في الهزيع الاخير من الليل ، قررت ان ازرع في حشا زوجتي بنتا.
لك ليلة من ليالي الخريف ، وأنا أنظرها مستلقية بجواري ترتدي قميص نومها الوردي الذي تتطرز أطرافه وفتحة الثدي بدا نتلا بيضاء فيما تستقر رأسها على وسادة مكسوة بحرير اخضر.
ليلة مثل كل الليالي التي حلمنا فيها بالبنت . تهيأت ، وتواتر- بداخلي الصور. جواري ألف ليلة المغنيات ، وبنات المعبد الاثني ، وبعض الصور لأفلام ملونة ، والمسجل بجانبي ينساب منه صوت "سيلين ديون " بأغنية عن البحر.
أقبض على ليلة من ليالي الخريف ، واسمع
سقوط الأوراق ، ورائحة تصعد من الحديقة مثل رائحة جذور قديمة . تعرينا مثل ففلين ، وخلال حجرة النوم مترعة بونس يرجف القلب (أنت تحلم بابنت تنبثق من رحم الأم مثلما تنبثق وردة ).
وأدركت في هذه اللحظة السماوية انني أعيش وقتا من الحنو الجميل . لكنه كان هناك .
مثل كل ليلة .
مثل كل ليلة .. كان هناك .
يفصلني عنه ممر باتساع ثلاثة أمتار، يتمشى على سطح جارنا من الناحية الشرقية ، يهز عجيزة في لامبالاة ، ناظرا ناحية شرفتنا المفتوحة على الليل ، كان القط أسود غطيسا ، مكتنزا ليس مثل القطط بحجم كبير مثل قطط البراري.
ككل ليلة أراه في كمنه هناك .
يقف عند حافة السطح يمشي في دورة ماسحا المكان مثل حراس المقابر.
أحست بي زوجتي.
– ما لك ؟
– القط
– يا راجل .
وخفت .
لا أعرف ما الذي دفعني للتفكير في غير المرئي، وشعرت كأنني أعبر جسرا في الليل ينتهي عند منتصفه ، تحته يصخب الماء مندفعا بتيار مسرع .
يشغلني طوال فصل الخريف في وقفته الليلية تلك ، اذا ما نور السطح عكس النور ظله فامتد وجاءني مواؤه غير المتوسل بوعيد مؤجل .
عقدت يدي على صدري وانشغلت للحظ ، وتأمت الستائر المنسوجة بالأزهار الملونة . ما ان فتحت فمي لأتكلم الا وكان قد قفز قفزته المروعة عبر الممر مثل كرة النار مستقرا على فراشنا، يكحت بمخالبه المشرعة قماش المفرش ، ويحدجني بعينين في صفرة الزهر، رفسته بقدمى فهوى من فوق السرير، وسرعان ما انطق مثل السهم
خارجا من حجرة النوم .
(البس هدومك ).
ارتديتها على عري.
تلك ليلة طويلة (ومنذ طفولتك البعيدة وأنت تخاف القطط) .
نهضت وأقلقت على زوجتي الباب بالمفتاح ، وقطعت الممر في اثر القط .
كنت كمن يعبر ممرا سريا خارجا من داخل نفسه .
أضأت أنوار الصالة كلها ، نجفة الوسط مشكاة الممر لمبات النيون في غرفة المكتب ، الثريا العتيقه لحجرة السفرة . كانت مساحة الشقة مفتوحة على بعضها وضوى المكان مثل قاعة عرض في متحف قديم ابتدأت اللعبة وعلي انتظار نهايتها بكل صبر.
كان القط واقفا على مائدة حجرة السفرة ، يدور في دائرة من سواد ، وعينه الزهرية تحدق في عيني مثل قرص الشمس ؛ ينطق شعاعها من مركز الوجه وكانت نظراتها مرعبة وعارية مثل هبة هجير، مشتعلة بحياة متوحشة فطرية مراوغة ، وكانت متحدية بغيرها حد.
فوق ترابيزة الصالون الصغيرة تستقر فارة من الخزف الصيني مرسومة بجلال سيدة ملونة وطاووس يفرد ويثر ذيله ويلتقيان (الطاووس والسيدة ) عن منحدر يترد الى البحر.
خطوت بخوف غريزي وقت بصوت مرتجف :
– بس .
قلتها منذرا من حلق جاف فالتفت القط ناحيتي وقوس ظهره ورفع ذيله ، وسار عبر الصالة في خيلاء ، كان يقف وسط السجادة بالقرب من دولاب الهدايا الاستيل .
– بس
– قلتها شاخطا فماء بصوت غليظ ، التقطت من عند العتبة فردة حذاء ورميته بها فقفز في الهواء ، متجها ناحيتي ، خامشا وجهي بمخالبه ، واستمر في اطلاق موائه ، تحسست وجي بيدي فشعرت بنفرة الدم ساخنا ، وتأملت كفي فراعني لون الدم .
– صرخت .
– خبطت الأرض بقدمي خبات جديدة متوترة شحنت انفعالاتي، وانفجر بداخلي غضب سرعان ما انتهى الى خوف .
أدركت أن ثمة شيئا يسحب مني ارادتي، وتمت ضوء الصالة الساطعة ، ووسط الصور المعلقة على الجدران ، والتماثيل المستقرة على الترابيزات الصغيرة ارتدرعيي الى بعيد.
بدأت المطاردة حامية .
كانت زوجتي من حجرة النوم تدق الباب بعنف في فبات لها قرع الطبول صرخت فيها :
– اسكتي ..
أدركت ان الأمر يخرج من يدي ، وان علي ان أحسمه ، هجمت على القط بكل جسمي فزاغ مني ناحية الجدار ، وتحت الأشياء ، قفز قفزة عالية وهبط بمستنسخ "جوجان " "المستحمات " ، وتبعه بإطار يحمل صورة " للجزار" وكنس فيسكته تمثال "السيدة الرومانية " وتمثال لايزيس في حضرة الاله "رع "، وقلب ترابيزة صغيرة عليها اسطوانات "الدانوب الأزرق " و" زواج فيجارو" وأشرطة اندلسية ، واغنيات "لأم كلثوم " وسحب بمخالبه من الرفوف السفلية للمكتبة جزءا من تاريخ "ابن اياس " ورواية "لماركيز" و" ترابها زعفران " لادوار الخراط .
خفت حتى الموت، شقني الخوف وهويت في خرافة مروعة ، وشعرت بالفزع في حضور ذلك الحيوان البدائي ، وانسحبت بانحطاط مروع الى الماضي. طاردت روحي صور الكلاب النابحة التي كانت تطاردني وأنا صغير عند نهر بلدنا في عن الليل ، وأنا عائد اتخبط في فلام لا نهائي، وتلك القطة السرية التي كانت جدتي تحكي لي عنها وأنا أنام على فخذها.
-تحمل أرواح من ماتوا وتدوريها في الليل ، اياك وضرب قطة في روح هائمة وأبي يحكي لي عن تلك القطط التي تفاجئك عند التخوم ، بالقرب من الأنهار الجارية .
– انتبه القط بسبع أرواح .
كشرت بوجهي وأصبح القط مرادفا للعنة داخل وعيي لكنني قاومت ، لانك لا تعرف معنى أن تكون مهزوما، وخنت أن أنهزم فادخل غرفة نومي وأغلق على نفسي الباب . الأن يا سيدي القط ، كأنت تحيا في كل الأركان ، تسن الأزقة ، والحارات . وبسطات السلالم ، وأروقه المكتبات ، وممرات اقسام الشرطة ، المتربة ، وتجثم تحت مكاتب المحققين ، وفي زوايا المساجد ، وتخطو بالقرب من مذابح الكنائس تلعق بلسانك وتنطق به جسدك في اطمئنان الواثقين ، سن أنيابك في ذلك الوقت من الزمن الذي تقيم فيه ، تحول الى روح .. الى أرواح ، اخله بالهواء لنتنسمك برضى أو بغير رضى.
وقف شعر رأسي ورفسته رفسة زاغ منها فاصطدم تدمي بكرسي الصالون ، درت حول نفسي كمن به مس .
ألم مضاعف ، شعرت بالألم في لحظته موازيا لما أشعر به من رعب .
وعدت أتذكر أنفه القبيح الأقنى مثل أنف اليهود، وعينه الضيقة الصفراء تحت نظارته السميكة ، وصلعته الجرداء الشبيهة بقرمة مقلوبة ، وهو يزحف عبر الليل عند سياج المقطم ، عند الهاوية المفتوحة على الخراب وقرية الخنازير خارجا من ضاحيته المنعزلة قرب المطار يطق صرخته في ذك الليل الصحراوي الممتد بلا أحلام . في اللحظة ارتفع صوت العصفور في القفص .
كنت أضع القفص في أحد رفوف المكتبة ، وكان العصفور ينتفض ضاربا حديد القفص بجناحيه الصغيرين ، كان يتخبط في رعبه ورفيف الأجنحة في القفص صوت ، انتبه القط لوجود العصفور فاندفع ناحيته دافعا مخالبه من خلال الحديد تجاهه ، استكن العصفور في سقف القفص متخبطا يقبض بمخالبه الحمراء على سقفه العلوي ، ويطق استغاثته .
اندفعت رافسا القط بقدمي ، أطاحت به الضربة حتى أسفل البوفيه فاستكن هناك .
ما هذا الذي يحدث ؟!!
ما الذي يحدث لي؟!!
يا إلهي.. مثل عقاب .
تتأمل زمنك الأي يمتد في زمن وحشي ، كأنما ما يحدث خارجك يحدث داخلك ، وأنت تراقب اللحظة بكل حياتك التي تقارب الرحيل .
زحمة الشوارع ، الضغينة ، صوت الكلام ، لون السماء، طاولات المقاهي ، أنياب من يمثلون رحلة العمر.. فوت السنين .
نظرت ناحية الصالة وتأمت شكلي في مرأة الوسط .
وجه أصفر وشاحب ، وعلى الثوب الأبيض بقع الدم ، وعينان تبرقان في جزع ، وشعر مهوش .
أرزح عند الهاوية .
فتحت باب الشقة ملتمسا الحيلة .
كانت الشقة في الدور الرابع ، يغرق السلم الصامد في الظلام الكثيف . فرج صوتي:
– بس بس بس .
ملأت صوتي بحنية لا تناسب الموقف .
– بس بس بس بس .
خرج من تحت البوفيه يسير في كبرياء الألهة ، كنت أتق بجوار باب الشقة ، أشير له بيدي
ناحية الخروج ، وكان القط يقف لحظة متأملا ما أحدثه من خراب .
بالقرب من الباب وقف ناظرا للحظة ، ثم رفع ذيله إلى أعلى وهز عجيزته .
أشرت ناحية الخروج فخطا مجتازا ناحية منتصف الباب الموارب ، ما ان وصل بجسمه حتى المنتصف الا وأغلقت الباب قابضا على الجسد المشدود ، وأخذت أضغط وأضف بكل طاقات الرعب بداخلي ، كنت أقتل بعنف وحشي ، وكان يعافر كاحتا خشب الباركيه بمخالب رجيله الخفيتين .
وأنا أضغط من غير رحمة ، بيدي وصدري، بكل مخاوفي الكامنة ، وجسدي المشدود لائذا بفرصة جاءت عبر غفلة الحيوان .
أضغط بذاكرتي مستعينا بميلاد بنتي المؤجلة ، وزحمة الشوارع ، وانكسار الناس ، وسواد الهواء، والروح المستلبة بالعنف اله ري الذي يشيع مثل صوت الضجيج ، والحصار ، والأفق المسدود أمام كل الاحتمالات .
كان القط يموء ، ويستغيث ، وأنا أتخيل منظره في الخارج وقد بدأ لسانه يندلق من حلقة ويتقيأ دما ، يحمحم ، ويزوم ، طالبا خلاصا مستحيلا ، وكنت شاهدا على القتل ، أضغط بعزم اليائسين على نصف القط خلف الباب .
عندما تأملت مؤخرته ، كانت أمعاؤه تخرج مختلة بدمه وبرازه وبوله ، تتسرب من جوف جحيم الليلة غير المواتية .
هدأ تنفسي وسكنت ضربات قلبي قليلا، كنت قد غرقت في صمت مثل صمت الصحراء ، وأحسست كمن اجتاز غير خائف ممرات الظه م التي عبرتها وجلا وأنا منير، والحارات السد ، وهمهمات الأصوات في ظلام الأقبية والزوايا.. والخبطات الليلية على أرض المسجد القديم ، الوجوه الشاحبة الصفراء تحمل بسمات السخرية المرة . .
فتحت الباب وخطوت خارجا ونظرت القط في خفقته الأخيرة ، وطوحته بقدمي فهوى من مسقط السلم منهبدا بالأرض في خبطة مكتومة ثم حل صمت مريع .
سعيد الكفراوي (قاص من مصر)