عبدالعزيز الفارسي واحد من أهم الأسماء التي أنجبتها التجربة السردية العُمانية الحديثة.. استطاع خلال عشر سنوات فقط وعبر أربع مجموعات قصصية ورواية واحدة – حتى الآن – أن يضع بصمته في المشهد السردي العربي، وما اختيار روايته «تبكي الأرض يضحك زحل» للمنافسة في القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية الا دليل على ذلك.. الفارسي من مواليد عام 1976 في شناص، هذه المدينة الساحلية التي تبعد 300 كم عن مسقط، ويدين لها الفارسي بالكثير، فهي – أي شناص – لم تكتفِ بأنها رفدتْه بشخصيات واحدة من أهم المجموعات القصصية العُمانية على الاطلاق وهي مجموعة «العابرون فوق شظاياهم»، بل ظلت ترفده بعد ذلك بمعين لا ينضب من الحكايات والشخوص، وهو على يقين – كما يقول في هذا الحوار – أنه لن يفرغ من حكايات الشناصيين مهما كتب.
عبدالعزيز الفارسي خرّيج كليّة الطب جامعة السلطان قابوس 2001 م، حاصل على عضوية الكلية الملكية عام 2006. يعمل كطبيب اختصاصي أول في قسم الأورام، المركز الوطني للأورام بمسقط ، وعضو بالاتحاد العالمي لمكافحة السرطان، والجمعيتين الأمريكية والأوروبية لطب السرطان.
بدأ الكتابة عام 1998 م. وأحرز عدداً من الجوائز على مستوى القصة القصيرة على مستوى السلطنة ودول الخليج العربي.
صدرت له الأعمال القصصية التالية:
جروح منفضة السجائر، دار الكرمل، الأردن، 2003
العابرون فوق شظاياهم، مؤسسة الانتشار العربي، لبنان 2005
مسامير، مؤسسة الانتشار العربي، لبنان، 2006
لا يفل الحنين إلا الحنين، وزارة التراث والثقافة، سلطنة عمان، 2006
أصدر عام 2007 م روايته الأولى «تبكي الأرض.. يضحك زحل «عن مؤسسة الانتشار العربي، وتم اختيارها – كما أسلفنا – ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية في دورتها الأولى.
أصدر بالاشتراك مع سليمان المعمري كتابين ثقافيين:
قريباً من الشمس (حوارات في الثقافة العمانية)، مؤسسة الانتشار العربي، لبنان، 2008..
ليس بعيداً عن القمر (حوارات في القصة العمانية)، مؤسسة الانتشار العربي، لبنان، 2008
في هذا الحوار نقترب أكثر من هذا القاص والروائي المبدع لنتعرف على علاقته بالكتابة، هذا العبء الكبير الذي لم يختره بارادته كما يقول، وكذلك علاقته بالطب الذي لا يستطيع أن يتخيل نفسه بدونه، والأهم علاقته بالحياة ورؤيته لهذا العالم «المدجج بالتناقضات المثيرة للشفقة والسخرية «على حد تعبيره:
vv هل حلمت يوماً بأن تكون كاتباً؟ ولو ملكت خيار البداية هل تعود للكتابة؟
لم أحلم يوماً ما بأن أكون كاتباً، أو حتى أن أُسطّر خواطري في دفترٍ يطّلع عليه الآخرون بمحض الصدفة. كان حلم طفولتي بسيطاً للغاية: أن أكبر… وقد تحقق لي ذلك بفِعل الزمن.. والزمن ذاته خلق لي صدفة البدء بالكتابة. سأصارحكم: أحياناً أشعر أن الكتابة عبءٌ كبير، وأفكر: هل كان ينبغي عليّ البدء حقا في هذه الرحلة اللامنتهية؟. إن ميلاد نص واحد أعسر بكثير من أي شي آخر. لكن هل كان الخيار بيدي؟، فأنا حين أستعيد بدايات الكتابة، أستشعر يداً حانية تمسح على رأسي، وتخفف عني فجيعة تركي لطفولتي. وأعرف أن ذات اليد قادتني في الطريق الشاق، وأنهضتني ثم مسحت عني غبار العثرات مرات كثيرة..لأواصل المسير في هذا القلق اللذيذ ؛ قلقي المُخلص الحبيب الذي لم يتخلّ عني لحظة، ولم يخني.. وأجده أعز ما أملك، وأقرب الأحباب إلى قلبي المُتعب.
vv الملاحظ أنه كلما تقدمت تجربتك في القص كلما تعمقت علاقتك بالسخرية. ما تعليقك؟
أتمنى ذلك، فالسخرية فن عظيم، وتحتاج إلى موهبة، لأنها قادرة على الاختراق دون عوائق والوصول إلى الهدف بأسرع طريق…لكني أقول أني لا أسعى إلى ذلك، ولا أحاول تحقيقه حين أكتب. ربما كان ذلك نتاجاً طبيعياً لتراكم السنين على كتفي، والتخلص من اللغة، والاهتمام بنقل الحكايات التي نعيشها ، والتأمل في هذا العالم المدجج بالتناقضات المثيرة للشفقة والسخرية. العالم يأكل نفسه بالسخرية وكل ما يقدمه لنا عبارة عن مسلسلات ساخرة تفوق قدرة أي مبدع على التخيّل، وقدرة أي عاقل على التحليل.
vv نلاحظ أيضاً أنه كلما تقدمت تجربتك في السرد كلما نحت لغتك إلى البساطة، وهو ما وصفتَه قبل قليل بـ»التخلص من اللغة».. نعرف أن قناعات الأنسان في الحياة وليس فقط في اللغة تتغير أو لنقل تتطور من حين لآخر. ماهي نظرتك للغة الآن؟
أؤمن الآن بالحكاية كثيراً وبأن اللغة يجب ألا تتبرّج كثيراً في النص السردي، فهي في النهاية موجودة لتنقل للقارئ حدثاً مهماً، وتنقل له أجواء ذلك الحدث وتفاعل شخوصه.. وفي هذا ما يكفي لشغل ذهن من يقرأ النص وحمْله على التأمل… فلا يجدر بها أن تعيق تقدمه، وتعرقل اندماجه مع النص. إن للقصة مهمة واضحة يجب أن تؤديها، ويجب أن تؤدي هذه المهمة بالطريقة الجذابة التي تستطيع بها أن تنتقل إلى عقل كل قارىء مهما اختلف مستواه، وهي في ذلك تحتاج إلى قالب لغوي سلس وبسيط يستسيغه كل القراء، دون تعقيدات الصورة المبالغ في تركيبها، وتدجيج النص بالمفردات الكبيرة التي لا تخدمه. وحين أدعو إلى ذلك فأنا لا أدعو إلى سلب القصة من عمقها.. فعمق النص ليس مرتهناً باللغة أساساً.. وإنما مرتهن بالاتكاء على بُعدٍ إنساني يتجلّى واضحاً للقارئ كلما سبر أغوار النص ودخل في تفاصيله وعاش القصة بحميمية… وهذا ما أسعى إليه الآن.. يجب أن يتكئ القاص بكل ثقله على حكايته لأنها – بما تحمله من غنى إنساني، وقابلية للعديد من التأويلات حسب ذهنية القارئ – الركيزة الأهم في كتابة النص السردي.
vv أنت كاتب نَزَّاع إلى التجريب لدرجة أنك مستعد لنشر مجموعة كاملة من القصص القصيرة جدا ً. ألم تندم على نشر «مسامير»؟
لم أندم على إصدار مجموعة القصص القصيرة جداًَ «مسامير». على العكس أنا مقتنع بها، وأظنها خطوة مهمة في مسيرتي تُحسبُ لي. أوافقك الرأي أني تمنيتُ لو كان بالإمكان حذف بعض تلك المسامير، وإعادة صياغة البعض الآخر، وإضافة مسامير جديدة… ولكن جد لي من بين الكتّاب من لا يتمنى أن يفعل المثل بأي إصدار يقوم بنشره؟. الكاتب دائماً في تطور والأيام تضيف له وعياً جديداً ومن المنطقي أن يتمنى اليوم تغيير ما كتبه في الأمس، لكن علينا دائماً أن ننظر إلى ظروف التجربة، وموقعها في مسيرة الكاتب، وموقعها على الخريطة الأدبية. وإجمالاً فأنا أعتقد أن الفكرة كانت تستحق التنفيذ، وهي جيدة في عمومها، وأنا سعيد بها.. ويبدو لي أني في المستقبل سأعود لكتابة مجموعة أخرى من القصص القصيرة جداً.
vv هل يعني هذا أنك كاتب لا يعرف الندم؟ وأنه لم يحدث أنك تمنيت لو أنك لم تصدر عملاً ما أو أنك تريّثت في إصداره؟
يجب علي الاعتراف بأني أخفقت في كتابة نصوصٍ عدة بسبب الاستعجال والرغبة في التخلص لا غير، وأنه كان بإمكاني التريّث لجعل نصوصي أفضل وأكثر إتقاناً.. وأقول ذلك بكل وعي.. لكن هذا لا يعني رغبتي في طمس أي تجربة قدمتها وإزالتها تماماً من تاريخي. لقد تعودت ألا أندم على شيء، وأن أمضي قدماً في الطريق، أحلم بما سيأتي من زمن يتيح لي تجاوز العثرات وتقديم الأفضل. لكن دعنا نأخذ افتراضك من جانب آخر ونحاول إيجاد مخرج آخر للسؤال. وددت لو تريّثتُ قليلاً في إصدار مجموعة «لا يفل الحنين إلا الحنين «لأحذف بعض النصوص وأضع مكانها نصوصاً أراها أفضل…لقد جاءت هذه المجموعة بعد مجموعة «العابرون فوق شظاياهم «والتي لاقت قبولاً كبيراً عند القراء وشكلت منعطفاً في كتابتي…وأعتقد أنه كان ينبغي علي التريث في الإصدار، واختيار نصوص أفضل، وعدم إدخال نصوص أقدم من المجموعة الثانية في المجموعة الثالثة…وهو الشيء الذي أعطى انطباعاً بتواضع مجموعة «لا يفل الحنين إلا الحنين «أمام مجموعة «العابرون فوق شظاياهم «. أتفق معك في أنه ليس من الضرورة أن يكون العمل اللاحق للكاتب أفضل من السابق.. وإنه ربما يكتب في اتجاهين متوازيين ولا تجوز المقارنة بين ما تقدم وما تأخر، ولكن الكاتب يحب تقديم أعمال توحي بالتطور ونضج تجربته.. لا أن يقدم أعمالاً من أجل التوثيق فقط.
vv قارىء روايتك تبكي الأرض يضحك زحل لا يساوره أدنى شك أن شخصياتها تنتمي للشخصيات «الشناصية» في مجموعة «العابرون فوق شظاياهم»، ومع هذا لم يكن هناك تحديد للمكان في الرواية. ألأنك أردتها رواية كونية أم لسبب آخر؟
الشخصيات توحي بأنها تشابه الشخصيات الشناصية التي قرأتم عنها في مجموعة «العابرون فوق شظاياهم»، وأظن أن سبب هذا الإيحاء هو الأسماء الغريبة للأبطال الموجودة في المجموعة المذكورة وفي الرواية.. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن مكان الرواية هو شناص. حدث أن كثيراً ممن اطلعوا على الرواية قالوا لي بأنهم شعروا بأنها تتحدث عن قراهم التي ولدوا فيها… وهي قرى لا تمت لشناص بأدنى صلة. حين بدأت كتابة الرواية كنتُ مشغولاً بالأبطال وتفاعلهم، وكنت أصنع لهم قريتهم الخاصة التي لم أر مثلها على الطبيعة.. ولم أهتم فيما بعد بإعطاء تلك القرية أي اسم، بل كان تركيزي فقط على نمو الشخصيات والحدث. لا أستطيع القول أني جعلت المكان مبهم الاسم سعياً وراء جعل الرواية كونية.. فحتى لو افترضت ذلك ستجد أن الأماكن المحتملة لحدوث هذه الرواية قليلة، ولا يمكن أن تتواجد في سائر بقاع المعمورة.. فالشخصيات لها نكهتنا.. والطقوس تمت بصلة إلى منظومتنا الاجتماعية وتراثنا الخاص.. وهناك خصوصية دينية في الرواية أيضاً. وهذه الأسباب تعارض الرأي القائل بأن تغييب الاسم كان بغرض جعل الرواية كونية.
vv قرأنا لك قصصاً أتتْ من دفقة وجدانية واحدة، وقرأنا أيضاً قصصاً تظهر فيها الهندسة والصناعة. أي النوعين تفضل؟
كنت في بداياتي أؤمن بالقصص الوجدانية المولودة من دفقة واحدة، وأستغرب كيف يمكننا مقارنة قصة تولدت من حالة انفعالية خاصة وحملت تلك الشحنة العاطفية بقصة أخرى يشتغل عليها القاص وينمقها ويركز فيها عقله لجعلها متقنة الصنع؟. كنت أظن ذلك متنافياً مع «جنون الإبداع «مدّعياً أن العاطفة الحقيقية تعطي النص وهجاً لا يخطئه القلب.لكني تيقنت لاحقاً من خطأ ذلك الافتراض..فأنا الآن أعتقد أن القصة في جانبها الأكبر «صنعة».. وعلينا أن نشتغل عليها بتأنٍ لنحصل على النص الأجمل.. وهذا لا يتنافى إطلاقاً مع العاطفة، فرغم إيماني بالعاطفة وضرورتها لكل عمل كتابي، إلا أن القصة تحتاج إلى قدر كبير من الاشتغال والحبك والحذف والإضافة، وإعادة الإنتاج لتخرج بصورتها الأجمل..شأنها شأن أنثى تمتلك مقومات الجمال، لكن بروز جمالها ( أو طمسه ) رهين خبيرة التجميل. هل القاص إذن خبير تجميل لا أكثر؟. ليس ذلك بالضرورة.. لكني أود القول أن مئات القصص «الخام «الجميلة تستلقي على الأرصفة، ويراها الجميع..لكن مع ذلك فإن القصص الجميلة المكتوبة في ثقافتنا تعد على الأصابع.. ونقرأ يومياً كثيراً من القصص التي كانت جميلة في صورتها الخام، لكن يد الكُتّاب أفسدتها حين نقلتها إلى الورق !.. لكن في نهاية المطاف ليس هناك من عملية مفاضلة بين النوعين، فما يهم هو الناتج الأخير ومدى قدرته على الاختراق اللطيف والجميل للقارئ.
vv ماذا تمثل لك شخصية خالد بخيت في روايتك؟
أعتبر خالد بخيت إفراز الانتقالات التي يعيشها الإنسان بين مراحل عمره، فهو في كل مراحله حمل قناعة مغايرة، وعاش قناعته بصدق وأخلص لها بكل ما أوتي من قلب.. كلنا خالد بخيت: نعيش تناقضات مستمرة، نواجه تحديات داخلنا وحولنا ولا نستطيع التملص منها، ننكسر، ونهرب إلى مناطق معتمة مستهدين بالحب.. ثم ننكسر مرة أخرى. وهكذا نحمل معنا الآمال والتحديات والانكسارات لنكون في النهاية مجموعة من هذه المتناقضات التي تتحدى نفسها كي تبقى وتغيّر.. وقد تنجح ولا تنجح.
vv مهنتك كطبيب هل لها تأثير من أي نوع على كتابتك القصصية والروائية؟
لا أستطيع إنكار ذلك التأثير. لكن هذا التأثير غير مباشر ويكون دائماً على شكل التراكمات الإنسانية المكتسبة من تعدد الأشخاص الذين ألتقي بهم وأتعرف إليهم، ومن الاحتكاك المباشر بالألم والخوف والحزن والفرح والنجاح والفشل والموت.. كل هذه التجارب تضيف إلى وجودي كإنسان وتضيف إلى معرفتي بالحياة.. وهذا يضيف إلى مخزوني ككاتب يسعى لتوثيق الحياة بأنامله، وبالتالي فإني أخرج من ذاكرتي بأبطال جدد غير الذين قابلتهم، وأوازن في ذلك بين حب الكتابة والحفاظ على خصوصية من أعرف… لكني أحياناً لا أستطيع التعامل مع بعض التجارب التي أعيشها بهذه الطريقة وأجدني عاجزاً تماماً عن سرد أمثال تلك التجارب أو تحويرها دون المساس بخصوصيات الأبطال الحقيقيين، وفي هذه الحالة فإني أقدّم قسم أبقراط، وأفضّل ألا أكتب أي شيء.
vv ما هو نموذجك الحالي للقصة الجيدة؟
القصة الرائعة لها القدرة على الاختراق اللطيف والعميق لقلب القارئ، والالتصاق بذاكرته، وجعله يفكر فيها طويلاً بعد الانتهاء من قراءتها.. في هذه الحال ليس هناك من نموذج يحتذى به لكتابة قصة جميلة ويجب ألا يكون هناك أي نموذج، فالباب مفتوح لكل مشتغل كي يجذبنا إلى عوالمه السردية ويأسرنا بما يكتب… إن من واجبنا ألا نضع قيوداً تعيق الإبداع الإنساني.. وفي رأيي إن أي قصة تُكتَبُ بصدق وقناعة لهي قصة جيدة.. لأنها تستطيع أن توفر لنفسها المقادير اللازمة من العناصر كي تستمر وتبقى في الذاكرة. أما ما يروقني هذه الأيام من قصص، وأقصد قناعتي الحالية، فهي القصص الإنسانية البسيطة في سردها والعميقة في فكرتها، والتي تأخذك من أول سطر حتى الأخير دون أن تشعر.. وتشدك بالحكاية دون أن تعيق تفكيرك بالمطبات اللغوية والتصويرية المبالغ فيها.
vv ماذا يعني لك وصول روايتك «تبكي الأرض يضحك زحل» للقائمة الطويلة في جائزة البوكر العربية؟
لقد فرحت بذلك أكثر من مرة. المرة الأولى حين اتصل بي الأستاذ نبيل مروّة يخبرني عن اعتزام مؤسسة الانتشار العربي ترشيح روايتي للجائزة علماً بأن الدار قد أصدرت العديد من الروايات المتميزة في السنوات الأخيرة.. وفرحت أكثر حين قرأت بيان لجنة تحكيم المسابقة وقد وضعت روايتي الأولى ضمن 16 رواية عربية في القائمة الطويلة للروايات المتميزة في جائزة البوكر في تلك الدورة، متقدمة على مئات الروايات العربية الأخرى. بالنسبة لي كان ذلك أكبر إنجاز… فأنا في نهاية المطاف لم أكتب أي رواية سابقاً ولم يقرأ أي واحد من أعضاء اللجنة اسمي بين الروائيين العرب، وربما لم يسمع بي أحدهم كقاص عماني.. وهذا ينفي أي تحيّز قد يدعيه البعض، وحين تقرأ لجنة التحكيم تلك الرواية تضعها ضمن أفضل 16 رواية تقدمت للمسابقة.. لقد فرحت بذلك أيما فرح.. لكن فرحتي الأكبر كانت حينما بعث لي رئيس اللجنة الروائي المعروف صموئيل شمعون صاحب العمل الشهير «عراقي في باريس «رسالة إلكترونية يخبرني فيها عن رغبتهم في ترجمة فصول من روايتي إلى الإنجليزية ونشرها في مجلة «بانيبال «التي تصدر باللغة الإنجليزية وهذا ما تم أخيراً.ماذا يريد كاتب يقدّم روايته الأولى أكثر من ذلك؟.. صدقني: لا شيء أكثر !.
vv عبير وعايدة في روايتك. الأم في قصة: «أيهم عبر خط بارليف أولاً». الزوجة في قصة: «الرادار».. المعشوقة في قصة: «تكون مدينة له» وقصص مجموعتك: «لا يفلّ الحنين إلا الحنين».. نجد خليطاً متناقضاً من النساء اللواتي صورتهن في كتابتك. ماذا تمثل لك المرأة؟
المرأة حياة.. فيها من الغنى ما في الحياة من غنى وتنوّع ، وإن كانت المرأة حياة فمن الطبيعي أن تجد في قصصي هذا المزيج من الإناث المختلفات. إنها الأرض التي تؤوي تعبنا إليها، وتحتضن أرقنا، وتفرح بآمالنا وطموحاتنا.. وتُنبتُ الحب والأحلام الجميلة. هي وطن نحمله بين الأضلع، نشتاق كي نعود إليه كلما ابتعدنا عنه قليلاً…لا جدوى من هذا العالم بدون المرأة.
نلاحظ في اختيارك لعناوين نصوصك أنها تراوح بين كلمة واحدة ( مسامير، خوض، نسيان… ) وعبارة طويلة مثل ( نخلة واحدة في أرض شاسعة.. نخلة وحيدة ). كيف تختار عناوينك؟
تغيّرت قناعتي أيضاً حول عناوين النصوص مع تغير إيماني باستخدام اللغة في النص.. لا أنكر أني كنت أحب العناوين الشعرية الطويلة البرّاقة للقصص، وأرى أن العنوان مفتاح ضروري للقارىء ويجب أن يكون بتلك الطريقة !. ولذا كنت أوليه عناية خاصة جداً وقد يتأخر نشر نص فترة طويلة لعدم وجود عنوان «مناسب «في رأيي. أما الآن فأنا أتكئ كثيراً على مضمون النص، وتحرّك الحدث و أميل إلى تبسيط القصص بما في ذلك العناوين..
vv من قراءتك المتعمقة لتسعة عشر قاصاً يمثلون معظم المشهد القصصي العماني وتقديمها في كتاب ( ليس بعيداً عن القمر ) ما رأيك بهذا المشهد؟ بم يتميز؟
إن المشهد الموثق في كتاب «ليس بعيداً عن القمر «متنوّع في إجماله، ويعكس تبايناً في الرؤى واتجاهات السرد، ويمزج أجيالاً مختلفة من القاصين العمانيين المشتغلين على مشاريعهم الخاصة المهمة.. يستطيع المتأمل أن يطّلع على مؤثرات مختلفة في هذه الأسماء التسعة عشر، وأن يلمح تنوّع الجغرافية القصصية عندنا.. لكن لا يمكن في رأيي التنبؤ بحالة القصة العمانية إجمالاً من هذه الأسماء، لأن هذه الأسماء اختيرت بعناية لهذا الغرض ؛ عرض أسماء جيدة ومتميزة على الساحة العمانية وتقديمها للقارئ العربي. فهي لم تتناول كل ما يتواجد على الساحة من كتّاب قصص، ومن ثم فإنها لم تتناول من القاصين الجدد إلا القاصة هدى الجهوري.. وهذا يعني – كما ذكرنا في مقدمة الكتاب – أننا نود فقط التمهيد لدراسات أكثر تعمّقاً وشمولية للقصة العمانية.
vv بم تفسر أنه في ظل تراجع القصة في بلدان كثيرة مفسحة المجال للرواية نجد القصة مزدهرة في عمان؟
لا أظن أنه يمكن تسمية ذلك بازدهار القصة بالمعنى الحرفي. ما نلاحظه هو أن عدد القاصين يفوق عدد الروائيين بعدة أضعاف.. وأن معظم من يقررون ممارسة السرد يتجهون للقصة أولاً – ربما استسهالاً – ولا يتجهون لكتابة رواية.. وهذا ما نلاحظه أيضاً في تحكيم المسابقات الأدبية على مستوى السلطنة.. فأنت تجد أمامك أكثر من 50 قصة مشاركة، وفقط رواية أو اثنتين لا أكثر.. ولكن حين تقرأ القصص لتضع قائمة الفائزين لا تجد من يستحق المركز الثالث فعلاً لأن القصص الجيدة لا تزيد عن اثنتين من بين كل تلك القصص.. وهذا يؤيد فكرة الاستسهال السائدة.. مع أني أؤكد أن القصة القصيرة فن صعب للغاية، وبالنسبة لي أجد المعاناة في كتابة قصة جيدة لا تقل عنها في كتابة رواية… وعلى كل فإن رؤيتي الشخصية للموضوع تقول أننا نملك من بين القاصين العمانيين من هم يكتبون بمستوى رائع جداً كاف لوضع القصة العمانية في مقدمة القصة العربية لو وجدنا دعماً كافياً وإعلاماً جيداً.. وإن ما نراه من كثرة عدد القاصين وقلة الروائيين هو مجرد مرحلة انتقالية، وستفرز لنا الأيام أسماء روائية عمانية جديرة بالاحترام.
vv ماذا ينقص المشهد القصصي العماني؟ وهل أنت مع الرأي القائل بابتعاد القاص العماني عن مجتمعه؟
إن أكبر إشكاليات القصة في عمان: وهم التغرّب.. وأظنني أحد الذين عاشوا داخل ذلك الوهم خمس سنوات على الأقل. لقد خرجت حركة القص العمانية الأبرز للوجود من جامعة السلطان قابوس، أما ما قبل ذلك فكانت أصواتاً منفردة على فترات متباعدة. وذلك الجيل الأول من قاصّي الجامعة قام بالدور الأصعب والأخطر: كان عليهم إيجاد سماء يتطلعون إليها، وتحديد شمس (أو حتى نجم) في تلك السماء بغرض الاستهداء… كل ذلك والأرض تحتهم رخوة غير مؤهلة لاستقبال القصة. لقد مرّوا وقصصهم بمنعطفات خطيرة، ومرّوا بفترات حالكة واجهوا فيها العديد من التحديات..ولكن ذلك لم يكن بدون ثمن.. فرغم شرف السبق إلا أن نصوصهم تأثرت بالسواد المحيط. لا ضير إذن أن خرج كثير من تلك النصوص مدججاً باللغة الشعرية الهائمة، والتوصيفات الكثيرة، والرموز والطلاسم والألوان.. وخفتت الحكاية واختفت. وإن كان لأولئك عذرهم.. فأنا لا أعذر نفسي ومن جايلني من القاصين- من الجيل الذي تلى قاصي الجامعة الأوائل– في مواصلة الكتابة في نفس الدرب. لقد نقلنا حالات من السوداوية وكآبة الغرف الجامعية إلى الصحف والملاحق الثقافية، وطمسنا معالم الحكايات بالشعر والترميز ثم طالبنا عامة الناس بالقراءة والاستمتاع. والنتيجة كانت أكثر من منطقية: لم يهتم أحد بذلك.. ودخلنا وهم التغرب: المجتمع لا يفهمنا.. نحن لا نفهمه.. سنكتب ونقرأ لبعضنا البعض إذن !. لا أعتقد أن كل هذا المجتمع المتلهف للقراءة- والذي نجد أفراده يملأون قاعات معارض الكتب داخل البلد وفي البلدان المجاورة– منشغل تماماً بحياته اليومية ولا يملك وقتاً لحضور ما نطلق عليه مسمى «أمسيات ثقافية» والتي لا تكون في النهاية سوى تجمعات يلاقي فيها الكتاب بعضهم ليقرأون لأنفسهم ما أنتجوا !!.القضية أنهم لا يجدون فيما نقدم شيئاً يمسهم ويستطيعون التواصل معه. وأعتقد أننا نتحمل الجزء الأكبر في إيجاد هذا الجدار العظيم المرتفع بيننا وبين المجتمع.
إنني أفنّد كل زعم قائل بأن عمان تفتقر إلى الحكايات والشخوص. من يقنعني بأن هذا الشعب الذي يمزج البداوة بالحضر، والجبال بالبحر، والعرب بالعجم، وله امتدادات تاريخية تختلط بحضارة اليمن والهند وبلاد فارس وأفريقيا… يفتقر إلى مادة نرويها عنه؟..من يقنعني بأن هذه التحولات الإجتماعية والظروف الإقتصادية التي نعيشها غير قادرة على توفير مواد قصصية لها دلالاتها الإنسانية العميقة؟. إن امتزاج هذه المكونات مع بعضها يفرز العشرات من المواقف والقضايا والحكايات التي إذا نجحنا في تسطيرها سنجتذب الكثيرين ليقرأونا ويتابعوا إنتاجنا. إن آلاف الحكايات تنتظرنا لنعيشها بصدق ثم ننقلها للناس.. نحتاج فقط قلوباً مفتوحة على مصراعيها، وإرادة قوية لا تفتر. إن لهذه الأرض خصوصية لم تنجح القصة العمانية حتى الآن في ترسيخها وفرضها على ساحة الكتابة العربية. إنه من المحزن حقاً أن تكون عندنا كل هذه المقومات التاريخية، والتراكمات الحضارية، ونعيش هذه الملابسات الحياتية الغريبة، وفي النهاية تفتقر معظم قصصنا إلى طعمها الخاص، ولا تعدو أن تكون قصصاً تائهة بين الغرب والشرق.
إنها قضية خصوصية.. وهي قضية كبيرة يضيق المقام بها هنا. ليست الخصوصية في استبدال الكلمات العربية بنظائرها في اللهجة العمانية، وإقحام المفردات العمانية، والأماكن المحلية داخل السرد. يثير حنقي الذي يصفّق ويهلل ويملأ الصحف بمقالات المديح والثناء على الكتاب لأنه قرأ في كتابة أحدهم مفردات مثل «السبلة والعريش والطوي والفلج والوادي ونخلة الصلان وشجرة الأمبا» وما إلى ذلك من مفردات.. ظناّ منه بأن هذه هي الخصوصية بعينها. ما أؤمن به أن الخصوصية طريقة حياة وتفكير وتصرّف في مواجهة الظروف الاجتماعية المتغيّرة التي يتعرض لها الإنسان. فلو افترضنا أن خطر الموت بسبب الماء هو الظرف الاجتماعي.. فليست الخصوصية- كما يعتقد بعض المثقفين للأسف – في أن هذا الطوفان عبارة عن وادٍ، وأن بطل القصة يصرخ باللهجة العمانية طالباً النجدة.. فبكل بساطة نستطيع تغيير الظرف إلى طوفان في نهر دجلة وجعل البطل يستغيث باللهجة العراقية – على سبيل المثال فقط – فأين الخصوصية إذن؟. إن التصرف الذي يقوم به الإنسان في مواجهة الموت هو محصلة تراكمات حضارية، وموروثات دينية، ومؤثرات شعبية وظروف آنية.. وهذا ما يعطي الخصوصية، ويسبغ عليها نكهتها الخاصة. إننا نحتاج إلى المزيد من العمل المتأني والمدروس بإتقان والمبني على رؤى واضحة، تضع لنفسها أهدافاً قابلة للتحقيق في أُطر زمنية محددة.. فلا يمكن أن ننتظر ميلاد جيل آخر من القاصين ليحّل لنا هذه الإشكالية.
vv ما الحلم الذي تحمله كقاص عماني وتعتقد أن تحقيقه سيغير المشهد القصصي ؟
شيء كبير.. لكن دعني أصف لك أولاً جذوره العميقة .
تتكىء عمان على تاريخ عريق تمتد جذوره في أعماق الحضارة، وعاشت حقباً تاريخية خطيرة، ومرت بظروف صعبة للغاية، وتعرضت للاحتلال، وعاشت بطولات المقاومة، وبرز فيها أبطال شعبيون غيّروا مجرى تاريخها المكتوب، ويعرف الأجداد حكايات مذهلة سكتت عنها كتب التاريخ وتجاهلتها لأسبابها الخاصة، وتناقلت الألسن حكايات رجال قياديين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها.. ويعرف جميعنا حكايات عن علماء، ورجال دين، ومهاجرين، وعشّاق مجانين عاشوا حكايات تصيب المستمع بالدهشة. ورغم ذلك: حين استثمرنا تراثنا في القصة، لم نكتب إلا عن السحرة والمغيّبين !. أهذا كل تراثنا؟ أهذه كل ثقافتنا؟. السحرة رمز الخوف والظلام.. المغيّبون: رمز الوجود المنقوص واللامجدي.. والانتظار الذي لا يأتي. أهذه كل ثقافتنا حقاً؟. إنني أتمنى أن يأتي كاتب مبدع من أبناء تلك المناطق العمانية المعجونة بالتاريخ.. ليقدّم متواليات قصصية ترسّخ تلك الحكايات وتعيد النظر في تاريخنا المكتوب.. وأتمادى أحياناً فأتمنى ميلاد روائي جاد يستثمر هذا الإرث التاريخي الضخم في مشروع روائي متكامل عبر روايات عديدة.. يسّخر التاريخ إما بجعله مادة حكائية يعيد سردها بطريقته، أو بجعله خلفية متحركة ومتفاعلة لقصة جميلة يصنعها خياله تساهم في المزج بين التاريخ والخيال وتقديمه للأجيال الجديدة من الأبناء وللقراء في العالم. ليس من السهل التخلي عن ذلك التاريخ وتركه للمؤرخين الجافين فقط.. ينبعي علينا أن نعمل لنعيد قراءة تلك الحقب كي نترك لمن بعدنا شغفاً لا ينتهي بهذه الأرض وأسبابا واضحة كي يتمسكوا بها وألا يتركوها مهما كان الثمن. وحين أنادي بذلك فلا أحصر الأمر في وجود كاتب أو روائي واحد فقط.. إن هذا عمل ضخم يجب أن نفكرّ فيه جميعاً بجدية ونبدأ العمل به.
vv بعد هذه التجارب، والمراهنات على طرقٍ كتابية مختلفة: هل من طريق اخترته لمواصلة تجربتك؟ ولماذا؟
اخترت الحياة لأجل عشقي الشناصي. لأبي حكاية كبيرة مع العشق.. نقمت بسببها عليه في طفولتي، ولكنني قدّسته وأحببته بجنون حين كبرتُ وذقت العشق وعرفت معناه. دمنا واحد وجنونه يسري فيّ.. وقد اخترت مواصلة هذا الدرب (أو هو اختارني) ولو كلفني الأمر خسارة كل شيء في سبيل شناص. لقد راهنت عليها وجعلتها مشروعي الأكبر، ذاك لأن بها من الغنى ما يكفي لمشروع حياة تستمر بعد رحيلي… وهذا ما أسميه تفرغي الكتابي لهذا المشروع وحصر تركيزي فيه. ذاك لأن الشناصي حالات حب وفرح وانتظار وانكسار وحزن وتناقضات وصراعات مستمرة لا تنتهي أبداً. لقد جمعت له الحياة ظروفاً شكّلت وعيه، وصبغت حكاياته بألوان خاصة جداً. بالنسبة لي أنا..لا أستطيع اعتبار الشناصي كائناً عادياً يمر مرور الكرام على روحي.. وعندي يقين بأن حياتي ستنتهي وأنا لم أفرغ بعد من سرد كل الحكايات التي أعرفها عنهم وأود كتابتها لكم
علمنا أنك تحضر لمجموعة قصصية جديدة تستمد عوالمها من حياة أهل شناص.. حدثنا عنها.
إنها مجموعة أعمل عليها منذ أكثر من سنة ونصف ، أي بعد فراغي من كتابة الرواية، وقد شارفت على الانتهاء.. أحتاج بعض الوقت لإعادة قراءة – وربما صياغة – بعض النصوص فيها قبل النشر. كنت قد وضعت لها عنواناً لكني غيّرت رأيي لمّا وجدت ذلك العنوان مقيّداً للنص ولمضمونه. المجموعة بأكملها شناصية الروح: مكاناً وشخوصاً وأحداثاً، وفي كثير من نصوصها وظّفت اللهجة الشناصية في الحوار. أظن أن بمقدوري إصدارها في بدايات 2009، وأتمنى حقاً أن تلاقي نجاح مجموعة «العابرون فوق شظاياهم «.
vv ماهي الشخصية التي كتبتها فكتبتك؟ أي كان لها أثر كبير عليك أديباً وإنساناً؟
هي ليست شخصية واحدة فقط. أعتقد أن كل شخصية كتبتها أثّرت فيّ بشكل ما، ككاتب وكإنسان.. وأحترم كل أبطالي و أدين لهم بالفضل في فهم الحياة بشكل أفضل.. لكنني مسكون بشخصيتين من شخصياتي: شخصية «خالد «في نص «أخائف من الموت يا أبا هاجر؟ «الذي افتتحت به مجموعة «لا يفل الحنين إلا الحنين «وشخصية «زاهر بخيت «في روايتي «تبكي الأرض.. يضحك زحل «. لقد كان خالد إنساناً من طراز خاص وضعتني الأقدار في دربه المتجه نحو الموت وهو رابط الجأش، غير متردد ولا نادم على ما مضى. لقد عشنا معاً مفارقات عجيبة، وتعلمت منه الكثير. وأجزم أن حياتي ( كإنسان وطبيب وكاتب ) قبله تختلف عنها بعد معرفته ومفارقته.. لقد جعلني أعيد النظر في الإنسان والمرضى والكتابة من جديد، وجعلني أعيد النظر في الحياة، وجدواها.. وأعتقد أن كل مريض بالسرطان أشرفت على علاجه، وكل إنسان تعاملت معه، وكل نص كتبته بعد خالد قد تأثر كثيراً بتلك التجربة. لقد صرت أفكر كثيراً حين أمشي في أي درب: من مِن هؤلاء المارة له قلب كقلب خالد، وقصة تشابه قصته؟. ولقد وجدت أن من قرأ ذلك النص عن خالد قد تأثر.. بل حين يلاقيني عدد من القراء يخبروني بأنهم أحبوا خالد كثيراً وتمنوا لو كانوا قد عرفوه قبل أن يموت. وأنا نفسي تمنيت لو أني عشت معه فترة أطول. أما زاهر بخيت فيشغلني بين فترة وأخرى، وأرى فيه معادلة صعبة من التناقضات على الإنسان أن يحققها ليظل إنساناً. ولا أعرف تحديداً من هو المعادل الحقيقي لزاهر بخيت داخل ذاتي.. فأنا في كل مرحلة من مراحل كتابته وجدتني أستحضر أرواحاً مختلفة، و أعيش معها.. ثم خرج الأمر عن سيطرتي وجاءت شخصيته مغايرة تماماً لكل من عرفت.. أيحمل شيئاً من روح جدي؟ من قلب أبي؟ من جنوني؟ من شيوخ المجالس التي تربينا فيها؟.. وحين يسألني الكثيرون: هل قُتِل أم انتحر؟.. أقول: لا أعرف.. صدقوني لقد تفاجأت بموته داخل الرواية !!!.
vv على ذكر زاهر بخيت.. كانت هذه الشخصية – رغم محوريتها- الشخصية الوحيدة التي لم تسرد حكايتها في الرواية أو تعبر عن نفسها بضمير المتكلم بعكس الشخصيات الأخرى.. لماذا جعلتها شخصية «صامتة»؟
كان ذلك صعباً.. وكما قلت لك سابقاً استحضرت عدة أرواح أثناء كتابتها وأخيراً وجدتها شخصية مختلفة عن كل من عرفت. أقول بعد صدور العمل أن ذلك ربما كان أفضل لأن ذلك أكمل دائرة الغموض حول هذه الشخصية، لأن كل الدوائر الغامضة في هذا العمل تلتقي عند زاهر بخيت.. ولو تحدّث زاهر لفقد العمل جزءاً كبيراً من إثارته.. وأعتقد أن أحد أسباب نجاح الرواية هذا الغموض المتعلّق بزاهر بخيت !.
vv في روايتك وفي أكثر من قصة عمدت إلى سرد الحكاية من وجهة نظر عدة ساردين.. لماذا تستهويك هذه التقنية؟ وهل ترى أنك نجحت في توظيفها؟
أقول دائماً أني مهووس بشيء اسمه البحث عن الحقيقة الغائبة. كل واحد منا يتحدّث ويصنع جمله بحيث تبدو منطقية ومقنعة لنفسه أولاً ثم للآخرين لكي يوحي بأن فهمه لأي موضوع هو الأدق، وأن ما يقوله حقيقة مطلقة. وإذا استمعنا إلى عدة أشخاص يروون نفس الحادثة سنذهل من كمية التناقضات في مضمون الحدث.. لذا أرى أنه من العدل وجود أكثر من راوٍ ليحكي لنا الحدث كما يراه. أظن أني أحببت ذلك من روايات جبرا… أما هل نجحت أم لا؟.. شخصياً أعتقد أن ذلك كان ناجحاً ولم يكن بإمكاني تقديم غير ذلك !.
vv لو جاءك سياف ووضع النصل على رقبتك وقال: اختر بسرعة وإلا قتلتُك: طبيب أم قاص؟ ماذا ستختار؟
سأختار الموت طبعاً… في هذه اللحظة يصعب عليّ تصوّر أني قد أعيش طبيباً بدون كتابة.. أو كاتباً بدون طب. إني أجد نفسي في كوني طبيباً يسعى لمعالجة مرضى السرطان وتخفيف كل آلامهم… ليس من السهل الحصول على ثقة أي مريض يواجه الموت ويسعى لدفعه، فكثير من الأشياء تتحكم في عقله حينئذ، ويكون في صراع نفسي مرير.. إن الثقة التي يعطيك مريض السرطان إياها لثقة غالية لأنه يشاركك في كل شيء: الصدمة، الخوف، الحزن، الأمل، الرغبة في التحدي، نوبات الألم، لحظات الضعف النفسي، مرارة الدواء، فرحة الانتصار على المرض، أو فجيعة الهزيمة. باختصار يكون المريض جزءاً منك.. قد تكسب به حياة أخرى أو قد تخسره وتفقد معه جزءاً من روحك. ممارسة الطب جزء لا يتجزأ من حياتي اليومية.. وأشعر بالمرض إن توقفت عنها، ولكن للأسف هي رهينة بوجودي على هذه الأرض… أما الكتابة فهي طريقتي في مواجهة الحياة، وتحقيق نفسي، وإضافة معانٍ أكبر لحياتي.. الكتابة رؤية أعيد بها صياغة ما أعيش، وسعيٌ حثيث لمواجهة كل أنواع الموت، وإثبات أنني لم أدخل وأخرج من هذه الحياة لأعيش على الهوامش عاجزاً عن تغيير أي شيء. إنها رغبة التغيير المستمرة التي تبقى بعدك في انتظار أن يلتقطها قارىء من زمن آخر يعيش نفس تجربتك ويشاركك الهم، ثم يسعى للتغيير وإكمال مسيرتك. إنها روحك الباقية مهما مر الزمن على رحيل جسدك.
vv القراءة.. التجارب الحياتية.. مخالطة الناس.. معاشرة الأصدقاء.. السفر: أي هذه المحفزات الكتابية كان لها الباع الطولى في كتابتك السردية؟
كل هذه العوامل أضافت لتجربتي لكني أعتقد أن مخالطة الناس هي العامل الأكبر. لقد احتجتُ زمناً ليس بالقليل حتى أدرك أني كنت أكتب في بؤرة منعزلة عن مجتمعي، وأكتشف أن حولي الكثير من الحكايات الإنسانية العميقة التي تحتاج إلى التأمل، وأني لست مركز العالم لأجلده بانكساراتي الخاصة، وأقحمه في أحزاني. ربما ساهم في صياغة هذه القناعة تخرجي من الجامعة والعيش وسط الشناصيين. إن كنت أدين لأحد بفضل تغيير اتجاهي في الكتابة فأنا أدين بذلك للشناصيين الطيبين الذين أعادوني إلى رشدي حين عملتُ طبيباً عندهم لمدة سنة… وعلّموني معنى الحكاية ولذتها… وأروني الكثير من النماذج التي تستحق أن نكتب عنها، لأنها وإن كانت تحكي عن حيواتهم الخاصة .. إلا أنها تمثّل الإنسان البسيط والعميق والمتواجد بكثرة في نفس الوقت، وسأظل أذكر فضلهم هذا وأحكي عنه ما حييت. إنني الآن أحتك بعدد غير قليل من الناس كل يوم في عملي وحياتي العامة، وأحتفظ في ذاكرتي بالعديد من الحكايات التي أنوي الاشتغال عليها لأخلق قصصاً جديدة وهذه الحوافز تمدني بالحكاية.. وتساعدني قراءة العديد من القصص على الاستمرار في هذا الاتجاه، إذ كلما وجدتني أنفر من أي قصة تتلاعب باللغة وتعيق الحكاية – لأن شغفي الأكبر معرفة ما سيتولد من أحداث- وجدتني أكثر حرصاً على تقديم حكاية تشد القارئ من البداية وحتى النهاية وتجعله يعيد التفكير فيما قرأ أكثر من مرة.
vv ماذا يقرأ عبدالعزيز ولمن؟
في البدايات كنتُ مغرماً بقراءة القصص القصيرة والروايات العربية، وتلك المكتوبة باللغة الإنجليزية. كنت مهووساً بالسرد، ومحاولة معرفة كيف يتعامل الكتّاب مع الحكاية حين تلتصق بأصابعهم ويسعون لنسجها قصة مكتوبة. لا أدري لِم تحديداً أعشق بجنون روايات المرحوم جبرا إبراهيم جبرا وأراها ملتصقة بروحي، وأعود إليها باستمرار لأقرأها من جديد كأني أستذكرها رغم أني أكاد أحفظها !… ويبلغ بي الأمر أن أحمل إحدى رواياته معي كلما سافرت للخارج كأني أختبر ذلك التأثير الساحر على نفسي في أماكن جديدة. إن الروح التي كتبت «السفينة» و«البحث عن وليد مسعود» و«يوميات سراب عفّان» لروح عظيمة حقّاً، ولقد تأثرت برؤيتها السردية وبرؤيتها العامة للحياة. وهذا لا يعني أن القضية عندي قضية مفاضلة روائي على آخر.. المسألة برمتها متعلقة بتآلف روحي مع الروح التي أبدعت تلك الأعمال… وهذا لا ينفي حبي وتقديري لكثير من الأعمال العالمية والعربية التي اطلعت عليها .. ولا تنفي إعجابي بكثير من الرؤى الجادة في السرد عالمية وعربية.. فأنا أحب روايات ماركيز و أعمال كونديرا ، وأحترم كثيراً جهود أمين معلوف في خطه الروائي المميز، وأعتز كثيراً بمدن الملح وأرض السواد لمنيف. في مرحلة لاحقة قررت إعادة قراءة تلك الكتب الأدبية العربية التي قرأتها أيام الطفولة، وبدايات المراهقة، وأيام الشباب الأولى.. لأعيد النظر إليها بوعي آخر. فعكفت على قراءة ألف ليلة وليلة والأغاني وكليلة ودمنة وكتب الجاحظ وأعمال أبي حيّان التوحيدي، وأبي العلاء المعري وغيرها من الكتب العربية ووجدت أن ذلك مثير فعلاً ويستحق التجربة.. فرغم خوفي من ذهاب بريق بعض تلك الأعمال كما يحدث للروايات والأشعار التي نقرأها في الطفولة ونعود لقراءتها لاحقاً حين نكبر ونتساءل: كيف أعجبتنا هذه الأعمال؟.. إلا أن ذلك لم يحدث مع معظم ما أعدت قراءته من أعمال، ووجدت أن بكل هذه الأعمال مساحات جيدة لإعادة الاشتغال والبحث والتنقيب والخروج بإبداعات جديدة. فيما بعد لم يعد عندي تركيز على الروايات وكتب الأدب فقط.. بل صرت أعيد قراءة التاريخ (والتفتيش عن تاريخنا من مصادر أخرى غير التي تربينا عليها) وأقرأ في علم الاجتماع وتطوّر الدول، وأقرأ في علم النفس، والسياسة الدولية، هذا إضافة إلى الكتب العلمية في تخصصي وخارجه.
صف عبدالعزيز الفارسي في كلمة واحدة..
إنسان.
حاوره: سليمان المعمري قاص من عُمان