كيف تقرأ اللوحة حواسنا لحظة نكاشف دلالتها اللونية، لغتها، نبضها، وحلمها المتنقل بين زمنها الراسم وزمنها المرسوم ؟
«شريف محرم» فنان تشكيلي يتمتع بتجربة تحاورية مع اللون والكتلة والفراغ والضوء والظلال محاولا بذلك أن يفتت رغائب اللوحة ليبني احتمالاتها الأخرى الممتزجة مع الحلم والمنفصلة عنه الى رؤى مضايفة تفك عن الواقع دلالته الأولى، موهجة ما فوقه تبعا لتناغم القلق الذاتي للفنان، أو لا تناغماته، كصيغة رؤيوية تتضمنها عناصر العمل الفني وتعكسها تجريداته القابلة للقراءة والتفاعل والتراكم والانبثاق.
من خلال الفضاءات تمر تجربة الفنان "محرم" لتنقسم الى ثلاث مراحل متقاطعة في ذات الفنان وفي ذاكرة الأعمال، أولها مرحلة التمازج الراغب بالانفلات وهي ما تناسب طردا من الدلالة اللونية مع تجسيداتها المرتكزة على (الأرض /المرأة) والتداعيات الانسانية المتسربة من حواس هذا التناسب الى تدرجات الأرق والصلصال المتمثلة بالترابي والأحمر والأسود وظلالهم الوجدانية الظاهرة في أعمال هذه المرحلة. بعد ذلك تنعطف الدلالة اللونية لتحمل أبعادا أخرى شكلت فيما بعد مرحلة "الفيروزيات" كمرحلة ثانية صاغت معادلة تحديثها الأولى بأسلوب انقطعت منه أزمنة المرحلة الأولى عن نفسها لتدخل طورا آخر وسع صوتياته الخفية عن طريق تصعيد الحواس الى لحظة غيمها، طيفها، دراميتها وتوارد ظلالها كخلفية لا متوقعة لفصول الاضاءة والحركة والحدث.
وتأتي المرحلة الثالثة كانبثاق يتجه نحو خطف اللحظة واذابتها بين لغة اللون وبين لغة الحلم حيث يتشكل زمن العمل الفني متنوعا في متوالياته وأمكنتها، في حركياته واتجاهاتها، في انعكاساته واحتمالاتها. وعلى هذا التنوع كفجوة ثابتة، تنمو الفجوة المتحركة لتتخذ من الفصول لا فصولها، ومن الكتلة ما وراءها، ومن التفاعل تجريدته المنبثة عبر محاور ذات موضوعية أهمها: اللاواعية، الحب، الوطن، الحلم.
1- تجسيد الظل / هامش اللحظة:
تتباعد كتلة اللون عن واقعها، لتتصل باحتمالات دلالية أخرى تخلق مساحة من الفراغ اللامرئي المتحرك، والذي تتحرك فيه ملامح الفراغ المتناسل من اللحظة المرسومة الى تعددياتها الظاهرة كحركة مزاوجة بين الذات والموضوع، وذلك من خلال عملية محمولة على جسد اللوحة وحاملة
لأحداث تتفوضى قرب الخطوط لتنتظم داخل صوتياتها على شكل نبرة اشارته تختزن طاقتها ثم تفلتها في مكان ما من اللوحة، غالبا ما يكون هذا المكان هو الايقاع الفراغي المشحون بموقف الفنان من ذاته ومن العالم.
أما ما تحلله هذه الايقاعات فهو الجسد الظلالي المسقط من طاقة المبدع على أشيائه ومرموزاتها الطافحة من اللوحة غير المؤطرة تجاه مجالها الأوسع المتفاعل مع حواس القاريء ومع حواس الفضاء وبينما حركة الاسقاط تلك تكمل دورانها حول الظل، تتهامش اللحظة لتسقط من اللوحة على شكل توتر هاديء هو مركز الابتعاد الى العمل واختراعات التلاقي بين الخفوت المبدئي والصعود المنكمش في الطاقة الفراغية والذي لا ينكشف إلا بعد مسافة حلمية تشد أبعاد اللاوعي الى ديناميتها تاركة حيز الأبعاد المسحوبة مملوءا بطاقة تزيح اللون الظاهر لتحل محله خفاء الاحتمال المنبعث من تصادم الطاقتين (طاقة اللاوعي / طاقة اللون) فما تجسده الرموز (المرأة النافذة / الأبواب / الرفوف) يجرد حالاته متوسلا تعاريجه الدلالية في تعرية الواقع – الحصار، وفي بعثرة قضبانه المنسدلة على اللوحة والشافة عن حركية الحرية الماكثة في أعماق الانسان أعماق اللون المرموز اليها بـ "السلالم / البياض / المد الحلمي" الأعماق الناتئة هناك في دراسية الفراغ العاكسة لحركة التضاد الحياتي المحمول على بعد اجتماعي لا يتناسب مع العصر والحامل لابعاد متثاقفة تظهر نبرتها بشدة بين العلائق المتراكبة وراء حركة الرموز (المرأة) كامتداد حضاري مسجون.، (النافذة / كانحسار عن العالم وانغلاق اصابه الظلام فبدأ يحفر في ذاكرة اللوحة فجوة بحثه عن المرأة / الأرض / الحلم.
2- دينامية اللون / تشكيلية التداخل:
تتدرج الحركة اللونية مسافة مفرداتها لتشتق منها تركيبة الحواس المنسجمة مع الرموز فالأحمر يصارع اضاءته الترابية (الوطن) البرتقالية (أبعاد التمرد) الصفراء (دلالات اليباس / الموت) والأخضر يتنازع مساحة المفردة الهادئة ليوحي بخصب لم يتجاوز فصول الأرض، لكنه الكامن من الطاقة القابلة للتحول إما الى الدرجة الباهتة من الاضاءة الحمراء، وأعني الأصفر، إما الى الدرجة الصاعدة باتجاه عن مزيج الدرجتين الباهتة والمتصاعدة فهو بحاجة الى تحريض حسي يبعد عن الأرض الموت – اليباس – الاصفر، ويمنحها المتحرك النقيض، أي الخصب، الحياة، دلالات السماء – ايحاءات الزرقة، وعلى اعتبار أن الفنان "محرم" مدرك لهذه الجدلية، فإنه يكون من دلالات الألوان الأخرى فجوة تشكيلية غير مستقرة، رغم أنها الواصلة بين الظلين (ظل الأرض /ظل السماء) والمتجسدة كظل للهواء يميل للتداخل مع الأسود لنفسها، وهذا ما يتمركز تحديدا في جسد اللحظة الراسمة والمتهيكلة على هيئة الدواخل الانسانية (الذات المبدعة والذات الأخرى)، وعلى هيئة النوافذ والأبواب المظلمة وشبه الاعتامية ونصف المطفأة. وعلى هيئة الايقاع الضبابي الخارج من فواصل اللوحة، والتداخل الى أرواحها المتحركة بين الطاقة المحرضة والمتشكلة من اللازورد الهامس والأزرق الغامق الصاخب والرمادي المنسب بين جدران البياض والسمرة، وبين ألوان الملامح الناهضة من الظلال الوجدانية والرافضة والمعاشة.
3- إحالات الضوء / بعثرة الحيز:
لذلك نلمح ترانيمها القادمة من نبرة الصراع وهي تختزل صوتيات بياضها لتنحسر في نقطة التلاقي المتمحورة بين الضوء والظل، ثم لتمتد بعيدا عن تجاويفهما الأفقية (أبعاد المحيط المكانية والزمانية الماضية والواهنة) وأعني، نغمتها العمودية المتحولة الى الفضاء الدينامي والناتجة عن تقاطعات الزمكانية الفنية المتحركة تحت العنوانين السابقين (جسد الظل / دينامية اللون) كمكان تجول فيه معطيات الضوء، والمتحركة بين المتجادل العابر للرؤيا أي زمن الحلم والمخيلة والطاقة الذاتية، كزمانية كونت إضاءة العمل الفني وصارت فضاء لاحالاته المتراكمة بين الجواني والمتخارج من العالم. على هذه المفاصل انبنت لوحات الفنان "شريف محرم" لتحلل معاناتها وفق تمايز له بصمته على الساحة الفنية، وله احالاته المنسرحة من المتداخل اللوني الى شكل العمل الفني المتركب من آثار أحادية متعددة على مستوى المدلول وعلى مستوى التشاكل، أي مبدأ التفاعل ضمن لوحة واحدة قابلة للتجزيء من قبل الحواس القارئة، وهذا التجزيء يتم على إشارات وايقاعات وحركية اللوحة كما أن له إحالاته الأخرى المجزأة شكلا الى لوحات متعددة وتضم دراميتها خلفية مدلولية واحدة قابلة بدورها للتجزيء تبعا للحواس المتجاورة معها، ولهذا الشكل مظهران، أولهما تجزئة المدلول التشكيلي الى لوحات منفصلة (ثلاثية خماسية..) وثانيهما تجزئته بوساطة إطار لوني يقسم جسم اللوحة الى أطوار متعددة تناغمها حالة الفنان المتثاقفة مع طاقته وحواسه ومخيلته الهاربة منه الى الميكانيزم اللوني المتخارج بأبعاد متنافرة، ومنسجمة أحيانا، محذوفة، مضافة.. ومتغيرة..
غالية خوجة ( كاتبة وشاعرة من سوريا)