ليس مصادفة أن تأتي معظم – إن لم تكن كل _ مؤلفات فالنتين راسبوتين بنهايات مفتوحة مثل بداياتها أيضا. فهو يبدأ وكأن هناك شيئا ما قديما قد حدث ، أو مازال يحدث ، أوان صداه لايزال يطن في الذاكرة. بعد ذلك ينتهي العمل على الورق ، ولكن دائما هناك شيئا ما سوف يحدث. ففي رواية "عش وتذكر" لا أحد يدري مصير أندريه جوسكوف ، النهاية مفتوحة تماما، بل ويمكن لأي كاتب آخر أن يكتب رواية كاملة عن مصير هذا الانسان. وفي «المهلة الأخيرة " نظل نفكر ونتألم: من من أولاد العجوز ( أنا) سيحضر دفنتها، إن راسبوتين يترك الأمر لكل منا على حدة ليواجه نفسه بذلك السؤال. وفي معظم مؤلفاته نجد ما يسمى بالصلاة الأخيرة أو صلاة الوداع ، صلاة الوداع لـ"ناستينا" في «أعش وتذكر" ، وللعجوز في "المهلة الأخيرة ، وللعجوز أيضا في قصته القصيرة "العجوز" ، وفي قصته "لا أستطيع ". يشكل موضوع الحياة والموت عند راسبوتين أهمية كبيرة لدرجة أنه يكاد يصير موضوعا قائما بذاته. فلديه دائما شيء ما يخرج ، أو أحد ما يذهب ، يرحل من العالم والحياة. هنا الكثير الذي يذهب لكي يتذكره الانسان والكثير الذي يبقى أيضا لكي يفكر فيه الانسان.. من هنا كان هذا الحوار الذي أجراه معه في موسكو أشرف الصباغ.
فالنتين جويجوريفيتش ، ظلت وسائل الاعلام لفترة طويلة تحتفل بعيد ميلادك الستين ، فهل جعلك ذلك تشعر بثقل السنوات؟ ويحجم ما قدمته من ابداع ثقافي ، وبالكفاية الذاتية؟ وهل تحقق كل ما كنت تود تحقيقه عموما، أم لديك بعد ما لم يتم انجازه لأسباب ما؟
أنا لا أعرف ذلك الكاتب الذي يمكنه أن يقول إنه قد قام بانجاز كل ما كان يجب أن ينجزه فصنعتنا التي ليست مقصورة على مهمة محددة تدفعنا دوما الى الشك في اكتمال النتائج الابداعية.
هناك عشر سنوات – فترة السبعينات – في حياتي الابداعية كانت كثيفة الانتاج للغاية ، حيث كتبت تقريبا الجزء الأكبر من انتاجي الأدبي. أما السنوات العشر التالية لها – بل وحتى أكثر منها – فقد صرفت ، كما يقولون ، على النشاط الاجتماعي. كان من الضروري الدفاع عن بحيرة "بايكال "، وبشكل عام عن تلوث البيئة والايكولوجيا، كان من الضروري أيضا الدفاع عن رموز التاريخ والثقافة ، وبشكل عام عن الثقافة نفسها، وكلمة "ضروري" هذه دفعتني الى تأجيل العمل الأدبي، وان كان كل ذلك بطبيعة الحال نسبيا، فقد كانت هناك بعض القصص ، ورواية "الحريق " ثم كتاب "مقالات عن سيبيريا". والكتاب الأخير خرج بصعوبة بالغة اذا ما تحدثنا عن جمع عادته ، ولكنه على أية حال كتب بسعادة والهام. وأعتقد أن هذه المقالات يمكن أن تعد نوعا من أنواع الفنون. ولكن مع الأسف ، فكتاب "سيبيريا… سيبيريا" لم يقرأه إلا القليلون ، حيث صدر في بداية سبتمبر 1991م ، في فترة مخزية بتاريخنا ، وفي نسخ قليلة لم تصل الى القراء ، بعد ذلك ، وفي وقت متأخر وقع الكتاب في أيدي التجار الذين قاموا بتوزيعه بأسعار عالية. ومع ذلك فقد انشغلت أكثر بالأدب الاجتماعي قبل أغسطس 1991م ، وبعده أيضا. حيث أقبل زمن الاضطرابات والأهوال الاجتماعية ، والكتاب الروس – كما هو معروف دائما – دخلوا هذه الحركة بأعداد ضئيلة ، وكنت أرى بالنسبة لنفسي على الأقل أن تجنب الدخول فيها أمر مستحيل.
من المعروف (وكما يقال عادة) أنه من أجل ممارسة الابداع الأدبي بشكل كامل يجب التفرغ التام له. وبالتالي يطرح الكثيرون سؤالا هاما. هل الأدب الاجتماعي ضروري؟ وما الذي يدفع الكاتب الى طرح منهج الرواية جانبا والتوجه مباشرة الى الناس. ومن أمثال ذلك أعمال "لا أستطيع الصمت " ، "جزر سخالين " ، "الوفاق "؟ هل هذه خصوصية روسية؟ فعادة ما ينحي الكتاب الكبار وراياتهم ويتخلون عن الابداع الأدبي ليتوجهوا مباشرة الى الدعية أو المواعظ على اعتبار أن التأثير الفني – الأدبي الخالص على المجتمع ليس كافيا بالنسبة لهم. وما لتالي يحاولون تغيير مجرى الأحداث عن طريق الممارسات الحياتية نفسها.
ان الأدب الروسي لم يكن أبدا في غنى عن الأدب الاجتماعي. وأعتقد أنه لا يمكن الاستغناء عنه إطلاقا ، لقد بدأ الأدب الروسي بالأدب الاجتماعي تحديدا، فمثلا "كلمة عن حرب ايجوريف " و" كلمة حول موت الأرض الروسية " ما هي الا أدب اجتماعي ، فكم كان تاريخنا صعبا ومأساويا، وكم كانت حياتنا متوترة ومشحونة ، وكم كانت فضاءاتنا عظيمة وشاسعة الأمر الذي جعل الكلمة الهادئة غير مسموعة ، ومن هنا فلا أحد من مبدعينا الكلاسيكيين تمكن من الاستغناء عن الأدب الاجتماعي، لقد ظل تشيخوف يشعر كما لو أنه متهم أمام المجتمع الى أن كتب "جزر سخالين وديستويفسكي" في "يوميات كاتب " أخرج نفسه من بين الأقواس كفنان ، وظهر كانسان روسي وكاتب عظيم بدون تحفظات ، ولو لم تكن "مختارات من المراسلات مع "الاصدقاء" لظل جوجول في الأدب عبارة عن عجوز رافض وحسب ، وانسان ذي روح غامضة حالكة – ولكن فجأة تتفتح هذه الروح بصفاء وسعادة في صلاتها التي لم تكن أبدا في الأستطراد الوجداني الذاتي وحسب ، وانما كانت في جوهرها استطرادا اجتماعيا – فثم كان جوجول الوطني عظيما حقا.
ان الفنان في عمله الأدبي يضع أبطاله في عالم مختلق قريب من الواقع ولكنه ليس واقعيا. وهذا العالم يسمح للفنان أن يتحدث عن الانسان والحياة بشكل أكثر عمقا واتساعا ، وبصورة حسية ملموسة ، وأكثر امتاعا وتشويقا مما هي عليه في الحقيقة ، ولكن عادة ما تأتي في ابدا عات الكاتب لحظات ، كما في حياة الناس مراحل ، تتطلب لا فنانا أو كاتبا، وانما شاهدا ومفكرا، وحاليا يمكن ذكر العديد من أسباب انصراف الناس عن القراءة قراءة الأدب بالذات ، وعلى ضوء حديثنا يمكن الاشارة الى سبب واحد هام ، وهو أن الحياة الآن أفظع بكثير ، وأقسى من تلك التي يقدمها الأدب ، والمسألة تتطلب وقتا من أجل التغلب على هذا التنافر.
نتذكر جميعا المؤتمر العام للكتاب ، الذي ثارت فيه ضجة عالية ونقاشات حادة بخصوص الكاتب والسياسة ، فهل يمكن للكاتب الروسي أن يكون بمعزل عن السياسة؟ أم أن عدم الاهتمام بالسياسة هو في حد ذاته سياسة بالنسبة لشرائح معينة من الكتاب؟ انني أعرف جيدا أن هذا الجدل يدور في ورح كل كاتب ، ولكن الكاتب لا يمكنه أن يجد أي شيء محترم في السياسة ، وفي نفس الوقت فالابتعاد عن السياسة أمر قاتل للموهبة. فهل أكون مخطئا اذا قلت أنه لا داعي الى تلك الاستجابات الفورية وردود الأفعال القوية على مختلف الأحداث السياسية ، وأن يتفرغ الكاتب فالنتين راسبوتين لأعمال أدبية جديدة يمكنها أن تكون أكثر تأثيرا على القاريء؟
يمكن أن تكون الفائدة أكثر للأدب ، ولي أيضا على المستوى الشخصي، فلا شيء يقضي على الانسان في هذا العالم مثلما يقضي عليه الصراع مع تلك القوى الخفية – الهائلة – التي ليس لها عنوان أو ملامح محددة. ولكن تعال لنتصور: في عامي 91-1992م لو لم أكن أنا وبيلوف ورازوف وفلا سوف وكوجينوف وكونيايف وبوندارينكو، تصور: أنه لو كنا قد ارتأينا جميعا أنه من المريح لنا أن نمارس فقط عملية الابداع الأدبي، فهل يمكن أن نتصور أي أفكار كانت الممكن أن تسيطر وتتسيد في روسيا الآن ، وبأي لغة كانوا سيجبرون روسيا على الكلام. فنتذكر معا: "الوطنية – صفة الأوغاد" (تشيرنيتشينكو). "روسيا قادرة على انجاب العبيد فقط " (يوري أفاناسييف). لنتذكر بأي سخرية وتهكم كانوا يتحدثون عن مقالتي المقدمة في الحرب الوطنية العظمي. ان كل ذلك كان قريبا من كونه أيديولوجيا الدولة / الحكومة والى ممارساتها. وكان من الطبيعي الا يسمح العديد من الأدباء بذلك ، وأن يقفوا معا ضده ، ولا أحد كان بإمكانه أن يحل محلنا في تلك المعركة. واذا كانت السلطة غير الوطنية بلا تحفظات – مضطرة اليوم للحديث عن الأفكار الوطنية ، فليس هذا بفضل جامعة هارفارد ، وانما هذا فضل ومأثرة صحف مثل "اليوم " و"الغد" ، انها مأثرتنا الجماعية ، ومأثرة هؤلاء الذين من أجل روسيا تركوا مكاتبهم ومختبراتهم.
ولكن ماذا عن الكتاب الذين قاتلوا في المقدمة ولم يعودوا من الحرب؟ أين كان من الممكن الاستفادة منهم بشكل أكبر؟ لا ، ان روسيا تعرف أكثر كيف يمكننا أن ندبر أمورنا ونتصرف ، وتعرف أكثر من يمكنها دعوته ، والى أين تبعث به.
معنى ذلك أن الأمر ليس مصادفة حين يلتف جميع المطالبين بالسلطة حول مسألة الوطنية ، بداية من يلتسين وتشيرنوميردين الى ليبيد وزيوجانوف ولوجكوف حتى تشوبايس.
انهم مضطرون لأن يكونوا وطنيين ، وخاصة تشوبايس. ولاسيما اذا كنا نتصور أن ذلك من صميم قلبه. ولكن أين كانت وطنيته عندما باع روسيا بعدة قطع من الفضة لهذا ولذاك مثل يهوذا.
عموما ففي الأدب الروسي يوجد شيء ملموس خلافا لأي أدب آخر، وهو أن الأدب عندنا كان دائما أوسع من الفن ، وكان تعبيرا عن مصائر الناس. هذا الأدب وجد ليس من أجل تسلية القاريء ، وانما من أجل لضمه في ، أو ضمه الى الجسد الروحي الوطني.
لقد اتفقوا في روسيا ، في العهود القيصرية ، وكذلك في المرحلة السوفييتية على أن الأدب لم يكن أبدا قضية خاصة وفردية ، وانما كان على الدوام يعيش في براكين السياسة ، يتنبأ ، ينذر، يلعن ، يفضح ، يمجد ، يبصر، كما أن الكاتب لم يكن أبدا انسانا فرديا منكفئا على ذاته ومعزولا. ولذا فقد كانوا يحترمونه ويخافونه. واضطهاد الأدب والتنكيل به في مختلف العصور يعتبر في نفس الوقت اعترافا قويا ودامغا به ، واثباتا لمكانته الاجتماعية الرفيعة. أما اليوم ، وخاصة في وسائل الاعلام – الديمقراطية – يطلق نداء غريبا جدا: الأدب لا يجب بالضرورة أن يكون محط اهتمام الناس جميعا، وأن الكتابة عملية ذاتية وخاصة تماما، وبالتالي فعدم اهتمام الناس بالطبع والنشر والقراءة شي ء طبيعي ، حيث أن الكاتب في النهاية يكتب بدافع ذاتي ومن أجل ذاته ويكفي أن يقرأ له عدة أشخاص وليس بالضروة كل الناس.
يمكن لوسائل الاعلام ، ولبعض الكتاب أن يتصوروا أنفسهم كما يشاؤون ، وأن ينادوا بأية مباديء يريدونها. ومع ذلك فلا يمكن أن تكون لهم أية علاقة بالأدب الروسي. فهم لديهم قلوب أخرى. وكلمات أخرى، وأصول أخرى، ومواهبهم تتصف بالتعالي والازدراء والسلبية ، أو في أحسن الأحوال تكون شخصياتهم الابداعية وانطلاقاتهم الأنانية بعيدة تماما عن التربة الوطنية الروسية ولا تتلاءم معها في ذات الوقت. ومن الطبيعي ، فمن أجل أن ينصبوا من أنفسهم ورثة للادب الروسي ، كان من المطلوب أن يعلنوا عن موته ، والآن على كل المستويات ، وفي المجموعات والشرائح وبالنسبة لجميع المواهب الابداعية يتكرر شيء واحد فقط وبشكل شرير ومغرض ، لقد مات الأدب الروسي (بمعنى أنه مات مثل التيار الروحي والأخلاقي الذي يصكك جذورا ضاربة في عمق مصير الانسان الروسي) ، لقد خبت المياه في بحر الأدب ، وصار هذا البحر- في وقتنا الحاضر – مجرد قناة رفيعة وجافة أيضا يمكن أن نرى فيها كاتبا أو اثنين لا أكثر، ولنتذكر معا، منذ عدة سنوات وقبل البدء من جديد في اعادة بناء معبد المسيح المنقذ على أنقاض حمام السباحة الشهير، تجمع هناك عبدة الشيطان والشاذون جنسيا وراحوا يمارسون طقوسهم الوضيعة ، وفعلوا ما فعلوه ، وجدفوا ما جافوه ، من أجل تلويث هذا المكان المقدس. ومع ذلك فقد ارتفع المعبد واعتلاه الصليب ، وذاب عبدة الشيطان والشاذون… وهذا ما حاولوا عمله مع الأدب الروسي ، أرادوا منعه ، ولكن دون جدوى فطالما هناك روسيا، فلسوف يكون هناك على الدوام أدب روسي.
روسيا القديمة التي تتجسد في وعيك تعتبر هي الملاك الحارس لروسيا اليوم ، تظهر دائما في أزمنة الانحطاط مثلما كان في الحرب الوطنية العظمي.. وهي التي تضفي الصبغة الروسية على جميع المشاريع الأممية – الكونية ، مشاريع التحولات الضخمة ، ومهما كانت الانقلابات التي جاءت من أعلى ، فروسيا القديمة – الحقيقية تسير في طريقها الخاص.. تعطي صبغتها المميزة للجان الاقليمية ، واللجان البلدية.. تنمو وتتأصل في الجيش ، وتتغلغل في الصواريخ والفضاء، تجرب الأسلحة وتشيد ميادين الرماية والمدن العلمية والمصانع ، ومع كل ذلك فالأدب الروسي كان هو مسمار الأمان لروسيا ولسانها المعبر، فقد جاءت ثورة 1971 م عام بالتروتسكيين الأمميين الى السلطة ، بأفكارهم حول الثورة العالمية ، وبأن روسيا يجب أن تختفي ، ومرت عشرات السنين ، وظهرت روسيا القومية /الوطنية مرة أخرى. يبدو أن ذلك سوف يحدث مرة ثانية الآن ، وسوف تقوم روسيا القديمة بتغيير مجرى الأحداث. فالسلطة العليا في عام 71 19 م كان من السهل القضاء عليها، وطار كل المشوهين من العاصمة سانت بطرسبورج وقتها الى باريس ولندن وبراج وهاربن مديرين ظهورهم الى "سمو" الامبراطور، ولكن روسيا القديمة جمعت امبراطورية روسية جديدة أكثر جمالا وعظمة ، والآن ، مرة ثانية ، كان من السهل القضاء على السلطة السوفييتية ومرة ثانية تعلو أصوات الكآبة والانكسار والذعر، مرة ثانية يبدو القطاع المهيب للدولة منزوع الارادة من أجل المقاومة..
في عام 1917 ، وفي 1991م جاءت الى السلطة مجموعات علوية غير راضية ، ولكن على الأقل ففي عام 17 19م كانت هناك سلطة لديها أفكار، أما في عام 1991م فلم تكن هناك سوى المطامع والنزوات ، في عهد بريجنيف تحول الحزب من حزب شيوعي الى حزب وصولي نفعي – انتهازي – يحتوي على مجموعة الليبراليين (الطابور الخامس) التي لم تستطع الصمود فهربت تجر من خلفها ذيول العار. فمثلا يلتسين وياكوفليف وجيدار وبوربولس وتشوبايس كانوا جميعا مشوهين شيوعيا، ولا مبدئيين كونهم مع جناح ما على حد سواء مع جناح آن مما جعل منهم مجموعة واحدة متحدة. وهذا أمر لا يثير الدهشة اطلاقا. لكن الخارج من نطاق الفهم هو كيف تقع مثل هذه الدولة الضخمة تحت سيطرتهم. ومن البديهي يمكن تصور التفسيرات ، مع أنها قد طرحت مسبقا ولكن هذه التفسيرات نفسها لا تساوي أي شيء بالمقارنة مع ما حدث ، فلم يحدث أبدا أن كانت روسيا القومية وفي تاريخها كله ، بهذا القدر من غياب الارادة وخاصة مثلما حدث في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات.
ولكن كيف ترى أنت مشاركتك في السلطة ، ومشاركتك في مجلس الرئاسة في فترة حكم جورباتشوف؟ هل كان ذلك مفيدا بالنسبة لك ، وبالنسبة للمجتمع؟ من الممكن تخمين أحاسيسك حينما وافقت على الاشتراك في مجلس الرئاسة: لابد أن يكون هناك انسان فعال ومؤثر في الاتجاه القومي. فهل نجحت هذه المحاولة؟
لم تنته مشاركتي في السلطة بأي شيء. كانت دون جدوى على الاطلاق. انني بكل خجل أتذل حواراتي مع جورباتشوف (ذهبنا مرتين الى جورباتشوف ، أنا وفاسيلي بيلوف. وتحدثت أنا معا ثلاث مرات على انفراد) حول التحول الثقافي والأخلاقي الذي سبق التحول الحكومي ، بدا لي أنني قابلت تفهما كاملا ولكن لم يتغير أي شيء. وأنا بالمناسبة ، غير مؤمن اطلاقا بأن جورباتشوف منذ البداية ، مع وصوله الى المكان الأول في الدولة ، قد فكر في عملية تدمير الدولة ولكنه كان أقل مما فكر فيه بخصوص "البيريسترويكا" (بالطبع ليس هو الذي فكر فيها، وعموما ففي أغسطس ا 199م أظهر أيضا أنه جبان)، وأخذ يسلم موقعا بعد آخر، بالاضافة الى أنه لم يكن واثقا في قدراته ، وكان أنانيا ولديه احساس عال بالذات ، وقد أدارت رأسه فكرة المجد لأشهر انسان في العالم ، ومن أجل ذلك ضحى مرة أخرى بمصالح روسيا عندما ضحى بالاتحاد السوفييتي ، وبحلفائه الذين حذروه من الأخطار ولدرجة أنه ضحى حتى النهاية – بل وبصق على الذين كانوا في داخل جهازه وخارجه أيضا. لقد ذكرتني بالتأثير القومي، بمعنى تأثير النخبة القومية في تلك الفترة ، وهذا هو المضحك في الأمر حيث إنها لم تكن موجودة بشكل متكاتف في الجهاز الأعلى للسلطة ، ولنتذكر مؤتمر الكتاب في 1989. والذي تم فيه اختيار ما أطلق عليهم نواب الشعب عن طريق القائمة لنتذكر كيف جاهد الليبراليون بأظافرهم وأسنانهم لشق طريقهم الى هذه القائمة ، وبالتالي أزاحتنا منها، ولقد حاولوا دفعي بالقوة الى هذه القائمة في حين لم يوافق فيكتور أستافيف مباشرة ، أما فاسيلي بيلوف فراح يفكر (وانضم الى قائمة أخري). وبالنسبة الى يفتوشينكو وتشيرنيتشينكو فلم يتمكنا من المرور الى هذه القائمة ، ولكنهما تمكنا من التحرك على مستوى الأقاليم ، ومن البديهي فقد حالفهما الحظ ، انني أود بذلك القول أن القوى اللاقومية كانت تعد لانقلاب وأحسوا وقتها بالامكانيات المتوافرة لديهم ، لقد كنا نناقش ونتحدث عن العدالة ، أما هم في ذلك الوقت أسسوا مجموعة دولية تخريبية وديمقراطية ، تماما ، من أجل انهيار الاتحاد السوفييتي.
ولكن الانشقاق الأدبي قسمكم الى قطبين متباعدين والى أدبين لا يمكن لهما أن يتلاقيا أبدا. هل بالفعل كان حتميا؟ وعلى الرغم من أنها كانت عملية منظمة ، بالطبع لم تكونوا أنتم الذين نظموها وانما يفتوشينكو وأتباعه ، فهل من الممكن الاستمرار على هذا الحال؟ وهل الأكثر راحة أن يعيش الانسان في وسطه فقط ويلتقي مع من يماثلونه فقط في الفكر، أما من الضروري أن تقوموا بعملية تقارب جديدة ، وادماج جديد لاتحادي الكتاب؟
الانشقاق كان حتميا ، مثله مثل أي شيء أثناء أية ثورة. وقد جاء في اتجدد معاد للقومية بأحداث 1989، 1991م. فإذا كان الجزء الأول من الأدب كونيا، استخف بكل ما هو قومي، وخاصة بكل ما هو روسي ، فإن الجزء الثاني مثل مضمون وروح هذا القومي، فأية أخوة يمكن أن تكون في ذلك؟ ففي التليفزيون جعلوا كل من تشيرنيتشيكو ويفتوشينكو يتناوبون في دوريات من أجل القضاء التام على أي تيار يمكن أن يشير ولو من بعيد الى الاتحاد السوفييتي الملعون ، وروسيا الملعونة ، وبعدها راحوا ينكلون بنا جميعا، لقد كان الانشقاق في الأدب حتميا ولا مفر منه. وأعتقد أن ذلك مجد للغاية. فكل حزب أدبي أخذ طريقه والآن لا أحد يخفي مبادئه وأهدافه ، ولا أحد أيضا يخلط بيننا. ان كلا منا يعبد إلها مختلفا، ونحن الآن قد بدأنا الافتراق كل في طريقه، ربما يكون ذلك مبكرا ولكنه سيتحقق. عموما فبيننا وبينهم روسيا المدمرة والمكللة بالعار، مع المسعورين لن يتحقق شيء، ولكن لدينا علاقات جيدة مع الكتاب ذوي وجهات النظر المعتدلة ، ومع المواهب غير الشريرة ، وأعتقد أنهم لم ينحازوا الى أية مجموعة مهما كانت ، ومهما كان الأمر.
ولكن ماذا يحدث الآن مع الأدب نفسه؟ لماذا لا يتعاطى أحد الأدب الآن تقريبا؟ أين ذهب ملايين القراء؟ لماذا ضاعت الرغبة لدى الكثيرين في الكتابة؟ هل شعر الكتاب باستنفاد الأفكار وتلاشيها، وأنه لا يوجد ما يستحق الكتابة عنه ، أم أنهم لا يعرفون ماذا سيحدث غدا، ولا يعرفون الى أين تسير روسيا، وماذا – بعد انتهاء حضارة كاملة حضارة الاتحاد السوفييتي – سيحدث بعد ذلك – الآن لا أحد يعرفه هل ما هو موجود حكم ملكي أو جمهورية برلمانية ، أم ديكتاتورية قومية أم استعمارية ، لا يمكن الآن التكهن بأي شيء ولو حتى لمدة ستة أشهر الى الأمام ، الكتاب لا يعرفون الى أين يمكنهم ارسال أبطالهم ، ولا يعرفون في الوقت نفسه لغة جديدة.
من أجل أن يعمل الكاتب لابد أن يشعر بالحاجة الى كتبه. والأدب – عملية مزدوجة تجري في علاقة تبادلية بين الكاتب والقاريء. الكاتب قد أفرغ يديه لأن القاريء قد رفع يديه عن الكتاب. خلال عدة سنوات انغمست روسيا تماما في مستنقع من العفن والعار والخوف ، والألم المتواصل. ولن نتحدث عن الصراع المستمر من أجل الحصول على لقمة العيش ، ولكن الجو المؤلم للدولة ، الذي يعذب الانسان ، لا يتيح الفرصة للقراءة ، هل تلاحظ كيف تغير أسلوب الكتاب ، ولغة الخطاب؟ لقد أصبحت لغة قلقة متوترة ، مضطربة وغير انسيابية ، وكل شي ء ليس في مكانه ، بما في ذلك الروح والقلب معا. اضافة الى أن القاريء أصبح يخاف الكتاب ، وليس صحيحا أنهم نقلونا كليا الى منظومة قيم وأذواق أخرى، فالوقاحة وعبادة الشيطان والقسوة والرياء، والكذب عن روسيا، والأصنام الجديدة في رداء قطاع الغرق والمجرمين والمومسات والأشكال الأخرى من الشذوذ لا يتقبلها القاريء الروسي. والسوق يطرح عليه كميات هائلة من هذا الأدب بالتحديد، وتدعمها منظومة الاعلانات وما يقف وراءها من مؤسسات وجهات ضخمة مشبوهة ، فماذا تريدون من القاريء! انه يفعل الشيء الصحيح برفضه هذا الادب ، ويحجبه الثقة عنه كله باعتباره ثمرة فاسدة في سلة واحدة مع غيره ، وسوف يبدأ القراءة بمجرد أن تعود الحياة الى شكل أكثر هدوء وطمأنينة ، وبمجرد أن يفصح الأدب عن عظمته ورسالته ودوره في مصائر الناس ، وعن حبه وعذاباته ومعاناته تجاه الانسان. سوف يعود القاريء، ولكنا سيكون قارئا آخر، ذلك القاريء الذي يحتاج الى أشياء أخرى من الأدب ، أفكار أخرى، ونوعية أخرى للتعامل مع الحياة ، فبعد عام 1917م كان على الأدب أن يؤكد نفسه ، فظهر شولوخوف ويسنن وبعدهما بولجاكوف وبلاتونوف ، هؤلاء الذين كان على القاريء أن يتعامل معهم جميعا، وبالتالي فمن المفروض علينا أن نكتب اذا كنا نريدهم أن يقرأونا، فروسيا لا يمكن انتزاعها عن الكتاب.
تقولون أنه بعد الثورة ظهر شولوخوف ومايكوفسكي ويسنن وبلاتونوف وبولجاكوف هؤلاء الذين كان يقبل عليهم القاريء. فهل توجد اليوم أسماء جديدة يمكنها أن تجتذب القاريء؟ وبعد أكثر من عشر سنوات من البيرسترويكا ، هل يوجد في روسيا جيل جديد من الأدباء الروس؟ أم أنه مجرد احساس بأن هناك أدبا روسيا جديدا؟
أنا لا أعرف هذه الأسماء. وهذا لا يعني أنها غير موجودة. أعتقد أن الجيل القادم سوف يأتي بعد يوري كازلوف وألكسندر سيجين. هذا الجيل سيكون جيل فنانين يصبون في مطلع القرن الثالث والعشرين ، ويدركون تلك اللوحات والحقائق التي لم يتوافر لنا ادراكها.
وعموما سوف نعود بعد ذلك الى قضية القاريء الروسي ، ولكن كيف ترون الآن مكانة الكسندر سولجينيتسين؟ وهل هو ممتع وهام بالنسبة لك؟
ان أية قيمة كبيرة تثير من حولها آراء مختلفة ، وتصنع علاقات صعبة ، والكسندر ايسايفيتش قيمة ضخمة جدا، وهذا ما لم أشك فيه أبدا – منذ ظهور "يوم واحد في حياة ايفان دينيسوفيتش" وحتى آخر لحظة. ومن الرائع أنه عاد الى روسيا ، ومرة ثانية يعيش فيها، فمن أجل أن نسمع هذه الأرض الحبيبة ، حقيقتها وألمها ، يجب أن ننشأ ونعيش فيها ، وبقلوبنا. سولجينيتسين اليوم ليس هو سولجينيتسين اذا ما قارناه بذلك الرجل العائد الى الأرض الروسية بعد عشرين عاما من الفراق. أن تقويماته ومقولاته ، وآخر مقالاته تتحدث كلها عن ذلك. واتضح أن الذي أطاح بالشيوعية هو اليوم في السلطة ، وهما معا يطيحان بروسيا. أن سولجينيتسين لم يعترف بذلك مثل فلاديمير مكسيموف ، انها علاقة تبعية مباشرة وأعتقد أنه يفهمها جيدا. ولكن من ناحية أخرى يجب الاتفاق مع عمله المكتوب بعنوان ،اكيف يمكننا بناء روسيا»، فالزمن أثبت أنه كان على حق.
ولقد دعا الى الاتحاد الفيدرالي بين روسيا وبلا روسيا وأوكوانيا وشمال القوقاز. ولكن ليس لكم اليوم الا أن تحلموا فقط. واتضح فعلا أنه كان على حق في تكهناته.
ومع ذلك فهناك "النقاط " والمواقف التي أواصل فيها خلافي مع سولجينيتسين. أنا لا أستطيع أن أفهم ، أو أقبل تعظيمه لكتاب (تيار "الدون الهاديء")، فبفضله هو تم توزيعه في جميع انحاء العالم ، ومن ثم عادت "الأغنية " القديمة بخصوص اثارة الشكوك حول شولوخوف. في روسيا أدب عظيم ، ومهما كان عدد الكتاب العظماء فيها، فلا يجب أن يشعر أحد منهم بالضيق أو المزاحمة ، فلكل يوجد مكان.
أنا لا اتفق معه بخصوص الشيشان ، اننا باعطاء الشيشان نعطي شمال القوقاز كله. وبالإستغناء عن شمال القوقاز ، فإننا لا نصب الماء على البارود وانما نصب البنزين على النار، في جميع الانفصاليين من الفولجا حتى سيبريا، وبذللك نضع مستقبل روسيا موضع الشك.
هل تقصدون مخاطر الحرب الأهلية؟ أم أن أسباب هذه المخاطر في طريقها الى الزوال.
يساورني احساس بأننا قد تجاوزنا مخاطر الحرب الأهلية ، كان من الممكن توقع ذلك في عام 1993، وبعده أيضا أما الآن فذلك بعيد عن التصور. ان الجميع مضربون عن الطعام (وأقصد هؤلاء الذين يمكنهم المطالبة بحقوقهم)، والجميع – أيضا – يتم اسكاتهم بهبات ومنح لا تسد رمقهم ، وفي الحقيقة غير مفهوم ، هل هذه حكمة ، أم غريزة الدفاع عن النفس ، أم هو فقدان القدرة على الحياة ، القضية تتلخص في أن الغرب لو أمرنا باقامة حرب أهلية فسوف ننفذها بالطبع ليس من أسفل ، وانما من أعلى وبالتالي سيحصل يلتسين على جائزة نوبل العالمية.
ان القوى الشعبية والقادة ، رهن نداء اللحظة التاريخية الحتمية ، ولكن لنعتبر الآن أنها لم تحن بعد. يمكن للذاكرة أن تستعيد من التاريخ 250 عاما من الاحتلال التتاري لروسيا. ولكن ماذا حدث؟ لقد هبت روسيا ، هب الروس من تحت الأرض ، وجدوا السلاح والعدة والعتاد، واستعادوا روسيا، ان روسيا "التحت أرضية " غير نائمة ، انها تحافظ على نفسها بالصبر والاحتمال ، وهي دائمة كانت تنقذ نفسها عن طريق المعاناة.
فالنتين جويجوريفيتش ، أنت من سيبيريا ، وهذه المنطقة الغنية تمتلك تاريخا وثقافة وتقاليد: لا يستهان بها، وفي نفس الوقت يقطنها سكان ينتمون لقوميات عديدة. وما نحن نسمع مؤخرا عن تناقضات عديدة – يمكن أن فطلق عليها أفكارا انفصالية – مع الجزء الأوروبي من روسيا. فما هي الأخطار المحدقة بها على وجه التحديد في إطار ما يحدث لروسيا كلها؟ وكيف ترون مستقبل سيبيريا مع روسيا؟
للأسف ، فهذه المشكلة موجودة فعلا، ان سيبيريا كانت على الدوام مجرد مستعمرة «مصدر المواد الخام " – في البداية للامبراطورية الروسية ، وبعد ذلك للاتحاد السوفييتي. وعلى الرغم من كون هذا الاقليم يمثل جزءا كبيرا من روسيا ، الا أن سكانه قليلون جدا، ولذلك ، كما يبدو لي ، فجميع محاولات غزو واستيعاب سيبيريا لم تأت بالنتائج المطلوبة ، ولأن سيبيريا متعددة القوميات ، فالتوجهات الانفصالية الحالية تجد دعما وتشجيعا ، وهذا يتم تحريكه بالطبع من أعلى: حيث أنه ما يزال حتى الآن يجري التعامل معها كمصدر للمواد الخام كما كان في السابق ، ومع ذلك فأي شخص سليم التفكير يمكنه أن يدرك أن روسيا لا يمكنها الحياة بدون سيبيريا كما أن سيبيريا لا يمكنها أن تعيش بدون روسيا.
ان موسكو ، كمركز ، تحاول بكل الطرق تقوية ودعم التوجهات الانفصالية في سيبيريا. ورغم أن سيبيريا كانت على الدوام معها بهذا القدر من الغدر والشراسة والاحتقار، انهم يبيعونها على المكشوف ، ويتاجرون بكل شيء فيها، لقد كانت سيبيريا قلعة ضخمة لكل شيء بما فيها الصناعات الثقيلة ، فعلى سبيل المثال كان أضخم أربعة مصانع للألومنيوم من خمسة في العالم تنتمي الى روسيا – سيبيريا، وطبعا لا ينتمي أي منها حاليا الى روسيا، الآن يباع كل شيء من المنبع: الذهب ، النفط ، اليورانيوم ، الزئبق ، الغابات. ان حكام المقاطعات في حالة هلع ، فكل ما ينتمي الى المقاطعة ينتمي على نحو ما الى مواطني اسرائيل ، ومنذ فترة تقدمت أمريكا، مرتين ، باقتراح لشراء سيبيريا بالكامل على غرار ما حدث مع ألاسكا. من هنا تأتي التوجهات الانفصالية بمحاولة بيع سيبيريا، الا ترى أنه من الأفضل للسلطة الفيدرالية أن تتخلص بسرعة من تشوبايس وأتباعه من أن تبيع سيبيريا؟
تجرى حاليا محاولات كثيرة حول فكوة قومية من أجل روسيا يمكنها أن توحد جميع الشعوب الناطقة بالروسية. فهل يمكننا الاطلاع على موقفكم تجاه هذه الأفكار، وأيها تناصرون؟
لو تأملنا تاريخ روسيا والدول الأخرى، – نجد أن الأفكار الوطنية كانت دائما موجودة وقابلة للتفعيل ، بما فيها أفكار المصالحة الوطنية. والسياسيون الذين كانوا يرفضون حتى وقت قريب هذه الأفكار، مضطرون اليوم الى البحث عن أفكار قوية عامة موحدة. اذن فما هي تلك الفكرة القومية؟ انها قبل كل شيء فكرة استقلالية روسيا، وليست على الاطلاق وسيلة استعمارية لترسيخ دورها في العالم كما يبدو للبعض. وعندما ،تحدث عن الفكرة القومية من أجل روسيا، فنحن نقصد بداهة كل الشعوب الروسية في مجموعها. ولا يجب أن يغيب عنا أنه في روسيا حوالي 80% من السكان من أصل روسي ، وهم كما يوضح التاريخ ، قادرون على الحياة بجوار الشعوب الأخرى، والطموحات الاستعمارية لدى روسيا لم تكن موجودة أبدا، وعلى الارجح فقد كان منوطا بها دور المبشر والمنور الذي ساعد العديد من الشعوب الروسية على الحياة.
و لكن لن تؤدي بشكل عام أية فكرة روسية عامة.قومية أو تاريخية أو ثقافية / اثنية – الى عملية مساواة سطحية / شكلية توتاليتارية حيث تصبح الأولوية لشيء ما رئيسي وكل ما عدا ذلك في الدرجة الثانية؟
عندما نتحدث عن تلك الفكرة القومية ، فهذا فقط بمقتضى الحالة المرضية الحالية للمجتمع وهذا كما يقال عصا بطرفين: فهي حتى مستوى معين دواء للمريض ، وضرر للانسان الصحيه. وعندما نجتاز الاصلاحات ونقف على أقدامنا، فسوف يتعامل الناس مع المشكلة القومية بشكل مختلف تماما وليس على نحو حاد كما يحدث الآن ، وعموما فهذه مرحلة لابد من المرور بها. ان الأفكار الوطنية تسمح باعادة ادراكنا لأنفسنا في ضوء تاريخنا وثقافتنا وأدبنا، وهذا يعني في الاقتصاد أيضا- عماد حياة الدولة.
نعود مرة أخرى الى الثقافة والأدب بشكل عام ، والى القاريء الروسي في عصر الروس الجدد بشكل خاص ، ان قضية الكاتب والقاريء لا تشغل تفكير الروس فقط ، وانما تشغل تفكير الشعوب كلها. ولكن على اعتبار أن الشعب الروسي منذ سنوات فقط كان يعد أحد أكبر الشعوب.المحبة للقراءة ، ان لم يكن أكبرها على الاطلاق وهذا، من مشاهداتنا نحن الأجانب في روسيا، فماذا حدث بالضبط وماذا يحدث؟
ربما يكون من الضروري تحديد أننا لا نقصد ذلك القاريء الذي يعيش دون صدق أو اخلاص: فليس لديه أي شيء، ولا توجد لديه أية علاقة مع أي شيء سوى الافرازات الفيزيولوجية ، وبالتالي فلا جدوى من انتظاره ، اننا نتحدث عن القاريء الذي يمتلك ذوقا صحيحا وقواعد صحيحة ، عن ذلك الانسان الذي يلجأ كسابق عهده الى الأدب كوجبة للعقل والقلب على حد سواء.
أجل ، لقد أصبحوا يقرأون أقل بكثير وبشكل مفاجيء بعد الازدياد المطرد في نهاية الثمانينات. ان هذه الـ"مفاجيء" وهذه السرعة الخارقة لاهمال الكتاب وفقدان الرغبة في التعامل معه ، تفصح عن شذوذ هذه الظاهرة ، وعن رعب ما فظيع من مواجهة الكتاب ، ان الرعب من مواجهة الكتاب بالذات ، هو ما يجب أن نعترف بأنه أحد الأسباب الهامة – كما قلت سابقا – في الهبوط الحاد لعدد القراء. أما السبب الرئيسي هنا، فهو بالطبع فقر القاريء الروسي. وعدم قدرته على شراء كتاب أو الاشتراك في مجلة ، والسبب الثاني هو انكسار الروح من جراء انفجار "المواد السامة " تحت غطاء القيم الجديدة ، وتلك الحالة التي لا يمكن التفكير في ظلها الا في انقاذ النفس فقط. والسبب الثالث هو: ماذا يقدم سوق الكتاب؟ فليس لدى كل قاريء الحنكة والخبرة بمعرفة الأسماء، وحتى اذا كانت لديه تلك الحنكة والدراية ، فهو – مثلا – يأخذ الكتاب الجديد لكاتبه المحبب فيكتور استافيف. وهناك يجد السباب والشتائم المقذعة ، ومشاعر التأفف والنفور تجاه الانسان الذي أوقعه مصيره في الشيوعية. وربما يأخذ عملا لمؤلف مشهور مثل سوفوروف ليجد فيه مكاشفة عن أن هتلر هو الذي لم يبدأ الهجوم على بلادنا عام 1941م ، بل نحن الذين تعدينا أولا على ألمانيا. وها هو النقد "الديمقراطي" الذي أخذ يطنطن في أذني فيكتور يروفيف حول "جميلاته الروسيات " ، وفي النهاية نرى أنة تلزمنا رجولة غير عادية ، ليس فقط لقراءة مثل هذه المؤلفات وانما أيضا لحفظها في منازلنا. لدى القاريء انطباع لا ارادي بأن جميع الأعمال الأدبية الحالية. أو تقريبا كلها، على هذا النحو، وبالتالي فمن الأفضل عدم التعرف أو الاطلاع.
ان القاريء يذهب الى المكتبة ، أية مكتبة ، فيقولون له: هناك اقبال كبير على القراءة كما في السابق ، ليس طبعا مثلما كان قبل عشر سنوات ، ولكن على أية حال لم يكف الناس عن القراءة تماما. ونرى الهزليات الأمريكية تقدم للأطفال في الوقت الذي أصبح فيه جورج سوروس يقوم بإصدار وتوزيع مجلاتنا مثن "الراية " و" العالم الجديد" و"نيفا" و"النجم "، وبالطبع فالقاريء يصنع خيرا عندما يبتعد عن الآثام ويتجه الى الكلاسيكيات.
و لكن ما رأيكم فيما يقال عن الحملة المكثفة المتواصلة ، وبعيدة المدى لابادة الثقافة الروسية؟ على من الممكن ايقافها؟ والى أي مستوى وصلت نتائجها؟
اذا كانت السلطة قد ألقت بالجيش في مهب الريح ، وبالدفاع ، والعلوم، وتجري اصلاحات التعليم على أنماط غربية غير مناسبة ، وغير متوافقة مع متطلباتنا الوطنية ، فعلى أي شيء يمكن أن تستند ثقافتنا الوطنية؟ لم يعد لدينا الا ثقافة واحدة ، ثقافة التهليل والتطبيل ومناهضة السلطة ، ان كل شي ء يموت ويفنى بالتدريج ، يذهب الى العدم ، المكتبات ، النوادي، انهم يحاولون ابعاد مكتبة نيكراسوف العريقة من مكانها في موسكو، بل والتخلص منها نهائيا من أجل اقامة ناد ليلي ، لقد هلكت نصف ثقافتنا تقريبا ، والباقي في حالة يرثى لها، وما يشغل وزير ثقافتنا حاليا هو كيف يعود الى ألمانيا ما غنمناه في الحرب العالمية الثانية طامعا بذلك في الحصول على جائزة «أفضل ألماني" أو على الأقل "ألماني العام " ، لكن هل يمكن تعويض الخسائر؟ بالطبع مستحيل ، ومع ذلك فروسيا غنية بثقافتها ، ولو وفقنا في اعادتها الى حالتها الطبيعية ، فلسوف تبدأ مرة أخرى في الغناء، والتحليق ، وسوف تساهم بثروتها ليس في المزادات وانما من أجل الثراء الروحي للوطن.
وكم أود هنا أن أذكر بأن أطول ذاكرة لا ترحم ليست فقط لدى التاريخ (على الرغم من أنه يمكن اصلاح التاريخ أو اعادة كتابته)، وانما لدى الثقافة ، ولسوف يكون لديها ما تتركه لأحفادنا عن زمننا الملعون ، ان بطرس الأول الذي يتشبه به رئيسنا ويحاول أن يساوي نفسا به ، قد اشتهر في التاريخ على أنه مصلح روسيا، وأنه فتح نافذة على أوروبا، لكنه مع ذلك يعرف في الذاكرة الشعبية بـ"عدو المسيح » ، أو «المسيخ الدجال " الذي حطم دون رحمة العقيدة والعادات والتقاليد ، وسوف تمر ثلاثمائة سنة وسيبقى ويظل المسيخ الدجال في الذاكرة الشعبية.
فالنتين جريجوريفيتش ، كيف تري نفسك: كاتبا سوفييتيا أم روسيا؟ هذا على اعتبار أنك كتبت معظم انتاجك في المرحلة السوفييتية؟ وكيف ترون مفهوم الأدب السوفييتي؟ وكيف تقومونه؟ ففي رأيي الشخصي أن كلا من شولوخوف وليونوف – على سبيل المثال – كاتبان ليس فقط روسيين ، وإنما سوفييتيان أيضا.
انني أرى نفسي دائما ، وفي أي حال من الأحوال ، كاتبا روسيا، فكلمة سوفييتي لها طابعان: أيديولوحبي وتاريخي، لقد كان هناك عصر بطرس ، وعصر نيكولاي، والناس الذين عاشوا فيهما كانوا بطبيعة الحال ممثلين لهما. لم يرد في ذهن أي أحد أن يرفض عصره. وبالضبط هكذا نحن الذين عشنا وأبدعنا في العصر السوفييتي أطلقوا علينا كتاب المرحلة السوفييتية. ولكن الكاتب الروسي أيديولوجيا ، وكقاعدة ، اتخذ موقف العودة الى روسيا القومية التاريخية في حالة اذا ما كان غير مرتبط بالحزب. وأعتقد أن الأدب في الفترة السوفييتية وبدون أية مبالغة استطاع أن يحتل أفضل المواقع في العالم. ولأنها كانت أفضل ، فقد كان عليها ، من أجل تجاوز الصراع الأيديولوجي، أن تظهر قدرتها الفنية الكية الى جانب قوة النهوض الروحية المنبعثة من الحياة القومية. والأدب مثل أية قوة حياتية يتطلب المقاومة من اجل أن يكون واضحا وجليا وقويا، وهذا لا يعني بالضرورة مواجهة الرقابة (عن الرغم من انني كنت على الدوام ومازلت أقف الى جانب الرقابة الاخلاقية أو البوليس الاخلاقي – وليسمها أي أحد كما يشاء)، ولكن يمكن ان يكون مواجهة الميكانيزمات الخفية المضادة مثل الرأي العام. وعلى سبيل المثال الميكانيزم الحالي الذي يرى أن اللص والمومس هما أكثر الناس احتراما، والذي يمنح الخائن شهادة تقدير. وبالمناسبة ، فالرقابة السوفييتية صنعت من الكسندر سولجينيتسين قيمة عالمية ، أما الافكار " الديمقراطية" الحالية فقد جعلته اهم وصنعت منه قيمة قومية.
بمناسبة الرقابة ، في زمن ما اشتكى الجميع – يساريين ويمينيين – من هيمنة وطغيان الرقابة. وفي الواقع ، فاية رقابة تسيء دوما وبصورة فظيعة لاي شكل من أشكال الابداع. ويقال أنه لا توجد حاليا رقابة. فهل «عاقتك الرقابة في السابق؟ وهل منحتك الحرية الحالية شيئا ما ملموسا؟ هل هناك ما لم تتمكن من قوله في أعمالك بسبب الرقابة ، في أي من المرحلتين؟ ومن ناحية أخرى هل تري معي أن الرقابة قد عودت المبدع على الطاعة والنظام بارغامه على التعبير بشكل محدد عن كل ما هو خاضع للرقابة؟ فهل تمكنت من قول كل ما تريدا بوسيلة ما خفية؟
بالطبع كل ذلك ممكن. ففي روسيا القيصرية كانت هناك رقابة ، ومع ذلك فالأدب كله تقريبا كان في اتجاه "النقدية الواقعية " و" الديمقراطية الثورية ". وهو الأدب الذي قام بدور كبير. في تغذية العقول بالأشياء الثورية. اما الرقابة السوفييتية ، فلم تقف ضد فيكتور استافيف عندما كتب اعظم كتبا. انها لم تكن لتسمح برواية مثل "الملعونون والمقتولون. وفي الحقيقة فقد كتب عن الحرب في هذا الكتاب بشكل غير معقول ، شرير، وفقط كان الشر والغيظ ، وأيضا اليأس ، كما أنه وضع بعض المفاهيم في دائرة الشك ، مثل مبدا "الوطنية "، و" الحرب الوطنية ألعظمى». ومن المعروف أن ليف تولستوي لم يكن يعترف بمبدا «الوطنية " ولكن روايته "الحرب والسلام " وخصوصا موقعة بارادين ، تفصح عن عظمة ومجد الجندي الروسي ، ولا يوجد في أدبنا الروسي رواية "وطنية " أعظم من هذه الرواية ، وقد تم وضع رواية "أرخبيل الجولاج " في اطار هذا الأدب الوطني لما فيها من آلام حول ما حدث في روسيا، وليس ابدا لما فيها من شماتة وتشف.
لقد كنا نشكو جميعا من الرقابة في الفترة السوفييتية ، ورغم ذلك فقد كان هناك ادب ، وأي أدب ، الرقابة كانت تقف عاجزة امام الفنية العالية والرفيعة. لقد عرفنا جيدا أنه من اجل أن تقول مقطعا ما يمكنه أن يفلت من تحت سلطة الرقابة ، كان يجب أن تقوله بشكل جيد، وليس بشكل عاري أو عادي، عليك ان تشفره من أجل الرقابة ، وتترك الباقي على القاريء. وأعتقد ان هذا هو أحد شروط الابداع الأدبي – هو أن تقول بشكل جيد. وعموما فالقارت ، لم يكن يقرأ القشور، وانما كان يتعمق ويتوغل ويهتم جدا، ويدرك ما هو موجود بين السطور، وأحيانا كان يستقري، النص بنفسه.
كنت اود ، قبل ان ننهي حديثنا ، ان اسألكم عن النقد الادبي في روسيا، هل هو موجود في الوقت الحال؟
يوجد نقد أدبي، نعم ، فهناك فالنتين كورباتوف وفلاديمير بوندارينكو وليف أنينسكي، وآخرون ، فهم يقومون بكتابة يوميات نقدية وملخصات ، يعرضون الكتب ، يقدمون الكتاب الجديد، ولكن ليس هناك تلك الحركة النقدية التي من شأنها التأثير على الذوق العام ، والتي يمكنها 1ن تكون صدى للراي الشعبي، ليس هناك ذلك النقد القادر على التقدم أمام الادب والتأثير على مساره، ان ذلك النقد غير موجود حاليا، ولا يمكنه ان يوجد في ظن فوضى الاتجاهات والمدارس الموجودة الان.
أشرف الصباغ(كاتب من مصر يقيم في موسكو)