لماذا لم يستطع أحد آخر أن يجدها؟ لماذا كان لابد أن أكون أنا، الذي يعرف أهميتها، والذي هرب مسافة بعيدة عن أشياء كهذه؟
كيف كان بإمكاني معرفة ما احتوته العلبة الصغيرة؟ لقد خمنت أن قطعة نقد معدني قد تكون في الداخل. في داخل هذه العلبة التي، ربما أضاعتها أحدى البغايا المتمشيات في ذلك الشارع، إذ سقطت من حقيبتها. فكرت في قيمتها، توقفت، تطلعت حولي لأرى إن كان أحد يراقبني، انحنيت بسرعة، التقطتها،ووضعتها في جيبي.
عثرت عليها على بعد بضع مشات الياردات من دكان الورود. كانت الواجهة مضاءة ولامعة. وكانت سحلبية (1) خلف جزء منها، وكاميليا، ونبات غريب من تلك التي لا أعرف أسماءها، ومن أمام الواجهة اللامعة أخذتها، بغير اكتراث، بصورة عرضية مثلما شخص يتناول علبة سجائر. كانت علبة ذهبية، وصليب منقوش عليها، رفيع، طويل، بذراعيه الافقيتين وقد قطعا نقشا آخر لسمكة. فتحت العلبة ورأيت القربان المقدس. فيما بعد لو أن أحدهم آمن مرة أخرى بأن المسيح كان في داخل هذا (2).. شعرت بالخوف، أغلقت العلبة، وأبقيتها في يدي لأنني لم أجرؤ على اعادتها الى جيبي. فلقد بدت وكأن مجاورتها لولاعة، ومفاتيح، ومنديل قذر، تجميع غير صحيح، كنت أعلم أن الكهنة يحملون هذه العلب فوق صدورهم في كيس حريري، وقد علقت بطرف حبل من القيطان الأرجواني، كان لي جيب خارجي على يسار سترتي الحائلة – بجانب القلب، تنكرت، هنا المكان الذي أردت أن أضعها فيه.
ظهر وجه الرجل من خلال الورود والنباتات، ومن خلف الواجهة الزجاجية. على عينيه نظارة بعدسات عاكسة للضوء الى نصف أقمار حادة. وصلت ذراعه عبر أوراق النبتة، في يده مقص، ثم قطع وردة كاميليا من أرومتها.
سقطت الوردة ناحية الواجهة حيث كنت أقف. تلمست يده طريقها اليها. ركضت بعيدا.
أردت في الحقيقة أن أسير الى اليمين حيث يقود الشارع الى المحطة. لكنني ذهبت يسارا، وبلا تفكير مسبق، لأنني ببساطة اعتدت هنا على الالتفات يسارا. ولأنني شعرت بألفة في هذا الشارع. كان شارعا مقبضا.. مقبضا مثلما هو العالم. على اليمين كانت هناك أربعة أو خمسة بيوت بدكاكين. محل لعصير الفاكهة. وحانة في الطابق الثاني. وبعد هذا يمتد دمار بفعل القنابل حتى نهاية الشارع. ولقد انقطعت الرتابة بواسطة كشك ارتفع وسط دبش الحجارة المهشمة. اعتادت اليزا، مالكة الكشك، قضاء الليل هناك. وهي ستفتح لك بمجرد قرعك ثلاثا.
لا يمكنني الذهاب الى هناك الآن، فبحوزتي القربان المقدس، وعلي البحث عن كنيسة فيها كاهن واعادة العلبة بالقربان وتسليمها له.
ولكن، أين توجد كنيسة؟ لا أعرف حتى واحدة. لقد عشت في هذه البلدة أربع سنوات، ولكنني لم أتعرف على كنيسة واحدة. كنت أسير حرب، ولم أعثر على أحد من أقر بائي عندما رجعت. ولهذا، ما همني أين أقيم. فالبلدة أفضل من قرية على أي حال. إن مليون مقيم مثل مليون احتمال، فكرت. وبالنسبة لرجل شاب غير مهم، فإن احتمالات الحصول على المال كانت جد قليلة. الصعوبة الوحيدة كانت في العثور على غرفة في هذه البلدة. بحثت لمدة ثلاثة أشهر. توفر لي مأوى ليلي، في غرفة معيشة، حيث ينام رجل آخر. فكرت بالمكوث هناك كشكل مؤقت. وها أنا، حتى اليوم، أقيم فيها. ربما بسبب من هذه المأوي المؤقتة انني أمضيت أربع سنوات في بلدة ولم أتعرف مكان كنيسة فيها، إذ كنت أقضي الليالي متسكعا بين الحانات والمقاهي. يمكنك أن تنام هناك، ولكنك لا تقدر أن تجلس بسلام. تقرأ كتابا أو تتعلم لفة أجنبية. لقد نام "فاسنسكي"، شريكي في الغرفة، على الأريكة – سريري المؤلف من اطار رفاس وثلاث حشيات بالية، وكان بدوره دائم الخروج في الليل. عاد في الصباح دخن سيجارة، استدار الى الجدار وغط في النوم. عندما احتجت توقفت أطلب المساعدة فأغاثني بالسجائر والنقود. وفي أحد المساءات أخذني معه ومن وقتها صرنا نعود في نفس الوقت.
كنت أفكر به عندما وجدته واقفا خارج كشك "أليزا"، مكشرا:
"كنت أنتظر"، قال.
"لماذا؟"
"هذا ما ستعرفه في الوقت المناسب. أريد أن آكل أولا. أتدخل؟"
"ولم لا.." قلت.
علي الا أخون نفسي. طرق "فاسنسكي" ثلاثا على الساتر الخشبي، وبعدها سمعنا صوت "أليزا" يقول بخفوت: "لقد أغلقنا للتو".
"لا تكوني سخيفة"، قال فاسنسكي.
"أوه، انه أنت !" نادت أليزا، أدارت المفتاح. فتحت الباب وضحكت.
في الزاوية كان الرومانيان أو الهنغاريان، لا يستطيع المرء تحديد من أين هما. انهما يعرفان فاسنسكي ويعرفانني، ولكنهما لم يعطيانا اليوم أي اهتمام، اذ استرسلا يثرثران بلفتهما الغريبة البغيضة، وزادت "أليزا" بصراخها، ثم وخزت "جانوس"، الرجل الأصغر، في خاصرته.
"ستأتي الشرطة إن استمررتم بهكذا شجار".
"اثنتان"، أمر فاسنسكي، ثم موجها حديثه الي: "هل تأخذ شيئا، أنت أيضا؟"
قلت: "لست جائعا للحق. على أي حال، فأنا لا أملك كفايتي من النقود".
"الكفاية من النقود ! الكفاية من النقود ! لابد أنك تلغو. لقد نلت كامل حصتك أمس !"
ولكنني لم أبق على شيء من النقود. فلقد أعطيت "فرو روسير" حصيلة الليلة الفائتة. ودفعت من أجل الغسيل لأنني ما عدت أطيق وجهها دائم التأنيب. ولأنني شعرت بحلول الوقت الذي ينبغي أن أرتدي فيه قميصا نظيفا. كنت أملك قطع الأربعة أعشار "البنفنغ" (3) في جيبي والعلبة – بالطبع. وقيما لو أردت بيعها يمكنني ذلك، لأن هذين الوغدين سيسيران على هذا الخط من العمل. فجيوبهما طافحة بالساعات، والخواتم، والمجوهرات. كما أن محفظتيهما محشوتان بالملاحظات. انهما ينقضان على أي شيء يلمع، تماما مثلما العقعق (4).
دفعت "أليزا" عبر الحاجز بالسجق التي كانت تتمدد ساخنة على الصحاف، مع شريحة خبز، و "الماسترد" الشهي.
"هاكم أيها الأولاد"، قالت.
فدفع فاسنسكي بقطعتي سجق الى فمه على الفور. وأخذ يناقشني.
"حسنا، لست جائعا؟" سأل.
"نعم".
إن كانت مسألة النقود، فيمكنك أن تأتي الآن".
"لا، لا أستطيع "
"لم لا؟ "
"لا، فعلا! ليس الآن على أي حال، ليس اللحظة".
"حسنا"، قال فاسنسكي، فيمكنك أن تأتي فيما بعد. لنقل.. الحادية عشرة. الساعة الحادية عشرة بالقرب من التاكسيات، موافق؟".
"حسنا. الساعة الحادية عشرة بالقرب من التاكسيات".
وعضضت على قطعتي الثانية من السجق. أجال فاسنسكي النظر في من رأسي الى قدمي.
تحسست جيب سترتي، فكانت العلبة في مكانها، وظهرت حوافها واضحة في ثنايا الجيب.
"اتفقنا إذن، الحادية عشرة قرب التاكسيات"، قال وخرج.
كان الرومانيان أو الهنغاريان مازالا يثرثران. لملمت "أليزا" الصحاف ورمتها أسفل الحاجز.
قلت: "اعيني آخذ بعض السجائر. أريد أربعا منها – أيمكنك منحي أكثر".
"أنت حظ عاثر"، احتجت ثانية، وعدت أربع سجائر من الصندوق. كنت أحاول كسب الوقت. دقيقتين، ثلاث دقائق، حتى يتوارى فا سنسكي.
انبعثت أصوات الجاز من الحانة المجاورة. وقفت "بريجيت" على المدخل. صغيرة هشة هي "بريجيت"، وأنا دائم الشعور حيالها بالأسى عندما أراها مع أحد الأمريكيين. لم أكن أمانع في رؤية المزيد منها. ولكنها لم تأخذني مأخذ الجد. ها هي الآن وحيدة هناك. مشيت وعبرتها. تعمدت الا أراها. هتفت:
"هاي. أنت هناك ! هاي!" مرتان، ثلاث مرات. تابعت وكأنني لم أسمع. اقتربت تقطعات عقبي قدميها على الرصيف أكثر، ثم وصلتني. قبضت علي م من ذراعي ودفعتني بكل عزمها:
"ألم تعد تسمع؟"
تظاهرت بالمفاجأة: بريجيت، كيف حالك؟"
"شكرا، انني في حالة الانتظار ثانية"، قالت. "وهل هناك ما يستحق ذلك؟"
"هذا ما سنراه بعدئذ. صعد "وليم" للطابق الثاني لتوه، لقد أضعت علبة تجميلي في مكان ما، لكنني لا أتذكر أين. هذا هو المكان الثالث الذي نحاول فيه. واذا لم تكن هناك فلن تكون في مكان ابداء.
"أنت لا تحتاجين علبة تجميل ومساحيق". "أهي مجاملة."
"يمكن"،
"أتعرف" قالت فجأة "ستصعد معي. سنرقص، وأثناء وجودنا يمكنني أن أبحث وأرى إن كان وليم".
"آسف، لا أستطيع، لا وقت عندي، إن فاسنسكي ينتظر".
"أوه، هو ثانية".
وجذبتني من يدي الى المدخل، وصعدنا على الدرج الخشبي القذر. كان الطابق مكتظا بالراقصين، والجميع في تلاصق حميم. وكانت الفرقة تعزف لحنا بإيقاع سريع: بوجي – بوجي.
"أوه، بوجي!" أوضحت بريجيت.
"نعم، بوجي"، وشعرت باندفاعي مع الايقاع. إن الرقص، أحيانا، يوفر لي وجبة. في تلك المساءات حين يقفر المكان، يسمح لي صاحب الحانة بالشراب على حساب المحل، مع قطعة لحم من كفل بقرة في المطبخ بعد منتصف الليل، على أن أبقى وأراقص الفتيات. لقد راقصت نسوة لا يعنين بالنسبة لي شيئا ليالي بطولها. والآن أنا أراقص بريجيت. لقد نسيت القربان المقدس. انك لتنسى أشياء كثيرة عندما ترقص. كما أن بريجيت ترقص جيدا. ووجهها يتوهج. جذبتها الي أكثر.
"ماذا تحمل معك هنا؟"
"أين؟ ماذا؟"
ودنت يدها من جيب سترتي: هنا،
"لا شيء!"
"أعطني اياها، أيها الوغد."
"ما بك، بريجيت، أنا لا أعرف ماذا…"
انها علبة تجميلي، أيها الوغد، أيها الوغد الحقير!"
أرادت أن تنفذ الى الجيب، فانقلب خارجا. دفعتها عني واندفعت نحو الباب. ولولت بريجيت: "أوقفوه. لص، لص:"
وارتموا علي. هؤلاء السادة والمختلسون بقمصانهم الحريرية، وجراباتهم الملونة، وسراويلهم الطحينية اللون. كم كانوا متوحشين ! رفسوني في خاصرتي، وضر بوني على وجهي. دافعت عن نفسي بقدر ما أملك من قوة دون أن أرفع يدي اليسرى من جيب سترتي. كان هناك اثنان أخذا على نفسيهما مساعدتي، وبعدها انضم اليهما فاسنسكي. وأخذنا نقاتل من أجل الخروج.
وفي الشارع سأل فاسنسكي: "ماذا كان هناك؟"
"غيرة"، قلت، "محض غيرة"
"أنت معتوه"
"معتوه لعين"
"أتعرف ما هو الوقت؟"
"ليست لدي فكرة."
"انها الحادية عشرة. أخبرتك بأن تتواجد هناك، أتذكر؟"
"ولكنني قلت لك – "
"عليك أن تحسم أمرك: إما ذاك النوع من المومسات، أو العمل"
"حسنا، أنا قادم"
وسرنا نزولا الى الجهة اليمنى من الطريق نحو ملتقى سائقي التاكسيات. كانت عرباتهم تنتظر في الخارج، وكانوا بمعاطفهم الواقية من المطر، وستراتهم الجلدية يجلسون في الداخل. كان وجه "بلاشكي" الملوث بالشحم وراء الحاجز. وعلى احدى الطاولات بالقرب من الستائر المرسومة جلس "بشورن" و "كيرمر".
قال بشورن: حسنا، حسنا، ها قد ظهرا أخيرا."
قال كيرمر: "آه، السيدان المهذبان !"
قال ريتشارد: ولكن هناك دما على وجهك،"
قلت: حادث عرفي بسيط، امرأة، أنت تعرف. بدا أن لكلامي منطقا عندهم. جلسنا ودفع ريتشارد بعلبة سجائره من نوع لاكي سترايكس على الطاولة. التصق بشورن بفاسنسكي وهمس في أذنه.
كان السواقون يتسمون بالمرح. وكان من بينهم من يطلقون عليه لقب "لوهيغرين"، وهو مفني أوبرا قديم فاشل. ففي الوقت الذي يثمل فيه يتذكر امجاده السالفة. يرفع كأسه عاليا ويغني بطبقة صوت مرتفعة متفككة: "في بلاد بعيدة جدا، يتعذر بلوغها على الرجال، هناك قصر اسمه مونسالفات".
وللحق أن غناءه ليس رديئا، ولا يملك المرء إلا أن يشعر بروحيته بغض النظر عن صحبته له أو عدمها".
تتوقف الأصوات، ثم يشير اليه الزملاء بابهاماتهم مخبرين الغرباء من الزبائن: "لوهينغرين !". انه لا يغني أكثر من هذه الجملة. يتوقف عندها، ثم يسفح من كأسه. وعادة يحدث أن أحدهم ينادي عليا قائلا: "لماذا لا تغني شيئا جميلا ! لحنا حديثا!". عندها ينفخ أوداجه، يفرغ الهواء ويقول: باه، أنت وألحانك الساقطة السوقية. لو – هين -غرين ! أتعرف ماذا يعني هذا؟ لقد غنيت الـ: لو – هين-غرين في زيوريخ، والبفرلد، وميونيخ، وكيل.. ثم يغيب ثانية في الغناء: "بلاد بعيدة جدا –".
"أنصت هنا أيها الرجل !" لكزني فاسنسكي، قال بوشرن: "أنتما الاثنان تحملان البضاعة وتأخذانها الى شارع البرشت. وهذا كل ما عليكما عمله. وزعاها الى ربطة دزينات صغيرة، وهذا يعني أنكما ستذهبان ست مرات. اذا نجحت العملية، فسنكررها غدا. أفهمتها؟"
"نعم"، قال فاسنسكي.
"وماذا عنك أنت؟" سألني.
«نعم»، قلت، رغم أن لا فكرة لدي عن محتوى الربطات التي سنحملها. طلب فاسنسكي كأسين من البيرة. تجرعناهما وغادرنا المكان. وعندما وقفنا على مدخل الباب في الخارج، كانت خمس أو ست عربات تتجه نزولا الى الشارع من المحطة. كان تلك عربات دورية الشرطة العسكرية البيضاء كالحليب. انفصل فاسنسكي عني كانفصال الخيط عن النسيج. قذف بنفسه الى الوراء، وقال: أهرب ! واختفي. ركضت بدوري في الاتجاه المعاكس بقدر ما أملك من سرعة، أخذ فاسنسكي اتجاه المنطقة المدمرة. أما أنا فإلى الشارع. لم أقم بعملية التفاف. فقط وجدت نفسي أركض. وضعت يدي في جيبي الأمامية وتحسست العلبة. ركضت من أجل حريتي. ركضت من أجل انقاذ القربان المقدس.
تقفوا أثري. زعقت صفارة الانذار. انقسم الشارع الى التواءين في وسطهما كنيسة، بجدران عالية بنية وفتحة سوداء لرواق. فزعت قاطعا الطريق ولكنني كدت أشعر بمقدمة العربة عند ظهري. فررت ونجوت مختبئا داخل الرواق.
كانت الكنيسة في حالة دمار تام. أربعة جدران ومن فوقها فضاء الليل. تعثرت على الأ حجار، ارتطمت بكتل من الخشب وبأ نصبة تذكارية، وسقطت في خندق. تقاطعت أضواء مصابيحهم الكهربائية من فوقي. صرخت أصوات: "قف مكانك ولا تتحرك ! قف مكانك !"، وتردد الصدى، جرحت ذقني، سال الدم أسفل عنقي داخل ياقتي المفتوحة. وبسرعة تناولت العلبة من جيبي ودسستها تحت حجر. وبعدها استسلمت لهم.
دفعوني وحشر وني في واحدة من عرباتهم. ثم ساقوا عائدين الى مركز تجمع سائقي التاكسيات المحاط بالشرطة. كان هناك حشد من الناس أعرف بعضهم من وجوههم. بسورن، كيرمر، ريتشارد، ولكن فاسنسكي لم يكن بينهم. ساقونا الى مركز الشرطة رقم 14 حيث بدأ التحقيق. استجواب ممل وغير ممتع أبدا. وكان رجال الشرطة يشربون القهوة من فناجين من الصيني الغليظ. فضوا لفائف وبسطوا سجق الكبد عليها.
اذا خرجت من هذا الوضع،. تنكرت، سأنهي هذا النمط من العيش وابدأ من جديد. ولكنني علمت أيضا أن خلاصات كهذه لا تدوم طويلا.
خرجت ونفذت. لماذا، لا أدري. إثر أ أسلتهم وإجاباتي لم أكن أتوقع الافراج عني.
"يمكنك أن تذهب"، قال مسؤول الشرطة.
أردت أن أسأله: "أين؟"، ولكنني لم أفعل، بل توجهت بسرعة الى الباب. ظل الآخرون على صمتهم الا ريتشارد الذي هتف ورائي: "حظا أفضل !".
"ولك أيضا".
غادرت المبنى نزلت على الدرجات، ثم ذهبت في الشارع. كان صباح الأحد، وقليل من العربات في المكان، وكانت الترامات خاوية تقريبا. السماء زرقاء، صافية، وباردة. بمستطاعي أن أنتسل وأن أحلق ذقني. كما أن حذائي يحتاج الى تنظيف. ولكنني لم أرغب بالعودة الى المأوى. علي أن أجد الكنيسة أولا. سرت الى شارع فلو رن الذي أعرف كيف أستدل منه على الطريق.
اجتزت تجمع سائقي التاكسيات. هناك يوجد التقاطع والكنيسة. وبمقدور المرء في وضح النهار أن يرى مباشرة أن الكنيسة مدمرة. استخرجت العلبة من بين الأنقاض. ثم تسلقت ثانية وأكملت سيري بمحاذاة الكنيسة الى جزء من البلدة لم أكن فيه من قبل. أقبلت علي امرأة ارتدت السواد، وبيدها عصا، وبرفقتها كلب صغير القوائم عريض الوجه طويل الشعر ناعم. سألت عن أقرب كنيسة لم تدمر.
"إذن فأنت لا تعلم أن كنيسة القديس جون قد دمرتها القنابل؟"
"لا، لا أعلم".
"إذن أنت غريب هنا".
"نعم، أنا غريب".
"ووصلت للتو؟"
"نعم، للتو".
تفحصتني بالكامل ثم قالت: انظر، اذهب ببساطة على طول هذا الشارع، وخذ المنعطف الرابع على اليمين ثم بعد ذلك – ماذا تفعل فيفي؟ – 200 متر أخرى وبعدها ستكون أمامك – فيفي، تعال هنا!".
قلت "شكرا" كي أضع حدا لأي استفسار. انفصلت عني وقالت: "لا يمكن أن تضيعها". يمكن رؤية الكنيسة من مسافة بعيدة، انها كنيسة قلب يسوع الأكثر قداسة."
تمحور فمها الى انبوب عندما كانت تتكلم. تابعت سيري بسرعة. على اليمين وعلى اليسار كانت خيلات بحدائق أمامية. بوابات الأسيجة مطلية بالمينا والنحاس الأصفر. أسماء مدراء وضباط أمريكيون. ملاحظات: احذر الكلب.
ها هو المنعطف الرابع. استدرت مع المنحنى ورأيت الكنيسة. كانت واجهتها الضخمة قد سدت الشارع.
وفي حال ارتقائي للدرجات فتحت أبواب الكنيسة. عزف الأرغن ترتيلة ما، وهذا ما أوحى ل أنه اشارة تقود الناس الذين في الداخل الى الخارج. ثم انبثق موكب. في الامام: فتيات بلباس أبيض وشعر طويل. غابت الأيدي في سلات صغيرة ثم نثرت تويجات الورد وزهرات المارجريت رحبات الأقحوان. ثم تبع الفتيات أولاد بثياب زرقاء، وقد التفت ياقات قمصانهم المفتوحة خارجا، بينما خط الفرق في شعورهم المضمخة بالماء بان واضحا. وبعدئذ سارت أصواتهم المنغمة الى لحن الأرغن.
ثم خدم الكنيسة بأردية حمراء ووزر كتانية زركشت بأشرطة حيث – كما فعلت مرة – تتأرجح أوان ذهبية تبتعث غيوما من بخور. والآن ثمة ظلة عبأت الرواق. الحرير تم تطريزه بأحجار كريمة بينما ارتفعت به الريح وبالغت في انتفاخه. في الأسفل، كان ثلاثة كهنة يسيرون، وأوسطهم يحمل وعاء القربان المقدس. وفي رزمة من أشعة ذهبية وضع في نصف قمر فضي – كان القربان المقدس.
وبالرغم من ارادتي خشعت راكعا. عبرني الموكب. كانوا يرتلون. يصلون. يتمتمون. تخطتني أحذية، تدافعت مناكب، معاطف وسترات تنبعث منها رائحة نفتالين عثة الملابس تمسحت بي ومضت.
كرهت هذا الموكب، هؤلاء الذين عبروا كانوا غرباء علي. كانوا في غاية الهدوء، وكنت أنا في غاية الاضطراب. لم يعنوا لى شيئا بترنيماتهم، بهيئتهم الفاقدة للاستقامة والأمانة، وبتقواهم المدروس. غادرت المكان مثلما غادرت محطة الشرطة، كي أكون لوحدي. ولكن، أحقا كنت وحدي؟ أنا أملك القربان المقدس. أخذته معي بعيدا في حياتي القلقة.
هانز بيندر
ولد هانز بيدر عام 1919 في قرية مول هاوزن بالقرب من هايدلبرج. عمل محررا أدبيا مختصا بالمراجعات في مجلة (اكزينته)، كما أنه قام بنشر مجموعة من المختارات الشعرية مثل "الشاب ليرك" عام 1957، و "شعري هو سكيني" في نفس العام، حيث جمع في هذا الكتاب صفوة قصائد الشعراء الألمان محللا اساليبهم.
نشر مجموعته القصصية الأولى عام 1956 تحت عنوان "الذئاب والحمام" واصفا جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومظهرا القلق الكبير اتجاه استعادة النظام الخلفي الذي زعزعه الحكم النازي وفظائع حروبه.
بالاضافة الى ما سبق عام هانز بيندر بنشر قصائده عام 1951 في ديوان أسماه "على الغرباء أن يبتعدوا"، ثم أتبعه بروايته "شيء كالحب" عام 1954، وروايته الثانية "ثمن الحرية" التي ظهرت عام 1959.
يتصف أسلوب بيندر بالاقتصاد والتكثيف عن عمد، مستعملا اللهجة العامية، واضعا نصف عينيه الدقة في المفردات، مبتعدا عن الكلمات البذيئة.
قصة "القربان المقدس" مأخوذة من مجموعته القصصية (مع مدير البريد) المنشورة عام 1962، التي رسم فيها حالة المانية نموذجية إبان الفترة التي تلت الحرب العالمية مباشرة – 1945. إنها الفترة التي اتشمت بزوال الوهم لدى الألمان مع سقوط أبطالهم المخادعين! وفقدان الأمل عند المشردين والمهاجرين. ,ويبدو المستقبل – في هذه القصة – لا يحمل إلا قسطا ضئيلا من الرجاء للفرد الألماني.
1- السحلبية: نبتة من الفصيلة السحلبية – المورد-
2- يرمز المسيحيون بالقربان المقدس على أنه دم المسيح وجسده – المترجم -.
3- البنفنغ: جزء من 100 من المارك الألماني. – المورد_.
4- العقعق: غراب أبقع طويل الذيل – المورد-.
ترجمة: الياس فركوح (شاعر ومترجم من لبنان)