عندما جئت الى هذه الدنيا كاتبا، بنشر روايتي الأولى عام 1970، كان الكمبيوترالشخصي حلما ينادى رواية من روايات الخيال العلمي – ولقد عرفت الكمبيوتر – معرفة سياحية بالطبع – أول مرة في مطلع الثمانينات، بينما كان عصر الكمبيوتر- قد استوفىعمره القصير، مفسحا لعصر الوسائط المعلوماتية، عصرالانفوميديا الذي قلب خلال عقدين العالم والعيش عاليا، فكم – قبل وبعد: كيف – كان التغيير في هذا الزمن القصير.
فلادع الكمبيوتر جانبا- إن كنت استطيع – لأنني في أحسن أحوالي لن أكون أكتر من نكرة في حرسه القديم، ولأعدد جزافا: موت الرئيس السوري حافظ الاسد للتو، أو كامب ديفيد الأولى بالأمس، أو- بين ذلك الزمن وهذا الزمن – التفكيكية والحرب الجزائرية وانهيار الاتحاد السوفييتي وصراع الحضارات والاستنساخ وموت بوعلي ياسين ودوار العراق ونوبل نجيب محفوظ والسكين التي حاولت جز عنقه وو.. فكم – قبل وبعد: كيف – كان التغيير خلال هذا الزمن القصير.
فلأدع ذلك جانبا- إن كنت أستطيع – لأواجه سؤالا عما تغير في مفهومي للأدب. ولكن حين يسأل كاتب مثلى هذا السؤال، بعد ثلاثين سنة من ولادته، وبعد اثنين وثلاثين كتابا من اقترافه الرواية والنقد وسواهما، فقد يفضي به القول – بل سيفضي – الى التغيير الذي طرأ على مفهوم الالتزام، أو الى ما يجعل كاتبا يكتب اليوم، أو قلرئا يقرأ، أو الى ما ينفي أو يؤكد أهلية الأدب في زمن الانفوميديا، وبخاصة في الزمن العربي الذي تعجزني تسميته، ويعجزني عيشه.
الأدب والتغيير
كذا يتعدد السؤال ويتفرع، ويتعدد قول الكاتب – لا جوابه – ويتفرع، ولكن ذلك يفترض منذ البداية أن لدى مفهوما ناجزا للأدب، وهو ما كان ادعاؤه أيسرعلي بالأمس – أي أمس – منه اليوم.
لقد سألتني مجلة المعرفة السورية، مع آخرين، عام 1974 عن مفهومي للرواية، وكان رصيدى منها قد بلغ ثلاث روايات، فطوح الارتباك اجابتي بين الترداد خلف البيريس: الرواية بديل للموت، بديل لأبدية، وبين الترداد خلف سواه، الرواية موسيقى وشعر: وصدحت أن الرواية ليست طلقة عابرة، ولا حرب استنزاف، بل هي المعركة بالكامل، وأنني لا أكتبها تأرخة لنفسي، ولا تسلية للآخرين، بل لأقاتل فيها مع كل انسان في هذه الأرض المبتلاة بألوان القهر والسلب.(1)
كذا فعل مفهوم للالتزام وحضور للقارئ فعلهما في ذلك التعبير عن مفهوم الرواية. وسيعاودني الارتباك مرارا وتكرارا فيما بعد، كلما واجهت مثل ذلك السؤال، وبخاصة ان كبر ليعني الكتابة أو الأدب بعامة، شأني الآن، حيث بت أكثر اقتناعا- وربما ادراكا- بأن تحديد المفهوم، مهما بلغ من الموضوعية، فيه من الذاتية ما فيه، ومهما بلغ من المرونة، فيه من القسر ما فيه، ومهما تطاولت أهليته، فان التغيير قد يمهل، لكنه لا يهمل. واقرب سند لي في ذلك هو ما بين ما قد تنطوي عليه روايتي الأولى (ينداح الطوفان) وروايتي الأخيرة (سمر الليالي) من مفهوم. أما سندي الأكبر فهو ما بين ما تنطوي عليه تجربة نجيب محفوظ من مفهوم – أومفهومات- للرواية، وما تنطوي عليه من ذلك تجربة اميل حبيبي اوهاني الراهب أو ادوار الخراط… ولعل السند سيتضاعف حين ينتقل الكلام الى ما بين شعرالسياب وشعر أنسي الحاج، أو الى ما بين قصة سعيد حورانية وقصة زكريا تامر.. ولكن هل يعنى ذلك أن ليس من مفهوم يركن اليه ولوجزئيا؟
في نشأتي المبكرة هيمن علي أن الشعر هو الأدب، والتبس ذلك بقدسية ما، ليس فقط بسبب الكتب المدرسية بل بما كان يحفظني اياه جدي من شعر بدوي الجبل ومن شعر ديني. وعما قليل سينازع السحر تلك القدسية بفضل قراءتي في ألف ليلة وفي السير الشعبية، ثم ستغلب القدسية بفضل قراءتي القرآن وحفظه، ثم سيغلب السحر بسبب قراءتي للروايات والقصص ولشعرآخر غير عمودي. وقد ظل الأمر برمته نميرمهم لي أثناء دراستي الثانوية، ليس بسبب غرارة السن والتحصيل فقط، بل أيضا لأني حملت البكالوريا الصناعية، ثم البكالوريا العلمية، استعدادا لدراسة الهندسة. لكن نصيبي من الجامعة كان دراسة الأدب العربي، وهكذا بات الأمر أكبر جدية، وبخاصة انه ترافق مع قراءتي لسارتر ولمجلة الآداب ولذلك الدفق الوجودي، ومن ثم الماركسي، مما عرفته ستينيات القرن الماضي، واذا بمفهومات شتى للأدب، متعاقبة ومتعارضة، يرميني بها التراث، وإذا بالشعر قبل أبي تمام، غيره من بعد، اذا بالنثر قبل ابن المقفع أو الجاحظ، غيره من بعد، وإذا بكاتب عربي أو غير عربي يرى الأدب صناعة تخييلية، وآخر يراه صناعة لفظية، وسارتر يصدح بما سيسميه آيزر من بعد بالقارئ الضمني، وجد انوف يهزني من كتفي مجلجلا بنشيده الشهير.. وسر عان ما بات الأمر (نفورا) من القول إن الأدب جوهر، و(اعتقادا) بأنه شأن سواه من المبدعات والبشر والأشياء والطبيعة والعيثي: متغير، وليس له من ناموس الا التغيير، من دون أن يقلل ذلك من اعتباري للأمس المكينة التي أورثنا إياها السابقون، ولعل ذلك ما ضاعف علي سحر كثير من التراث، بعيده وقريبه، بقدر ما نزع عنه القدسية.
من هنا جئت الى كتابة الرواية، وبعد ثلاث منها قرعت باب النقد.. واذا لم يكن من الأمر بد، فلعل بوسعي الآن أن أمايز حينا غلب علي فيه أن الأدب انعكاس لواقع مادي، أو أنه تعبير عن صاحبه، او شهادة على زمنه، لكني لم آخذ يوما بالقول إنه تعبير عن أو تجسيد لحقيقة – أو حقائق – متعالية.
وإذا لم يكن من الأمر بد أيضا، فلعل بوسعي الآن أن أجازف أن الأدب فعالية لغوية بامتياز، فعالية ذاتية وحضارية، ولكن ماذا يعني ذلك، وبخاصة حين يكون القصد: الفهم أو المفهوم؟
بخلاف ما كان عليه الأمر قبل سثر سنوات فنازلا، على الأقل، وهو خلاف يكبر أو يصفر، بت أجرأ على أن أرى الأدب لعبا لفريا يقوم بالتخييل وبالتقانة، وبالتالي فهو شأن شخصي جدا، لأن ذاتا بعينها تنتجه، وشأن غيري جدا، لأن ذاتا- ذوات بعينها تستهلكه، واللذة اساس في الشأنين، والتغيير ناموسهما، وقد يكون الأدب شهادة أو تحريضا، وقد يحمل أطروحة – أطروحات.
بالعودة الى التفاصيل قد ينجلي ذلك أو بعضه، وقد ينجلي بخاصة المتغير منه. وربما كان الالتزام هنا هو التفصيل الأكبر، حيث يلح علي أن أعجل بقول ايجلتون بالحقب والمجتمعات التي لا يكون فيها الالتزام (السياسي الراعى التقدمي) شرطا لازما لانتاج فن عظيم، فيما لا يمكن للمبدع أن يعيمش او يبدع في مجتمعات أخرى أو حقب أخرى دون التزام. وأحسب أننا أمس واليوم وفي الفد المنظور واحد من تلك المجتمعات، ونعيش واحدة من تلك الحقب، حيث لا مفر من الالتزام، فاذا كان ايجلتون يضرب بالفاشية مثلا، فالأمثلة هنا لا تحصى، من الصراع العربي الاسرائيلي الى السلطان السياسي العربي المستبد الى السلطان الاجتماعي العربي الأقل أو الأكثر استبدادا الى… ومع ذلك يطل السؤال: ما وجاهة الكتابة الآن عن الالتزام؟
هكذا كان السؤال الذي مدربه جابرعصفورعام 1985 تقديمه لترجمته (الماركسية والنقد الأدبي- تيري ايجلتون). وهأنذا استعيد السؤال بعد خمسة عشر عاما، مصفيا الى مثل هذه الأصداء: صلاح فضل ينفي أن تكون أهمية حنا مينة تكمن فيما يمثله من تيار واقعي ملتزم (أساليب السرد في الرواية العربية – 1995)، أو محمد برادة يحلل الايديولوجي في رواية (باب الساحة) لسحر خليفة (أسئلة الرواية أسئلة النقد 1999)، أو غسان عبدالخالق يجذرني التراث هوية الشاعر الملتزم (الأخلاق في النقد العربي من القرن الثالث حتى القرن السادس الهجري- 1999).. ومازال للالتزام اذن فسحة، مهما ضاقت أو التبست، في قول في وظيفة الأدب اواجتماعيته أوأيديولوجيته…، على الرغم من أن ذكره – الالتزام – بات يثير لدى كثرة عاثرة النكران او الشفقة أو الطرافة.
لقد مضت سردية الالتزام في أدبنا ونقدنا الأدبي بخاصة، من الحضور بجهارة بين خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي، الى الحضور باستحياء بلغ حد الغياب خلال العقدين الماضيين. وبالنسبة لي، اراه اليوم بمثابة الغائب الحاضر، والفاعل في الحالين، كا لحداثة التي هي بمثابة الحاضر الغائب، والفاعل في الحالين. وفي الحضور، كما في الغياب، تبدل ما تبدل في الالتزام خلال نصف قرن مضى، ونمدا تاريخه جزءا من التاريخ السياسي والأيديولوجي، من تاريخ الأدب والنقد، ولعل المساهمة في كتابة سرديته عبر سيرة نقدية أو روائية أو فكرية، أن تجلو بعض ذلك التبدل وبعض ذلك التاريخ، لتسعف بالتالى النظر على مفرق – مفارق قرن جديد وألفية جديدة.
عتامة الجواب:
الثقافة الحقة هي الثورة، كما كتب سارترني تقديمه لكتاب فران فانون (معذبو الأرض)، وتأسيسا على ذلك، فالأدب الحق هو عملية ثورية، و((مسؤولية الأديب هي أن يجسد ذلك النتاج، وهذا يستبعد بالضرورة حشد اللافتات الزا عقة المتكلفة (…) ولعل أبسط ما نفهمه من الثورية هنا، هوا لالتزام بحركة الحياة الصاعدة، بقضاياها وانسانيتها وتطورها)).(2)
بهذه الجهارة اليقينية والعائمة أجبت على سؤال مجلة (جيل الثورة – نيسان (ابريل) دمشق 1970- محتجبة) عن مفهوم الالتزام في الأدب، في أول مقابلة صحفية لي(3)، وقبل صدور روايتي الأولى (ينداح الطوفان) بشهور.
بومضة عين انطوت إثر ذلك أربع منين، نشرت خلالها ثلاث روايات، وأنجزت ساهمتي في الكتاب المثمترك مع برعلي ياسين: (الأدب والأيديولوجيا في سورية 1967- 1973) (4)، وكنت قد (برئت) من الوجودية، وتدرعة بالماركسية، من دون أن تصيبني لوثة التحزب في تنظيم، وكان تحصيلي في النقد الأدبي- كما لعله لا يزال – متواضعا. خض هذا الكتاب الحياة الثقافية في سروية خضا، كما كانت له خارج مورية أصداء مدوية.(5) ويمثل الجهارة التي كتب بها – على الأقل – جبهه كنيرون، حتى اذا تسنى إصدار طبعة ثانية منه، بعد عشر سنوات، عد المؤلفان – في مقدمة هذه الطبعة – من عيوبه لهجته الحادة، وتعللا لها بفترة الركود ابان كتابته – عقابيل هزيمة 1967- مما استدعى كتابا يثير ويغضب، كي يوقظ ويؤثر. ومن تلك العيوب عد المؤلفان أيضا إهمال ثورة الثكل وتأثيرها العكسي على المضمون – سرى حالة زكريا تامر- والتركيز على فكرية وطبقية الكتابة والكاتب، وخطأ استخدام مصطلي الاقطاع…
كان الالتزام طاغي الحضور في هذا الكتاب، عبر ما استهدف ~ كما جاء في مقدمة الطبعة الأولى- من كشف لفكرية النص ودعا ويته وتحريضيته، وصولا إلى أيديولوجيا الأديب، والى موقعه من الهرم الطبقي، وقد كان ذلك الغائب بامسه العتيد، طاغي الحضور أيضا فيما رسم الكتاب من تصنيف طبقي أو أيديولوجي، وفيما أرسل في الواقعية الاشتراكية، وفي تلويحته للأدب البروليتاري. وقد كان كل ذلك، رمواه، موضع نظر نقدي، عبر بعض الشهادات أو المحاورات التي متعنت لي،(6) ولكن على نمير الطريقة الرائجة: طريقة تقديمي الماضي أو التبرؤ منه. وعلى أية حال، فقد أكون اليوم أرى أكثر من ذي قبل، كيف كان الجواب يتقدم على السؤال، واليقين على الشكل، والجهر على الهس، والعتامة على الثمفافية، سراء في الكتاب المعني، أم في الحياة الثقافية برمتها، ليزداد الحاضر غيابا، ولكن الى حين قصير.
من الجواب الى السؤال
بومضة عين أيضا، انطوى ما كان قد تبقى من سبعينيات القرن الماضي، وكتابة الرواية تدفعني الى أن أتبصر فيما يرسل من نقدها، سعيا الى معرفة بها، لاتني تلحف وتلوب.
من التبصر في نقد الرواية، الى التبصر في النقد بعامة، تبلورت خطوة أولى في نقد النقد، هي كتاب (النقد الأدبي في سوريا- الجزء الأول) (7)، ثم تبلورت خطوة أخرى في كتاب (مساهمة في نقد النقد الأدبي)(8)، واشتبكت مع هذه خطوة أولى في نقد الرواية.(9) وميطبع هذا الاشتباك محاولتي النقدية حتى اليوم. في تك الخطر السعينية، ابتدأت النقدية تسم حضور الالتزام وغيابه، فيما أحصب، بينما كانت سدونته تكبر وتتنوع، ابتداء- مثلا- من جارواي (واقعية بلا ضفاف) وارنست فيش (ضرورة الفن) ولوكاتش (بخاصة: معنى الواقعية المعاصرة) وتروتسكي (الأدب والثورة) وبليخانوف (الفن والحياة الاجتماعية)… وليس انتهاء- مثلا- ببريخت وروزا لوكسبورج اللذين كان لبوعلي ياسين فضل كبير في تعميق معرفتي بهما، وهو من خبر بالألمانية تراثهما. ولا أنسى أيضا الديموقراطيين الروس: دوبروليبوف وتشرينيثيفسكي وبيلينسكي، وقد قمت بعنونة ونشر ما ترجم فؤاد مرعي ومالك صقور للأخير: (الممارسة النقدية دار الحداثة، بيروت عام 1982)، وقبل ذلك بمنة، كنت قد قمت بنشر ترجمة نادر ذكرى لكراس من جولدمان هو (المادية الديالكتيكية وتاريخ الفلسفة والأدب) عند الناشر نفسه، حيث عملت حينا قصيرا. إلى هذا الشطر غير العربي من مدونة الالتزام، كان الشطر العربي، ابتداء – مثلا- من السوريين: أدونيس (بخاصة: زمن الشعر 1972) وجلال فاروق الشريف (الشعر العربي الحديث 1976- إن الأدب كان مسؤولا 1978) وخلدون الشمعة (الشمس والعنقاء 1974- المنهج والمصطلح 1977- النقد والحرية 1979) واحسان سركيس (الأدب والدولة 1977) ومحمد كامل الخطيب (السهم والدائرة 1979) وحنا عبود (واقعية ما بعد الحرب 1980)… ولأن المدونة في شطرها العربي خارج سورية كانت أضعافا، اكتفي بأن أعدد منها لصلاح فضل (منهج الواقعية في الابداع الأدبي 1978) ولمحمد برادة (محمد مندور وتنظير النقد العربي 1979). ولقد كان يحدو للمدونة ما يتيسر من قراءة ماركس وانجلز، وبخاصة قراءة غرامشي والتوسر، ومن العرب: أنور عبدا لملك وعبدالله القروي وسمير أمين وسواهم. وعلى الرغم من اليقين بأن قدرا أو آخر من لوثة – سوءات المثاقفة قد أصابتي، فانني أزعم ان النقدية كانت علامة قراءتي لتلك المدونة ولسواها، وبخاصة فيما يتصل منها بذلك الغائب الحاضر: الالتزام. وعلى هذا السبيل حاولت تحصيل ما كان قد فاتني من المدونة. مما يعود الى ما قبل السبعينات، مثل (الأدب والثورة 1967) للويس عوض، أو (في الثقافة المصرية 1955) لمحمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس، ولم نكن بوعلي ياسين وأنا، قد قرأنا الأخير عندما أنجزنا كتاب (الأدب والايديولوجيا في سوريا)، والذي قرن بعضهم بينه وبين ذلك الكتاب.
ولعل علي أن أضيف، قبل أن أطوي هذه السيرة التي أحسب أنها تعني جيلي على الأقل، أن المعارك النقدية التي شهدتها سوريا منذ صدور كتاب (الأدب والأيديولوجيا في سوريا)، ومعها الزخم النقدي الفكري والسياسي (مشروعات مهدي عامل وطيب تيزيني وأدونيس وياسين والحافظ والياس مرقص…) وانشقاق الحزب الشيوعي السوري… كل ذلك كان مما يسمني بميسم النقدية، كما أضاءت لي سبيلها ممارسات من مارسها من كتاب تلك المدونة، ومنها نقدية محمد برادة لمحمد مندور وللنقد الأيديولوجي بعامة، أما خلاصة ذلك، فيما يتصل بالالتزام، فهي:
اسئلة الواقعية والالتزام (10)
في السبيل الى هذا الكتاب الصغير كنت أتقرى كتابات جابر عصفور (المرايا المتجاورة 1983) ويمنى العيد (في معرفة النص 1984) وعمار بلحسن (الأدب والأيديولوجيا 1984) ومحمود أمين العالم (ثلاثية الرفض والهزيمة 1985) وبو علي ياسين (الثقافة ودورها في الصراع الطبقي 1985)، وكثيرا من الزخم النقدي والفكري العربي الحداثي، ربما يرمز له هجوم محمد برادة على اللوكاتشية التي سادت في عقد مضى، والحافه على ابدالها بنقيضها البريختي الذي ضاغه بنيامين. ولعل علي أن أنوه هنا بما رافق التقري في ذلك الزخم العربي، من التقري أيضا فيما هو غير عربي، وبخاصة: باختين وجولدمان ومارشري.
والآن، وبعد خمسة عشر عاما من ممدور (أسئلة الواقعية والالتزام) استعيد نقده لمأساوية المثاقفة، مع الماركسية كما سواها، ولنن كان هذا الكتاب قد تجاوز القول بالمنهج النقدي البورجوازي مما جاء في كتاب (الرواية السورية) أو القول بالمناهج السلفية والمناهج المادية التاريخية، مما جاء في كتاب (مساهمة في نقد النقد الأدبي)، فقد أنس في قوله بالمنهج الماركسي في النقد الأدبي الى من سبقه الى القول بالمنهج الجدلي (نجيب العوفي مثلا عام1976) أو القول بالمنهج الاجتماعي (ادريس الناقوري مثلا عام 1978) أو بالنقد الأدبي الماركسي (جابر عصفور مثلا عام 1985) ولا ننسى أن مرادفة ذلك بالمنهج الواقعي والمنهج المادي التاريخي كانت رائجة آنئذ، ولم تزل دارجة لدى بعضهم، استسهالا أو ازدراء، واذا كان كتاب (أسئلة الواقعية والالتزام) قد زعم أن حديث الواقعية لم ينضج بعد اربعة عقود من انطلاقه المدوي في فضائنا، فلعل الكثير مما بلغه الكتاب في أمر الغائب الحاضر- الالتزام، يخاطب حاضرنا، وهكذا، وبالقدر الممكن من النقدية، يبدو لي أمر الالتزام اليوم موزعا بين:
أ- الالتزام السلطوي الذي يتوزع بدوره بين بوق السلطان وبين التقني الذي ليست حيدته الا تحيز السلطان.
ب- ما سوى ذلك، مما تجمعه كلمة سلطان – والمعني دوما: سلطان اجتمإعي أو سياسي- مع التوكيد على لبوسهما الثقافي- وتتوزعه المعارضة بين صخب يتدرع بالاسلام، وآخر يتدرع بالتلقي، رسواهما كنير مما يفور به العقدان الماضيان.
ولعل ما يخاطب حاضرنا أيضا من الكتاب المعني، تلك المؤشرات التي تضيء حضور الغائب وغياب الحاضر: الالتزام، مهما بلغ تهميش المثقف وزعيق العولسة وموت الأيديولوجيا وقرينة العالم… وعلى رأس تلك المؤشرات:
أ- كما جاء في هذا الكتاب: لم تعد المسألة شعا رية الالتزام، لم تعد شعارية الأدب المقاتل، الأدب الثوري بكافية، وكان الأولى بي أن أقول ان تلك الشهارية لم تكن كافية يوما، وهي اذ تتراجع بعامة، تكاد تغدو وقفا على ذلك النمط الديماجوجي السياسي، السلطوي منه أو المعارض المتدرع بالاسلام.
ب- فيما بين الحرية والالتزام تقوم هي كدراية به، وقيما بين السياسة والأدب تحضر هي فيا بالمعنى التاريخي، ولا يعني ذلك دائرة السياسي الحاكم وحسب، بل دوائر المعارضات أبضا، حيث يقود ابتذال تحزب الأدب الى الالزام، ويلتس نفي التحزب بوهم الحرية.
جـ- التوكيد على الالتزام بالفكر النقدي والموقف النقدي.
أما بعد..
فقد استوقفتني في الكتاب السابق اشكالية (تساكن المفاهيم) سواء فيما خص الواقعية أم فيما خص الالتزام. وسر ستعيد ذلك في كتاب (الابداع والنقد)( 11) حيث مضيت من تصنيف الالتزام السلطوي الى هذه القولة: لهم مبدعوهم ولنا مبدعونا، وقد انضاف الى المدونة في هذا الكتاب ما انضاف، في غمرة التحولات الكبرى المشهودة، مما دفعني الى تقري الغائب والحاضر: الالتزام وما يتصل به، تحت عنوان (جدل الأدب والثورة) من خلال روايتي (المعلم ومارجريتا لبولغاكوف) و(في زمن الكوليرا لماركيز).
وفي هذا الشطر من الكتاب، أو في الشطر الذي تناول تدجين السلطانين الاجتماعي والسياسي للكتابة العربية، أحسب أن الكنيي مما بلفه الكتاب من أمر الغائب الحاضر، يخاطب – بالنقدية – حاضرنا، ومن ذلك عدم الكفاية بالقول بمنهج ايديولوجي أو اجتماعي، لأن المنهج الأيديولوجي او الاجتماعي قد يكون اسلاميا أو ماركسيا أو… ومن ذلك أيضا عقدة الصفار أمام التحولات الكبرى، وتبديل العمائم.
لقد أخذ الغائب يمعن في الغياب، فيما كتبت في العقد الماضي، وفي جل ما قرأت لسواي، بيد ان هذا الامعان في الغياب يبدو لي إمعانا في الحضور، ولكن بأسماء أخرى وأفعال أخرى، كما اقتضى تطور نقدنا وأدبنا وعواصف عيشنا العربي الكوي، وحيث يحدو للحضور- الغياب الكثير، من روزالوكسمبورج التي تنشد ربط النقد الأدعبي بالصراع السياسي، الى فريد ريك جيسون الذي ينشد ان تعطى الأولوية للتفسير السياسي للنصوص الأدبية، الى تيري أيجلتون الذي ينشد استرداد النقد الأدبي من طرائق الولع بالجديد الى السبيل التي هجرها، مع الإلحاح على الافادة من المناهج الحديثة، بطبيعة الحال. فهل يصح السؤال: كم – قبل وبعد: كيف – كان التغيير في هذا الزمن القصير؟
الرواية:
صدرت روايتي الأولى (ينداح الطوفان) في خريف 1970، وعندما كتبتها كانت ستينيات القرن الماضي تعصف بتكويني الثقافي والروحي، بين الوجودية والماركسية، على وقع الناصرية وهزيمة 1967 وصخب التحزب الشيوعي والبعثي والعمل الفدائي.. وكانت شعبية الأدب وتفاعله مع القارئ – من بين مفردات الالتزام – على سبيل المثال – تسكنني تلقائيا أو عفويا، بحرارة، وربما بعتامة ساطعة، غير أن أمثولاتي كانت متناقضة: أتهجد في (ما الأدب)، أن الانسان حر في التاريخ، وبالتاريخ، ومن أجل التاريخ، وأهتف بالقفلة السارترية الشهيرة: لذلك، حرية الانسان كالتزامه: فعل تاريخي وبسبب السعي الى البر، من الوجودية – على الأقل – ارتبك بقول سارتر بقصور الماركسية، التقليدية أو البنيوية، لا فرق، عن ادراك العمل الفني بشموليته، ولم أكن أعلم من أمر البنيوية أو الماركسية البنيوية الا أقل القليل، كما لم يكن (التزام) كاهو أقل ارباكا لي.
في الآن نفسه كان ذلك كله يغيب تماما وأنا أحاول كتابة الرواية. ومن (ينداح الطوفان) عام 1970 الى (سمر الليالي) عام 2000 علمتني كتابة الرواية – هل من عبارة أدق؟ – هذا الغياب الذي يعني أيضا غياب أية فكرة مسبقة أثناء الكتابة. وساجد بعد حين في القول باللاشعور المعرفي، ما يرضيني من تفسير هذا الغياب.
ربما كان ذلك حقا كما عبرت مرارا في حوارات وشهادات شتى، فصاما أعيشا بامتياز. ربما كان ازدواجية في الشخصية، أو أي مرض نفسي آخر يعبر عن غياب اشبه بالنوم العميق أو الموت الشفيق للناقد وللنقد في، عندما أكتب رواية، فلا هذا المفهوم أو ذاك للأدب، ولا هذا المفهوم أو ذاك أو زياك للرواية، ولا الالتزام، ولا أي من المفردات القديمة، لا الواقعية ولا الانعكاس ولا النمذجة ولا التحزب ولا الأيديولوجي، ولا أي من المفردات الجديدة المترامية بين باختين ويدوس – مثلا- لا شيء من ذلك يخطر لي على بال عندما أكتب رواية. ولا يعني ذلك بالطبع أن أثرا ما من كل ذلك ومن سواه لم يتسلل من الخافية، ليشكل شخصية روائية أو ليتدخل في خطاب روائي، بنتوء او بخفاء او بسلاسة، فكتابة الرواية علمتني كيف أتصدى لذلك، وكيف أترك لها أن تلاعبه عندما تكون لها حاجة به. هل يعني ذلك أني سلطت نفسي في الصفحات السابقة قيوما على الآخرين، فيما أطلق كتابتي الروائية لترمح على هواها؟
سأدع الجواب لمن هو أقدر على أن يساهم في كتابة سردية الالتزام، في الحضور وفي الغياب، وبانتظار ذلك أتساءل عن نقدنا الأدبي الحداثي بعامة، وأتساءل بخاصة عن النزوع المتنامي الى القول بأدب أنثوي عربي، فيما مازال القول بالنقد الأنثوي خافتا، على العكس مما في قبلة الحداثة المترامية بين أوروبا وأمريكا. ففور نقدنا الحداثي، وجله، خرج من أكاديمياتنا التي هي جزء من الجهاز الايديولوجي الحاكم، وفيه مما يناقضها كثير، ولكن ماذا عن القول بالأدب الأصم والنقد الأصم؟ وماذا عن التعالي على المنقود والتدرع التقني؟ كم في هذا مما يخدم الجهاز الايديولوجي الحاكم، وكم فيه مما يناقض هذا الجهاز؟ واين هو الالتزام من ذلك كله؟ أما القول بالأدب الأنثوي والنقد الأنثوي، فأين هو من الالحاح في أعداء قبلته على ربطه بالسياسة؟ وأين هو الالتزام من ذلك كله؟
لعل أحدا لا يزال يذكر ارنست فيشر في قولة: "ليس معنى الالتزام انه ينبغي على الفنان أن يتقبل ما يمليه عليه الذوق السائد، وأن يكتب أو يرسم وفقا لمرسوم برقم كذا أو كذا، وانما تسليمه بأنه لا يعمل في فراغ. وأنه في آخر الأمر ملتزم بالمجتمع. وكثيرا ما يحدث، كما أوضح ماياكوفسكي منذ أمد طويل، الا يكون هذا الالتزام الاجتماعي العام متفقا مع التزام واضح بمؤسسة اجتماعية معينة، وليس من الضروري أن يفهم كل الناس العمل الفني، ويقرره منذ البداية. فليست وظيفة الفن أن يدخل الأبواب المفتوحة، بل أن يفتح الأبواب المغلقة". على وقع هذه البساطة والدقة من أمس بعيد، على وقع الرطانة والتعقيد من يومنا، يستعاد السؤال على وجاهة الكتابة اليوم عن الالتزام، وتمضي المساهمة في كتابة سرديته من ذلك الأمس الى هذا اليوم، الى غد من اللعب والفرح، ستظل البشرية تروعه، مهما يكن من استفاقة الوحش في الانسان، ستدرعا بالعلم أو بالدين أو بسواهما.
هل يجلو ذلك سرا واحدا على الأقل من أسرار استمرار الكتاب في الكتابة، والقراء في القراءة؟ هل يبرر ذلك للأدب اليوم؟
فيما يرسل كل جوابا، وقيما يغدو الجواب سؤالا، أختم منوها بما قدم ابراهيم محمود لكتابه (صدع النص وارتحالات المعنى- 2000) من أمر الكاتب والصور، حيث الصور مفهوم كوني، وحيث لكل كاتب صوره، لكن الصور ليسر رهين الكاتب، بل العكس، واذا كان لكل كاتب أسلوبه في النفخ، فكواهن القارئ بانتظار نفخة الصور، ولكن.. ثمة صور لا ينفخ فيا، وآخر لا يتجاوز تأثيره صاحبه، وثالث يؤثر بقوة – وأضيف: ورابع وخامس- أما أهمية كاتب ما، فتبرز في قدرة كلمته – نصه على إيقاظ القوى الغافية الأكثر انسانية في الصدور، أو متابعة تهذيبها تاريخيا.
الهوامش
1- نبيل سليمان: حوارات وثمهادات، دار الحوار، اللاذقية 1995، ص 19-23.
2و 3- المصدر السابق، ص 89.
4- دار ابن خلدون، الطبعة الأولى، بيروت 1974، وقد صدرت الطبعة الثانية عن دار الحوار، اللاذقية 1985.
5- ذكر ناشر الطبعة الأولى أسامة الغزي أن ردود الفعل على الكتاب بلفت خلال ستة أشهر من صدوره ما بلغ في صفحاته التي نافت على الأربعمائة (مجلة البلاغ المحتجبة العدد 184، 21- 28 تموز- يوليه 1975 بيروت)، وقد جمعنا، بوعلي ياسين ومحمد كامل الخطيب وأنا، ردود الفعل في سورية، في كتاب: ((معارك ثقافية في سورية))، دار ابن رشد، بيروت 1980.
6- حوارات وشهادات: قضايا الرواية ص 24، الأيديولوجية في النقد والرواية ص 134، مذكور.
7- دار الفار ابي، الطبعة الأولى، بيروت 1980.
8- دار الطيعة، الطبعة الأولى، بيروت 1983.
9- هي كتاب: الرواية السورية، الطبعة الأولى، وزارة الثقافة، دمشق 1982، وقد صدرت الطبعة الثانية منه تحت عنوان (حوارية الواقع والخطاب الروائي)، دار الحوار، اللاذقية، 1999.
10- دار الحوار، الطبعة الأولى، اللاذقية 1985.
11- دار الحوار، الطبعة الأولى، اللاذقية 1989.
نبيل سليمان (روائي وناقد من سوريا)