ان الناظر في الخطاب النقدي العربي المعاصر وفي كيفيات تشكه وابتنائه لأطروحاته المركزية يلاحظ أنه خطاب محنة.. انه خطاب يحركه وعي شقي ، وعي مضن معذب يحول ، في أغلب الأحيان دون تقدمه . ويجعل التحديات المطروحة عليه نابعة من صميمه ، مندسة في تلاوينه ، واقعة في كيفيات صياغته لأسئلته سواء فيما يخص كيفية تمثله للعلاقة الخفية القائمة بين القديم العربي والحديث العربي ، أو فيما يخص طريقة تمثله لعلاقة النص العربي المعاصر بالمنجز الفني للنص الغربي .
فلقد تشكل هذا الخطاب مأخوذا بحدث التغيير الذي طرأ على الشعر العربي وطال الموقف من المعنى وكيفيات انتاجه واللغة وطرائق تصريفها واجرائها. ولكنه لم ينظر في حدث التغيير ذلك باعتباره حركة خفية متكتمة على نفسها شرعت تعتمل ف صميم الثقافة العربية بعد أن اكتملت شروط تلك الحركة نعني التبدل والتحول في الصراع ونتيجة له . ولم يتعامل مع حدث التغيير ذلك باعتباره فعل تنام لما يمكن أن يستمر من القديم العربي وفعل تغاير واختلاف مع ما طاله البلى . . بل عده لحظة خروج وابتداء . خروج عن القديم وعليه . وابتداء نمط في الكتابة يهدم ذلك القديم بدءا بالجذور معولا في ذلك على الاهتداء بالشعر الغربي واقتفاء أثره والحرص على تملك منجزه الفني.
هكذا تمت عملية تفخيم منجزات النص المعاصر. ولكنها لم تكن مجرد موقف ينتصر للحداثة على القدامة بل كانت تحمل فيما تخفى منها تسليما مضمرا مسكوتا عنه بأن جميع محاولات التملص من الشعر القديم والإفلات من سلطانه متعلق لا يطال وغاية لا تدرك . ذلك ان القديم يظل دائم الحضور في اللحظة الحافرة. لاسيما أن الماضي (النص القديم ) لا يمضي نهائيا. أما الحافر (النص المعاصر) فإنه لا يحضر بالكل . بل يحضر ومعه ، في تلاوينه ، يحضر الماضي ويفعل في السر فعله . وهذا يعني ان اللحظات جميعها. الماضي – الحافر وما سيأتي ، لا تتعايش فح!ب بل تتعاصر هنا في منطقة الحضور أي في ذواتنا و نصوصنا .
وهكذا أيضا، تم تفخيم المؤثرات الأجنبية. فصار الكلام فيها من الثوابت التي تحتل حيزا هاما في جسد الخطاب النقدي دون أن يقع التفطن إلى ما في عملية التفخيم تلك من تحقير للذات وتعميق لتغريبتها ودفع لها على دروب التيه بمحو المكونات التي تسمح لها بالمضي على درب التغاير .
والثابت ان عملية التفخيم هذه إنما ترجع إلى كون القراءة (قراءة النقد للنص ) لم تكن سفرا في خبايا النصوص وأصقاعها للإحاطة بما يعتمل في أقاصيها المحجبة من صراع حاد عات بين نظامين ثقافيين متغايرين ، بل كانت تتم بالتركيز على نصوص لا تمثل الشعر العربي المعاصر بل تقع دون منجزاته ، لأنها انما تمثل جزءا من طفيلياته . وهي مجرد استنساخ لتجارب الآخرين ومحاكاة لها هذه قضية تمتلك تاريخا ولها مدى. فلقد بدأت منذ مطلع القرن وتواصلت الى اليوم . يكفي هنا أن نورد ما يقوله نعيمة في الغربال (1) وما يقوله أدونيس في بيان الحداثة(2) يرسم نعيمة، في لغة تعتمد الاستعارة وتهدف إلى استدراج المتلقي ، صورة بلغت قتامتها المنتهى. فتبدو الذات "فقيرة" على عتبات الآخر الغربي تقف ، وتشرع في التسول والسؤال وتبدو الثقافة العربية كحاش سمها هذه الصورة عبارة "بئر جف ماؤها" أي هجرتها الحياة وأطبق عليها الموت . يقول نعيمة "الفقيريستعطي اذا لم يكن من كد يمينه ما يسد به عوزه . والعطشان ، إذا جف ماء بئره يلجأ إلى ماء بئر جاره .. ونحن فقراء وان كنا نتبجح بالغنى والوفرة. فلماذا لا نسد حاجاتنا من وفرة سوانا وذاك مباح لنا وآبارنا لا تروينا فلماذا لا نرتوي من مناهل جيراننا ؟ " .
كيف نرتوي ؟ .. كيف "ن!ميد حاجاتنا ونستر عرينا،".. يجيب نعيمة . بالترجمة .
معلنا. "فلنترجم ". والترجمة هي ، في حد ذاتها، محاولة لإدراج الآخر في الذات أما أدونيس فإنه يعمد (سنة 1992 ) قي بيانه (بيان الحداثة) إلى المقارنة بين الأنا والآخر، في نبرة مشبعة بالتأسي على الذات ، طافحة بالنوح والندب على الثقافة العربية، فيرسم للآخر صورة نورانية شفافة . في حين ترتسم صورة الذات في نصه مخزية مفجعة قاتمة(3) . ثم يعلن جازما "ليست الحداثة وحدها غير موجودة في الحياة الربية وانما الشعر نفسه هو كذلك غير موجود " ( 4 ) طبيعي ، بعد هذا كله ، أن يقع تفخيم المؤثرات الأجنبية. وطبيعي أن يقع اختزال هذا الحدث الهائل ، حدث الشروع في مفارقة الرؤية البيانية القديمة، في ما ظن أنه مجرد إدراج للآخر في الذات .
هنا أيضا وجدت المغالطة لها موضعا شغلته وشرعت في العمل . فلم يقع التفطن إلى أن لحظة الإدراج تلك تعد، في حد ذاتها، حدثا جللا لأنها إنما تمثل لحظة تلاق بين نظامين ثقافيين ودخولهما في صراع هو، وحده ، كفيل بأن يمضي بطرائق الكتابة عند العرب على درب التحول والتبدل . لاسيما أن الشروع في التبدل ، لحظة التلاقي ، انما يعني أن طرائق الكتابة القديمة المتعارفة كانت تحمل في ما تخفى منها امكانية التبدل والتحول ، وبذلك يكون شروعها في التبدل أمارة على تناميها لا امحائها وعلامة على تجدد طاقاتها لا زوالها وتلاشيها في غيرها.
ان هذا التمثل التبسيطي للعلاقة المعقدة لمجن الأنا والآخر هو الذي ولد نوعا من التعارض بين القول والقائل ؟ بين الشعر والشاعر أي بين رغبات الشاعر ومواقفه وقناعاته من جهة وقدرات الشعر وشروطه ومتطلباته من جهة أخرى . وهو الذي جعل حضور الأسطورة مثلا في الشعر العربي المعاصر يوهم بأنه من اقتضاء الشعر وحاجاته وأنه لحظة من مسار تحولات القصيدة في رحلة بحثها عن المعاصرة . في حين أنه انما يمثل موضعا من المواضع التي ينكشف لنا فيها تدخل الشاعر في نصه وارغامه القول على الامتثال لرغبات القائل عنوة وقهرا واستبدادا .
لكن للقول على قائله سلطان.
دائما يكون للقول على صاحبه سلطان هو الذي يجعل التعارض بين النص المبدع (باعتباره لحظة نامية لكل ما أنجز قبله من نصوص ) ، والشاعر (با عتباره " أنا " عا برة معرضة للأهواء المتبدلة والرغائب العارضة)، بمثابة موضع من المواضع التي ينكشف لنا فيها ما تمتلكه الثقافة التي توهم بأنها تكتفي بالتقبل والنقل والتأثر من مقدرة فائقة على تحويل الفكرة أو الظاهرة وتبديلها وفق نسق يجعل استيعابها لتلك الفكرة أو الظاهرة رافدا يجدد طاقاتها ويقيها من التلاشي في غيرها.
لذلك يلاحظ الناظر في مسار تحولات الشعر العربي المعاصر أن الأسطورة قد حفرت فيه وفق طريقتين وعلى مرحلتين . كانت في الأولى (57 9 1 /67 9 1 تقريبا) استجابة لرغبات الشاعر. هنا شغلت الأسطورة من النص سطحه وبدت على أديمه ناتئة يسهل التقاطها. أما في المرحلة الثانية (ما بعد هذا التاريخ ) فقد كانت من اقتضاء الشعر وحاجاته . لذلك صار حضورها مجرد رجع ، رجع صدى بعيد يتردد في أقاصي النص على نحو خافت يتراءى ولا يكاد يرى . ذلك أن النص عدل عن استدعاء الأساطير. ومن صميمه ، من عناصره البانية لجسده صار يستل ما به يبتني قاعه الأسطوري . لذلك رأينا أن نركز البحث على هاتين اللحظتين الشاعر والأسطورة المضي كل درب التماثل ان ما نعنيه بالتماثل هو حرص الشاعر على الاقتداء بالمنجز الفني للشعر الغربي في علاقته بالأسطورة، وتطويعه للنص ، نصه لحظة كتابته ، على ارتياد المناخات والآفاق التي كان الشعر الغربي قد ارتادها وافتتحها دون وعي بأن الرمز الاسطوري المستدعى من الأسطورة لا يمكن أن يفي بحاجة الشعر الا متى تمكن النص الشعري من اعادة انتاجه وتحويله وفق نسق ، بموجبه تنضاف إلى ذلك الرمز أبعاد دلالية جديدة تفي بحاجات الشعر وتفي بمتطلبات لحظته التاريخية التي يهفو إلى الامتلاء بصخبها وعنفها. فيصبح الرمز من ابتداع النص لأف النص سيفتح ذلك الرمز على أبعاد دلالية جديدة لا عهد له بمثلها ولا يكتفي بافتقاء أثر الأسطورة أوبا ختزال رموزها .
لم يكن هذا الوعي ممكنا لسببين يتمثل الأول في كون استدعاء الأسطورة والحرص على ادراجها في الشعر جاء نتيجة وعي حاد بأن مقولة الالتزام التي داخلت النص الشعري في رحلة بحثه الممض العاتي عن سبل المعاصرة وشماء ات الجدة والفرادة ليست سوى عودة متسترة للرؤية البيانية النفعية التي جاء النص المعاصر ينشد التغاير معها والانعتاق من أسيجتها. فضلا عن أن الالتزام وضع الشعر على عتبات التيه والتلاشي ، تيه الشعر في الكلام العادي وتلاشيه في غيره من أنواع الخطاب (السياسي التحريضي / الاجتماعي الاصلاحي )(5 ).
لقد كان الوعي شقيا إذن ؟. . الشعر تلاش تحت مفعولات الالتزام ومتطلباته في ما ليس منه (الخطاب السياسي / الاجتماعي ) وانتشاله أو انتشال ما تبقى منه على الأقل لا يمكن أن يتم إلا بفعل من خارجه . الأسطورة .
أما السبب الثاني فإنه يرجع إلى كون علاقة الشاعر بالنص الشعري الغربي كانت علاقة افتتان . والافتتان حال من الانجذاب لا يمكن للواقع في دائرة سحره أن يتمثل الكيفية التي يتمكن بها الشعر من تذويب الرموز الأسطورية في نسيج النص وفق نسق بموجبه يصبح الرمز الاسطوري في النص عنصرا تكوينيا بنائيا من اقتضاء النص ذاته .
يعني هذا ان الشاعر قد افتتن بالأسطورة دون أن يتمثل كيفية حضورها في النص وتحولها الى مكون من مكوناته البانية لشعريته . ظنا منه أن الأسطورة هي التي تضمن للنص شعريته وتمكنه من المعاصرة. لذلك ذهب السياب مثلا، مقتبسا تصورا لـ د. ت . س . اليوت ، إلى ("أننا نعيش في عالم قاتم كالكابوس المرعب .. عالم لا شعر فيه " جازما، في الان نفسه ، بأن "ا التعبير المباشر عن اللاشعر (أي الواقع اليومي ) لن يكون شعرا" واعتبر "اللجوء إلى الخرافة الأسطورة" قدر الشعر وخياره الوحيد لأن "الأساطير والخرافات ماتزال تحتفظ بحرارتها لأنها ليست جزءا من هذا العالم "(6)
لم يكن الافتتان بالأسطورة على هذا النحو من المزالق التي تردى فيها الشاعر فحسب . فلقد وقع الخطاب النقدي الذي جاء يعضد الشعر المعاصر في دائرة السحر أيضا. لذلك سلم بأن لا خلاص للشعر دون الاحتماء بالأسطورة. وابتدأ بالهدي والدعوة والتبشير. هدي الشعر كي "يقبل " علي الأساطير، ودعوة الشاعر إلى "غناء الأدب بالأساطير"(7) والتبشير بالأسطورة باعتبارها المنقذ المخلص للشعر مما تردى فيه من سطحية ومباشرة تحت مفعول الالتزام .
ههنا تمت ترجمة كتب في الأساطير كي تجعل عطية الاغناء تلك حدثا ممكنا(8).
والترجمة، كما قلنا، محاولة لإدراج الآخر في الذات .
لكن التبشير بالأسطورة سرعان ما تحول إلى احتفاء وجزم بان لا معاصرة في الشعر دون التجاء إلى الأسطورة. يقول احسان عباس : "ان استغلال الأسطورة في الشعر العربي الحديث من أجرأ المواقفالثورية فيه وأبعدها آثارا إلى اليوم ( 9) .
ويذهب يوسف اليوسف إلى أن "الشعر المعاصر قد تأسس منذ ولجت الأسطورة كبعد بنيوي شعوري إلى جسد القصيدة "( 10) . وتجزم خالدة سعيد بأن أهم منجزات الشعر الحديث تتمثل في الابتعاد عن المباشرة والاستعانة بالرموز التاريخية ( 11 ) . ويعلن عزالدين اسماعيل "اان أروع النماذج الشعرية" قد تحققت بمدى الاقتراب مما يسميه "المنهج لأسطوري " ( 12 )
واضح إذن أن تمثل الشاعر والناقد للعلاقة المعقدة بين الشعر والأسطورة كان تمثلا في منتهى التبسيطية.
إنه تمثل يلغي الفارق الجوهري بين الأسطورة باعتبارها جسدا أو كيانا قائما بذاته مغلقا على ذاته يمتلك وجودا خاصا وماهية خاصة تقيه من التلاشي في غيره والاسطوري باعتباره واقعا في الأسطورة مفارقا لها في الآن نفسه . والحال أن الأسطوري ليس الأسطورة. لذلك نراه يحضر في الأجناس الأدبية جميعها دون أن تضيع الحدود الفاصلة بين الأسطورة وتلك الأجناس ..وهذا يعني أن النص يمكن أن يستل من عناصره ومكوناته البانية لجسده ما به يبتني قاعه الأسطوري دون أن يوظف الأساطير أو يحتمي بها ويتكىء عليها(13).
والثابت أيضا أن الإلحاح على أن علاقة الشعر بالأسطورة علاقة "احتماء والتجاء وهروب " احتماء " بعالم الأساطير والخرافات " من عالمنا المشيأ الموات الذي " لاشعر فيه "، تصور في غاية الخطورة لأنه اتصور لا يستبيح الشعر فحسب بل يمضي به قدما إلى حتفه ، فهل أن الشعر فعل "هروب واحتماء" أم هو حدث مواجهة لا يكل . هل أنه مجرد ثرثرة خواء وتسلية فراغ أم أنه الفضاء الذي تستعيد الكلمات فيه ما كان لها في البدء قبل أن يطالها البلى بالاستعمال والتكرار. وذاك الذي كان لها في البدء إنما هو مقدرتها الهائلة على انتشال الوجود من التشيؤ. ان التسليم بأن الواقع اليومي لا شعر فيه هو-في حد ذاته – تسليم بأن الوجود قد طاله البلى وغاله التشيؤ. وههنا بالضبط ، من المفروض أن يلعب الشعر أشد أدواره خطورة. لأنه إنما يبدأ كفعل إصغاء، اصغاء إلى ما تقوله الكلمات وهجس بما تقدر أن تقوله . لذلك تصبح الكلمات في النص الشعري ذات أبعاد دلالية متعددة فتضعنا في حضرة ما تحجب في واقعنا من أبعاد. وبذلك يصبح النص موضعا تسترد فيه الكلمات لهبها والذات حريتها.
هكذا إذن تم التعامل مع الأسطورة. وهكذا تم التبشير بها دون التفطن إلى أن الرمز الوافد على الشعر من الأسطورة يظل ، في جميع الحالات ، نتاجا لفعل استدعاء من خارج النص تم . أي انه نتاج لتدخل الشاعر في نصه واجباره على التماثل مع النموذج الغربي المقتفى .
ههنا بالضبط اتخذ التعارض بين رغبات الشاعر والناقد من جهة وشروط الشعر ومتطلباته من جهة أخرى حجمه ومداه . ظل النقد يبشر بالأسطورة ويحتفي بحضورها. وظل الشاعر يتلقف الأساطير مأخوذا بها. أما النص الشعري فقد كان يشير إلى أن الأسطورة لحظة خطر تتهدد شعريته . اذ تحولت الرموز الأسطورية، تحت مفعولات عملية الخلع والاستدعاء، خلع الرموز من منابتها واستدعائها كي تحل في النص الشعري ، إلى مجرد أقفال وألغاز لا تفي بحاجات الشعر بل تفي بكل متطلبات القهر والاغتصاب . قهر الشعر بإرغامه على أن يوسع على أديمه للرمز محلا. واغتصاب الأسطورة بنهب رموزها واحلال تلك الرموز في غير مواضعها وانزالها في غير أوطانها. واذن استدعاء الأسطورة ليس سوى فعل استباحة للأسطورة والشعر معا.
يكفي هنا أن ننظر في نص (رؤيا في عام 1956) للسياب حتى ندرك حجم التنابذ بين الأسطورة والشعر وادخالهما الضيم كل على صاحبه . ونمثل في حضرة الشعر وهو يستجيب للشاعر فيمنحه هديره واندفاعاته ثم يخذله وينقلب عليه فيرد كلامه عاريآ من الشعر عاديا ليس فيه مما تتقوم منه الأشعار سوى الوزن التقفية.
ينهض النص على نوع من الانتقال الدوري المنتظم من الشعر الى الاسطورة .
وهو انتقال يوهم – في الظاهر – بأنه من اقتضاء الشعر وحاجاته . في حين أنه انما يضعنا في حضرة ما يعقب احتماء الشاعر بالأساطير والاستجارة بها على تعنت الشعر واستعصائه من ضيم يطال الشعر والأسطورة معا .
يبدأ النص بالإخبار عما يحدث في لحظة المكاشفة (لحظة الكتابة): حطت الرؤيا على عيني صقرا من لهيب انها تنقض ، تجتث السواد تقطع الأعصاب تمتص القذى من كل جفن ،فالمغيب عاد منها توأما للصبح – أنهارالمداد ليس تطفي غلة الرؤيا صحارى من نحيب من جحور تلفظ الأشلاء، هل جاء المعاد أهو بعث أهو موت أهي نار أم رماد (14).
هكذا يتمكن الشاعر من الإخبار عما يجري في لحظة الكتابة إبان لحظة الكتابة
ذ اتها. يستجيب الشعر للشاعر وينقاد فيبلغ الكلام درجة من التكثيف الدلالي
معمقة. ومن صميمه يستل الكلام ما به يبتني ذلك التكثيف . فيرد طافحا بالدلالات . بل انه يقف في مهب الدلالات (يدل على المباغتة التي تداهم بها الرؤيا الشاعر/ الفنف / المعاناة والوجع / محتوى الرؤيا).
الوجع البشري الشامل / استعصاء الرؤيا على المسك : اتساع الرؤيا وضيق العبارة / زمن الرؤيا وهو زمن فوق الزمن تتعاصر فيه الأضداد ويلغى التعاقب .. . الخ ).
هكذا يستوفي الكلام عملية الإخبار. لذلك يتوقف . بعبارة أخرى ان النص ينتهي
عند هذا الحد. لكن الشاعر يجبر الكلام على التقدم . فلا ينقاد ولا يطيع . بل يستعصي . لذلك يحتمي الشاعر بالأسطورة فيورد أسطورة غنيميد الراعي عشوق دزوس : أيها الصقر الالهي الغريب أيها المنقض من أولمب في صمت
المساء رافعا روحي لأطباء السماء رافعا روحي – غنيميد جريحا ان روحي تتمزق (15).
إن القائل يجبر القول على التقدم عنوة وقهرا. فيشهد النص انكسارا لذلك يبدو الشعري والأسطوري بمثابة جسمين متجاورين . وتوهم علاقة التجاور تلك بأن الشعر هو الذي اقتضى الأسطورة واستدعاها ليتابع بها عملية التكثيف الدلالي . لكن الأسطورة لا تدل إلا على (العنف / والمباغتة)0 انها تحضر فتلغي التكثيف الدلالي . وتختزل التعدد الدلالي وهو ما جاهد النص ليبتنيه في دلالتين فقط .
فلا تفي بحاجة الشعر بل تخذله . ولا تمثل حدث اغناء لدلالاته بل تمثل فعل لجم لاندفاعاته . لذلك يشهد النص بعد حضور الأسطورة تحولا مفجعا اذ تصبح بقية النص مجرد كلام تقريري اخباري خطابي لا شعرية فيه.
الدماء
الدماء
الدماء
وحدت بالمجرمين الأبرياء
لأنها ليست شيوعية
يقطع نهداها
تسمل عيناها
تصب صلبا فوق زيتونة .. الخ
ان الشاعر يلجأ إلى التسجيع والتقفية ليتستر على تلاشي شعرية الكلام . لكنها ترد قسرية تشير إلى أن القول قد انقلب على صاحبه والشعر أفلت من يد الشاعر. لذلك يحتمي بالأسطورة من جديد فيورد أسطورة عشتار:
عشتار بحفصة مستترة
تدعى لتسوق الأمطار
تدعى لتساق إلى العدم (16)
ان لأسطورة عشتار دلالات متعددة (علاقة الحب بالضغينة/ الوجود بالعدم / الغدر بالوفاء / المرأة بالرجل / العود الأبدي بالحياة . . الخ ). لكن كل هذه الدلالات تعتصر في علاقة المشابهة (عشتار = حفصة) حتى لكأن الشعر هنا يبادل الأسسطورة مكرا بمكر فيدخل عليها من الضيم ما يعصب بأبعادها ويخلفها مجرد شكل فارغ خواء. فضلا عن أن التشبيه هنا مجرد قياس عقلي لا يمكن أن يفي بحاجات الشعر لأنه نوع من التعليل العقلي البسيط (ذهاب عشتار إلى العالم السفلي تعقبه عودة إلى الحياة تم موت حفصة ستعقبه الثور ة ) .
هذا هو حجم التنابذ بين كيانين. الألسطورة والشعر. عبثا يحاول الشاعر أن يوهم بأن علاقة الشعر بالأسطورة علاقة تشابك . انها مجرد علاقة تجاور من خلألها يتراءى لنا قهر الشاعر للكلام واجباره له على الامتثال لرغبات الشاعر في اقتفاء تجربة غيره وحرصه على التماثل معه والاهتداء به باستنساخ تجربته .
الشعر الاسطوري وابتناء التغاير :
هذه اللحظة هي أشد اللحظات اندفاعاومضاء في مسار النص المعاصر وتحولاته (17) ذلك أنها مرحلة سيعدل فيها الشعر عن استدعاء الأساطير. حتى لكأن الشعر هنا يخرج من دائرة السحر، دائرة الافتتان بالأسطورة . أو لكأنه أيقن أن لا رجاء في أن يأتي الخلاص من الخارج .
لقد صار النص يفتتح مجراه في تلك العتبة المرهفة، العتبة الدقيقة التي يتقاطع
في رحابها الواقعي والخيالي . ويتشابك الخيالي مع الأسطوري أي تلك العتبة التي تتقاطع في رحابها الأبعاد جميعها. لم يعد النص يحتمي بالرموز الأسطورية. بل صار يبتدع رموزه الشخصية . من صميمه يستلها وفق حاجات الشعر ومتطلباته .
وبحركاته يبتنيها: حركات كلماته لحظة تعالقها وحركات صوره آن تشابكها، وهدير رموزه لحظة تأسسها وشروعها في العمل . انه لا يتعالى على الواقع ، ولا يكتفي به . بل ينحني ويلتقطه ليغرسه في ما غاب عنه : الماضي الممعن في لمضي والآتي الممعن في المجيىء . وبذلك صار في الوجود ما خفي منها وما ظهر. وصار الواقعي المعلوم ، في رحابه ، عتبة مفتوحة على الخيالي المحجب . والخيالي ، بدوره ، عتبة مشرعة على الأسطوري المتكتم على نفسه في أقاصي الواقعي وأصقاعه (18 ) .
للقول على قائله سلطان إذن . . دائما تكون للقول مقدرة فائقة على الزيغ والمخاتلة. لكن الشعر، هنا، لم يراوغ قائله فحسب ، بل خاتل الناقد أيضا.
لقد كان الناقد واقعا في دائرة الافتتان بما ظنه سر قوة الشعر الغربي حين جزم بأن لا معاصرة في الشعر دون أسطورة. ومثله كان الشاعر واقعا في دائرة السحر حين صار يتلقف الأساطير ويرغم النص على احتضانها.
أما النص فإنه ظل يتشكل مأخوذا بابتناء التغاير. وههنا بالضبط، تكمن خطورته وتنكشف أصالته .
إنه لا يكرس التطابق بل يهفوإلى بناء الاختلاف يستكشف القديم العربي في اختلافه وتعدده ويفتتح مجراه في تلك العتبة الممتدة في المابين ، ما بين التطابق الوهمي والهوية المتحولة، ما بين التراث الرسمي ونداء هوامشه المقموعة . فيغتذي بالمنجز الفني للنصوص التي تشغل من التراث هوامشه المسكوت عنها (النص الصوفي / ألف ليلة وليلة/ الكتب الإباحية. . الخ ) أي نصوص التخوم تلك التي قمعت في الماضي ، تلك النصوص المتوحشة التي سكت عنها العرب لقدامى بعد أن استعصى عليهم فعل احتوائها وترويضها لأن تلك النصوص هي الفضاءالذي في رحابه تتجلى الذات بكل أبعادها. بنزواتها وأهوائها، برغائبها وميلها العاتي إلى الوقوف ضد كل الممنوعات والمحرمات . وفيها أيضا ينكشف ما من متخيلنا لا يقبل الترويض والاحتواء .
والثابت ان الانفتاح على هذه النصوص التي قمعت في الماضي إنما يتضمن نوعا من التحدي المعرفي الخطير مفاده أن العرب القدامى قد قرأوا الشعر من منظور يفي بحاجات وجودهم في زمنهم ذاك . وقراءتهم تلك هي التي تجعلنا نعتقد
واهمين أن مدار الشعر القديم ومحصل أمره انما هو المدح والهجاء ووصف الواقع . حتى لكأن ذ لك الشعر لم يكن الشعري فيه يتماس مع الأسطوري ويبتنيه في الكلام . والحال أن الشعر، قديما وغدا، لا يمكن أن ينهض على نحول أصيل إلا متى حدث فيه فعل الانفتاح ذاك ، انفتاح الشعري على الأسطوري الذي يستله النص من صميمه ويبتنيه بمكوناته .
يعني هذا ان النصوص التي تم احتواؤها وترويضها، تلك التي صارت ، تحت مفعولات الترويض والتدجين والاحتواء، أليفة (نصوص امرىء القيس / وطرفة / وأبي نواس / والمتنبي / والمعري .. الغ )، تلك التي تشغل من التراث مركزه الرسمي المعلوم إنما تمثل ، في الحقيقة، منطقة للاستكشاف لى اعادة البناء في ضوء النصوص الواقعة في الهامش من جهة، وفي ضوء منجزات النص المعاصر. ذلك أن النص المعاصر انما يستمد شرعية وجوده بيننا ومقدرته على الفعل فينا، من وقوعه على تلك الشعرية المقفلة على نفسها في النص القديم . انه حركة تنام للقديم وليس هدما له .
هذا ما يقوله النص المعاصر وفق طريقة موغلة في التستر. انه نداء الأقاصي واستكشاف الذات. وهذا ما يعبر عنه سعدي يوسف ، وهو شاعر خبر الكتابة، عرف وجعها وهولها وبهاءها، فوضته الكلمات قدام هذه الحقيقة التي يعلن عنها قائلا: ،اعلاقتي بديوان الشعر العربي القديم علاقة دهشة . ومنه التقطت الكثير
من قاموسي الشعري "(19 ).
الهوامش :
1 -ميخائيل نعيمة الغربال. دار صادر. دار بيروت ط ا7 1964 ص 17 1 هنها أيضا يتنزل ما كتبه الشابي في كتاب "الخيال الشعري عند العرب " يلح الشابي على أن الخيال العربي أجدب كالصحارى التي نما فيها ويجزم قائلا "ان الروح العربية حسية لا تنظرإلى الأشياء كما تنظرإليها الروح الغربية في عمق وتؤدة وسكون " انظر الخيال الشعري عند العرب صدر عن الدار التونسية للنشر 1983 ص ، 111 وههنا أيضا يتنزل افتتان جبران خليل جبران بوليام بلايك وشعره يقول جبران متحدتا عن بلايك "أتراها روحه عادت الى الأرض لتسكن جسدي " انظر كتاب نعيمة بالانجليزية Khalil Gibran: His Life and his works nawfal 1974 Publishers. Beirut Lebanan
2 – بيان الحداثة لأدونيس (علي أحمد سعيد) انظركتاب البيانات صدر عن مجلة كلمات سلسلة "دفاتر كلمات " رابطة الكتاب والأدباء بالبحرين البحرين 1992
3 – هذه هي الصفات التي يسندها أدونيس الى الآخر الغربي "المغامرة في المجهول فيما لا يعرف / الابداعية/ التحرك في عالم لا سيطرة فيه للمقدس
وللرموز الدينية / التساؤل والشك / الانفتاح / الحركية والبعد النقدي سلم التعدد الخ. أما الصفات التي يسندها إلى "الأنا"فهى العودة إلى المعلوم / العيش في عالم لا سيطرة فيه إلا للمؤسسات والرموز الدينية / التسليم واليقين / المذهبية والانغلاق / القبول والخضوع التحرك في عالم الانسان فيه ميت… الخ انظركتاب البيانات ص (54- 55)
4-نفسه ص57
5 -عبرت مجلة شعر في سنتها الأولى عن هذا الوعي فلقد أوردت في العدد الأول افتتاحية ضمنتها كلاما للشاعر الأمريكي أرشيبولد مكليش في الشعر ووظيفته يلح فيه على أن الالتزام في الشعر فرب من الخيانة المزدوجة خيانة للعصر عن طريق الإيهام بأن الشعر جاء يحل ما فيه من مشكلات . وخيانة للفن وذلك بجعله مجرد وسيلة في صراع ما يقول مكليش "فليس على أولئك الدين يمارسون فن الشعر في زمن كزمننا، كتابة الشعر "السياسي " أو محاولة حل مشاكل عصرهم بقصائدهم ، بل عليهم ممارسة فنهم بمستلزمات فنهم ، مدركين أنه انما بواسطة فنهم لامست الحياة حياة البعض هنا في الماضي وقد تفعل ذلك أيضا في المستقبل" مجلة شعر عدد 1 كانون الثاني 1957 ص
6-مجلة شعر لقاء مع السياب ورد بالعدد 3 تموز1957 ص:112
7 – جبرا ابراهيم جبرا: ترجمة الجزء المعنوان "ادونيس " من كتاب جيمس فريزر ا(الغصن الذهبي 12 نشرت الترجمة سنة 1957 عن منشورات الصراع الفكري يقول جبرا في المقدمة "(كان لهذا الجزء (أدونيس) فضلا عن خطورته
الآنثروبولجية الظاهرة أثر عميق في الإبداع الأدبي في أوروبا في السنين الخمسين الأخيرة بما هيأه للشعراء والكتاب من ثورة رمزية وأسطورية نرجو آر يقبل عليها أدباؤنا لإغناء أدبنا الحديث "
8 – ترجمة جبرا ابراهيم جبرا كتاب" ما قبل الفلسفة"صدر عن دار الحياة بالاشتراك مع مؤسسة فرنكلين بيروت / نيويورك 1960 يعني الكتاب بحضارة مصر القديمة :أساطيرها ورموزها ورؤاها للعالم …
9 -احسان عباس: اتجاهات الشعر العربي المعاصر سلسلة عالم المعرفة الكويت – شباط 1978 ص:165 .
10 – يوسف اليوسف الشعر العربي المعاصر منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 1980.
11 -خالدة سعيد البحث عن الجذور دار مجلة شعر بيروت 1960 مر 12، 13
12 – عزالدين اسماعيل الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية المعنوية دار العودة دار الثقافة بيروت ط 3 1 8 9 1 ص 32 3.
13 -حللنا هذه الظاهرة تحليلا مفصلا في كتابين لنا الأول لحظة المكاشفة الشعرية اطلالة على مدار الرعب صدر عن الدار التونسية للنشر تونس 1992 والثاني كتاب المتاهات والتلاشي في النقد والشعر صدر عن دأر سيراس تونس
14 – السياب أنشودة المطر دار مكتبة الحياة .
15-نفسه ص 106.
16-نفسه ص 110،111.
17 -حللنا هذه المسالة تحليلا مفصلا في كتاب لحظة المكاشفة ألشعرية: اطلالة على مدار الرعب وفي كتابة المتاهات والتلاشي في النقد و الشعر .
18 -كشفنا عن خبايا هده الظاهره وتبينا طريقة النص المعاصر في ابتنائها ي كتاب المتاهات والتلاشى .
19 – أنظر كتاب: شخصيات ومواقف (مجموعة حوارات أجراها ماجد السامرائي ) صدر عن الدار العربية للكتاب لببيا/ تونس 1978ص:64.