كان الفيلم الفرنسي "خروج العمال من مصانع لوميير" وهو أول فيلم صور بكاميرا لوميير، والذي احتفل بمرور مائة عام على انتاجه وعرضه عام 1995م، من الأفلام "التسجيلية " وان لم تكن كلمة «تسبيلية » قد اطلقت بعد على هذا الجنس من أجناس الفن السينمائي.
والجريدة السينمائية شكل من أشكال السينما التسجيلية وهي نوع من الصحافة، ولكن بلغة السينما. وقد كانت الجريدة السينمائية والافلام التسجيلية الاخبارية، هما الشكلين السائدين في تسجيل الأحداث السياسية وغير السياسية في النصف الأول من القرن الشرين بالصورة والكلمة المكتوبة في فترة السينما الصامتة حتى نهاية العشرينات، ثم بالصوت والصورة في السينما الناطقة بعد ذلك، وعندما تطور التليفزيون وانتشر في النصف الثاني من القرن قامت نشرات الأخبار التليفزيونية بدور الجرائد السينمائية والأفلام التسجيلية الأخبارية ولكن بلغة الفيديو.
ومن مواد الجرائد والأفلام الأخبارية ابتدع جنس رابع من أجناس الفن السينمائي الى جانب جنس الأفلام التمثيلية، وجنس الافلام التسجيلية وجنس أفلام التحريك وهو الجنس الذي يمكن أن نطلق عليه باللغة العربية جنس الأفلام الوثائقية، أي الأفلام التي تعتمد على اعادة تركيب لقطات من الجرائد والأفلام الاخبارية دون تصوير لقطات جديدة. ففي هذه الحالة تصبح اللقطة بمثابة وثيقة يمكن استخدامها في خدمة الغرض الأصلي الذي صورت من أجله، أو من أجل غرض مختلف.
يذكر سعد نديم(17/2/1920- 11/3/1980) في محاضراته عن تاريخ السينما التسجيلية في مصر في المعهد العالي للسينما عام 1966 أن أول جريدة سينمائية صدرت في مصر كانت بعنوان "في شوارع الأسكندرية " من انتاج سينمائي فرنسي يدعى دي لاجأرن.(1) ولكن فنان السينما التسجيلية الكبير لا يوثق هذه المعلومات. وتعتبر "جريدة أمون السينمائية " التي أصدرها محمد بيومي عام 1921 أول جريدة سينمائية مصرية رغم أن كل عدد من أعدادها الأربعة كان يتضمن موضوعا واحدا، مما يجعلها أقرب الى الأفلام الاخبارية ولكن بيومي أطلق عليها ذلك العنوان. وقام أحمد الحضري ومحمد كامل القليوبي بتوثيق هذه المعلومات.(2) وفي عام 1925 اصدرت شركة بروسبيري "جريدة الشرق " وصدر منها أربعة أعداد أيضا.(3)
وتعتبر "جريدة مصر السينمائية " التي أصدرتها شركة مصر للتمثيل والسينما عام 1939 أهم الجرائد السينمائية على الصعيدين المصري والعربي، ومن أهم وأعرق الجرائد السينمائية على الصعيد العالمي، بل إنها من الجرائد القليلة من نوعها في العالم التي لا تزال تصدر حتى تاريخ كتابة هذا البحث. وقد أسس الجريدة المصور حسن مراد (7/ 6/1903- 14/ 6/ 1970 ) وكان يحررها ويصورها ويخرجها مع عدد من المساعدين بتمويل شركة مصر للتمثيل والسينما، ويدعم من الحكومات المصرية المتعاقبة.
ولد حسن مراد في حي المنيرة بالقاهرة وهو من أحياء الطبقة الوسطى الميسورة، وكان والده صيدليا يمتلك صيدلية في شارع المواردي بنفس الحي، وكان حسن مراد الأخ الأكبر لثلاثة أشقاء الثاني رشاد مراد الخبير السياحي، والثالث صيدلي مثل والده (4)، درس حسن مراد الرسم في مدرسة الفنون الجميلة ولكنه لم يتم دراسته. وفي بداية العشرينات سافر الى أوروبا حيث درس التصوير السينمائي في فيينا، وتزوج من سيدة نمساوية عام 1921، ثم عاد الى مصر حيث عمل في شركة مصر للتمثيل والسينما كمصور، وكان رئيس قسم التصوير الفرنسي "جاستون مادري". وكان يعمل بالقسم المصور محمد عبدالعظيم. وقد صور حسن مراد العديد من الأفلام التسجيلية والتمثيلية من مختلف الأطوال من انتاج الشركة، ومن انتاج غيرها من الشركات. ولكن كان يفضل تصوير الأفلام الأخبارية.
يذكر أحمد الحضري أن أول فيلم اخباري انتجته شركة بروسبيري كان بعنوان "الملك فؤاد في جامع عمر" عام 1923، وان الشركة انتجت عام 1924 فيلما بعنوان "الأمير ليوبولد يتسلق هرم خوفو". وقد قال حسن مراد في حوار لم ينشر اجريته معه عام 1968 انه صور في العشرينات محاولة الأمير ليوبولد ولي عهد بلجيكا تسلق الهرم الأكبر. والأرجح أن يكون هذا الفيلم أول فيلم اخباري صوره حسن مراد، والأرجح أن يكون حسن مراد مصور "جريدة الشرق" التي أصدرتها نفس الشركة عام 1925.
كان أول بحث عن جريدة مصر السينمائية في إطار الرسالة التي كتبها ضياء مرعي عن تاريخ السينما التسجيلية في مصر، ولم تنشر، والتي حصل بها على درجة الماجستير من معهد النقد الفني بأكاديمية الفنون المصرية عام 1978، والباحث الثاني الذي اهتم بجريدة مصر السينمائية هو المخرج والكاتب ابراهيم الموجي وقد أصدرت اللجنة المصرية للاحتفال بمئوية السينما عام 1995 كتابا يتضمن الجزء الخاص بالجريدة من الرسالة المذكورة وكلفت ابراهيم الموجي بتحرير مقدمة الكتاب حيث نشر خلاصة ابحاثه عن الجريدة.
وفي هذا الكتاب يتضح أن حسن مراد صور 31 فيلما اخباريا عام 1938 وبدأ اصدار الجريدة عام 1939. وبينما يوثق الباحث لمواد الجريدة في الفترة من 4/ 1/ 1939 الى 29/ 12/ 1940 من واقع مذكرات حسن مراد والمودعة بخط يده في الهيئة العامة للاستعلامات، يوثق للمواد بعد ذلك فصل خاص ابتداء من العدد 45 الصادر في 6/ 1/ 1941 الى العدد 395 الصادر في 27/12/ 1954 من واقع سجلات الشؤون المعنوية للقوات المسلحة المصرية. ولا يوضح الباحث لماذا يحمل العدد الأول في الفصل رقم 45، أي لماذا اعتبر المواد التي سجلها حسن مراد في مذكراته 44عددا، ولماذا توجد السجلات الخاصة بهذه الأعداد في الشؤون المعنوية للقوات المسلحة.
وبتكليف من اللجنة المصرية للاحتفال بمئوية السينما قام الباحث عبدالحليم أبو صير باعداد كتاب آخر صدر عام 1995 أيضا عن مواد الجريدة من العدد 396 الصادر في 3/ 1/ 1955 الى العدد 2401 الصادر في 21/ 9/ 1995. وبصدور بحث ضياء مرعي، عن الهيئة العامة للاستعلامات، أصبح هناك توثيق لمواد الجريدة منذ بداية صدورها حتى عام 1995، وما يؤخذ على هذا التوثيق ان كلا الباحثين لم يعتمد على مشاهدة اعداد الجريدة، وانما على النقل من سجلات مكتوبة في الشؤون المعنوية للقوات المسلحة بالنسبة للباحث الأول، وفي الهيئة العامة للاستعلامات بالنسبة للباحث الثاني.
لا أحد يدري لماذا يشاع أن جريدة مصر السينمائية صدرت عام 1935 وربما يرجع هذا الى افتتاح ستوديو مصر، وهو من مؤسسات شركة مصر للتمثيل والسينما في ذلك العام. أو يرجع الى الخلط بين الأفلام الأخبارية، والجريدة السينمائية. وقد تغير عنوان الجريدة من جريدة مصر الناطقة الى الجريدة العربية الناطقة بعد وحدة مصر وسوريا عام 1958 وبعد تأميم شركة مصر للتمثيل والسينما عام 1961 قام التليفزيون بانتاج الجريدة منذ عام 1963 حتى عام 1971، ثم قامت الهيئة العامة للاستعلامات بانتاجها من عام 1971 الى عام 1972، وعادت الى التليفزيون من عام 1972 الى عام 1980، ثم استقرت في الهيئة العامة للاستعلامات من عام 1980 وحتى كتابة هذا البحث. وطوال تاريخها لم تصدر جريدة مصر السينمائية بصفة دورية منتظمة.
وقد انتهت حياة حسن مراد نهاية مأساوية. ففي يوم 14/ 6/ 1970 كان يصور الرئيس جمال عبدالناصر مع الرئيس معمر القذافي في جبهة القتال على ضفاف قناة السويس، وبعد أن انتهى من التصوير حث حسن مراد سائق سيارته ليلحق بطائرة الرئيس، ونتيجة السرعة انقلبت السيارة وتوفي حسن مراد عل الفور، وقد عرض العدد الأخير الذي اشترك في تصويره في اليوم التالي مباشرة 15/6/ 1970، ويحمل رقم 1201 وتضمن العدد التالي 1202 الصادر في 22/ 6/ 1970 فقرة تحت عنوان "وفاة المصور حسن مراد". وكما كرم الرائد السينمائي الكبير في حياته، كرم بعد وفاته، وأطلق اسمه على الشارع الذي كان يسكن فيه بحي جاران ميتي في القاهرة وكان اسما شارع الفسقية.
واذا كنا نملك توثيقا نظريا لمواد اعداد الجريدة، الا أن وجود أصول هذه الأعداد (النيجاتيف ) مسألة أخرى(5) وحتى بالنسبة الى نسخ الجريدة (البوزيتيف ) يذكر عبدالغني داود الباحث في ارشيف الفيلم القومي بالقاهرة ان اعداد الجريدة لدى الأرشيف تبدأ بالعدد 310، وهو أول عدد صدر بعد ثورة 3) /7/1952 في 4/8/1952 ) كان حسن مراد يفضل الكاميرا الخفيفة العتيقة عن كاميرا حديثة لو كانت أثقل. يقول ابراهيم الموجيء خصص ستوديو مصر للجريدة سيارة وكاميرا ( بل أند هاول ) وحصة من الفيلم الخام، وعاملا يحمل لوحة بها لمبة، تطورت الى لمبتين، فاربع ". ويقول كانت للكاميرا ثلاث عدسات تدور على تارة ليختار منها ما يناسب موضوعه، والعدسات كانت عريضة، وعادية وطويلة البعد البؤري. ونادرا ما استخدم حسن مراد العدستين العادية والطويلة. ولم يكن يستخدم مقياسا للضوء ليحدد سعة فتحة العدسة، فلم يكن لمثل هذا المقياس وجود في مصر، وعندما عرفته السينما المصرية وشاع استخدامه لم يستخدمه حسن مراد، ولو من باب التجريب أو الفضول، كان يتنقل بين اختيارات قليلة : فتحة للمناظر الخارجية في ضوء النهار، وفتحة للظل وفتحة للضوء الصناعي وكانت الكاميرا تدار بالزمبلك أي ليست في حاجة الى كهرباء أو بطارية، وكان الزمبلك يتيح دورانا منتظما لمدة دقيقة، وهي مدة كافية لاستهلاك كل مخزون الفيلم الخام في الكاميرا، وكان يتسع لثلاثين مترا، وكان حسن مراد يستهلك في المتوسط علبتين كبيرتين من الخام ( 600متر) ليحصل بعد المونتاج على عدد من الجريدة طوله 300 متر يستغرق عرضه عشر دقائق ".(7)
ظل حسن مراد يصور بالكاميرا (بل أند هاول ) حتى أهداه الرئيس عبدالناصر كاميرا حديثا. وكان عبدالناصر من هواة التصوير السينمائي. يقول حسن حلمي (حسنوف ) الذي عمل مع حسن مراد في مونتاج الجريدة أكثر من أي مونتير آخر إن حسن مراد أراد أن تنطق الجريدة بصوت عبد الناصر وهو يلقي أحدى خطبه بالتزامن مع صورته وكان أسلوب حسن مراد أن يصور اللقطات صامتة، ثم يتم تركيب التعليق والموسيقى في الاستوديو، وعندما استحال تزامن الصوت مع الصورة أحضر كاميرا (بلم ) وصور خطبة أخرى، وظهرت الصورة لأول مرة متزامنة مع الصوت ومن يومها اكتسبت الجريدة أهمية خاصة لدى رئاسة الجمهورية، واستقرت أوضاعها الإدارية والمالية، وكان ذلك حوالي عام 1955.(8)
الواضح من كل هذا أن حسن مراد كان مكر الكثيرين من رواد السينما متمسكا بالأسلوب الذي عرفه منذ البداية، ورافضا للتطور، أو بالأحرى لا يعتبر الوسائل الحديثة تطورا، ومما يؤكد ذلك رفضه جميع اقتراحات سعد نديم عندما تولى رئاسة وحدة الأفلام التسجيلية في ستوديو مصر، لتطوير الجريدة، ومنها على سبيل المثال تزامن الصوت والصورة واللقطات الكبيرة (الكلور أب ) وزيادة عدد المصورين لتصوير الأحداث التي تقع في نفس الوقت في أكثر من مكان (9) ولا شك أن سعد نديم بما عرف عنه من خلال أفلامه لم يكن يستهدف تطوير الجريدة من حيث الشكل فقط، وانما من حيث المضمون أيضا.
لم يحاول أي باحث في مصر تقييم محتوى جريدة مصر السينمائية قبل ابراهيم الموجي، كان الجميع ولا يزالون يؤكدون على القيمة الوثائقية لمواد الجريدة، وهي قيمة عالية ولا خلاف على ذلك وعلى قيمة الريادة والمثابرة. ولا خلاف عليها أيضا ولكن هذا لا يحول دون تقييم محتوى الجريدة بالطبع، يقول ابراهيم الموجي ان حسن مراد "استن لجريدته سنة أوصلتها لبر السلامة، انه رجل عملي، مؤمن بشرعبة الدولة وشرعية مؤسساتها وقد امتثل لكل التوجيهات ونفذ كل الأوامر. ونحن لا نستطيع أن نستشف أي شيء عن حسن مراد من واقع مشاهدتنا لاعداد الجريدة، ولا نستطيع أن نحدد فكره وقنوعاته، بل لا نستطيع أن نستشف ذوقه الخاص سواء على المستوى الفني أو المستوى الانساني، وأيضا لا نستطيب أن نستشعر نبض الشارع، فالجريدة لم تكن معنية بالشارع مهما بلغت سخونة الأحداث فيه، بل إن بعض الأحداث الهامة سكر "سوء معاملة المحتل الانجليزي للمدنيين في مدن القناة " تابعته وكالات الأنباء الأجنبية وأهملته جريدة مصر، وعندما اضطرت الى التنويه عنه، استعارت المادة من شركة مترو جولد وين ماير".(10)
ومن قراءة عناوين مواد اعداد جريدة مصر منذ بدايتها، وحتى العدد الأخير الذي اشترك في تصويره حسن مراد عام 1970 يمكن معرفة ملامح فكر حسن مراد وذوقه الخاص وليس كما يرى ابراهيم الموجي فالامتثال لكل التوجيهات وتنفيذ كل الأوامر وعدم الاهتمام بما يدور في الشارع ملامح فكرية كاملة لقد سجل حسن مراد التاريخ "الرسمي" وما تريد السلطات تسجيله، أيا كانت هذه السلطات قبل الثورة وبعدها.
ويكشف ابراهيم الموجي عن حقيقة هامة عندما يذكر أن مشهد خروج الملك فاروق من مصر عام 1952 ليس مشهدا تسجيليا من جريدة مصر كما هو شائع، وانما مشهد تمثيل من فيلم "الله معنا" الذي أخرجه أحمد بدر خان عام 1954. (11)
كما يكشف الموجي عن حقيقة أخرى عندما يذكر أن رجال الثورة حاولوا اصدار جريدة سينمائية أخرى باسم " جريدة الحرية " صورها عبدالعزيز فهمي وشقيقه محمود فهمي، ولكن لم يصدر منها غير عددين وعادت جريدة مصر مرة أخرى بفضل قدرة حسن مراد الفائقه على التكييف.(12) غير أن استمرار جريدة مصر بعد الثورة بنفس أسلوبها قبل الثورة أي بالتعبير عن التاريخ الرسمي يعني أيضا أن رجال الثورة لم يختلفوا مع حسن مراد.
الهوامش:
1- ابراهيم الموجي : مقدمة كتاب ضياء مرعي جريدة مصر السينمائية (1938 – 1954 ) اصدار اللجنة المصرية للاحتفال بالعيد المئوي للسينما. الناشر المجلس الأعلى للثقافة (مصر 1995).
2- أحمد الحضري: تاريخ السينما في مصر (1896- 1920) الناشر نادي سينما القاهرة (مصر 1989).
محمد كامل القليوبي : محمد بيومي. الناشر اكاديمية الفنون ( مصر
1994).
3- احمد الحضري : نفس المرجع.
4 – فريال كامل : حسن مراد، اصدار مهرجان الاسماعيلية السينمائي الدولي. الناشر صندوق التنمية الثقافية (مصر 1993).
5 – أرسلت هيئة المونيسكو الى الهيئة العامة للاستعلامات تعرب عن استعدادها للمساهمة في الحفاظ على نيجاتيف جريدة مصر السينمائية، ووافقت الهيئة العامة للاستعلامات على استضافة الخبير الجزائري هاشمي زرتال من أرشيف الفيلم الفرنسى، وجاه زر تال الى القاهرة فى مارس 1996 وقام بدراسة النيجاتيف تمهيدا لاعداد تقرير فني شامل.
الجدير بالذكر ان الافلام السينمائية قبل عام 1950 كانت تصور على اشرطة قابلة للاحتراق الذاتي، ويستحيل حمايتها من الاحتراق الا بنقلها على الأشرطة غير القابلة للاحتراق، والتي تم التوصل اليها عام 1950.
6- عبدالغني داود : مجلة فن (بيروت 6/7/ 1992.
7- ابراهيم الموجي : نفس المرجع.
8- فريال كامل : نفس المرجع.
9- 0 1، 11، 12 – ابراهيم الموجي : نفس المرجع.
سمير فريد(كاتب وناقد سينمائي من مصر)