أمّ الزين بن شيخة
كاتبة وأكاديمية تونسية
حينما تتحوّل إبادة شعب برمّته إلى مجرّد خبر يومي عاجل، ويُنسى المقتولون والضحايا كأن لم يكونوا معنا يحلمون ويحبّون ويتألمون ويضحكون، فإنّ الإنسانية التي كانت تجمعنا قد انهارت وأعلنت عدم قدرتها على المشترك. وهذا يعني تحديدا، أنّ العالم قد انخرط في زمنية الكارثة مثلما تعلن الأرض أحيانا عن زلزال مدمّر حينما لم تعد تحتمل ما يحدث فوق سطحها. ونحن اليوم ننتمي إلى هذا النوع من الزلازل الجيوسياسية التي لا تصيب فقط دولًا كي تعلو دولٌ أخرى بديلا لها، إنّما تصيب قدرة البشر على الانتماء إلى العالم بإنجاز عالم إنساني. نعم لقد فقدت الإنسانية الحالية قدرتها على الحياة المشتركة، أي تلك التي تجمع بين البشر بوصفهم متشابهين ومتساوين ومتميّزين معا.
كيف للبشر الحاليين أو ما تبقى من الإنسانية في قلوبهم أن ينجزوا العالم من جديد؟ أم هم محكومون بالاستسلام إلى اليأس المعمّم في نوع من العبودية الجديدة لتوحّش الإمبريالية العالمية وفظاعة استراتجيتها الحربية الدموية؟ عن هذا السؤال تجيبنا حنا أرندت في نص رغم كونه يبدو بعيدا عنّا زمنيا لكنه يشبهنا أنطولوجيا هو كتابها الوضع البشري(1958). ونحن في هذا البحث سنحاول الترحال في تضاريس هذا الكتاب من أجل استشكال العلاقة بين الفنّ بوصفه أحد الحلول الأساسية لاستعادة القدرة على إنجاز عالم إنساني، أي مشترك، وفكرة المجال العمومي بوصفها مجال ظهور الحياة المشتركة نفسها.
قبل معالجة هذه المسألة نشير في البداية إلى أنه كثيرا ما تتمّ دراسة مفهوم الفضاء العمومي انطلاقا من هابرماس وأطروحته بتاريخ 1961 كما لو كان هذا المفهوم من اختراعه، لكننا سنكتشف معا من خلال هذا البحث كيف أنّ حنا أرندت قد اشتغلت بشكل فلسفي عميق على هذا المفهوم قبل هابرماس في محاضراتها التي ألقتها في جامعة شيكاغو بتاريخ 1956 التي صارت مادة لكتاب الوضع البشري بتاريخ 1958(1). وسنكتشف أيضا طرافة تشريح حنا أرندت للمجال العمومي في علاقة بمفهوم الحرية ضدّ مفهوم التواصل، ومفهوم الفعل ضدّ مفهوم الحجاج أي إنتاج الرأي العام عبر المكنة الخطابية التواصلية لكل مجتمع يريد أن يكون ديمقراطيا. إنّ المجال العمومي كما تعرّفه أرندت لا يملك مجرّد قيمة براغماتية وإجرائية بل هو المكان الذي يحقق فيه الناس قدرتهم على الحياة المشتركة. وذلك يتمّ ضمن منظور سياسي دقيق هو منظور “الحياة النشيطة” أو العملية ضدّ الحياة التأمّلية مثلما أسّس لذلك اليونان حيث تمّ تقسيم الناس إلى عمّال لا يفكّرون بل يعملون فقط وهم العبيد والأسياد الذين ينصرفون إلى الشأن السياسي أي تدبير المجال العمومي عبر التأمّل. لكن أيّ معنى تعطيه أرندت لمفهوم الحياة النشيطة من أجل إعادة التفكير في العلاقة بين الدائرة الخاصة والدائرة العمومية؟ وما منزلة الفن بوصفه ينتج آثارا عملية ملموسة وعمومية في إنتاج الحياة المشتركة أي في إنجاز العالم بوصفه كينونة من أجل الاستدامة والخلود؟
(1) مفهوم الحياة النشيطة :
يمثّل هذا المفهوم الأرضية النظرية الأساسية التي تقترح في أفقها حنة أرندت تشريحا أنطولوجيا لما تسميه الوضع البشري. وهنا تكمن طرافة نظريتها السياسية. فهي لا تنطلق من طبيعة بشرية جاهزة أو متخيلة كما درج على ذلك فلاسفة العقد الاجتماعي، بل من الوضعية البشرية التاريخية كما حدثت في عصرها، أي بعد الحربين العالميتين وفي سياق النازية والستالينية وما أنتجته من فظاعات دموية. ويكون السؤال الفلسفي حينئذ: كيف التفكير في وضع بشري مزّقته الحروب وحوّلته الدولة الكولونيالية إلى مساحة للهيمنة الكونية على الشعوب؟ هل يمكن للبشر أن يستعيدوا قدرتهم على الحياة المشتركة بعد القنبلة الذرية؟ وهنا يتمّ التمييز بين العصر الحديث الذي انتهى عمليا، و”العالم الحديث الذي نعيش فيه والذي وُلد مع الانفجارات الذرية الأولى(2)”. هكذا ينفتح كتاب الوضع البشري على انفجار سياسي وتاريخي، من حدث القنبلة الذرية بوصفها بداية للعالم الحديث. وأيّة بداية تلك التي مات فيها ملايين الأبرياء واندثر فيها عصر وانبثق منها عالم؟. وبين العصر والعالم حروب ودماء وقتلى أبرياء، ونازية وفاشية وإعدامات ومحرقة وضحايا. كلّ هذا وأكثر كان وراء ولادة العالم الحديث الذي نعيش فيه. ولا أحد من الآلهة أو من سكّان الأنظمة الشمسية الأخرى قد يحسد البشر المحدثين على عالمهم الحديث. وهنا ننطلق مع حنة أرندت في مقاربة نقدية للحداثة، لا من جهة تدمير ميتافيزيقا الذات أو تفكيكها أو الإعلان عن موت الإنسان أركيولوجيًا أو استطيقيًا فيها، بل من جهة تاريخية ملموسة وموجعة ومحزنة معا: عالم وُلد من الانفجارات الذريّة وليس من التأمّلات الفلسفية أو الشعرية. كيف التفكير في مثل هذا العالم؟ تجيبنا حنة أرندت قائلة: “إنّ ما أقترحه في الصفحات القادمة، هو إعادة النظر في الوضع البشري من وجهة نظر تجاربنا ومخاوفنا الأكثر جدّة… إنّ ما أقترحه هو إذن بسيط جدّا: لا شيء أكثر من التفكير في ما نفعل (3)”. هكذا يتمّ تجاوز الأسئلة الميتافيزيقية حول طبيعة الأشياء نحو الفكر السياسي حول طبيعة الفعل البشري. وهنا ننتقل من براديغم الفلسفة التأملية اليونانية إلى براديغم الفلسفة العملية وذلك استئنافا وتجذيرا للمنعرج العملي منذ أطروحة أولوية العقل العملي على العقل النظري مع كانط وصولا إلى مفهوم البراكسيس مع ماركس الذي اشتغل في أفقه مفكّرو مدرسة فرانكفورت. إنّ التفكير في الوضعية البشرية التاريخية التي نعيش فيها هي مهمّة الفلسفة مثلما تريدها حنة أرندت في أفق أنطولوجيا سياسية ثورية بدلا عن أنطولوجيا رومانسية شعرية مثلما هو الأمر لدى هيدغر.
في هذا البراديغم السياسي الجديد يتنزّل مفهوم الحياة النشيطة الذي اعتبرته حنة أرندت موضوعا رئيسا لمقاربتها حول الوضع البشري في العالم الحديث. وهو ما يمثّل عنوانا للفصل الأول من الكتاب نفسه. تكتب حنّة أرندت ما يلي: “أقترح عبارة الحياة العملية لأعني ثلاثة أنشطة أساسية: العمل والأثر والفعل.. “وهي تعتبر هذه الأنشطة بمثابة الشروط الأساسية لحياة البشر على الأرض. وهي بذلك تعيّن أهمية هذا المفهوم بوصفه الحقل التأويلي النموذجي لإمكانية التفكير في الحياة البشرية نفسها. فالإنسان ههنا يغيّر من عناوينه: لن يتعلّق الأمر بالإنسان كحيوان عاقل، وهو التصوّر اليوناني القديم والذي ساد كل الميتافيزيقا التقليدية إلى حدود كانط، بل بالإنسان كحيوان صانع. وهنا تنشّط أرندت التأهيل الحديث لمفهوم العمل خاصة منذ آدم سميث وماركس لكنّها لا تعتبر العمل وحده كافيا للتفكير في الحياة العملية. لقد تمّ الاعتراف بقيمة العمل منذ الثورة الصناعية بوصفه ما يجعل من الإنسان إنسانا، لكن أرندت تميّز بين العمل والأثر والفعل، وتعتبر أنّ الشرط الأسمى لتحقيق إنسانية الإنسان ليس العمل لأنّه ضرورة بل الفعل الذي يصنع الحياة المشتركة، أمّا الأثر فهو شرط اختراع العالم، أي خلوده.
يتعلّق الأمر إذن بتشريح تاريخي دقيق لمفهوم الحياة النشيطة أي التي تشمل مجمل النشاط البشري في مقابل الحياة السلبية أو المنفعلة أي حياة العبودية في شكلها القديم أو في شكلها الحديث، أي عبودية لأنظمة الهيمنة الكليانية التي حوّلت العالم إلى بضاعة مطلقة والبشر إلى مستهلكين بلا حدود. وهذا هو رهان كتاب الوضع البشري: إرساء نظرية سياسية لتحرير البشر الحاليين من الحياة غير الإنسانية التي وجدوا أنفسهم فيها، تحت الهيمنة الكليانية ونظام السلع والاستهلاك وتصحير العالم بإفراغه من المعنى وتحويله إلى سوق وقنبلة. هكذا تمّ القضاء على السياسة نفسها، أي على قدرة الناس على الفعل أي على بناء حياة مشتركة تراهن على الديمقراطية والحرية.
تنطلق حنة أرندت في تشريحها لمفهوم الحياة العملية من حدث محاكمة سقراط بوصفه القادح الفلسفي للتأريخ لهذا المفهوم. لكنّها لا تستعرض النظرية بل تؤوّل الحدث بتنشيطه في أفق نظريتها السياسية القائمة على التفكير فيما يحدث لنا وفيما نفعله بأنفسنا. إنّ مفهوم الحياة العملية لا يولد من فكرة بل من ظرف تاريخي مخصوص. إنّه يظهر في حدث محاكمة المدينة للفيلسوف بوصفه قد تجرّأ على جعل التفكير فعلا عموميا تصل خطورته إلى حدّ تهمة تدمير معتقدات المدينة وآلهتها. فالفلسفة حينما قررت الخروج إلى حقل الشؤون السياسية العمومية، تلك هي اللحظة التي وُلدت فيها كتفكير في الحياة العملية. وهو ما استأنفه أرسطو بحسب الخيط التاريخي الذي ترسمه لنا حنة أرندت كمن ينسج قصة مغايرة للفلسفة. بحيث تمّ التمييز عنده ضمن مفهوم الحياة العملية بين ثلاثة أشكال من الحياة “كلّها تشترك في طقس الجميل(4)”. وهي حياة اللذات أوّلا، وتلك التي خُصصت لشؤون المدينة ثانيا، وهي حياة الفيلسوف ثالثا. الأولى نستهلك فيها الجمال، والثانية ننتج فيها ممارسات جميلة، أمّا الثالثة فهي “حياة الفيلسوف، وقد وهبها للبحث في الأشياء الخالدة وتأمّلها(5)”. ورغم تأسيس أرسطو لمفهوم الحياة العملية أو النشيطة، فهو لم يكن ليعترف لا بالعمل لأنّه مجال العبيد، ولا بالأثر لأنّه مجال الحرفيين، وكلاهما ينتميان إلى مجال صناعة النافع دون الارتقاء إلى مصاف الحياة السياسية التي يحتكرها الأسياد أي الذين لا يعملون بل يتأملون ويتكلمون في الأغورا لإنتاج التنظيم السياسي للمدينة. وهنا نفهم مدى طرافة ما تقترحه حنة أرندت في تشخيصها للوضع البشري من خلال براديغم “الحياة العملية”. إنّها توسّع من مجال هذا البراديغم فتجعله لا يقتصر على الشؤون السياسية فحسب بل على العمل والأثر بحيث تمنح هذين المفهومين الكرامة الفلسفية التي تمّ الصمت عليها مع فلاسفة الإغريق. إنّها تدحض التمييز الأرسطي بين الضروري والنافع والجميل الذي استمرّ في التقليد الغربي إلى حدود كانط، وتجعل هذه المفاهيم جميعا عناصر أساسية ضمن بنية الحياة العملية. وهذا يعني تحرير العمل من الدائرة الخاصّة بوصفها دائرة العبودية، وتحرير الأثر من احتقار اليونان للحرفيين، والإعلاء من شأن الفعل بوصفه المجال الوحيد لتحقق الوجود البشري، لأنّ مدينة تحتقر العمل والفنّ لن تكون سوى مرتعٍ للطغاة.
من أجل بيان جغرافية هذه النظرية السياسية المتشعّبة والتي تجمع بين العودة إلى أفلاطون وأرسطو والقديس أغسطينوس، ومناقشة الفلسفة السياسية الغربية الكلاسيكية من هوبز إلى ماركس، والاشتباك مع كانط وهيغل وهيدغر، سنتوقف أوّلا عند هذه الثلاثية المفهومية التي تمثّل النواة الأساسية لهذه الفلسفة أي التمييز بين العمل والأثر والفعل.
تكتب حنة أرندت ما يلي: “إنّ العمل هو النشاط الذي ينطبق على المسار البيولوجي للجسم البشري.. إنّ الوضع البشري للعمل هو الحياة ذاتها.. والأثر يمنح عالمًا اصطناعيا من الأشياء، عالما مختلفا بوضوح عن كلّ محيط طبيعي.. ويطابق الفعل، وهو النشاط الوحيد الذي يضع البشر مباشرة في علاقة دون وساطة الأشياء ولا وساطة المادة، يطابق الوضع البشري للكثرة(6)”. إنّ العمل الذي تمّ احتقاره في الفلسفة اليونانية بوصفه مجالا للعبيد، يتمّ الإعلاء من شأنه وجعله الشرط الأوّلي للحياة البشرية. لكنّ إعادة تأهيل مفهوم العمل لا يعني تقديسه مثلما فعل العصر الحديث منذ الثورة الصناعية وازدهار الرأسمالية والاقتصاد الليبيرالي مع سميث أو مع ماركس وهيجل، إنّما يتمّ جعله الشرط الحيوي فقط للوجود البشري. إنّ العصر الحديث بالرغم من تحريره للعمل من الاحتقار الذي ساد في عهود العبودية، بقي غير قادر على فهم مختلف أبعاد الحياة العملية أو النشيطة المضادّة للحياة التأملية. في هذا السياق تكتشف حنة أرندت ضرورة التمييز بين العمل والأثر والفعل. فإذا كان العمل هو شرط الحياة، فإنّ الأثر هو شرط الانتماء إلى العالم، أمّا الانتماء إلى الوجود البشري المشترك فيقتضي مفهوم الفعل في المجال العمومي. بالعمل يكون الإنسان كائنا حيّا، وبالأثر ينجز عالما، وبالفعل ينتمي إلى النوع البشري. فالإنسان لا يمكنه أن يكون خارج دائرة العمل، وهو لن يحقق خلوده إلاّ عبر الأثر الفنّي، وهو أيضا لن يكون بشرا خارج مجال الفعل أي خارج الكثرة البشرية التاريخية التي يولد فيها ويموت ويتكلّم والتي يخترع فيها الحرية. فالعمل مجال الضرورة، لا يمكن أن نحيا دون أن نعمل لتوفير الشروط البيولوجية الضرورية للبقاء، والأثر الفنّي مجال الخلود لأنّه يمنحنا عالما من الأشياء خارج الطبيعة وهو عالم نصمّمه ليبقى، والفعل مجال الكلام والحرية والظهور. وعليه، لم يعد بوسعنا القول مع هيغل وماركس أنّنا نتحرّر بالعمل، لأنّ حنة أرندت قد وضعته في خانة الضرورة. إنّما نتحرّر حينما نكون معا في مجال الفعل بوصفه مجالا عموميا.
(2) في الفرق بين المجال
الخاص والمجال العمومي:
في الفصل الثاني من كتاب الوضع البشري تكتب حنة أرندت ما يلي: “لا وجود لأي حياة إنسانيّة حتى ولو كانت حياة الأبدية في الصحراء، ممكنة إلّا في عالم يشهد على حضور بشر آخرين، سواء أكان ذلك بصفة مباشرة أو غير مباشرة (7)”.
لقد وُلد التمييز بين الخاص والعمومي من التمييز بين العائلة والمدينة. فالعائلة هي مكان الحياة الخاصة حيث يعمل العبيد تحت سلطة ربّ العائلة، والمدينة هي مجال الشؤون العمومية أي السياسية. وهذا التمييز بين الحياة الخاصة والمجال السياسي ظهر مع فلاسفة اليونان كما تؤرخ له حنّة أرندت. يتعلّق الأمر بالعودة إلى مفهوم “المدينة” “بوليس” اليونانية، وهي التي تمّ اعتبارها “الأكثر كلاما من كلّ الأجسام السياسية (8)”. وهنا يتمّ بسط التعريف اليوناني لمفهوم المدينة بوصفه الجسم السياسي القائم على الإقناع وهو ما نقرأه تحت قلم حنّة أرندت: “فأن يكون المرء سياسيا، وأن يعيش في مدينة، كان يعني أنّ كلّ شيء محدّد من خلال الكلمات والإقناع لا من خلال القوة والعنف (9)”. ثمة علاقة أساسية في التعريف الأرسطي للإنسان بوصفه “حيوانا سياسيا” بين الكلام والقدرة على التأمّل. وحدهم الذين يمتلكون القدرة على الكلام في المدينة أي في مجال السياسة لهم الحق في الحياة التأملية. لذلك فالمجال العمومي حكر على الأسياد أي الذين من حقّهم الانتماء إلى التأمل ضدّ العبيد الذين يعملون. وفي هذا المعنى تؤوّل حنة أرندت هذا الاقتران لدى أرسطو بين السياسة والتأمل والكلام على النحو التالي: “.. إنّ أرسطو لم يفعل سوى التعبير عن الرأي السائد الذي للمدينة حول الإنسان والحياة السياسية، وبحسب هذا الرأي، فإنّ كلّ من كان خارج المدينة -البرابرة والعبيد- كان محروما من الكلام(10)”.
إنّ التقسيم بين المجال الخاص والمجال العمومي هو سمة كل الفكر السياسي القديم. لكن ظهور المجال الاجتماعي والحياة الحميمية إنّما هي سمة العصر الحديث. (ص.59) والفرق بين الحياة الخاصة والمجال العمومي هو الفرق بين المدينة والعائلة أي بين مجال الحفاظ على الحياة ومجال العالم المشترك. أي بين مجال الضرورة ومجال الحرية.
منح الفلاسفة اليونان للمجال العمومي تميّزا أنطولوجيا في حين تمّ تحقير الدائرة الخاصة بالنساء والعبيد، فإنّ العصر الحديث قد اكتشف الحياة الحميمية منذ روسو وأعلى من شأنها بوصفها الأرضية التي تظهر مفهوم الفرد الحديث. وهذا الاكتشاف قد كان في تأويل حنة أرندت السياق الذي ظهر فيه “الازدهار المدهش للشعر والموسيقى منذ أواسط القرن الثامن عشر إلى حدود الثلث الأخير من القرن التاسع عشر تقريبا، وانبثاق الرواية، الشكل الفني الوحيد الاجتماعي بشكل كامل(11)”. لكن حنة أرندت تعترض على هذا التنضيد الحديث للعلاقة بين الحميمي والاجتماعي، وتستعيد مبدأ التميّز الذي يوليه الفلاسفة اليونان للمجال العمومي بوصفه المجال الذي يمكن للإبداع أن يكون فيه ممكنا. وهو معنى قولها: “فكلّ نشاط يؤدي في المجال العمومي بإمكانه بلوغ امتياز لا يمكن بلوغه في المجال الخاصّ لأنّ الامتياز بمقتضى التعريف يطالب دائما بحضور الآخرين. ويجب أن يكون هذا الحضور رسميّا. إنّ الإنسان يريد الحضور الذي يتكوّن من نظرائه، ولا يريد الإعانة الأسرية والمبتذلة للمتساوين معه أو لمن هم أقلّ منه (12)”. وهنا نفهم معنى اعتراض حنة أرندت على التمييز الحديث بين الحميمي والاجتماعي. إنّ هكذا تمييز قد قتل القدرة على الحياة المشتركة بإعلائه من مجال الحميمي والفرد وتذويبه للطابع السياسي اليوناني للشأن العمومي في مقولة المجتمع. ما حدث في العصر الحديث خسائر رمزية فادحة تعددها حنة أرندت: التنويه بتطورات الإنسانية بدلا عن إنجازات البشر، فقدان قدرتنا على الفعل والكلام، وتغيير مضمون المجال العمومي، والمراهنة على تغيير نفسية الكائنات البشرية بدلا عن تغيير العالم الذي يعيشون فيه.
انطلاقا من هذا التأويل للثنائيات بين الحياة الخاصة والمجال العمومي، وبين الحميمي والاجتماعي، تقترح أرندت أطروحة خاصة هي استعادة التفكير بالمجال العمومي بوصفه مجالا لاختراع المشترك. وهي بذلك تتجاوز التأويل الأرسطي واليوناني القديم للمجال العمومي بوصفه مجال المدينة الذي يكون حكرا على الحياة التأملية ويقصي العبيد والبرابرة، وكذلك التأويل الحديث للعلاقة بين الحميمي والاجتماعي الذي يضعف القدرة على المشترك بتحويله إلى مجال لإدارة عالم الأشياء والبضاعة.
ما هو المجال العمومي؟ تعرّفه حنة أرندت بوصفه مجال الظهور، أي مجال ما نراه جميعا بوصف ما نراه هو الذي يمثّل الواقع نفسه. إنّها تبسط تأويلا فينومينولوجيا يجعل من العمومية لا تقال بالنسبة إلى الخصوصية أو الحميمية، بل بالنظر إلى المرئي والخفي. تقول عن المجال العمومي: “فهو يعني أوّلا أنّ كلّ ما يظهر في المجال العمومي يمكن أن يراه الجميع ويسمعوه… وبالنسبة إلينا فإنّ الظاهر- الشيء الذي يُرى ويُسمع من قبلنا يمثّل الواقع (13)”. وحده حضور الآخرين يمنحنا حقيقة العالم وحقيقة كينونتنا مع الآخرين. وحدهم الذين يظهرون في المجال العمومي يتّصفون بلقب البشر، وكل حياة خارج الكثرة البشرية لا يمكنها أن تكون كينونة للبشر.
لكن إذا كان المجال العمومي يشترط العيش معا، فأي معنى لهذه الكينونة معا وكيف يتمّ إنجازها؟ إنّ الأمر يتعلّق بعالم الأشياء التي ينجزها الإنسان الصانع من أجل أن يكون ثمّة عالم نوجد فيه ونتقاسمه. وعليه “أن نعيش معا في العالم يعني أساسا أنّ عالما من الأشياء يوجد بين من يشتركون فيه، مثلما توجد طاولة بين من يجلسون حولها (14)”. إنّ موطن الإشكال في هذا التعريف للمجال العمومي بالنسبة إلى العصر الحديث هو أنّ العالم لم يعد يجمع بين الناس . وذلك يعني أنّه في عالم الوفرة تمّت التضحية بالاستدامة من أجل التبادل وتراكم رأس المال، وتمّ تعويض العمل بمجتمع الموظّفين، وضياع المجال العمومي تحت راية المجال الاجتماعي والإعلاء من شأن الحياة الجيّدة. ما حدث هو فقدان البشر على الحياة المشتركة، لأنّ “العالم الذي يوجد بينهم قد فقد قدرته على جمعهم معا (15)”. وذلك لأنّ التحوّل إلى عالم استهلاكي قد أضاع عنه قدرته على الاستدامة أي على الخلود.
إنّ ما يحرج الفيلسوفة هنا هو إذن أنّه قد تمّ نسيان “السياسي”، أي قدرة البشر على العيش المشترك وإنجاز الحرية. كما لو كان الفضاء العمومي هو ذلك الكنز الذي فقده العصر الحديث والذي كان الأثينيون قد حفظوه في الذاكرة. وإنّ ما تراهن عليه حنة أرندت في كتابها “الوضع البشري” هو استعادة إبداعية للفضاء العمومي الذي يظهر خاصة في الثورات ويظهر أيضا كلّما اجتمع الناس من أجل الفعل والكلام وممارسة السلطة العمومية. ما يهمّ حنة أرندت خاصة هو هشاشة الفضاء العمومي في العالم الحديث، وذلك بسبب تغوّل المجال الخاص تحت تأثير الفرد الليبيرالي، واللامبالاة تجاه السياسة. وهذا أمر خطير جدّا على كينونة الإنسان الحديث الذي سيفقد بشريته بمجرد فقدانه للمجال العمومي. وهو بذلك قد تخلى عن مجال الشؤون السياسية للطغاة والفاشيين، وهو معنى سقوط البشر في هذا العالم الحديث في أشكال جديدة من العبودية. لأنّ فقدان البشر للفضاء العمومي رغم انتشار وسائل التواصل التي عوضت القدرة الفعلية على المشترك، والديمقراطيات الزائفة هي تهديد مباشر للحرية نفسها.
ليس الفضاء العمومي اكتشافا حديثا كما يعتقد المحدثون، بل بالعكس من ذلك، لقد فقد العالم الحديث الفضاء العمومي بفقدانه القدرة على الحياة المشتركة. وهذا هو النقد الجوهري الذي توجهه حنة أرندت للحداثة، بوصفها قد عوّضت المجال العمومي بوصفه تجسيدا لحرية الناس وقدرتهم على الفعل والكلام أي على الانخراط في الحياة السياسية، بمجتمع المستهلكين والموظفين القائم على الملكية الخاصة والوفرة ونموّ الثروات.
(3) الفن بوصفه شكلا من
التربية على القيم المشتركة:
يتنزّل الفنّ ضمن تنضيد حنة أرندت لمفهوم الحياة العملية ضمن مجال الأثر. وهو بذلك يندرج صلب قلب هذا البراديغم بوصفه يتوسّط مكانته بين العمل والفعل. وهذه التراتبية التي تنجزها حنة أرندت مقصودة تماما. بحيث أنّ الفنّ هو الذي يصنع أشياء العالم التي تتوسّط بين مجال الضرورة أي العمل ومجال الحرية أي الفعل. ومن دون الأعمال الفنية لن يكون ثمّة عالم. ثمّة ضرورات حيوية تتجسّد في ميدان العمل، وثمّة كثرة بشرية تتجسّد في ميدان الفعل أي ميدان السياسة. لكن بين الضرورة والسياسة ينبثق الفنّان كي يضمن استدامة عالم البشر.
لكن ممّ يستمدّ الأثر مكانته الأنطولوجية في تحقيق الخلود؟ تقترح حنة أرندت توصيفا فينومينولوجيا للأثر الفنّي. إنّه يستمدّ إمكانيته من كونه ظهورا لأنّ “كلّ ما هو موجود يجب أن يظهر، ولا شيء يمكنه أن يظهر من دون شكل خاص به(16)”. وهو بوصفه يخترع شكلا للوجود أي مظهرا فهو بذلك ينجز تجليّا لتجربة مشتركة مع الآخرين الذين يرون ما نراه ويسمعون ما نسمعه. وحده حضور الآخرين يضمن حقيقة العالم وحقيقتنا نحن. لذلك فالأثر لا يولد إلّا من خلال العلاقة التي يبنيها مع الجمهور. وهو بهذا المعنى لا ينفكّ عن اختراع المشترك لأنّه وحده ما يظهر لجمهور ما جدير بأن يرتقي إلى مقام الحقيقة. ولأنّه ليس ثمّة أية كينونة خارج ما يظهر للجميع، فإنّ الأثر الفني هو أحد الشروط الأساسية لانبثاق الكينونة أي المشترك. لكن من أجل ذلك، كان ينبغي على إنسانية العصر الحديث أن تتحرّر من الماهية التأملية اليونانية، “الإنسان حيوان عاقل”، إلى أفق أنطولوجي جديد أي “الإنسان الصانع”. وهنا تحديدا يتنزّل الأثر الفني بوصفه اقتدارا على صناعة الموضوعات التي تنتصب بين أولئك الذين يشتركون في العالم. فالعالم هو أثر فنّي كبير، أو هو خلاصة الآثار الفنية التي تؤثث المسافة بين البشر وعالمهم. ومن أجل أن يكون ثمّة عالم، فإنّ الأثر هو من ينجز استدامته وخلوده. لكن أيّ معنى لاستدامة العالم؟
تقول حنة أرندت: “الاستدامة هي التي تعطي أشياء العالم استقلاليتها النسبية عن البشر الذين أنتجوها واستعملوها..” وهنا ينبغي التمييز مع أرندت بين الاستهلاك والاستعمال. فمنتوجات العمل منذورة للاستهلاك، أما ما يصنعه الأثر الفني فهو من أجل الاستعمال فقط. وإنّ هذا التمييز بين دائرة الاستهلاك، أي العمل بوصفه ينتج ما هو ضروري أي ما يستهلك أي ما يفنى ويزول، ودائرة الاستعمال، أي الأثر الفني بوصفه ما يبقى وما ينجز استدامة العالم، هو طرافة النقد الذي توجهه حنا أرندت لليونانيين الذين لم يميزوا بين العمل والأثر. إنّ الآثار الفنّية تبقى حتى بعد استعمالنا لها. إنّها ليست موجودة من أجل الاستهلاك بل من أجل أن تبقى أي من أجل الكينونة. فالفنّ هو الذي يحرس العالم من الاندثار، وهو بذلك يساهم في بقاء العالم الإنساني في مقابل العالم الطبيعي، أي بحراسة مجال الحياة المشتركة. فليس ثمّة من عالم إنساني غير العالم المشترك، أي العالم الذي يظهر للذين يتقاسمون المجال العمومي للكلام والفعل. وهنا ينبغي التشديد على أهمية التمييز الذي تجريه حنة أرندت في كتابها الوضع البشري بين المجالات الثلاثة للحياة العملية أي العمل والأثر والفعل. وهي تقوم بتشريح دقيق لهذه المواضع الفلسفية الثلاثة ضمن نظريتها السياسية حينما تميّز بين الفعل والكلام والاقتدار كتعبيرات فينومينولوجية عن مضمون الحياة العملية التي تجري تحت راية المشترك ضدّ الحميمي والاجتماعي معا. لذلك هي تعتبر أنّه من غير كلام لا يظهر الناس إلى المجال العمومي، فالكلام هو الذي يكشف عن الشخص المتكلم بوصفه عضوا في كثرة بشرية. ومن غير الدوام الذي يضمنه الأثر الفني يضمحلّ العالم ويتحوّل إلى أشياء للاستهلاك. ومن غير الاقتدار أي الدخول في فضاء المشترك السياسي من أجل الاشتراك في تدبير الشأن العمومي، تنتهي السياسة ويولد الطغيان. فتجربة الاقتدار تنبثق من البشر حينما يجتمعون ويفعلون، وتنتهي حينما يفترقون، وكل فشل في اقتدارهم على الفعل في الشأن السياسي، ينتج العنف والاستبداد وتنهزم الحرية وينهار العالم بما هو اقتدار على الاستدامة ضدّ الوفرة. تلك هي الشروط الفلسفية التي تقتضيها الحياة العملية كأولوية مطلقة على الحياة التأمّلية: “من غير كلام لجعل الأشياء الجديدة التي تظهر مادية وتبرق مادية.. لا وجود لأي ذكرى.. ومن دوام.. لا يمكن أن يكون هناك ذاكرة لأشياء ستأتي مع أشياء أخرى ينبغي أن تأتي. ومن غير الاقتدار فإنّ فضاء المظهر الذي سبّب الفعل والكلام العموميين سيتضاءل بنفس سرعة الفعل الحيّ والكلمة الحيّة (17)”.
لكنّ المجال العمومي مجال سياسي يتقاطع فيه الكلام والفعل وينتجان قصة. فحيثما ثمّة كثرة بشرية ثمّة قصص لحيوات متعددة يمكنها “أن تروى وتُعاد روايتها وأن تتجسّد في كلّ أنواع المادة (18)”. لكن القصة ليست ملكا لمؤلفها. ولن يكون أيّ روائي مؤلّفا أو عبقرية خاصة. إنّ المؤلف نفسه ليس سوى فاعل في المجال العمومي ضدّ كل التصورات الرومانسية للعبقرية التي أدّت إلى تجميل السياسي وإنتاج الفاشية وتحويل الفن إلى بروباغندا وأيديولوجيا ذهب ضحيتها العديد من الفنانين خاصة مع النازية والستالينية. ليست القصة نتاجا شخصيا لأنّه “بالرغم من أنّ كل شخص قد بدأ حياته بالدخول الى العالم البشري بواسطة الفكر والكلام، فلا أحد يكون مؤلفا أو منتجا لحياته الخاصة.. إنّ القصص تكشف فاعلا لكنه ليس مؤلفا أو منتجا(19)”. إنّ إنجاز الأثر الفني هو بداية شيء جديد يُضاف إلى الحياة المشتركة، فالفنّ فعل عمومي بامتياز. فكل قصّة أثر فنيّ فريد لكنه ليس وحيدا بوصف القصة “تؤثر بطريقة فريدة على حياة كل من يدخل معها في علاقة جديدة (20)”.
تتميّز أطروحة حنة أرندت حول تأويل الأثر الفني إذن بطرافتها من جهة تأويلها له طبقا للطابع العمومي للأعمال الفنية، وذلك ضدّ التصوّر الرومانسي من جهة والتصوّر السيكولوجي من جهة أخرى. وهي أيضا تنقد التصوّر الماركسي للفنّ بوصفه أحد أشكال البنية الفوقية للوعي. إنّها تشتبك مع التصوّر اليوناني الذي نزّل الفنّ منزلة المحاكاة، وطرد الحرفيين من مدينة الفلاسفة، وخلط بين العمل والأثر. وهي أيضا تدحض المقاربات الحديثة للأثر الفني منذ استطيقا كانط والطابع التأملي العقيم لها، إلى ماركس الذي لم يعترف بأهمية الأثر الفني في انجاز الحياة العملية، ولم ينتبه إلى ضرورة التمييز بين العمل والأثر.
إنّ الأثر الفني ينجز العالم الإنساني المرئي أي العمومي. وهو بذلك لا يدعونا إلى التعرّف على العالم الخصوصي للفنّان بل هو يخترق عالم الأشكال الرمزية لتحقيق الحياة المشتركة. وحتى حينما يعبّر الأثر الفنّي عن مشاعر حميمية مثل الحزن والألم، فهو لا يعبّر عنها بوصفها جزءا من الحياة الخاصة للفنان، بل بوصفها علامة رمزية لمشترك ثقافي. إنّ ما يظهره الأثر الفني للجمهور هو الأشكال الرمزية التي تكوّن مشتركا أساسيا بين الجماعة الثقافية التي ننجز فيها عالمنا. إنّ الأثر الفنّي هو شكل من التربية السياسية في معنى دقيق: بوصفه يظهر للآخرين الذين ينتمون إليه العالم كما يمكن أن يكون مرئيا، أي عموميا، أي مشتركا بين الناس الذين يوجدون في صيغة الجمع. بهذا المعنى فقط يكون الأثر الفني في مقاربة حنة أرندت وعدا بحسّ مشترك يقوم على التربية على التعدّد البشري بوصفه مجالا للتشابه والمساواة، لكنه أيضا مجال للتميّز بينهم. وانطلاقا من هذه المقاربة التي تجعل من الأثر الفنّي تربية جمالية على إبداع المشترك، يولد مفهوم التدرب على “العقلية الموسّعة”، التي يكون فيها الأثر جملة وجهات نظر الآخرين الممكنة حول الأشياء التي ندركها معا، وهو الضامن الوحيد لحقيقة الأثر الفني.
لا يُؤوّل الأثر الفني لدى أرندت بوصفه انعكاسا لحياة شخصية، بل بوصفه نمط ظهور الكينونة معا التي يحملها سلفا بوصفه عملا ثقافيا. وهكذا تساهم الأعمال الفنية في إنجاز فضاء مشترك لأنّها موجّهة إلى جمهور هو شكل مصداقيتها الوحيد. إنّ نمط ظهور الأثر الفني يتميّز إذن بأصالته الأنطولوجية، فهو من جهة يخترع العالم الذي ننتمي إليه باختراعه لآثار بشرية منفصلة عن الطبيعة، وهو من جهة ثانية يحرس هذا العالم الإنساني من الاندثار لأنّه مصمّم من أجل الخلود، وهو أيضا يضمن حقيقة ما يظهر بوصفه ظهورا محضا. وذلك انطلاقا من الفكرة الأساسية لحنة أرندت “وحده ما يظهر للآخرين جدير بالارتقاء إلى مصاف الحقيقة أي مصاف الكينونة معا”.
لكن هذه الكينونة معا ليست مجرّد الكثرة البشرية التي تحيل على تجربة العدد، بل هي تجربة اختراع الأشكال الرمزية المشتركة، وبالتالي هي تجربة معنى أو لا تكون. وبذلك يحرّر الفنّ العالم الإنساني من حدود العالم الطبيعي للأشياء ويمنحه عالما من المعنى. وبالتالي يعلن الأثر الفني أنّ المجال الخاص بالوضع البشري لا يُختزل في الشروط الضرورية للحياة بل هو تجربة معنى مشتركة بين الجماعة التي تقتسم الكينونة معا. وذاك هو المعنى الأنطولوجي الأصلي لكينونة البشر في معنى أنطولوجيا السياسة، وهي أنطولوجيا تستمدّ ديمومتها من علاقة الأثر الفني المتجدّدة بالآخرين. ذلك أنّ الأثر الفنّي إنّما هو نتاج أشكال الظهور المتعاقبة للجماهير الذين لا ينفكّون في كل مرّة عن إنتاج وجهات نظر جديدة حوله. وبالتالي فإنّ الآثار الفنية لا تموت لأنّها تبقى دوما مصدرا لتأويلات ومعانٍ جديدة. وهي بذلك تشهد على أنّ المشترك البشري لا يكون أبدا مشتركا مغلقا بل هو مفتوح دوما على جماهير جديدة. فالأثر الفني لا يمنح كثافته الأنطولوجية إلاّ انطلاقا من تعدّد التأويلات والمنظورات، وهو يدرّبنا على تربية على المشترك تقوم على علاقة خصبة بين الخلق والتلقي والتأويل، وتعلّمنا أنّ الوضع البشري ليس سوى عالم المعنى ونمط الحقيقة التي نخترعها لهذا العالم.
خاتمة
إنّ الأثر الفنّي هو إشراقة العالم الإنساني، أي إشراقة ما نراه وما نسمعه، فنحن ننظم القصائد ونغنّي ونكتب القصص للذين يقرؤون ويسمعون. فالكينونة لا تشرق إلا حينما تظهر لعيون الآخرين أي بوصفها كينونة مع الآخرين. وتلك هي مهمّة الأثر الفني الذي يحتاج -حتى يرتقي إلى مصاف الكينونة- إلى المجال العمومي. ليس الأثر الفني نتاج عبقرية معزولة عن البشر، ولم يعد يُقرأ بوصفه ملكا للفنان، إنّما هو قطعة من الحياة المشتركة إذ هو يحتاج إلى حضور الآخرين كجزء من العملية الإبداعية ذاتها. إنّ الفنّ تمرين في الشجاعة على الظهور في المجال العمومي، لم يعد رهان الفلسفة السياسية الشجاعة على استعمال عقولنا كما يقول كانط، بل هي الشجاعة على الظهور للآخرين بأثر فني يساهم في اختراع الكينونة معا في العالم. ليس الأثر تعبيرًا عن الحياة الخاصة ولا هو تصعيد لمكبوتات ذاتية، بل هو مهمّة عمومية أي سياسية بامتياز.
الهوامش
– حنة أرندت، الوضع البشري، ترجمة هادية العرقي، بيروت، 2015
– نفس المصدر،س.26
– نفس المصدر، ص. 25
– نفس المصدر، ص. 33
– نفس المصدر، ص. 33
– نفس المصدر، ص.27
– نفس المصدر، ص.43
– نفس المصدر، ص.47
– نفس المصدر، صص.47-48
– نفس المصدر، ص.48
– نفس المصدر، ص. 60
– نفس المصدر، ص. 70
– نفس المصدر، ص.71
– نفس المصدر، ص. 73
– نفس المصدر
– نفس المصدر، ص.198
– نفس المصدر، ص.226
– نفس المصدر، ص.206
– نفس المصدر، ص. 206
– نفس المصدر