كانوا يصلون أفواجا أفواجا. في الطائرات. في البواخر. في الحافلات، في الشاحنات. ومشيا على الأقدام.
بدأ كل شئ بعد نشر القرار الحكومي فشرعوا في العودة. تركوا أماكن تعلموا فيها لفات جديدة ومهنا جديدة وعادوا يقتفون أثر ذاكرة غابت في الزمن.. لم يأتوا بزوجات عقدوا قرانهم بهم في الغربة. ولا بأطفالهم الذي ولدوا هناك. كان منهم من نسي توديع أصدقائه الجدد.. وكان سكان هذه البلاد ينظرون باندهاش المي هذه القوافل من الرجال والنساء والشيوخ
(وقليل من الأطفال ) الذي كانوا قبل يوم رفاق عمل وجيرانا وعشاقا.. حتى اليوم الما قبل دار الحديث حول هذه العودة الممكنة و المستبعدة – كان ذلك مجرد حلم – كلهم كانوا يعرفون ذلك.
قبل سنوات كثيرة ء كانوا وافدين جددا على الأمكنة وكانوا يتحدثون
باستمرار عن العودة عن لاجدوى تعلم لفة جدية إذا كان مقامهم قصيرا. وكانوا ينتظرون ساعي البريد بفارغ الصبر، ويقتفون أثره بأبصارهم أملين رؤية طوابع بريدية تتشابه دائما وتحمل صورة جانبية لذلك البطل العجوز بكل الألوان الممكنة. ويحاولون تخمين صاحب الخط على الأظرف الذي قد يحمل خبرا مشجعا يبشر بعودة سريعة الي البلد.. وبالتدريج بدأت المسافات الزمنية بين الوسائل تتباعد وكان لزاما عليهم أن يشتغلوا ليؤدوا الكراء ولضمان الملبس والمأكل.. وكان عليهم أن يتعلموا تلك اللغات التي يتطلب تعلمها وقتا طويلا.. لم يكونوا يكتبون كثيرا – كان ذلك صعبا – التنقل من حافلة الى حافلة. اعداد هندام الاطفال للمدرسة. الوقوف في طوابير طويلة لاقتناء أي شئ.
وهكذا أصبو موضوع العودة محببا لدى الجميع، وبعيدا أيضا.. إذ يتردد ذكريات بين أصدقاء يتكلمون لغة واحدة، أو بعد جلسة شراب أو بعد لحظ وصال مع شخص لا يحمل، رائحة الأجساد الأمة من هناك مع بشرة سمراء وداكنة.
كثير منهم كانوا يملكون القدرة كي الكلمة الطيبة والحركة الرقيقة التي بها يداعبون رؤوس من كانوا يبدأون كلامهم. "عندها سنكون هناك.." كانوا يساعدونهم على تلقي اللغة الجديدة ويشاطرونهم صداقاتهم ويترجمون لهم الأخبار المقتضبة القصيرة.
ثمة مصدر الاندهاش من هذه العودة السحرية الف عضة التي أصبحت في عداد الحكايات والأحلام ذهبوا كما جاءوا، دمن حقائب تقريبا- فقط كعاب أو سجائر- لم يتمكنوا من توديع أحد. حتى الذين ذهبوا نسوا لفتهم الحبيبة، لم يكونوا يعرفون كيف يقولون "شكرا على كل شئ، اعتبروا البيت بيتكم".
لا أحد منهم استطاع أن يقول بيتي، ئ بيته في البلد الجديد.. كانوا يقولون "هناك في البيت ه وكانوا يحتفظون بالمفاتيح والاقفال والابواب التي لم تكن موجودة.، وبسرعة لم تعد ثمة مقاما في الطائرات ولا في التي لم تكن موجودة.، وبسرعة لم تعد ثمة مقاعد في الطائرات ولا في البولخر ولا في القطارات ولا في المراكب.. ملأوا الطائرات والحافلات والموانئ والمحطات. كثيرون شرعوا في السير على الأقدام، فلملأوا الطرقات فكانوا مصدر ارتباك في العبور فأثاروا الرعب لدى سكان الأرياف. وسرت همهمات تقول إنهم مصابون بالأوبئة والطاعون وأنهم لا يحرمون الملكية الخاصة، وأنهم ينهبون ما تقع عليه أيديهم. ونصحوا السكان بعدم الخروج من بيوتهم.
أما هم فكانوا يفنون مبتهجين.
لقد هجروا المسدس والأرض والحصان وحملوا الأغنية. لا أحد استطاع أن يزرع الأرض أو يصنع النبيذ أو يجني العسل من خلايا النحل.
تلك كانت أحد الآسباب التي حدت بالحكومة الي السماح لهم بالعودة حتى تلغي كل قراراتها السابقة التي تسمي فيها المفتر بن بالمواطنين وبالعناصر الخطرة هي آمن البلاد وبمثيري الشغب والمخربين.
استقبلتهم البلاد الصغيرة بالآناشيد والأعلام.. مرحبة بعودتهم.. غطت اللافتات أرجأه المدينة وقف الأباء والأمهات والآخرة ولأقارب المشكوك في قرابتهم ينتظرون أمام البوابات وفي المحطات. تبادلوا الصور والعناوين وأرقام الهاتف. وتفاديا للمشاكل الادارية أقامت الحكومة عدة أجنحة يقيم فيها العائدون الذين لا آسر لهم. لا أحد استطاع مغادرة إلميناء آو المطار دون أن يعرف آن أسرة تنتظره أو أقارب سيستقبلونه. تكفي الألأم التي عانى منها في البلاد بسبب أسرته التي. آثارت الشغب والفوضى في زمن ما قبل الحرب.. قالت الاحصائيات بوضوع إن ثمانين بالمائة من المعتقلين والصنفين كانوا أبناء لأزواج انفصلوا من بعضهم البعض، أو ترعرعوا دون سلطة أبوية واضحة تحت رعاية أنثى. وهكذا حرصت المحكومة على تربية الأطفال وعلى تهذيب طريقه تفكيرهم. فقد اختفى معيار الأنانية الذي كان سائدا قبل الحرب حيث كان الطلاق وتربية الأطفال شأنا خاصا.
لقد تكفل مجلس حماية الأخلاق الحسنة بمراجعة كلبات الانفصال بدقة متنامية. وأصبح يأخذ بعين الاعتبار عدد الأطفال والنتائج السلبية أو الايجابية للطلاق المطلوب من أجل أن يوافق على الطب أو يرفضه.. هل كان ثمة أجداد يستطيعون أن يمنحوا الأطفال الصورة اللازمة للسلطة
الأبوية التي لا تناقش؟ أم أن الطفل كان يعيش تحت حضانة امرأة وحيدة لا تستطيع بسبب الضعف التقليدي للنساء أن توجهه حسب مبادئ الفطام واحترام السلطة وحب الوطن وخدام الوطن.
كانت خزينة الدولة محتاجة لكل أنواع العملة الممكنة وعدت بالملايين ما يحمله العائدون معهم. لذا كان عليهم أن يؤدوا رسوما علي الجوازات والوثائق ومن الصور القانونية وعن المتأخر من الضرائب والكراء الذي لم يؤد والقروض التي حل أجلها. كان الذهاب مفاجئا. بعضهم تركوا عرائسهم بفساتينها البيضاء داخل الكنائس والبعض الأخر نسوا أطفالهم في المدارس. الدولة هي التي وجدت نفسها ملزمة بحماية الأرامل من الرجال والنساء وحماية اليتامى. كان صحيحا أن تصدير الأطفال قصد تبنيهم من طرف عائلات ميسورة في الدول التي يقال عنها متطورة قد رفع من حجم الصادرات غير التقليدية لكن العائدين كانوا يؤدون مصاريف الأكل والدواء والمدرسة عن الذين لم يكن تصديرهم الى الخارج ممكنا.
جادوا بجيوب مملوءة بنقود من أماكن مجهولة، تحمل صور ملوك يبدون قساة وأبطالا ومشرعين وأشخاصا مشهورين (وقد كانت هواية جمع الطوابع البريدية نشاطا مربحا، لأن ثمة أشخاصا يؤدون أثمنة خيالية ليبقوا في الذاكرة على طوابع أو نقود). لذلك كان غريبا أن تعثر على نجوم سينما الدرجة الثانية وعلى مكتشفين لجزر صغيرة وجنرالات لم يعرفوا الحرب قه، كنير من الذين وصلوا مؤخرا يتساءلون عن مصيرهم إذا هم استطاعوا أن يشتغلوا ويحصلوا على منازل تؤويهم. كثير منهم أساتذة للأدب في وقت لم يكن الأدب مادة تحرض على الشف ولم يكن مادة غير نافعة، كما هو الشأن اليوم. لكنهم قايضوا كراسيهم في الخارج. واليوم هم ميكانيكيون لمحركات بطينة الاشتغال أو تقنيون في أجهزة الاعلاميات النووية.
طوابير أمام المؤسستين البنكيتين أو المؤسسات الثلاث الباقية في البلد من أجل الحصول طي عمل.. لأن الحكومة قلصت بطريقة جماهيرية ما كان من قبل غابة من الفروع البنكية. فقد كان دائما معلوما أن تبديل العملات والنقود وأسهم البورصة التجارية، يرتبط ارتباطا وثيقا بوول ستريت ودويتش يانكر فوربتد، وبمؤسسات كبرى أخرى. إذن لم لا ندع هذه المؤسسات تتكفل بشؤوننا؟
وانطلاقا من هذا القرار الرشيد، تغير وجه البلد. وتفككت تلك البنايات التي كانت تلمع بالاف العيون الزجاجية. الاف هن المستخدمين البنكيين المدن كانوا يهدرون قواهم في العمل بالألات وفي المكاتب خرجوا الى الشوارع ليغسلوا الأزقة والشوارع والساحات والممرات.
صعب على العائدين الجدد أن يتعرفوا كي بلدهم. كانوا يخافون من الدخول الى المكتبات ليسألوا عن كتب المؤلفين الممنوعين أو المدن أصابتهم اللعنة.. بعض هؤلاء الكتاب أحرقت صورهم الى جانب كل طبعات أعمالهم. وتم محو أسماء البعض الأخر من القواميس. هؤلاء كانوا الأكثر تحمسا للأفكار الجديدة والتجديدات. لم يكن التاريخ مجرد حكاية لما سبق من الأحداث بل اكتشف انه يتأثر بالتغيرات (الذكية). لم تكن اسبانيا قط جمهورية. لم ينف فولتيرتيكا وجود الله. وغيرت المعارك المنتصرين والمنهزمين. واصبح لفظ الثورة ينطبق لمحى الصناعة والنيولوتيكا. وتم تطهير الفلسفة من كل ما ليس ميتافيزيقا. فخرج توما الأكويني من الخل الذي جعلته تيارات خارجية يقبع فيه.
من اليسير التعرف محى الوافدين الجدد. فأنت تجدهم متجمعين في مساحات خالية يتذكرون ما كان فيها سابقا في المقاهي التي كان يكتب فيها الشعر كل المساء دون أن يزعجهم أحد، وفي أماكن نرتش فيها كثيرا معنى الوجود. وضرورة التغيير والجدلية والمادية. كانوا يجوبون المدينة بأعين أخرى ويعيشونها في الزمن الذي ترعوها فيه. وكأن الزمن الفاصل لم يكن سمه جملة اعتراضية.. كانوا ينتظرون شيئا سحريا لقاء مع شبح يستيقظ من الماضي ويقول لهم : "أهلا بكم لقد كنت في انتطاركم".
إلا أن الماضي كان نسيجا خفيفا على سجدت سرعان ما محته السنون. افلتوا منه غضونا ووجوها وأصواتا. بعضهم رفض أن ينزل من المرتفعات بعد أن مسد اليها والبعض الأخر رفض النزول من الأسرة والخروج الى الأزقة. امتلأت قاعات الانتظار في عيادات الأطباء النفسانيين. وازدهر علاج المساعدة الاجتماعية وعلاج المجموعات والمسرحيات البسيكولوجية. لكن لا أحد استطاع أن يساعد الذي فقدوا القدرة على النسيان. إنهم يتذكرون كل شئ. الناس. الأماكن. الأحداث. الأدوات. المنفيين. لم تبق سوى علامات متفرقة هنا وهناك.. كان هنا مقهى.. هنا كان الشبان يجلسون بعيون تلمع أملا ويصارعون طواحين الهواء يلعبون الشطرنج يناقشون الأوجه المتعددة لعدد من الأيديولوجيات. وهنا كان مسرح أتذكر؟ وهنا كانت تقدم عروض لبريخت أو لغارسيا لوركا، وبروميشيوس وفوينتيو بيخونا.. وهنا بالضبط. في هذه القاعة الخالية كانت العساكر أحيانا تعزف.
لم يسلم أحد بذلك في الأيام الأولى. بعد أسابيع لم يعد الإنكار ممكنا. ذهب الوافدون الجدد بالتدريج،لا شئ معهم. تماما كما جاءوا.. لا شئ غير كتاب أو سيجارة أو صور علاها الاصفرار.. ذهبوا في الطائرات والسفن والقطارات.. ذهبوا جماعات صغيرة. وبعد أن ذهبوا أفواجا كالبحر في فصل الشتاء.. وكما يقذف البقايا والزجاجات والحلزون والطحالب جاه وا الى شطآن أخرى خلف سراب لم يلتقوا به بعد أملين أن يعودوا مرة أخرى لكن دون أن يتمادوا في الحلم.
أنا لوبرا فالديس، كاتبة من الاوروجواي.
القصة من : انطولوجبا القصة لامريكا اللاتينية في القرن الـ20.
وصدرت سنة 1997م من : (ناشرو القرن العشرين). المكسيك.
ترجمة: محمد صوف (قاص روائي من المغرب)