الجلسة الأولى
القاعة الواسعة ، والمزينة . من كل جانب كأنها بقايا أساطير ألف ليلة وليلة، القاضي بلحيته الكثيفة يقبع وراء طاولة مرتفعة ، من وراء نظارته السميكة أطال النظر في الجالسين .. هو واقف كالعصفور الجريح وسط غابة من الصقور يحسبها تنقض عليه اللحظة قبل التي تليها.. ينتفض القاضي مماثلا بطريقة درامية :
– لماذا سرقته؟
– لم أسرقه.
– لكن هناك العشرات شهدوا بأنهم راوك تسرقه :
-لم يشاهدني أحد أسرق شيئا.
– اذن لماذا – تعتقد – انهم فعلوا ذلك؟!
……………………………….
يصلح القاضي جزءا من هندامه الناصع البياض ، ويرتد الى الوراء قليلا على كرسيه الكبير رافعا نظارته قليلا يتفحص الواقف في الاطار الخشبي.
– الاعتراف أفضل لك ، يجب أن تكون مواطنا صالحا كالبقية .. لماذا سرقته ؟!
– أنا لم أسرقه وانما .. أخذته .
سرت همهمة بين الجالسين وراء الطاولات ، الطاولة الكبيرة المزخرفة ، والأخرى الجانبية ، وشيء مختلف بين من هم أمامها.
– ما الفرق بين السرقة والأخذ؟!
– ………………………..
– لماذا تجمد لسانك ؟ .. لقد أخرسك الحق .
– …………………………
يلتفت القاضي الى اثنين عن اليمين والشمال يكتبان افادة ألمتهم ، وحين تأكد أن أقلامهم مستمرة في الكتابة ابتسم حتى رأى الجالسون أسنانه الصناعية الجميلة ، نظر الى المتهم متهكما:
– من يسرق الشيء الصغير يمد يده الى ما هو أكبر.. لابد من قطع يدك .
فجأة انفرجت اساريره . ، وبدا كأنه يريد أن يفتح فمه ، الا آن سعلات القاضي تواصلت بشكل يدعو للشفقة ، وحين أنهى نوبة السعال ، كانت عيناه مفزعتين وحشرجة في صدره تتردد كالعاصفة .
– يا سيدي قلت انه كان شيئا صغيرا، وكل الشهود وصفوها بالكارثة ؟!
– أرى فصاحة قد حيت عليك .. ما أخذته ليس صغيرا، انه شيء غال ، كان سلسا وجميلا.
– لكن يا سيدي … كان فارغا.
جحظت عينا القاضي ، واحمر وجهه ، ازدادت درجة الحرادة ، وارتفع الضغط داخل القاعة ، ومن فيها ، مسح القاضي جبهته بمنديل ورقي معطر، يفهم شخص هناك ما دار ويدور
فيصبح: رفعت الجلسة.
الجلسة الثانية
في نفس المربع الخشبيء يقف بخشوع الموت ، تتأمله الوجوه برغبة غير محددة يغوص في نفسه أكثر، كلهم قضاة .. وحده المتهم .
يفتح أحدهم كتابا سميكا، وتنهال الأسئلة على المتهم .
– كم راتبك حتى تضطر الى مد يدك الى مال الغير؟
– هل أقول الرقم الموجود في دفاتر العمل أم الذي يصل الى صافيا؟!
ضحكة خفيفة لا تعبر عن الوضع المتأزم .. السؤال الاجابة يزيد من حدة الصمت والترقب ، كأنها صلاة جنائزية ، الصمت بدقائقه كأنا الدهر.
– كفاك تذاكيا وأجب ، والا . . . . . . . . . .
– يا سيدي ، ثلاثة يتقاسمون معي راتبي المقدر بمائتي ريال في ودقة التعيين .
– انك تكفر بالنعمة .
– ……………………..
– هل تنكر انه أصبح الآن لديك ؟!
– لا
– أخذته اذن بعد طول انتظار وترقب .
– نعم ، ولكنني أخذته من سلة المهملات . أخذته ، أحسست انه فارغ .
– انت تعترف بالسرقة :؟!
الآمر لمن يهمه الآمر.. رفعت الجلسة.
الجلسة الثالثة
الوقار يعم المكان ، يدخل غارقا في صمته ، يتخيل ذلك البائس الذي يدخل في اليوم الواحد عشرات المرات حاملا الشاي والقهوة ، والاوراق ، وأشياء أخرى الى سعادة المدير ، تثقل كاهله الاهانة ، تدمى أدميته ، وحين يعود الى البيت تقول له زوجته مواسية "علشان خاطر الأولاد" .. يصمت أمام تعزية زوجته ولكنه يقول لصاحب المكتب الوثير "أتمنى وضاءكم " و"افضالكم علينا وعلى الأولاد".. والراتب يعزف مقطوعته القديمة .. يا من تقف وراء الكرسي .. الراتب يبكي أيام الشهر الأول وأبكيه بقية الايام .. يشرب المدير قهرته الصباحية من الفنجان الخامس ، وبقايا الأربعة السابقة تراق كأنها الكرامة .
إن العدالة هي مصدر فخرنا، وهي الميزان الذي تخضع له كافة نواميس الطبيعة ، وبعد الاطلاع على ما جاء في المحضر، وما سمعناه من اعترافات المتهم ، ولأنه مد يده الى ما ليس له ، وحتى لا يوجد بيننا سارق فإن العدالة تقضي بمعاقبة من تسول له نفسه المساس بهذه النعمة التي نعيشها و………….
الواقف هناك ، في المربع الخشبي تتماهى الكلمات في أذنيه ، والصور تزداد ضبابية .. مساند ساقيه تتباعد، كأنها مجاد يف مهترئة لسفينة تغوص مع عاصفة حمقاء الى الهاوية ، وذلك المتكلم لا يزال يقرأ "ان الله تعالى أمر نبيه بكلمة اقرأ، فهي البدء، والبرهان الكبير على قيمة الكلمة ، وعندما مرق المتهم قلم المدير فإنه أنكر ما قام به ذلك القلم ، وارتكب جريمة شنيعة في حق العدالة " بعد دقائق أصبح المربع الخشبي فارغا..
.. بعد دقائق كان هناك امتلاء آخر.
محمد بن سيف الرحبي (قاص من سلطنة عمان)