عام آخر يمر . الهوة تتسع . وقطة السيدة تتحرك في الممرات والافنية كبندول الساعة.. تتفيأ ظلال الأشياء. تلهو وتنام في الأحضان وتنعم بالهدأة والراحة، تحف بها على نحو موصول أشياء ناعمة الملمس أو حريرية تجدها دائما في الطنافس والبياضات ، فتلوح لسيدتها التي تكاد تصحب ظلها ليل نهار قطة غجرية بفراء ناعم وبؤبؤين فسفوريين يضيئان في الحدقة وقد يكشفان عن برق صغير بلون الذهب . بل إن المرأة ترى في عيني قطتها ألقا من الفيروز، نضاجا. رقيق الخيوط تخاله حزمة ضوء تلمع في الظلام. تشوبها أحيانا خضرة غامضة أو زرقة عاصفة بلون الماس .
هذا الكائن الاثيري قرفص في عقل السيدة وبات جزءا من الحلم والذاكرة ليس بالوسع التخلي عنه ولا تعويضه طالما ملأ حضوره الفجوة القائمة في أحشاء المنزل الأمر الذي أفضى بالرجل ، أستاذ الكيمياء إلى التبرم الضيق واسداء النصح لشريكته أن تعنى بسيرة الإنسان لا بسيرة القطط المتسكعة في البيوت والحارات . ترى كيف ينفي الأستاذ ما يراه وكيف يمكن التغاضي والنوم على سرير لم يعد لاثنين ؟
مزيدا من القفزات رآها على العشب ثم قفزه إلى السياج الاسمنتى حيث قوائمها الأربعة تطأ أحد الجدارين المقابلين للباب الخارجي متخذة هيأة حارس في ضوء المصباح . بدا ذيلها برونزيا ثم أخذ يتموج وعيناها الصغيرتان على الطريق . قالت المرأة أرأيت كيف يغزو هذا المخلوق جلدك الخشن ؟ كتم غيظه قائلا كتمان الغيظ مضر بالروح أكثر من الجسد وهبطت السكينة إلى نفسه – استنجد بقليل من التريث .. المطر ينهمر..
الأشجار تكتظ بالماء.. هنالك قطة في المطر تهرول عبر ممرات الحديقة لا هم لها إلا أن تطارد عقل أستاذ جامعي مازال يدرس مادة الكيمياء ومازال يقاسم رفيقته ألالم والبهجة وهي لا تعرف شيئا عن هذه الحكاية .
المطر يهطل . يغرق ضوء المصباحين القائمين على الطريق .والمرأة تبحث عن سميتها ثم لا تلبث قليلا حتى تعود وهي تحمل قطتها في حجرها متوجهة بها نحو غرفة النوم المعبأة بالبرودة والفراغ .
اشعل شيئا من التبغ في غليونه . اقام كرسيه في الداخل ثم اخذ يحدق في شجرة السرو وينفث الدخان الأبيض ويلعن الساعة التي تمضي نحو المجهول .. المطر ينقر زجاج النوافذ والشبابيك ورؤوس الأشجار. . والأضراب عن الكلام قاس هو الاخر ولا شيء يبدأ جديا وحاسما حتى يمكن البدء بفعل جديد .
في الصباح غادرت زوجته . سمع طرقاتها تذوب في آخر الممشى. حين سمع صوت اغلاق الباب أسرع نحو مكان القطة.مسح بنظراته غرفة الجلوس . المطبخ . المخزن السلم المفضي إلى السطح . حدق في خزانة الكتب . الملابس. جاس المداخل . الممرات كلها. تملى زوايا الحديقة ومثل من يقضي نقاهته في حيز محدود ضاق بالمكان وذاب حلمه كما تذوب قطرة المطر.. أين ؟ هل أخذتها معها؟ مضى بقميص النوم ينقب . يحمل كيسا من الكتان وقطعة حبل من القنب . وبدا كمن يتبضع في الأسواق ونسي خلال تلك الدوامة كل عاداته اليومية . فتح نافذة شباك الصالة.. رأي السحب تنتشر في كل مكان ورأى أشجار الحديقة وهي تتمايل في الريح . اغلق النافذة بعد ان مس انفه شيء من الرذاذ. عاد نحو سرير النوم وألقى بجسمه ثم جسى براحته ظاهر الشرشف . هل يجد شيئا؟ تمدد برهة بل أغمض عينيه .. استمر هذا بضع دقائق سمع خلالها حفيف شيء ما. هجس أن القطة تقف بازاء النافذة. لم يخطيء حدسه فما إن تلفت حتى وجدها تقف هادئة . هبط نحو الباب المفتوح . اغلقه بقوة فارتجت الغرفة كلها وسرعان ما اختفت اللعينة ثم لمحها بعد ثوان في اقصى الظلمة وتحت السرير تماما.
مازال الكيس مفتوح الفم ، مشرعا، والحبل جاهزا. كان كلما أسرع في هجماته ازداد غضبه حدة غير انه لم يستطع منح نفسه لحظة هدوء واحدة ولا لحظة ارتخاء للشد العصبي فقد نفد صبره وبدا مشدودا الى الحلم . خيل اليه أنه بانقضاضه عليها سوف يزيح كابوسا ثقيلا في حين ظلت القطة تنزلق تارة، وتناور، أخرى، كما الحية. يقترب . فترتد (هي ) نحو العتمة. تنزوي في لحظة معينة ثم لا تلبث ان تزعق قي اللحظة التالية . تهجم (هي ) بمالديها من قوة غامضة لكن سرعان ما يرتد (هو) آيلا لسقطة محتملة . لا أمل ، إذن ، في الاستحواذ على كائن صغير، واحتوائه قي كيس . ولم يكن للرجل الخمسيني الا معاودة الهجوم ولم يكن للقطة الا الدفاع عن نفسها. عاد الى هجماته بأقوى مما كان وأشد. افلح هذه المرة. لكن بعد رهق نفسي وشد، ونقاط دم ظهرت على منامته ، ولطخت منه قميص النوم . وثمة نقاط أخر لمحها على جانبي الفتق وظاهر الرسغ وكاد جبينه يثخن بآتأر دم بدت أشبه بثغرات أحدثها مبضع جراح فاضطر إلى معالجتها بمادة معقمة وتضميدها بالشاش الأبيض في المواضع التي تعرضت للنهش. نظر إلى الكيس المشدود بالحبل فرأى رهينته تتحرك . فكر إن ترحيل قطة إلى مكان بعيد يوفر لها حرية مطلقة في التنقل والحركة ثم قال إن مشهد الدم الذي سوف تراه لا أهمية لايماءاته لو ان باستطاعة امرأته العودة لشيء من الصواب .
صارت القطة في قبضته أخيرآ. ها هي تتلوى. الندم اصابه في الصميم الحموضة صعدت إلى حلقه . ذهب إلى المرآة رأي هيأته معتمة ورأى لحم وجهه القرمزي نيئا باردا لا دم فيه . صوب نظره إلى الخارج . الوقت يسيل الشمس تختفي خلف أقنعة داكنة من الغيوم . السماء توشك أن تنهمر بالمطر. الاشجار غامضة في الريح . هناك على مقربة صوت مواء يعود ثانية وثالثة والسيدة زوجة في الاربعين . تقف خلال الباب الموارب للغرفة تطلق حسرتها وتغمغم "مجنون حقا" .حين دلفت إلى الداخل قال : دخلت الكارثة.. سمع صوت خطواتها. وقفت كالشيطان على رأسه . قوست ما بين حاجبيها. رفعت بأصابع متوترة كماشات الشعر عن رأسها. انتثر الشعر في الهواء. قالت إن حدسي لا يخطيء . . أني اشم رائحة دم تغزو هذا"العش الذهبي " الخالي من العصافير، أني اشهد كل يوم كيف يتم تعذيبي على يدين ملطختين بالدم صرخت في وجهه . اسمع انني خسرت الكثير من عمري فهل لك بتعويضي ؟!.
موسى كريدي (قاص عراقي )