من الظلام جئت وإلى الظلام أعود
(سعد الله ونوس)
رحلة في مجاهل موت عابر
النهاية
رحت محاولا أن أحرك رجلي, وكأني فراشة توشك أن تخرج من شرنقتها, غمرني النور.. فصرخت.. سائل مخاطي, دم ذو رائحة صديدية, بول, اختلطت به, وقفت على رأسي وأنا أشاهد العالم, لفوني بخرقة أحسست بألم لذيذ يجمع عظامي الصغيرة, خدعت بعدها لم أكن أعلم أنها النهاية.
القبو
أشعلت لفافة بيضاء كجناح النورس, حملتني الى مرافئ مدن جميلة, لكنها فقيرة مددت يدي وأنا أمر بين البيوت القديمة خدشتني حصيات نتأت من الجدران بفعل المطر والزمن المعطوب, تذكرت المجنون: أمر على الديار!
غمست يدي في ساقية الفلج.. غسلت وجهي من بقايا قبائل علقت به, طلقت كل شيء..
– قوم صل.. قال أبي.
رمقته بنظرة خاطفة, صمت.
ركضت- سمعت صوت أبي يلاحقني:
– (ما عليك الملعون, الكلب….) أنا الكلب أم هؤلاء البشر ركضت الى المقبرة.
صرخت: اقتلني.. لا أحب هذه الحياة الملعونة, رجع الصدى قاسيا ضبابيا عوت الكلاب من ناحية الجبل, وكأن تلك المخلوقات تسخر مني.
تمددت على الحصباء حتى داهمني الليل, عندما فتحت عيني رأيت النجوم تراقبني, كعيني ذئب…
سمعت صوت امرأة يقترب من المزرعة التي كانت على يميني, تيقنت أنه صوت زوينة كانت تبحث عن دجاجتها التي لم ترجع مع الديك, جلست حتى لا تفاجأ بي, لم ترني المسكينة, أخذ صوتها يختفي كما جاء.
أشعلت لفافة ورسمت دوائر هلامية, أخذت أحول المنظر إلى فكرة! حياتنا.. كهذه الدوائر الدخانية تتلاشى, ولكن سمعت المعلم صالح يقول: إننا سنبعث يوم القيامة, وسيحاسبنا ربنا حتى عن التمرة التي نأكلها, ولكن لم اقتنع بكلامه, لأنه لو صحيح (قلت في سريرتي) لماذا هو يأكل مال أبناء أخيه اليتامى? نفثت آخر نفس من اللفافة. بصقت على أفكار المعلم صالح, قررت أن لا أرجع الى البيت باكرا, لأن أبي سيحاسبني أين ذهبت? وأين صليت? ومن رافقت? وكأنه مستخلف, لمحاسبتي قبل الأوان.
كان المكان ساكنا, ما أجمل أن يتوحد الإنسان بنفسه..!!
أحسست بخطوات.. تقترب مني, وشبح في الظلام يقترب مني, قلت في سريرتي: إن كان أبي سأركض الى الجبل ليأويني..!
كان الشبح القادم يدخن!, هذا حتما ليس أبي..
» وطني علمني
ان التاريخ البشري
بدون الحب..
عويل ونكاح
في الصحراء«
دوى في أذني صوت مظفر النواب مخترقا الحصى والذل والجبن والعار ليملأني حبا وتمردا.
– هاه.. حمدان, والله خلاك مظفر ثورجي بصحيح.
– أكيد تحب, وما قلت لي (خرج صوته متهكما, أعقبه بضحكة ساحرة كصوته).
– أرجوك حمدان تعال… غن لي.
حملني صوت حمدان إلى مدن جميلة, صرت أحلق كفراشة تهوى اللعب بالنار
– لأنس ورطتي..!
– عبود ود سويدان.. كان باغي تستعجب..
– أعرفه كان جده خادم جدي.. إلين اليوم ما يقول! السلام عليكم.
– عجب ما كذاك, تو يوم يتخرج من الجامعة.. يقولوا معاشه أكثر من خمسمائة ريال.
– نشا الله يعطوه ألف أيبقى ود سويدان كما هو, ما يرتفع أفوق يوم ما ينزل..
تسمرت تحت نافذة (سبلة الجماعة) وأنا أستمع الى الحوار الذي يدور بين حمود وجمعة, بصقت. أشعلت لفافة وواصلت طريقي إلى البيت, ليحترق هذا العالم الغرب يقتسمون أراضي المريخ, ونحن نقتسم الناس; نبيعهم ونشتريهم, وكأننا في أسواق النخاسة.
البداية
كانت القرية تتهيأ لمضاجعة الليل, فاشعل فانوس هنا وهناك, أدخلت زوينة دجاجتها والديك حتى لا يبيتا على السدرة ويأكلهما الثعلب!.. ضحكات الصبايا تأتي مختلسة الأشجار من ناحية ساقية الفلج, وهن يفركن أجسادهن الرخامية البضة, ويتقافزن فوق بعضهن غبطة; لأنهن استطعن أن يسبحن عاريات دون أن يراهن أحد…, لأن الليل يغطي الجميع, وحمدان الذي يستمتع بالمنظر الخلاسي وهو يمتطي أحد فروع شجرة المانجو أعلى الساقية, وضوء القمر يتسلل إلى تلك الأجساد السمكية, وهن يتقافزن فرحا وغبطة, كان كل شيء يمضي بإحكام لولا أن صرخة دوت فهزت القرية! نزل حمدان مسرعا دون أن يكترث من أن تشاهده الصبايا, بأنه كان يراقبهن, رفع دشداشته بعدما تبين له مصدر الصراخ وأطلق ساقيه للريح.. إنه يأتي من جهة بيت صديقه محمد.
كانت خديجة تصرخ وهي تخدش وجهها مادة رجليها وشعرها المنفوش فوق الجثة المكبة التي كانت مسجاة أمامها…
وقف حمدان يزن المنظر في عقله, من هذا?!
وهو لا يريد أن يخمن!
لحظات حتى كان معظم أهالي القرية متجمهرين داخل بيت عيسى وخارجه, شق ذلك الجمع المعلم صالح بعمامته البيضاء, اتجه إلى الجثة وقلبها بكلتا يديه بعدما وضع عصاه على الأرض, رمقته عينا محمد الجامدتان.
– اذكري الله يا حرمه (قال المعلم صالح) مخاطبا خديجة وأردف:
– أين عيسى?!
تلاقت عيون الجميع وهم يبحثون عنه بينهم.. صرخ حمدان وأخذ يركض متجها الى تلة المقبرة, أخذ يصرخ ويمزق دشداشته ويمرغ نفسه في التراب كذئب تلقى رصاصة قاتلة, عندها صرخ بصوت أغشي عليه لم يفق إلا على صوت ديك زوينة وهو يعلن منتصف الليل.
كانت خطوات رجلين تقترب منه بتبين له انهما حمود وجمعة وهما يتهامسان بينهما:
– مسكين محمد دائما يتشاجر مع أبيه.
– هذه نهاية كل واحد ما يطيع الله ورسوله!
– المشكلة الحين ما كذاك.. خديجة أكيد ما رايحة تتحمل الصدمة بنها المقتول إذا كان القاتل أبوه.
– مسكين محمد.. الله يرحمه!
– كانت خطوات الرجلين تبتعدان وصوتهما يتلاشى.
– دفن حمدان وجهه في يديه, وأخذ يبكي محاولا أن يخرج من قبوه.
الخطاب المزروعي قاص من سلطنة عمان