الازمنة التي مضت ، مضت دون ان تحقق احلامها، حط البلبل على خصرها وحام حوله كثيرا. فعبقت انفاسه المحيط ، ومكثت هي محدقة فيه دون همس .
كانت قد اعتادت منذ ان نبت لها نهدان متكوران على المكوث وحيدة عدا من سفر مجهول نحو المناطق الوعرة تبسط همها في حوش المنزل ، تحيطها الظلمة والهواجس ، وتأسرها أمنية حريفة .
جاء في الليلة الأولى ، دار عليها وعلى خصرها، فصمتت .
جاء في الليلة التالية ، فزاد خوفها والصمت .
صوته كان رقيقا هادئا منذ البداية :
-ما اسمك ؟
-ميمونة
-حلوة يا ميمونة .
اصابعه النحيلة نظيفة جدا. بيضاء، تمسح على خديها بنعومة
تخجل هي، تنكس رأسها وتبتعد
– من أنت ؟
تسأله دون أن تجرؤ على رفع عينيها ناحية وجهه الجميل .
– رحالة ، قادم من بلاد بعيدة .
– ما هي بلادك ؟
– لا احد يعرف بلادي يا ميمونة ، حتى أنا
وتسأله مبتسمة .
– ما دمت رحالة فلماذا توقفت هنا؟
– لاراك الحظ الجميل مثلك اوقفني لاراك ، وربما لاخذك معي. هل تأتين معي؟
– الى اين ستأخذني؟
– سنسافر معا حتى نجد وطنا جميلا يسعنا.
– وهنا، لماذا لا تبقى هنا؟.
– هذا ليس الوطن الذي ابحث عنه . وطني مازال بعيدا.
– وأهلي ، لن يوافقوني على الرحيل مع غريب مثلك
– لا يهم ، غدا سآتيك في مثل هذا الوقت ونرحل معا.
وحين حاول ان يقبلها، ارتجفت . اهتزت اعضاؤها كلها. وخافت .
تذكرت كلام ابيها عن الشرف العظيم ، وعن نظرة الناس . تذكرت كلام امها عن الخيانات الكبيرة وعذاب القيامة والعبارات الاخري: الفضيحة ، الدم الأول والاخير. فهلع وجدانها واهتزت سقيفة القلب .
في مساء ما، ولم تكن بعد لتدري عن كل تلك الاسرار العذبة ، ادارت جهاز الكفار واستلقت مسرتخية على كنبة وثيرة ، فداهمها منظر بهي:
يقف فتى وسيم مقابل فتاة حلوة وبحنو بالغ تتشابك شفتاهما. تشخص عينا ميمونة وتتراكض انفاسها. ترتعش وهي تراقب المنظر بصمت وخوف . يغوص الاثنان في قبلات عميقة . حينها، وفجأة يشتعل في ميمونة هاجس حياء حاد ورثته عن امها النائمة بوداعة في حضن ابيها. قامت للتلفاز واطفأته .
لم تنم ليلتها.
بقيت ساهية تحدق في سقف الغرفة ، مطلقة العنان لتفكيرها الذي غادر المكان والزمان وطار. وحين احست باختناق بين اربعة جدران ، تحررت وانطلقت للفضاء الرحب . فاعتادت منذ ليلتها على برح الغرفة والتحرك نحو الحوش الذي يبرز فتنة السماء وينطق الكهوف السوداء.
ومنذ ليلتها تصاعدت الاسئلة داخلها حتى غدت مثل جبل ضخم . ظل المنظر امامها، مرافقا لها اينما كانت ، فكبرت عليه وتفتحت اعماقها وصهلت رغبة حادة في وجدانها. تقف قدام
المرآة ، تهتز، فتهز معها النهدين واعضاء الجسد المتآلفة بفتنة .
كنزت ملابسها الكثيرة في حقيبة اخفتها مع الليل تحت شجرة السدر الكبيرة التي تتوسط الحوش خوفا ان يردها ابوها، وانتظرته تلك الليلة .
انتظرت طويلا وهي تقضم باسنانها، دون حس ، اظافرها وكتفت بين حين واخر لنافذة غرفة ابيها الداكنة ، لكن صوته لا يتركها هانئة بقلقها:
-نصف الليل يا بنتي، يالله نامي.
وتحرك جسدها كمن يهم بالدخول لتقف عند مدخل الباب منتظرة بفزع لاهب .
لكنه لم يأت ليلتها، ولا الليالي التي كتها، فجزمت انه ارتحل بعيدا، باحثا ربما عن انثى تسلمه شفتيها بلا خوف .
لكنها بقيت مثل عانس -متعلقة بحلم قادم في الغد
يحاصرها احساس بالضياع والحرقة ، وكلمات طويلة تتردد في مسامعها عن الدم ، الفضيحة ، العذاب ، النار، واشياء كثيرة .
في ليلة ما، فتحت النافذة على منظر سيارة تقف بجانب حوش المنزل ، فبقيت متسمرة في تأمل اثنين يقدسان اللحظات المقدسة ، ويتعمقان في عبادة جليلة . يغيبان عن وجود مشحون بشتى انواع الهموم والمسقوم . يبرحان ملابسهما والكائنات ، ويطيران نحو فضاء رحب وسماء رطبة . فيشتمان أريج النيازك ويدخلان بابا من أبواب النعيم .
تلك اللحظات الجميلة التي تساوي عند ميمونة حياة بالكامل ، لا تظهر لها منذ ان غاب .
كادت ميمونة ان تقطف من زهور الحوش باقة منتقدة بعناية وتهديها لذينيك الراقدين تحت سمائهم الخاصة ، لولا ان المنظر كان قد انتفى فجأة . فحسبته حلما من احلامها المتشابهة .
في هذه الليلة ، وحين جف الصبر داخلها، واحترق الجوف رجفة مستعصية اللجوم ، غادرت غرفتها كالعادة ، وتسمرت قدام باب الحوش في انتظار شي ء ما. داهمها الصوت الذي يأتي من الأعماق غير المرئية واسكن جوانحها المتهيجة وحف اجزاعها وشملها بهدوء عظيم . انتشلها من وهج حارق نحو وهج بديع ، نحو سماء جميلة ، فانطلقت . مزقت خوفها والفزع الذي تضخم في نفسها وتفاقم دون حدود، فكبل سائر العقل .
كان صوت ابيها مسموعا وهي تتسارع في الارجاء
-الى اين يا مجنونة ؟
دون ان تلتفت أو تبالي .
***
* فصل من رواية بعنوان «الصوت »
يونس الاخزمي – عُمان