خالد الريسوني
كاتب ومترجم مغربي
فرناندو أرابال ومسرحه الطليعي
يعتبر فرناندو أرابال كاتبا مسرحيا وشاعرا وسينمائيا إسبانيا اختار أن يعيش منفاه في فرنسا منذ 1955 لموقفه المعارض للنظام الدكتاتوري الفرنكوي، ولد بمدينة مليلية المحتلة بشمال المغرب في 11 أغسطس 1932، عاش فرناندو طفولة معقدة بعد أن تلقت أسرته ضربة قاسية نتيجة تعرض والده للسجن وصدور حكم بالإعدام في حقه خلال الحرب الأهلية الإسبانية ثم اختفائه الغامض، فقد كان والده فرناندو أرابال رويث ضابطا في الجيش الإسباني متشبعا بأفكار جمهورية، اعتقل في 17 يوليو 1936 ومنذ ذلك التاريخ ظل والد فرناندو أرابال وفيًا للدولة أثناء الانقلاب العسكري الأمر الذي أدى إلى الحكم عليه بالإعدام من قِبَل الانقلابيين بعد نهاية الحرب الأهلية الإسبانية، وبعد ذلك تم تخفيف الحكم عليه بالسجن ثلاثين عاما. قضى والد فرناندو أرابال فترة سجنه متنقلًا بين عدة سجون مثل: : سانتي إسبيريتو في مليلية، مونتي هاشو في سبتة (حيث حاول الانتحار)، ثم مدينة رودريغو، وبورغوس. وفي الرابع من ديسمبر 1941 نُقل إلى مستشفى مدينة بورغوس بسبب الاشتباه بإصابته بمرض عقلي. بعد ذلك كشفت عدة تحقيقات أنه تظاهر بالمرض لكي يُنقَل إلى مكان أقل تأمينا. وفي 29 ديسمبر 1942 هرب من المستشفى بمنامته وسط حقول مكسوة بالثلوج. وبعد هذه الحادثة، ورغم كثرة البحث عنه، لم يرد عنه أي خبر بعد هروبه إذ اختفى نهائيًا.
عادت أم أرابال مع باقي أفراد الأسرة إلى مدينة رودريغو مستقر عائلتها مع أبنائها الثلاثة: فرناندو وكارمن التي تكبره بسنة، وخوليو الذي كان أصغر منه بسنتين، محاولة ممارسة محو صورة الزوج الأب الذي اختفى قسرا من ذاكرة أبنائها متنكرة له في أبشع صورة وهو ما اعتبره الكاتب خيانة، وجعله يحقد على أمه التي لم تعرف كيف تكون وفية لذكرى الأب، هنالك في مدينة رودريغو سيبدأ بتعلم القراءة والكتابة، وسينال الجائزة الوطنية للتلاميذ الموهوبين وهو في سن العاشرة، أكمل أرابال دراسته الجامعية في مدريد.
عاش فرناندو حياة شباب قاسية، ففي عام 1947 أرغمته أمه على القيام بدورات تكوينية استعدادا للالتحاق بالأكاديمية العسكرية لكنه لم يكن يحضر الدروس التكوينية، وهكذا تم إرساله سنة 1949 إلى مدينة تولوسو في منطقة غوبوسكوا حيث درس في المدرسة نظريا وعمليا صناعة وتجارة الورق، وفي هذه الفترة وتحديدا في سنة 1950 كتب أرابال سلسلة من الأعمال المسرحية. واشتغل سنة 1951 في مصنع للورق، ثم سافر إلى مدينة فالينسيا، حيث حصل على البكالوريا ثم رحل إلى مدريد سنة 1952 حيث التحق بالجامعة وشرع في دراسة الحقوق. واحتك خلال تلك السنوات بالأوساط الثقافية والأدبية بمدريد وعلى الأخص بالعديد من الشعراء، وكتب صياغات جديدة لمسرحية النزهة (التي كان قد اختار لها كعنوان (الجنود) ثم مسرحية الدراجة الثلاثية التي عنونها في البداية بـ(رجال الدراجة الثلاثية).
وفي سنة 1954 سافر من محطة الحافلات من مدريد إلى باريس لكي يشاهد العرض المسرحي لمسرحية (الأم الشجاعة وأبناؤها) لبيرتولت بريشت التي قدمتها فرقة برلين على خشبة مسرح سارة بيرناردت في باريس. وبعد ذلك تعرف في مدريد على مترجمة للغة الفرنسية هي لوثي مورياو التي ستصير فيما بعد زوجته. سيحصل فرناندو أرابال عام 1955 على منحة دراسية لمدة ثلاثة أشهر في باريس، وبينما كان مقيما في المدرسة الإسبانية بالمدينة الجامعية الفرنسية أُصيب بالسل، وهو ما اعتبره طالع سوء حظه. في عام 1967 أثناء فترة حكم الديكتاتور فرانكو تم الحكم على أرابال بالسجن على الرغم من تضامن غالبية كُتاب هذه الفترة معه، بدءًا من فرانسيس مورياك وحتى أرتور ميلر، وقد كتب أثناء ذلك الكاتب المسرحي الأيرلندي صامويل بيكيت ملتمسه الشهير يتضامن فيه مع الكاتب الإسباني ويحث المسؤولين على الإفراج عنه، وبعد موت فرانكو استطاع فرناندو أرابال أن ينال احتفاء حقيقيا من مواطنيه وفي بلده إسبانيا. ولاقت بعض مسرحياته إقبالا كبيرا خلال سنوات عديدة وعرضت على خشبات أهم المسارح الوطنية، كما تم تكريم العديد من أعماله بجوائز مهمة سواء في إسبانيا أو في باقي بلدان العالم…
لقد عانى الكاتب الإسباني من الاختفاء الغامض لوالده الذي حُكِمَ عليه بالإعدام وتم الكشف بعد ذلك عن إحراقه. وبسبب الصدمة التي مثلها الحدث المأساوي للأب سيختار فرناندو أن يقف في صف المعارضين للحكم الفرنكوي، لقد أثر كل ذلك في تكوين أرابال وكان التأثير ذا طابع أخلاقي، وظهر بشكل جلي في إنتاجه الأدبي والفني وهو ما نسميه الأثر الأوتوبيوغرافي في أعمال فرناندو أرابال التي تتوزع بين الرواية والمسرح والشعر والسينما، إذ أخرج مؤلف المتاهة سبعة أفلام، ونشر ثلاث عشرة رواية والعديد من الدواوين الشعرية والنصوص المسرحية، وعددا لا يحصى من المقالات من بينها تلك التي ظهرت في كتبه عن الشطرنج. وقد تُرجمت رواياته ومسرحياته إلى العديد من اللغات، وكان خطابه للجنرال فرانكو الذي نُشر إبان حياة الدكتاتور، ذا صدى وأثر خاص بين المثقفين الإسبان. وقد نُشِرت أعمال أرابال المسرحية الكاملة في مجلدين يضمان أكثر من ألفي صفحة سنة 1997 كما تم تحديث هذه الأعمال سنة 2009.
لقد أسس فرناندو أرابال في باريس عام 1963 مع الكاتب المسرحي والشاعر والمخرج السينمائي الشيلي أليخاندرو خودوروسكي والفنان والممثل الفرنسي رولاند توبور جماعة الذعر “El Grupo Pánico” معتمدين في ذلك على أسس متينة في بناء أعمدة مسرح الذعر بالاعتماد -خاصة- على مفاهيم الحركة السوريالية التي قضى أرابال في أحضانها وبمعية أندريه بروتون ثلاث سنوات، كما كان صديقا حميما لآندي وارهول وتريستان تزارا، ولذلك لطالما اعتبره ميل جوسو الناجي شخصية متفردة من أقطاب تيار الحداثة الثلاثة.
متاهة الذات عبر
فضاءات وتعبير كافكا
كشف المؤلف نفسه أن هذا العمل الذي يحمل الآن عنوان “المتاهة” كان عنوانه الأصلي، حسب فرناندو أرابال “احتفاء بكافكا”، لكنه في الأخير، استقر على رأي وضع عنوانه الحالي، وهو “المتاهة” الذي لا يخون بأي شكل من الأشكال إحالته على عوالم كافكا وفضاءاته، وقد صدّر فرناندو أرابال مسرحية المتاهة بإحالة على عبارة كافكا: “مسرح أوكلاهوما العظيم/ يناديكم! سوف يناديكم اليوم فقط، / للمرة الأولى والأخيرة!” لقد افتتح أرابال عمله من حيث أنهى كافكا عمله من منظور حياة جديدة بدأها كارل، (شخصية تنتمي إلى السود) من خلال ولوجه العالم الملغز لـ: “مسرح الطبيعة لأوكلاهوما”، ولعل فرناندو أرابال كان لديه دائما تقدير خاص لكافكا وعوالمه الروائية التي يستحضرها في هذا العمل المسرحي، وهي عوالم لا تنأى بعيدا عن معالم حياة أرابال من حيث الجانب السير ذاتي. واستحضارا لكافكا سُئِلَ الكاتب الإسباني إن كانت لديه حساسية ما، بصدد الملمح الكافكاوي للحياة الاجتماعية في إسبانيا، ويجيب أرابال: إن كنا نقصد بـ”الملمح الكافكاوي” العبثية البيروقراطية والشراسة المتاهية، فذلك إذن مؤكد، لقد صادفت في إسبانيا شخصية من اليمين بصورة المسيح على ظهر سترته، وكانت كلماته الأولى هي ما حثني على كتابة مسرح اشتراكي، وعلى العكس من ذلك، إنسانا من اليسار استقبلني في بيته الذي كان مزينا بتحفٍ لا تعد ولا تحصى، يهيمن عليها بورتريه ضخم لكونت برشلونة جون خوان. أمام حالات من هذا الصنف تتكرر آلاف المرات (مثل حالة المثقف الموالي لـ “كاسترو” والذي نعرف أنه يتلقى أيضا مساعدات مالية من حكومة مدريد). ينتابني شعور ما بانعدام الثقة الكافكاوي، ربما بسبب تمركز حول الذات من جهتي، وهو يجعلني أرى الإنسانية جمعاء متحدة ضدي لتقودني نحو لست أدري أية هوة. رغم كل ذلك، وبخصوص كافكا وعلاقاته مع إسبانيا، يمكنني أن أقول إنه الإنسان الذي قدم أحد التأويلات الأكثر تميزا لدون كيخوتي معتبرا سانشو شكلا من الشيطان الذي يغري سيده. ورغم كل ذلك، فمن الواضح أن كافكا ليس له علاقة كبيرة مع إسبانيا لأن لديه ميزة إضافية مجهولة هناك، سخريته، “يجب أن أعترف بأنني أضحك عاليا حين أقرأه، وأضحك كثيرا أيضا حين أقرأ ديستويفسكي.”
يتلقى أرابال الشكل التعبيري الملائم من كافكا، لتأجيل المحاكمة السخيفة والتراجيدية لإنسان محبوس، وإذا كانت العناصر الأوتوبيوغرافية بارزة وجلية في مضمون هذا العمل المسرحي، فليس أقل منها المحاكمة التي يخضع لها معطيات سيرته. من الواضح أن فرناندو أرابال يقدم في هذا العمل احتفاء مزدوجًا بكافكا الذي يمنحه الصيغة التعبيرية وبوالده الذي يشكل سجنه واختفاؤه هنا النسيج العنيف لصيرورة الإبداع. وبإبراز المحتوى الأوتوبيوغرافي لهذا العمل المسرحي، يجب أن نجلي أنه بلا شك يعتبر إحدى الوثائق اللاذعة والأشد قسوة في نقد النظام الدكتاتوري الفرنكوي، تجانس الاعتقال والسجن ومحاكمة إستيبان مع التحول اللايصدق الذي يطرحه فرناندو أرابال في مسرحية المتاهة بصدد كشف معارضة تشكيل النظام الاستبدادي الفرنكوي، وفيها تتبدَّى الملاءات التي لا يمكن غسلها والتمرد على “العدالة” في مواجهة النظام القانوني، وأبشع ما في ممارساتها: السجن دون تبرير أو تعليل في متاهة من الملاءات وتنظيم حرب يقتتل فيها الإخوة من أجل “خلاص” الوطن، وأيضا التخطيط للقمع غير القابل للضبط والتحكم وغير القابل للتفسير والتعليل لأنه لا يستند إلى منطق أو عقل بتآمر من عدالة منحطة وحقيرة في خدمة الطاغية. لم تتوقف أعمال أرابال فقط عند مسألة نقد النظام الشرس الذي سجن أباه وجعله يمحى من خريطة الوجود، بل ومضى أبعد من توصيف أهوال الحرب الأهلية لإضاءة مشاهد الترهيب والرعب في مجتمع منظم على قاعدة سلطة مطلقة خفية وجلية في آن واحد، غير متحكم فيها ومجهولة معلومة تتصارع فيها شخصيات أرابال وتتجادل وتتحاور، شخصيات “تعيش” العالم المأساوي لمجتمعات تمضي باتجاه شكل من التقدم، ففرناندو أرابال اختار أن يتجاوز الحكاية المحددة بدقة والخطبة اللاذعة والمتحمسة في مهاجمة وجلد الطاغية ونظامه الفاشي، وذلك يعتبر من مكونات خطابه المسرحي وملمحا مميزا من ملامح أعماله المسرحية لكن هذا الخطاب استفاد بشكل عميق من جماليات مسرحية وربما كان للسوريالية المتمثلة في توجهات أندريه بروتون ولأفكار أنطونين آرتو في المسرح كثير من التأثير على تحديد ملامح وخاصيات الأعمال المسرحية لأرابال، هذا دون أن نغفل تأثيرات كافكا وديستويفسكي وغيرهما، لقد تحدثنا سابقا عن كون فرناندو أرابال وجد لدى كافكا شكله التعبيري الملائم في مسرحية المتاهة التي نقدمها هنا للقارئ.
تتمحور مسرحية المتاهة حول شخصية محورية تعاين اقتناصها في متاهة وتشهد على ملاحقتها في مسار محاكمة تافهة تنتهي بالحكم عليها بالإعدام، كل ذلك كنتاج طبيعي لِلعبة طقوسية أو شراك تتحكم شخصيات أخرى في نسج خيوطه بإحكام، هذه الشخصية هي شخصية إستيبان، الذي سيقع ضحية لمؤامرة برونو الذي يعلم جيدا استحالة مشروعه لكنه لا يوضح له أبدا وضعيته في هذه اللعبة، بل إنه يقع أيضا ضحية لطقوس ميكايلا (الابنة العاشقة التي تحاول أن تستدرج إستيبان) ومع ظهور خوستينو يكتشف إستيبان بالغريزة من أوقعه في شراك هذه المتاهة، لكن والأفظع من كل ذلك يكتشف وضعيته على رقعة أشبه برقعة شطرنج في إطار لعبة طقوسية سيتعرض خلالها لمؤامرة وخيانة ميكايلا، وفيما بعد سيعمل خوستينو ذاته على فرض اختلال توازن المرأة، بعد العرض التمثيلي، تستعيد ميكاييلا ثقة إستيبان المحكوم بالإعدام من خلال تبرئته وتأكيد شراسة الأب الذي ليس حقًا أبًا شرعيا وطبيعيا لها لكن سدى، فمحاكمة إستيبان المعدة سلفًا في لعبةِ طقوسٍ أشبه بمهزلة ساخرة لعدالة فاسدة معروضة للبيع والشراء، وللمساومة، في النهاية تتحقق اللاعدالة بشكل فعلي في المحاكمة الشكلية الفاسدة، ويتم الشروع في لعبة أخرى، إذ يظهر من جديد برونو الذي يبدو راغبا في تقديم العون والمساعدة بعد الاختفاء القسري لإستيبان مثلما حدث من قبل مع آخرين سبقوه إلى تجرع مرارة الكأس ذاتها، والمشهد يبدو مثل المشهد السابق عليه اصطياد الحيوان المطارد وغياب أي أفق في الحاضر والآتي، فالزمن هنا بأبعاده المختلفة مقيم ومستديم ولا سبيل للخلاص منه، محاصر بوضعية غير قابلة للاستيعاب، أعنف وأقوى وأشرس من الوعي ذاته وهي وضعية تترسخ يوما عن يوم على هامش أي إمكان للتغيير أو النجاة والهروب…
شخصيات في “المتاهة”:
إن العلاقة الشفوية بين الشخصيات في “المتاهة” تكشف أن إستيبان يتمتع بدور مركزي، فهو المحور الذي ينتظم حوله الفعل الدرامي، يستقبل الخطابات 163 مرة في حين يصدر الخطاب عنه في 128 مرة، وهو ما يكشف عن معاناته من الفعل الموجه ضده، إذ يتبدى كشخصية مسالمة، غير فعالة، بل وسلبية. يرتبط بعلاقات بكل شخصيات المسرحية وهو ينخدع ويتعرض بشكل ما لطعنات الخيانة من قبل الجميع، برونو يجعله يعتقد أنه مات، وميكاييلا لا تكف عن مغالطته وخداعه على امتداد مراحل المسرحية، خوستينو ينصب له الشراك والمقالب في كل أحداث العمل المسرحي من البداية وحتى النهاية لكي يجعله يغرق ويستسلم خلال محاكمته، والقاضي يحرك ضده كل عدة الآلة القضائية المهيأة سلفًا من أجل حرمانه من الحرية بل ومن الحياة… وحتى لو كنا لا نعرف لماذا وكيف وصل إستيبان إلى الوضعية التي يقدمها لنا المؤلف، شيئا فشيئا نكتشف أنه اقتيد بشكلٍ عبثي نحو آلة تم تسخيرها ضده للاقتصاص منه ظلما وبهتانا من قبل آليات وممثلي السلطة القائمة ونظامها لإخضاعه، إذ نستطيع من خلال تتبع أحداث المسرحية أن نكتشف احتجاجاته وحركاته المعارضة والمخالفة للقائمين على النظام والساهرين على تكريسه كواقع قدري لا مفر منه، وهو ما ينتهي بسحقه وتحويله إلى عدم، ثمة سلطة عليا قاهرة عنيفة ومطلقة تعمل على ترويض المواطن البسيط، وإذا استدعى الأمر ذلك يمكن أن تجتثه من جذوره، سلطة تُخضِعُ ولا تَخْضَعُ، لا تقدم حسابات لأحد لأنها ليست ملزمة بذلك في غياب الرقابة والمحاسبة، ويمثلها في العمل شخصية خوستينو، الذي يتآمر مع القاضي في لعبة تمثيلية لنسف حياة إستيبان، فالقاضي هو اليد التي تنفذ المؤامرة ضد من يحتج ويعارض ويسير في الاتجاه الآخر… أما ميكاييلا فهي حلقة وصل بين إستيبان المواطن المسالم والبسيط وأبيها خوستينو الوجه الشرس للسلطة القائمة، وهي بالإضافة إلى تسلحها بالكذب والخداع والمؤامرة والوشاية الكاذبة، فهي الوسيلة الموظفة للتخلص من إستيبان وأمثاله وإدانتهم، بل سلب الحياة منهم…
وختاما، نقول إن هذا العمل المسرحي هو بشكل ما استعادة لكافكا ولعوالمه الروائية في صورة يبدو فيها العالم عبثيا تُسيِّرُه أيادٍ متآمرة وقذرة، أيادٍ تنشرُ الموت، وتغتال الإنسان والعدالة والأمل في حياة كريمة تستحق أن يتمسك بها الكائن البشري لتحقيق أحلامه ومطامحه وإنسانيته دونما إفراط، ودونما جلبة…
نص مسرحية “المتاهة” لفرناندو أرابال:
مسرح أوكلاهوما العظيم
يناديكم! سوف يناديكم اليوم فقط،
للمرة الأولى والأخيرة!
فرانز كافكا **
الشخصيات:
إستيبان
برونو
ميكايلا
خوستينو
القاضي
تتكون مسرحية المتاهة من فصل واحد
تصميم خشبة المسرح من طرف فرناندو أرابال لمسرحية المتاهة:
خشبة المسرح تشغلها بالكامل متاهة مكونة من بطانيات. البطانيات معلقة، مثل ملابس الغسيل التي توضع على أسلاك لكي تجف، فوق الحبال التي تعبر خشبة المسرح في كل الاتجاهات”.
على اليمين: مرحاض صغير مظلم وقذر. يحتوي المرحاض على نافذة صغيرة ذات قضبان تتصل بالفضاء الذي تتركه متاهة البطانيات حرا في منتصف خشبة المسرح.
كل هذا، أي ما يراه المتفرج، ليس إلا جزءًا صغيرًا جدًا من حديقة-متاهة كثيفة تشغلها البطانيات”.
في المرحاض، مستلقيين على الأرض، برونو وإستيبان. مربوطين معا بواسطة أصفاد عند الكعبين. برونو مريض جدا ولا يكاد يستطيع التحرك. وهو أيضا متسخ للغاية وله لحية منذ عدة أيام. إستيبان يرتدي بدلة نظيفة إلى حد ما ويبدو أنه يتمتع بصحة جيدة. يقوم إستيبان ببَرْدِ القيود التي تربطه ببرونو.
برونو: أنا ظمآن. (توقف. وهو يبذل مجهودًا للكلام) أعطني ماء.
(يواصل إستيبان برد القيود، محاولا بذلك كسر الأصفاد.)
برونو: (بصوت خفيض مثل خيط) بي عطش شديد.
(إستيبان منزعجا، يزحف نحو حوض المرحاض. برونو يئن بصوت عالٍ. إستيبان يسحب السلسلة المشدودة باتجاه خزان المياه، يأخذ بعض الماء بيديه ويعطيه لبرونو. وعلى الفور يحاول نزع الأصفاد. يبذل جهودا كبيرة، من الواضح أن هذا يتسبب في الأذى لبرونو، ما دام إستيبان يسحب الأصفاد بشدة. كان الآخر يشتكي).
إستيبان لا تشتك كثيرًا. (يواصل عمله. يشتكي برونو من جديد) هل هذه هي الطريقة التي تساعدني بها؟ (توقف) ابذل جهدا. اتركني أحاول الخروج. (توقف) هذه هي الفرصة الوحيدة التي نمتلك لكي يتحقق لنا العدل. (توقف) لما أصير حرا طليقا، سوف أذهب إلى المحكمة وألتمس منها أن تدرس قضيتنا بدقة بالغة. صحيح أنني لن أقول إننا ملائكة، لأن هذا لن يكون صحيحًا، لكني حقا سأجعلهم يرون الظلم الذي اقترف ضدنا.
برونو: أنا ظمآن.
إستيبان: مرة أخرى!
– برونو (منهكا) لديَّ عطش شديد.
– إستيبان: انتظر حتى أنتهي. لمَّا أتحرر من القيود سأعطيك كل الماء الذي تريده.
(برونو يشتكي. وإستيبان يواصل عمله بعناية. يتحمس، يبدو أنه سيحرر من الأصفاد. يئن برونو بصوت أقوى وبساقه الحرة، رغم قوته الواهنة، يضرب إستيبان بركلات).
إستيبان (مستاء جدا) لا تبدأ من جديد! على الأقل دعني وشأني في سلام ولا تقم بركلي.
برونو: أنا ظمآن.
إستيبان: انتظر لحظة.
(يستمر إستيبان في برد الأصفاد. ومن حين لآخر يسحب بشدة. فيشتكي برونو أكثر فأكثر ويركله).
إستيبان: كيف تريدني أن أشرح لك ذلك؟ اتركني أعمل. هذه هي الإمكانية الوحيدة التي نمتلك أم أنك تريد لنا أن نبقى في هذه الزاوية خلال الحياة بكاملها؟
برونو: أنا ظمآن.
إستيبان: (غاضبا) سوف أذهب.
(يمنحه إستيبان الماء بعد أن قام بسحب السلسلة)
إستيبان: هل أنت مطمئن الآن؟
(يستمر في برد القيود وبرونو يشتكي.)
إستيبان: لقد أوشكت على الانتهاء. (جد سعيد). جهد أخير وأكون بعدها متحررا.
(يقوم برونو بتوجيه ركلاته إليه أكثر من أي وقت مضى، مضايقا له بشكل غير عادي. يدافع إستيبان عن نفسه برأسه ويستمر في برد السلاسل ممتلئا بفرح كبير. بينما برونو يشتكي).
برونو: لدي عطش كبير.
إستيبان: انتظر لحظة.
(يضايقه برونو أكثر فأكثر. بينما يواصل إستيبان عملية البرد. وأخيرًا، يتمكن من كسر القيود. إنه الآن حر).
برونو: أنا ظمآن.
(يعطيه إستيبان الماء ويغادر المرحاض على الفور. برونو، رغم وهنه، يوجه يديه نحوه للإمساك به).
برونو: لدي عطش شديد.
(يبقى برونو مضطجعا داخل المرحاض. وإستيبان في الفناء، مرتابا. يدخل أخيرًا بلا تردد في متاهة البطانيات، يختفي، إذن.
(صمت).
يظهر مرة أخرى، ويتجه إلى نافذة المرحاض، ينظر إلى الداخل. برونو، وهو يبذل مجهودًا، ينضمُّ بمشقة).
برونو: أنا ظمآن.
(إستيبان يهرب خائفا لكنه قبل أن يدخل متاهة البطانيات يرتاب. وأخيرا يختفي بينها.
(صمت).
(يبدو، من جديد، متعبًا جدًا كما لو أنه قطع المتاهة ركضا بسرعة كبرى. يتجه إلى نافذة المرحاض، ينظر عبر القضبان، برونو بجهد كبير يلتحق، بجهدٍ جهيدٍ).
برونو: أنا ظمآن.
(إستيبان يهرب في رعب. يذهب إلى متاهة البطانيات يرتاب قبل الدخول إليها. يختفي. صمت. يظهر. يذهب إلى النافذة. برونو ينضم. يرتاب. يختفي. صمت. يظهر. اللعبة نفسها. إستيبان جد متعب يظهر من جديد).
(صمت).
(تنبثق ميكايلا من بين البطانيات).
ميكايلا: ماذا تفعل أنت في بيتي؟
إستيبان: لقد ضللت الطريق، أبحث عن سبيل للخروج. (توقف).لا أعثر على سبيل للخروج. قمت بدورات ودورات في الفناء بين البطانيات ولما أظن أني قد عثرت على السبيل، يتضح لي أنني أعود من جديد إلى هنا.
ميكايلا: ليس هذا غريبا. لما قرر والدي أن يضع مكانا لنشر الغسيل في الفناء، تخيلنا جميعًا نظرًا لاتساعه الاستثنائي، أنه سيصير متاهة، لا سيما بالنظر إلى أننا عادة لا نعلق إلا البطانيات.
إستيبان: لكن أنت يمكنك أن تخبريني عن طريقة الخروج من هنا.
ميكايلا: سأكون سعيدةً للقيام بذلك لو كنت أعرف على وجه اليقين السبيل الذي يجب أن يُسلك. لكن لسوء الحظ، رغم جهودي لتعلم كل مسالك الخروج، فإنني بعد ما زلت غير قادرة على التوجُّهِ بشكل صحيح.
إستيبان: وإذن، لماذا أتيت حتى هنا؟
ميكايلا: لو كنت تعرف بيتي، لما فاجأك هذا على الإطلاق. والدي رجل جد صالح، لكنه تربى بطريقة جد صارمة، وهو ما جعله يجبرنا جميعًا في البيت على الحفاظ على النظام في هدوء مفرط. ولهذا السبب، من وقت لآخر، أغامر بالخروج إلى الفناء لكي أتمكن من مغادرة أجواء البيت، ولو للحظات قليلة. سأخبرك، لكي تكون لديك فكرة، في البيت يجب أن نرتدي جميعًا فساتين سهرة، ولا يمكننا التحدث إلا بنبرة هامسة، إننا يجب علينا أن ننحني له –أي لوالدي- في كل مرة نراه فيها، ولا يمكننا أن نطلَّ من النوافذ، ولا نستطيع أبدًا أن نضحك، … إلخ. سوف تفهم جيدًا أنني أرغب في أن أقوم بنزهة من وقت لآخر في الفناء.
إستيبان: وكيف خطر لرجل جدِّ مُنظَّمٍ فكرة صنع هذه المتاهة العاتية من البطانيات؟
ميكايلا: أنت محق، في البداية يبدو هذا سخيفًا، لكن عند معرفة الظروف الخاصة ستدرك أنها ليست للغاية كذلك. سأحكي لك. هذا الفناء الذي له امتداد شاسع جدًا: كيلومترات وكيلومترات: كان في البداية أرض استراحة حيث كنا نستطيع جميعًا أن نلعب بالشكل الأكثر حرية. فكرة تحويل هذه الحديقة إلى مكان لنشر الغسيل أتت لوالدي بطريقة مبررة جدا. يمكن القول تقريبا بسبب الحاجة. في بيتنا الذي يتوفر كما لربما تعلم على العديد من غرف النوم، منذ أعوام عديدة لم يكن يتم غسل البطانيات. في البداية هذه الأشياء كانت تحدث بالشكل الأكثر اعتيادا. لذلك كان والدي قد قرر أنه كلما كانت هناك حاجة لاستبدال بطانية لأنها صارت وسخة، فإن الأمر يتم بأبسط الطرق: أي استبدال الوسخة بأخرى جديدة وأخذ الوسخة إلى القبو. كان والدي قد فكر أن من الأفضل أن يتم الانتظار حتى تكون هناك العديد من البطانيات الوسخة، وهكذا وبطريقة أكثر اقتصادا، غسلها جميعها في الوقت ذاته. مر وقت طويل والبطانيات يتم تخزينها في القبو. كان والدي مذعورا. ولذلك بدأ يبحث عن عمال لغسل البطانيات ولكن للأسف في المنطقة، خلال تلك الفترة لم يكن هناك عمال بعدد كاف. حينئذ قرر إخطار أصدقائه في العاصمة، الذين شرعوا على الفور في البحث عن عمال، بينما من جهة أخرى، كانت البطانيات الوسخة، نظرا لضيق المساحة في القبو، صارت تشغل حقا أفضل الغرف في الطابق الأول. وبالنظر إلى كون الوضعية بدأت تسوء يومًا عن يوم، لأن البطانيات صارت تهدد حقًا بشغل الطابق الأول بكامله، وهو ما كان من شأنه أن يزعجنا إلى أقصى حد، لأننا في حالة احتلالها له بالكامل وبشكل نهائي بالتأكيد، كان يجب علينا أن نبني أدراج تأمين خارجي، وكما قلت لك، ففي ضوء الوضع الذي كان يزداد سوءًا يوما عن يوم، قرر والدي الذهاب شخصيًا إلى العاصمة للتعاقد مع العمال، لكن لسوء الحظ، كان العمال مضربين ولا أحد منهم كان يرغب في الاستجابة لملتمسات والدي. حينئذ قرر أن يعدهم بمضاعفة الأجر مقارنة بالأجر العادي، وهو الأمر الذي لم يرضهم تمامًا، ليس لأن الأجر كان يبدو لهم ضئيلًا، بل لأنهم كانوا يخشون قمع رفاقهم لهم. وفي غضون ذلك، كنت أعتني أنا بالبيت وأحاول بطريقة أكثر عقلانية أن أضع البطانيات بطريقة تجعلها تشغل فضاء صغيرا، لكن بطبيعة الحال كان يتواصل رغم جهودي، تراكم البطانيات أكثر فأكثر مهددًا، لمزيد من الفظاعة، الأدراج الرئيسة بجدٍّ. كل هذا أبلغت به والدي في عدد من الرسائل التي لم يرد عليها. ومُفاجأةً بتأخيره وبقلة الأخبار التي تتوفر لدي عنه، اتصلت به في الفندق الذي كان يسكنه، وهناك قالوا لي إنه اختفى خلال عدة أيام دون أن يترك عنوانه الجديد. هذا الخبر أصابني بالفزع، الأكثر من ذلك وأخذا بعين أنه ينضاف إلى ذلك أن البطانيات كانت تمنع الدخول عبر الأدراج الرئيسة وأن الأدراج التي بنيناها للدخول مباشرة إلى الطابق الثاني كانت جد واهنة ولم يكن من المستغرب أن تتحطم في يومٍ ما. وهو ما لن يكون مأساويًا جدا إذا ما كان البعض منا في ذلك الحين موجودا في الشارع، لكن الأمر الذي كنا نخشاه حقا أننا إذا كنا جميعنا نوجد في الطابق الثاني، فلن تكون هناك وسيلة بشرية لوضع أدراج جديدة. الوضعية، وسوف تفهمني جيدًا، كانت تتحول كل يوم مأساوية أكثر فأكثر. بعد أيام من غزو البطانيات للأدراج الرئيسة، تاركة لنا في الوسط بلا تواصل مع العالم الخارجي، مع تهديد جدي للغاية بعزل للطابق الثاني، ظهر والدي مع مائة رجل لم نكن نعرف أبدا من أين جاء بهم. وما استغربناه أكثر هو أن يأتوا جميعهم مقيدين بالسلاسل. وقد شرح لنا والدي أننا ما دمنا في زمن إضراب، فقد كان من الضروري أن يتم إمساك العمال بشكل جيد إلى العمل. وقد قاموا فورا بإنشاء مراجل ضخمة لتسخين الماء، وخلال أشهر عديدة قام العمال بغسل البطانيات. وظن والدي أنه من الأفضل أن يتم تجفيفها في الحديقة، ما دام أنه بفضل امتدادها الشاسع يمكن أن تكون هناك أرض كافية لتعليق البطانيات جميعها. في البداية وضعها العمال في ترتيب محدد، بالتوازي مع مراجل تسخين الماء، لكن للأسف كانت البطانيات كثيرة جدا إلى حد أنها ولكي تستفيد من جميع المساحات الخالية شكلت بطريقة دقيقة هذا النوع من المتاهة في الحديقة. العمال الذين من جهة أخرى، كانوا في البداية مقيدين بالسلاسل، فرض الأمر الواقع على والدي أن يحررهم من القيود مادام امتداد المتاهة شاسعا جدًا، وكانت المراجل بعيدة جدًا عن حبال الغسيل الأخيرة لتعليق البطانيات، حيث كان من المستحيل تمامًا العثور سلاسل جد طويلة بهذا الشكل الاستثنائي. لهذا السبب، وباستغلالهم الليل، بدأ العمال يغادرون واحدًا تلو الآخر حتى لم يبق منهم أحد. وصارت الوضعية التي يواجهها والدي حاليًا حرجة جدا: البطانيات معلقة لكن لا يمكن إزاحتها من الحبال لعدم وجود عمال. ومن ناحية أخرى صارت تشكل متاهة أمام البيت تمنعنا تمامًا تقريبًا من الخروج، إن لم يكن بسبب خطر التيه وسط البطانيات المعلقة والموت من العطش والتعب والإرهاق. بالإضافة إلى ذلك، في الوقت الحالي لا يمكن حتى في الحلم تصور أن تستطيع العثور على العمال الضروريين (مائة أو مائتين أو ربما ألف أو أكثر، هذا يعرفه والدي وحده) لسحب جميع البطانيات وجمعها بشكل صحيح حتى لا تعود لتسبب لنا إزعاجًا. ها أنت ترى أن وضعنا ليس جيدا على الإطلاق، خاصة بالنسبة لنا نحن الذين نتحمله بشكل مباشر. في نهاية المطاف، أنت هنا لست سوى في وضعية عابر ولا يمكنك أن تعرف بشكل دقيق حالنا بالكامل. (توقف. تنظر بوقاحة إلى القيد الذي يوجد في كعبه). إذا ما لم تكن ستتواجد هنا بشكل نهائي.
إستيبان: (وهو يغطي القيد بالرجل الأخرى بشكل أخرق.) بالطبع أنا لست هنا بشكل نهائي.
ميكايلا: أتمنى ألا تكون كاذبا. “سأكون مستغربة جدًا إن كنت في بيتنا أو في الحديقة بشكل نهائي وألا أكون على علم بذلك. على الرغم من أن والدي هو الذي يعرف بشكل مطلق كل من يعيش في البيت، فأنا من جانبي، يمكن أن أقول، دون خوف من أن أخطئ، إنني أعرف أيضًا الجميع أو على الأقل الغالبية العظمى…
برونو: الذي يستمر مستلقيًا في المرحاض، يتحدث بنبرة شكوى). لدي عطش شديد. (صمت)
أعطني ماء، يا إستيبان.
(صمت)
(إستيبان، وقد بدا عصبيا، يحاول إخفاء ذلك. ميكايلا التي سمعت صوت برونو، يبدو أنه لم يفاجئها على الأقل).
ميكايلا: عليك أن تضع في اعتبارك أن والدي لديه كل شيء منظم بشكل جيد. يمكن القول، دونما خطأ، لا يجهل شيئا مما يحدث في البيت أو في الحديقة. يكفي أن تكون هناك بطانية مفقودة، بطانية واحدة، -ولتضع في اعتبارك أن هناك الملايين والملايين في الحديقة- حتى يدرك ذلك على الفور، وإذا لم يكن يتدخل في بعض الأحيان مباشرة أو للتو أمام الشخص الذي سرقها، فذلك لأنه خلال وقته الثمين جدا، لديه أشياء أكثر أهمية بكثير ليقوم بها في تلك الأثناء، لأنه بدون شك، عاجلا أو آجلا، باتباعه لنظام جد معقد وغير مفهوم، سيتكلف بالأمر وسوف يحله بكل ثبات، مع مراعاة كل حالة من الظروف المُخفِّفة والمشددة للمجرم. لذلك…
برونو: (مقاطعا) لدي عطش شديد.
(صمت)
توتر عصبي من إستيبان، وهدوء تام من ميكايلا).
ميكايلا: كما كنت أقول لك، لهذا السبب يمكن للأمور أن تكون هنا في حالة فوضى ظاهريا وهو لا يكشف سوى عن وجود نظام أعلى أكثر تعقيدًا وإلحاحًا من ذلك الذي يمكننا أن نتخيله والذي يوجهه والدي بإتقان أشد فاعلية.
إستيبان: كيف تفسرين إذن هذه المتاهة من البطانيات التي تشكلت، حسبما أوضحت للتو، بسبب لا توقع والدك الذي سمح بتخزين البطانيات في القبو حتى تمت إعاقة مدخل البيت؟
برونو: أنا ظمآن.
(نفس اللعبة).
ميكايلا: سؤالك يبدو لي على صوابٍ، كنت سأطرح على نفسي هذا السؤال آلاف المرات لو لم أكن أعرف والدي، لكن الحل بسيط جدا. لقد أخبرتك بالفعل أن والدي يحافظ على نظام صارم في الأمور التي يعالجها. هذا يجعله أحيانًا يحل مشكلات تبدو لنا تافهة، مع إعطائها الأولوية على أخرى نفترض نحن أنها أكثر أهمية. وهذا لا يرجع إلا إلى اختلاف مقاييس القيم التي لدينا في علاقتنا مع والدي. على سبيل المثال، قلت لك أنه لمَّا كانت البطانيات تُخزَّنُ بشكل خطير في الطابق الأول، اتصلتُ به في فندقه حيث أخبروني أنه لم يعد موجودا هناك، وأنه غادر دون يترك عنوانه الجديد. بعد التحقيقات الدقيقة التي قمت بها، علمت، ليس دون احتمالات معينة في أن أخطئ، أن والدي قضى شهرًا في مدينة بعيدة جدًا، متناسيًا قضية البطانيات، وذلك لجمع بعض الأعشاب المشهورة بعلاج تورم الأصابع. وأكرر لك أنني لا أعرف ما إذا كان هذا صحيحًا حقًا، لأن حياة والدي هي لغز حقيقي بالنسبة لي، ولكن هناك احتمالات عديدة في أن يكون ذلك صحيحا، على أي حال، فإن هذه الطريقة في التصرف هي طريقة مميزة فيه، ويمكنني أن أعطيك ألفا من الأمثلة المشابهة. هذه الحالة التي أحكيها لك توضح تمامًا ما أردت إثباته، وهو أن والدي لديه مقاييس قيمية مختلفة وأنه يمنح الأفضليات باتباع نظام صارم وغير قابل للاختراق رغم سخافته، من حيث المبدأ، من الثابت أنه الأفضل على المدى البعيد، مثلما أمكنني أن أتحقق من ذلك آلاف المرات.
برونو: لديَّ عطش شديد.
(صمت)
(تنهض ميكايلا وتتجه إلى المرحاض).
إستيبان: إلى أين تذهبين؟
ميكايلا: إلى هناك. (تشير إلى المرحاض).
إستيبان: لا أعتقد أن الأمر ضروري. هل أنت قلقة حول شيء ما؟ قولي لي ما الذي يبدو لك غريبا. وأنا سوف أشرح لك كل شيء.
ميكايلا: لا شيء يبدو لي غريبا. ماذا تريدني أن أستغرب من أمر؟
إستيبان: لا شيء. لا شيء.
(يحاول إستيبان، بشكل أخرق، أن يثني ميكايلا عن الذهاب إلى المرحاض، بل إنه يصل إلى مسكها من ذراعها. لكن ميكايلا تتمكن من التخلّص منه وتدخل المرحاض. يشعر إستيبان بالضيق، وينظر من خلال نافذة المرحاض).
تسحب ميكايلا السلسلة. ترى بتلذذ الماء وهو يجري. ينضم برونو قليلًا وهو يبذل جهدا كبيرا رغم أن مظهره يوحي بأنه يعاني من ألم رهيب وأنه يرغب في أن يشرب، لكنه لا يقول شيئًا. تخرج ميكايلا من المرحاض. بكثير من الحرص تحاول ألا تطأ برونو الذي كان يشغل المدخل. تعود مع إستيبان).
ميكايلا: (وهي تتابع حديثها) كما كنت أقول، نظام والدي غريب بشكل رهيب بالنسبة لنا. من يستطيع أن يدعم فكرة جمع الأعشاب التي تعالج تورم الأصابع في حين أن الوضعية في البيت كانت تزداد يوما عن يوم مأساوية، بسبب البطانيات، مع الأخذ بعين الاعتبار في المقام الأول أنه في بيتنا ليس ثمة من يعاني من تورم في الأصابع، ومن جهة أخرى، فإن فعالية هذه الأعشاب في تحقيق العلاج تم نفيها بشكل حاسم من قبل أفضل الأطباء الذين ذهبوا حتى الآن إلى التأكيد على أن قيمة تلك الأعشاب تنبني على أساس الخرافات وعلى المعتقدات السحرية؟
إستيبان: نعم، حقًا. (في حالٍ قلِقٍ) لكن كيف يمكنني أن أخرج من هنا؟
ميكايلا: إذا لم يكن لديك كثير من الحظ، أو مساعدة والدي المباشرة، فلا تعول أبدًا على أن تخرج.
إستيبان: معك سأكون قادرًا على أن أخرج من هنا.
ميكايلا: (تبتسم مشفقة) مستحيل، للأسف مستحيل.
إستيبان: هل أنت أيضا لست قادرة على أن تخرجي؟
ميكايلا: بالطبع أستطيع ذلك، كيف تريدني أن أغامر بالدخول إلى المتاهة إذا لم أكن أستطيع أن أخرج منها؟
إستيبان: إذن، لما تخرجين من هنا، دعيني أرافقك.
ميكايلا: إنه جميلٌ مهما رغبت في ذلك، لا أستطيع أن أقدمه لك. وسأشرح لك الأمر بوضوح. والدي الذي كما أخبرتك حقا، ينظم كل شيء بشكل كامل، تمكن من الشروع في تنفيذ طريقة مصممة جيدًا حتى يتمكن من العودة إلى البيت حتى ولو كان في أبعد نقطة عن المتاهة. هذه الطريقة، مثلما من جهة أخرى جميع طرق والدي، بسيطة لكنها فعالة. من خلال هذا الجرس (تخرج جرسا، صغيرا) في كل مرة أريد أن أعود أنادي حتى يأتي أحد الخدم الذين يعرفون المتاهة. الخادم الذي لكونه أخرس غير قادر على أن يخبر أحدًا بسره.
إستيبان: كم يوجد من الخدم؟
ميكايلا: هذا أحد الأشياء التي لم أتمكن من معرفتها أبدا. إلى اليوم، كان هناك دائمًا خادمٌ مختلفٌ هو الذي يعيدني إلى البيت، مما يعني أنه يمكن أن يكون العدد متجاوزا للألف، ربما يكون أكثر أو أقل -يجب أن أعترف بتواضع أن هذه الأشياء أعُدُّها بالعين المجردة واحتمالا مع إمكان الخطأ- على أي حال، كانوا جميعهم خُرْسًا، لذلك لم يتمكن أحد منهم من إخباري بسر العودة إلى البيت، وهو سر علمه لهم والدي بلا شك.
إستيبان: لكن لا شيء من هذا يمنعني من مرافقتك.
ميكايلا: اسمح لي أن أنهي تفسيري. أنت، كالعادة، مُحِقٌّ في الأشياء التي تطلبها مني. لذلك من الضروري أن أفسر لك الأمور بكل دقة، أعني، بالدقة التي أستطيعها، كل التفاصيل لأيِّ مشكلة من أجل الوصول إلى حل منصف ومفهوم. كما أقول، لما أقرع الجرس يأتي خادم في زمن لا يمكن تصديقه، أحيانًا خلال عشر دقائق، وأحيانًا خلال لحظات، عندما أكون أنا قد مشيت في المتاهة لساعات وساعات، يقودني إلى البيت. أن تأتي أنت معي أو لا تأتي، فهذا الأمر عندي سيان، ولكن تبرز عقبات لا يمكن التغلب عليها. من حيث المبدأ، يجب على المرء أن يأخذ في الحسبان القابلية الشديدة للخادم الذي لا يتسامح إلا مع تقديم الخدمة لأهل البيت وليس للغرباء، وهو أمر منطقي. كيف أستطيع أن أطلب من الخادم أن يخدمك وأنت مجهول بالنسبة له؟ في جميع الأحوال يمكنني أن أجرب، فقط لكي أسدي لك هذه الخدمة، وإن كنت تعرف مسبقًا الاحتمالات الضئيلة في أن يقبل الخادم مثل هذا العمل. لكن بعد لا يزال هناك شيء أسوأ من ذلك بكثير، وهو أنه نظرًا لكون المتاهة معقدة ومدى تقارب البطانيات من بعضها البعض –ستكون قد تمكنت من ملاحظة أنها تتلامس فيما بينها وأنه يجب التقدم بسحبها واحدة تلو الأخرى– فإنه لا يوجد احتمال في أن الخادم يمكن أن يقود شخصين. دائما لما يحاول الشخص الذي يكون مرافقا لي إلا أنه بعد فترة وجيزة من بدء المشي بين البطانيات كان يختفي، ثم بعد أيام يجد الخدم جثته. كما ستفهم، إنها مخاطرة مجانية تمامًا، ما دمت إذا رافقتني فلن يكون لديك أي احتمال للخروج من المتاهة وعلى العكس من ذلك الموت من العطش والإرهاق في داخلها. إذا حاولت الخروج وحدك من المتاهة، فإن الصعوبات هي نفسها لكن المخاطر صغيرة، مادام أنه بفضل غريزة التوجه التي يتمتع بها المرء عادة، يجب ويمكن ويبلغ المرء العودة إلى مكان الانطلاق، أي إلى هذا النوع من الجزيرة، دون التعرض لخطر الموت داخل المتاهة، لكن إذا اتبعت الخادم فسوف تتقدم كثيرا خلال لحظات قليلة، لقد قلت لك فعلا إنه في غضون لحظات قليلة يمكنك أن تقطع مسافات غير محتملة، بفضل نظام والدي، دون أدنى شك، والذي في حالة فقدانه لن تكون قادرا بأي شكل من الأشكال على العودة إلى هذا الملجأ، الذي هو من جهة أخرى متفرد في المتاهة، والذي هو كما ربما أنت تعلم أنه يقع بالتحديد وسط الحديقة.
برونو: أنا ظمآن.
(صمت).
ميكايلا: كما يمكنك أن تدرك ذلك، فإن حكاية البطانيات هذه التي لم تنفع شيئًا سوى في أن تتسبب في إزعاجنا منذ أن بدأت وللأسف ليست هناك إلا احتمالات ضئيلة جدا في أن يتحسن الوضع.
برونو: أنا ظمآن جدا.
(تدخل ميكايلا المرحاض، وتحاول ألا تلمس برونو. تسحب السلسلة. وتنظر إلى المياه وهي تتدفق بتلذذ. ينظر إستيبان إليها من خلال النافذة. وبرونو وهو يبذل مجهودا أكبر ينضم بشكل خفيف. لا يقول شيئا. تخرج ميكايلا).
ميكايلا: يمكن القول إننا لم يحالفنا الحظ، لقد مضت الأمور نحو تعقدها بشكل بسيط لكن دونما تهدئة. (تنظر بوقاحة إلى القيد حول كعب إستيبان. يحاول إستيبان أن يخفيه بوضع ساقه الأخرى بشكل أخرق فوقه) ثم، أخيرًا، تمكن من فك السلسلة.
إستيبان: ما هذه السلسلة؟
ميكايلا: ما الذي ستكونه السلسلة؟ هي تلك التي كانت تربطك به. (تشير إلى المرحاض).
إستيبان: (توقف. قلقًا) أجل.
ميكايلا: يحدث نفس الشيء دائمًا. لقد تعبت من أن أقول له إن هذه الطريقة لا تجدي شيئا، وأن القيود يمكن بردُها بسهولة، لكنه لا يريد أن يأخذ كلامي مأخذ الجد. باختصار، الأمر بالنسبة لي سيان تمامًا، أن يكون ممكنا برد القيود أو لا، وأن تكون الطريقة تستحق أم لا بالنسبة لي فهذا لا يعنيني كثيرا (توقف) وبالطبع، أنت سترغب في الخروج من هنا في أقرب فرصة ممكنة.
إستيبان: أجل.
ميكايلا: هذا شيء منطقي. (توقف) لكني أرى الأمر صعبًا للغاية. لقد شرحت فعلا.
إستيبان: إذن ليس الأمر مستحيلًا.
ميكايلا: المستحيل، ما يقال إنه مستحيلٌ هو شيء لا وجود له في الحياة.
برونو: أنا ظمآن جدا.
(ميكايلا، مستاءة قليلًا، كما لو سئمت الوضع، تنهض. تمضي إلى المرحاض. تحرص عند دخولها بألا تلمس برونو. تسحب السلسلة. ترى المياه وهي تتدفق بتلذذ. إستيبان يتأملها عبر النافذة. يحاول برونو أن ينضم، لا يقول شيئًا. تخرج ميكايلا).
ميكايلا: كما قلت لك، من الواضح تمامًا أنه لا يوجد شيء مستحيل في الحياة. لكن ما ترغب فيه هو من أصعب الأشياء تحققا. لكي أثبت لك حسن نيتي ورغبتي في مساعدتك، سأفعل من أجلك كل ما في وسعي: أن أتصل بوالدي حتى يتمكن هو نفسه من تقديم أفضل حل لك.
(تخرج ميكايلا الجرس وتقرعه مرتين بطريقة خفيفة جدًا).
إستيبان: لكن هل يكونون حقا قد سمعوا الجرس في البيت؟
ميكايلا: بالطبع لا. بغض النظر عن مدى قوة الجرس، لا يمكن أن يتم سماعه من البيت. إن المسافة التي تفصلنا عنه هائلة جدًا! لكن للحيلولة دون هذا العائق، ابتكر والدي نظامًا جد ذكي: لقد وضع في جميع أنحاء الحديقة سلسلة من الخدم -الذين لم أتمكن قط من رؤيتهم بالمناسبة- يقومون بتناقل النداء أو الخبر الذي يريد والدي معرفته واحدًا واحدًا، إلى أن يصل إلى البيت. يتم ذلك بسرعة هائلة، وبذلك يعرف والدي ما يحدث في أبعد مكان من المتاهة، دون أدنى تأخير. لم يتبق لي الآن سوى أن أعرف ما إذا كان والدي يريد أن يأتي فورا أو يجب علينا أن ننتظر لزمن أطول. لكي نعرف ذلك بشكل أفضل، اصعد أنت على كتفي، وبذلك يمكنك أن تعرف، من فوق البطانيات، ما إذا كان يقترب أم لا. لسوء الحظ، البطانيات ترتفع أعلى فأعلى، بحيث لا يمكنك أن ترى إلا في دائرة نصف قطرها مائة متر تقريبا. اصعد.
إستيبان: لكن هل يجب أن أصعد فوق كتفيك؟
ميكايلا: نعم، هكذا يمكنك أن تعرف ما إذا كان والدي يقترب.
إستيبان: أنا وزني ثقيلٌ.
ميكايلا: لا تهتم على الإطلاق. أنا متعودة. خلال الفيضان الأخير أمرني والدي بإنقاذ جميع الخدم بحملهم على كتفي. في البداية وجدت هذا العمل متعبًا للغاية بالنسبة لي، -يجب أن تأخذ بعين الاعتبار أنه كان عليّ أن أحمل كل خادم على كتفي لمسافة ثلاثة كيلومترات لكي أتركه في الملجأ ثم أعود بسرعة كبرى إلى البيت لأعود من أجل خادم جديد-، لكني انتهيت إلى أن اعتدت على ذلك، وبعد شهر يمكن القول إنني لا أكاد أشعر بالوزن.
(تمسك ميكايلا بعنف إستيبان من ذراعه وتضعه جنب المرحاض).
ميكايلا: اصعد على كتفي.
(يصعد إستيبان على كتفي ميكايلا، وهو يستند إلى المرحاض).
ميكايلا: هل ترى شيئًا؟
إستيبان: لا.
ميكايلا: انظر جيدا.
إستيبان: (في قلق) لكن… من هو؟
ميكايلا: والدي بلا ريب، لا يمكن أن يكون شخصا آخر.
إستيبان: – (منزعجا) لكن هذا هو الرجل الذي وضعني في المرحاض وقيدني بالأصفاد!
(يحاول إستيبان الهروب. لكن ميكايلا تمسكه بعنف من ساقيه بذراعيها، وتشل حركته).
إستيبان: دعيني أهرب! دعيني (متحسرا).
ميكايلا: (في هدوء، لكن دون أن تكف عن شدِّ ساقي إستيبان). يجب أن تنتبه إلى التنظيم المحكم جدا الذي يمتلكه والدي. بضع دقائق بعد النداء عليه، وها هو هنا. يمكن القول، بلا أخطاء، إنه يتحكم بشكل مطلقٍ في كل ما يحدث في الحديقة.
(يدخل الأب. ينزل إستيبان من على كتفي ميكايلا. الأب -خوستينو- يقبل بشكل احتفالي جبهة ابنته –ميكايلا- إستيبان، ممتلئا بالرعب، لا يعرف ماذا يفعل ولا ماذا يقول. إنه مرتاب. في لحظة عدم انتباه واضح من خوستينو وميكايلا، يحاول الهرب. تمسك به ميكايلا من ذراعه بعنف. خوستينو، الذي كان يبدو أنه حتى هذه اللحظة لم ينتبه لحضور إستيبان، يتوجه إليه بهدوء ومجاملة).
خوستينو: ماذا يريد الشاب؟
ميكايلا: بلا ريب كان محبوسًا في المرحاض، انظر إلى الأصفاد التي لا تزال معلقة في كعبه (يحاول إستيبان، بشكل أخرق، إخفاءها) وهو يبردها تمكن من كسرها. الآن يحاول الهروب من الحديقة بأي ثمن، لذلك حاول أن يفسد سلوكي بكل الطرق التي وجدها. في البداية، وعدني بمبلغ كبير من المال إذا أنا أخرجته من الحديقة (يحاول إستيبان الاحتجاج، لكن خوستينو يتجاهله، وميكايلا أيضًا) ثم تقدم لي بعروض للزواج، لقد حاول إغرائي بالطرق الأشد بذاءة وأخيرًا اقترح علي خطة لكي أتمرد ضد سلطتك وأن نبقى نحن مالكين للبيت وللحديقة.
إستيبان: (متحمسا) سيدي، أتوسل إليكم ألا تصدق…
(لا أحد يهتم بالاستماع إليه)
خوستينو: وماذا كانت خطة الشاب؟
ميكايلا: يمكنك أن تتخيل ذلك: هراء حقيقي يخلو من أدنى قدر من الحس السليم. لقد كان يريد منا أن نضرم النار في الحديقة بأكملها، لأنه كما كان يقول، بما أن البطانيات تشتعل بسهولة، فإن النار ستكتسب نطاقًا هائلا في وقت قصير جدًا، وبذلك سيتحقق تدمير الحديقة بكاملها والبيت، مع ما ترتب عن ذلك من موت جميع الخدم وأفراد البيت، وأنت، بطبيعة الحال. وسوف نبيع الجزء الأكبر من الحديقة، وبالمال الذي سيقدمونه لنا، سنبني بيتًا جديدًا لن يعيش فيه إلا أنا وهو وبعض من الخدم.
خوستينو: أجل، أخرق حقًا.
إستيبان: لكن سيدي…
ميكايلا: بطبيعة الحال أنا لم أهتم بأي شيء اقترحه علي وحاولت خلال كل لحظة أن أقنعه بالعدول عن آرائه.
خوستينو: ـ لقد أبليتِ بلاءً حسنًا. هذا الصنف من الأشخاص يبدو خطيرا للغاية، وكل هذا بسبب ذلك المظهر الخارجي من الدماثة والطيبة الذي يخفون به نواياهم الغادرة. لا تقلقي يا ابنتي، سيعاقب حسب ذنبه. سأتكفل بأمره شخصيا. (توقف) الآن، إذا كنت تريدين ذلك، يا ابنتي، يمكنك الذهاب لرؤية خطيبك.
(يقبل خوستينو بشكل احتفالي ميكايلا على جبهتها. وتدخل هذه المرحاض حيث يوجد برونو، وتجلس بجانبه وتداعبه بشغف. لا يهتم بها برونو على الإطلاق. يبقى خوستينو وإستيبان في وسط خشبة المسرح)
خوستينو: أتوسل إليك أيها الشاب أن تعذر ابنتي المسكينة. لا تأخذ الأمر بشكل سيئ. هي هكذا. (تنهيدة) لا شيء يمكن فعله حتى لا يتفاقم اختلال توازنها العقلي. على أي حال، من حيث المبدأ، فإن ما تقوله هي ليس مهمًا للغاية، وشهادتها لها احتمالات ضئيلة جدًا بأن تُقبَل من طرف المحكمة.
إستيبان: إذا كان الأمر كذلك، سيدي، فأنا ألتمس لها العذر تمامًا رغم أنني أؤكد لك أنها بينما كانت تقوم باختلاق كل تلك الحكايات ضدي لم أستطع قمع إحساسي بكراهيتها بكل ما أملك من قوة.
خوستينو: أشكرك بعمق على تفهمك لها.
إستيبان: إذن، ما قالته لي عن المتاهة خاطئ أيضًا.
خوستينو: إنه خاطئ وليس خاطئا. لقد ارتكبت أخطاء جسيمة يمكن أن تدفعك نحو الحيرة. ولكن ليس من باب الخبث ولا الرغبة في الكذب بل من باب النسيان. ذاكرتها ضعيفة جدًا وهي تنسى أهم التفاصيل أو إنها تتغير وتستبدل حقائق ذات قيمة دقيقة ومحددة. وهكذا، على سبيل المثال، أخبرتك أنني أمضيت شهرًا في مدينة بعيدة لجمع الأعشاب قصد علاج الشَّرَث أي تورم الأصابع، بينما كانت البطانيات تتقدم بشكل خطير. هذا خاطئ تمامًا، والحقيقة أن ما جمعته خلال الشهر الذي أمضيته في تلك المدينة كان أعشابًا لعلاج الجسأة أو التكلكل وليس تورم الأصابع، كما صرحت في مناسبتين مختلفتين. لكل هذا يجب أن تعذرها، عليك أن تأخذ أشياءها بنية حسنة ودونما غضب أبدًا، هذا ما أفعله أنا وما ألتمس منك فعله.
إستيبان: (جد متواضع) نعم، أعدك ألا أغضب منها.
خوستينو: والآن بعد أن أوضحنا هذه النقطة الأولى والمهمة، دعنا ننتقل إلى النقطة التالية. أنت تقول إنك تريد الخروج من الحديقة، أليس كذلك؟
إستيبان: نعم، سيدي.
خوستينو: ابنتي أوضحت لك بالفعل الظروف الخاصة جدًا التي نجد أنفسنا فيها بسبب قضية البطانيات. أنت لا تعرف كم أنا متأسف بأن تكون ضحية حتى لو كان هذا الموقف مؤقتًا فقط. صدقني، أنا آسف أكثر منك. هل تعلم وضعي الحرج مع الضيوف والسجناء والخدم والأصدقاء الذين يأتون إلى بيتي؟ إنه بلا شك أحد أكبر مصادر القلق التي لدي في اللحظة الراهنة.
إستيبان: أتفهم.
خوستينو: لأنني لست أدري ما إذا كنت تعلم، لكن ثمة كل يوم الآلاف والآلاف من الضيوف والسجناء الذين يعبرون من بيتي. (توقف. حركة رهبة من قبل إستيبان. خوستينو يواصل بهدوء) من الأصدقاء، من الزبناء…
(صمت).
ميكايلا: (إلى برونو) حبيبي، قبلني.
(في المرحاض، تتمايل ميكايلا ببذاءة جنب برونو. وهذا الأخير، دونما إحساس بالألم، يستمر مستلقيا. وهي تداعبه).
ميكايلا: (لبرونو) داعبني، داعب نهدي، يا برونو، جسدي لك.
(في الحديقة. خوستينو، عبر النافذة، وبارتياح واضح، يتأمل ابنته. إستيبان جنب خوستينو يتأمل المشهد. في المرحاض، تواصل ميكايلا التمايل ببذاءة فوق برونو. وبرونو لا يزال دونما شعور بالألم: تحاول ميكايلا إثارة برونو بشتائم بذيئة تقبله على فمه وعلى بطنه).
خوستينو: (راضٍ جدًا، متوجها نحو إستيبان) لا يمكنك أن تتخيل سعادتي بهذا السلوك العاشق والرومانسي لابنتي. (يواصل تأمل المشهد. تأوهات من ميكايلا. قبلات. مداعبات) إنها طفلة، ليس عندها أي إحساس بالخبث، إنها طفلة حقيقية. هذا يرضيني تماما. إنه لمن بشائر الحظ السعيد أن يكون لديك ابنة كهذه. خاصة في هذه الأوقات العصيبة جدا التي نعيشها. (جد متحمس) طفلة! طفلة حقيقية! كل البراءة!
(ميكايلا بذيئة وبرونو غير متأثر… إلخ).
خوستينو: حكاية حب مليئة بالحنان. وأكثر من ذلك بكثير إذا أخذنا بعين الاعتبار الظروف الخاصة جدًا التي أحاطت ولا تزال تحيط بها. (انتقال) لكن دعنا ننتقل إلى حالتك، الخروج من الحديقة مشكل كبير جدا، كما تعلم جيدًا، لكن لحسن الحظ هناك حل جد معقد، هذا صحيح، لكن في نهاية المطاف هناك حل. يجب أن يحسم قضيتك، من حيث المبدأ، قاضٍ يمثل المحكمة العليا، ما دمت تحمل هذه الأصفاد في كعبك، والتي من الآن يجب أن أخبرك أنها لا تساعد في شيء في حل وضعيتك.
إستيبان: لكنني لا أحمل الأصفاد بسبب أي شيء سيئ أو لأنني متهم بارتكاب أي جريمة، لكن فقط… (بريبة) للزينة.
خوستينو: لا تهتم. في الواقع، مرورك أمام المحكمة العليا -أعني القاضي الممثل لها– ليس له قيمة أكثر من كونه استكمالا لإجراء شكلي بيروقراطي بحت. إذا لم تكن مذنبًا، كما قلت، فإن القاضي، بعد فحص بسيط بالعين المجردة وبعد ملء الملفات ذات الصلة ببياناتك، سيطلق سراحك على الفور ويحيلك على الخدم الذين سيحاولون إخراجك من المتاهة إن كان ذلك ممكنا.
إستيبان: أرغب في الخروج بأسرع وقت ممكن، لأنني في عجلة من أمري. ألا يمكن تجاوز إجراء عملية القاضي تلك؟
(حركات بذيئة من ميكايلا في المرحاض).
ميكايلا: قبلني. أنا لك.
(ميكايلا بذيئة. وبرونو غير متأثر ومحتضر. حركة تعبر عن رضا خوستينو).
خوستينو: مستحيل، مستحيل تمامًا. يجب على القاضي أن يعطي الضوء الأخضر ليس فقط بسبب مسألة -القضية المؤسفة- لأصفادك، التي تجعلك من حيث المبدأ مشتبهًا به، ولكن لأنه الإجراء الذي يجب اتباعه منظم هكذا.
إستيبان: أنا لا أرى أي جدوى في هذا.
خوستينو: الأمر بأن يعطي القاضي الضوء الأخضر، بعد الفحص الواجب، صدر بعد التحقق من العدد الكبير من التجاوزات للقانون التي كانت تُرتكَبُ. هكذا، وبعد تحقيقات مضنية، تبين أنه خلال عام واحد فقط، غادر الحديقة أحد عشر ألفَ شخصٍ ممن تلاحقهم العدالة، وكثير منهم بسبب جرائم خطيرة للغاية، وذلك بسبب عدم مراقبة الأشخاص الذين كانوا يدخلون الحديقة ويخرجون منها. أتذكر تمامًا أنه في تلك المرحلة كان يكفي أن يطلب المرء الخروج من الحديقة لكي يحصل عليه فورا. لحسن الحظ، انتهى هذا الأمر، الآن كل من يغادر الحديقة أو يدخلها يخضع لمراجعة دقيقة من قبل القاضي.
إستيبان: وأنا أيضا لا بد لي أن أخضع لتلك المراجعة؟.
خوستينو: طبعا. لا يمكن منح رخصة بُطلان. لقد أخبرتك حقا بأنه تم ارتكاب الكثير من الانتهاكات، لذلك فإن القضاة اليوم جد صارمين. ربما هناك إفراط، لكن على أي حال فإن الأمر ضروري. ما يمكنني أن أفعله من أجلك هو الحرص على أن يكون مثولك أمام القاضي في أقرب وقت ممكن.
إستيبان: كيف يكون في أقرب وقت ممكن؟
خوستينو: أريد أن أقول إنني سأحاول حل قضيتك في أقرب وقت ممكن. من حيث المبدأ، يجب أن تنتظر لمدة شهر على الأقل.
إستيبان: لا أستطيع الانتظار كل هذا الوقت.
خوستينو: دائمًا يُقال لنا الشيء نفسه: لا يمكنني أن أنتظر كل هذا الوقت. لكن ماذا تريد منا أن نفعل إذا كانت القضايا تتراكم وتتراكم أمام المحكمة؟ هل تعتقد أنها يمكن أن تُحَلَّ جميعها في الوقت نفسه؟
إستيبان: أنا لست مسؤولا عن تراكم القضايا.
خوستينو: لا، مبدئيا أنت لست مسؤولا. رغم أنه عند دراسة القضية بشكلٍ متأنٍ سيتم الخلوص على الفور إلى استنتاج مفاده أنك مثل باقي الأفراد الذين مروا عبر الحديقة، مذنبٌ بشكل غير مباشر، إذا كنت تفضل ذلك، في وضع الأشياء على ما هو عليه. أنت لست أكثر ولا أقل من حلقة أخرى في تلك السلسلة التي أنتجت وتنتج وسوف تنتج مستقبلا تراكمًا للقضايا المعروضة أمام المحكمة. لقد قلت لك إنني سأحاول أن أجعل قضيتك تُراجعُ في أقرب وقت ممكن. ولأجل ذلك سأقوم باستعمال حيلة ماكرة (توقف. حركة ساخرة من خوستينو) حيلة ماكرة تقع بشكل طبيعي في إطار الشرعية. وستفهم جيدًا أنني لن أخاطر بارتكاب أي تجاوز مهما كنت أريد مساعدتك. وسأشرح لك: لدى القضاة أوامر صارمة جدا لحل القضايا وفقًا لترتيب زمني صارم. ومع ذلك، تم منح استثناء، يقول ما يلي، إذا كنت أتذكر بشكل صحيح، الأفراد الذين يعثر عليهم في الحديقة سوف يتمكنون من المرور مباشرة أمام المحكمة فقط إذا تم الاشتباه في أنهم مطلوبون من قبل محكمة أخرى. وهذه هي بالضبط حالتك، الأصفاد التي تحملها في كعبيك تجعلك مثيرا للريبة بشكل خطير. بفضل هذه التفاصيل، سيكون بإمكانك أن تعرض أمام أنظار المحكمة، بشكل قانوني، قبل أن يأتي عليك الدور.
إستيبان: جيد جدا. هذا ما أرغب فيه.
خوستينو: أحذرك من أن هذا الإجراء هو سيف ذو حدَّيْنِ، ما دام القضاة الذين يشكلون محكمة الطوارئ هذه والتي تحكم في قضايا مثل قضيتك قساة إلى أقصى الحدود. وهذا أمر مبرر، فهم معتادون على التعامل مع أعتى أشكال المجرمين الذين يؤكدون بأقصى وقاحة أنهم أبرياء. لهذا السبب، يميلون من حيث المبدأ إلى عدم الثقة، بل أقول إنهم لا يعطون أي قيمة لشهادة المحكمة. في نهاية المطاف، الخطأ الذي يمكنهم أن يرتكبوه ليس مهمًا للغاية لأن المتهم الذي يُحاكَم سيمرُّ بالمحكمة التالية التي ستحكم عليه بمزيد من الحجج والأدلة.
إستيبان: أنا ليس لدي أيُّ تخوف.
خوستينو: نعم، لا ينبغي المبالغة. علاوة على ذلك، فإن هذه المحكمة الأولى، كما قلت، لا تفعل شيئًا إلا مهمة إخبارية بحتة وفقط في مناسبات معدودة نادرا ما تدين هي ذاتها المجرم.
إستيبان: هل يمكن لتلك المحكمة أن تدين؟
خوستينو: لقد أخبرتك حقا أن عملها من حيث المبدأ هو إخباري بحت، لكن في مناسبات ما، عندما لا تثار هناك ريبة حول اقتراف المجرم للذنب شكوكًا أو عندما يكون المجرم خطيرًا بشكلٍ جليٍّ، تتخذ المحكمة قرارها وتصدر الحكم بمعاقبته من تلقاء ذاتها دون الرجوع إلى المحكمة التالية. هذا العقاب، يمكن أن يصلَ في بعض الأحيان إلى عقوبة الإعدام.
(صمت)
ميكايلا، في المرحاض، تواصل احتضان برونو ببذاءة).
إستيبان: لا يهم. ما أريده هو أن أخرج في أسرع وقت ممكن.
خوستينو: لديك احتمالان: إما أن تنتظر دورك في المحكمة المركزية -قد تضطر إلى الانتظار عدة أشهر أو أن تتم محاكمتك باستعجال من قبل محكمة الطوارئ التي ستعاملك كما أقول لك بصرامة كبرى، وخاصة مع الأخذ بعين الاعتبار قضية أصفادك. قل لي ماذا تفضل.
إستيبان: أن تتم محاكمتي في أقرب وقت.
ميكايلا: (التي تواصل تقبيل برونو بشهوة في المرحاض) قبلني، قبِّل فخذي.
(حركة رضا من خوستينو).
خوستينو: (مشيرًا إلى المرحاض) هذا أجل، شيء لطيف. (توقف) أعذرني. أنا أشردُ بسهولة. كنا في أن… أجل ذلك، كنت تقول إنك تريد أن تحاكم في محكمة الطوارئ.
إستيبان: نعم سيدي.
خوستينو: هل تريدني أن أذهب لأبحث عن القاضي الذي يخصُّك؟
إستيبان: أجل، أجل إن كان ذلك ممكنا.
خوستينو: سأذهب إذن على الفور. لا أتعهد لك أنني سأعود مباشرة لأنه قد يحدث ألا يكون القاضي الآن في مكتبه ويتوجب حينها الانتظار. على أي حال، سأبذل قصارى جهدي للعودة معه في أقرب وقت ممكن. (توقف) ها أنت ترى ما هي عليه الأشياء: أنا أيضًا أشعر بالفضول بشأن قضيتك، وأرغب في أن أعرف الحكم الذي سيصدر. وإذن.
(حركة فرح من خوستينو. يمضي إلى نافذة المرحاض التي من خلالها يتأمل ميكايلا التي تواصل عناقها لبرونو).
خوستينو: إذن أيها الشاب، أراك لاحقًا.
إستيبان: إلى اللقاء، سيدي.
(يضيع خوستينو بين البطانيات. تتوقف ميكايلا عن عناق برونو: تصلح هندامها. وتخرج بسرعة من المرحاض ثم تمضي نحو البطانيات.
تصغي السمع بانتباه.
(صمت).
ميكايلا: لقد مضى حقا.
(ميكايلا تبدو متحمسة)
إستيبان: لكنه أخبرني أنه سيعود مباشرة.
ميكايلا: لا أحد يعلم يقينًا.
إستيبان: كيف أن لا أحد يعلمُ يقينًا؟
ميكايلا: نعم، فلا أحد يعلم يقينًا ما إذا كان سيعود مباشرة أم أنه سيتأخر خلال وقت طويل.
إستيبان: (دون أن يصدِّقَها) – أجل، هذا واضح.
ميكايلا: هل أنت لا تصدقني؟
إستيبان: بالطبع أنا أصدقك.
ميكايلا: لن تعتقد أنني أقول ذلك بشكل باطلٍ. لقد عرفت العديد من الحالات مثل حالتك، وأعرف جيدًا كيف يتم التعامل معها.
إستيبان: طبعًا.
ميكايلا: أرى أنك لا تصدقني.
إستيبان: نعم أنا أصدقك.
ميكايلا: لا، لا تتظاهر بعكس ما تعتقد. أنا أعرف جيدًا ما يحدث لك. قال لك والدي إنني حمقاء وأنه من الضروري مجاراتي مثلما يفعل المرء مع التيار. أليس كذلك؟ (صمت) بالإضافة إلى ذلك، ستكون منزعجا من الحكايات التي اختلقتها ضدك. أليس كذلك؟ (صمت) قل لي الحقيقة.
إستيبان: طبعا. أم تعتقدين أن ذلك يمكن أن يعجبني؟
ميكايلا: لا تعط ذلك أي أهمية كبرى.
إستيبان: لا، أنا لا أعطيه أي شيء.
ميكايلا: أنت تفعل شيئا جيدا. الذنب ليس ذنبي. إن والدي هو الذي يجبرني على قول تلك الأشياء.
إستيبان: (غير واثق) واضح.
ميكايلا: لا تقل ذلك على هذا النحو. ما أقوله لك هو مؤكدٌ جدا. إن والدي هو الذي يجبرني (تبكي. صمت).
إستيبان: (وقد تحركت مشاعره) لا تبكي. (توقف.) ماذا تريدين أن أفعل من أجلك؟ لقد قلت لك حقا أنني أصدقكِ.
ميكايلا: (بين التنهدات) أنت تقول ذلك فقط لإرضائي.
(صمت، إستيبان يرتابُ).
ميكايلا: إن والدي هو الذي يجبرني على سرد تلك الحكايات التي لا تُصَدَّق لكي يقدم أمامي براهين على طيبته، وبذلك يحقق كل ما يرغب فيه، أولًا بألا يثق في أي شيء أقوله وثانيًا، بأن يبرز هو في صورة شخص ممتلئ بمحبة ابنته.
(ميكايلا تبكي. صمت. ميكايلا تكشف عن ظهرها. ظهر مليء بالدماء وبآثار جليَّة على الجلد بالسوط).
ميكايلا: انظر. (إستيبان، مرعوبا، يتأملُ ظهر ميكايلا).
ميكايلا: اِلمس، اِلمس. (ميكايلا تجبر إستيبان على أن يلمس ظهرها، تصير يد إستيبان ملطخة بالدم.)
ميكايلا: هل ترى الدم؟
إستيبان: (متأثرا) نعم.
ميكايلا: كل هذا ارتكبه والدي في حقي.
إستيبان: هذا غير ممكن.
ميكايلا: كل يوم يجلدني بسياط (بين النحيب) ويهددني بضربي أكثر إذا لم أفعل كل الأشياء التي يطلبها مني. لهذا السبب يجب أن أقول في حضوره كل ما أمرني به مُسبقا. هذا الصباح جعلني ألعب هذا الدور دور الحمقاء أمامك. لم أستطع أن أفعل شيئا سوى الامتثال لأوامره. لو لم أفعل ذلك، كان سيضربني الليلة بشدة أكبر من المعتاد.
إستيبان: (وقد تأثرت مشاعره) هذا لا يمكن السماح به.
ميكايلا: ماذا تريدني أن أفعل؟
إستيبان: أن تهربي.
ميكايلا: هذا غير ممكن.
إستيبان: كيف أن ذلك ليس ممكنًا؟
ميكايلا: لن يترك لي والدي ذلك. إضافة إلى ذلك، لا أعرف إلى أين يمكن أن أذهب. (توقف.) سوف أموت جوعا. والدي، على الأقل، يعطيني الطعام لآكل. (تبكي. تحرك مشاعر إستيبان) من جهة أخرى، هو ليس والدي. يجبرني على أن أناديه “والدي” وهو يناديني بـ”ابنتي” عند وجود أشخاص آخرين، لكنه في الواقع ليس والدي. كل شيء يفعله من أجل أن يكتسب سمعة طيبة.
إستيبان: (بثبات) أنا سأخرجكِ من هنا.
ميكايلا: (حزينة) سيكون الأمر صعبًا جدا. سوف تجدُ ما يكفي من الصعوبات لتخرج لوحدك.
إستيبان: لماذا؟
ميكايلا: لقد استمعت أن والدي قال لك بأنك سوف تُحاكم أمام قاضي الطوارئ. هذا القاضي قاسٍ ولذلك فهو مُسبقًا يُدينُ دائمًا تقريبا كل من يُقدَّمون أمامَه. خلال المحاكمة يُعامِلُ المُتَّهمين بشكلٍ مُحتقِرٍ وبلا رحمة ولا شفقة: لا يكاد يسمح لهم بالتحدث أو الدفاع عن أنفسهم، ويتبوَّلُ عليهم، وينخسُهم بالدبابيس، ويتجشَّأ في أفواههم، ويقيِّدُ أقدامهم وأياديهم، وبالإضافة إلى ذلك يصلُ أحيانًا إلى تكميم أفواههم. لكن من المؤكد أنه في مناسبات كان يتعامل معهم بلطف شديد، لكن هذا نادر الحدوث طبعا. والأسوأ من كل ذلك، ألا أحد يجد الخلاص عنده تقريبًا.
إستيبان: أنا سوف أجد الخلاص عنده، فأنا بريء حقا، وليس لدي أي خطأ. (توقف) عندما أكون حرا، سوف أخرجك من هنا.
ميكايلا: (محركة المشاعر) أشكرك على ذلك كثيرًا. أنت جيد جدا بالنسبة لي.
إستيبان: لا يمكنني السماح لوالدك بمعاملتك على هذا النحو.
(برونو، يستيقظ في المرحاض. يتوجه نحو السلسلة)
ميكايلا: لا تقلق علي. حاول أن تنقذ نفسك دون أن تنزعج من أجلي. سوف تدرك فعلا الصعوبات التي تكتنفُ ذلك، لديك ما يكفي في محاولتك للخروج بمفردك.
(برونو، في المرحاض، وصل جنب السلسلة. يحاول برونو شنق نفسه بسلسلة المرحاض. ثقل جسده يجعل المياه تتدفق من الخزان. يصمت إستيبان وميكايلا، وقد بقيا متأثرين. صمت)
ميكايلا: هل سمعت؟
إستيبان: نعم.
(يتجهان نحو المرحاض. ومرعوبين يتأملان جثة برونو).
ميكايلا: لقد شنق نفسه. (صمت).
إستيبان: لقد كان ذلك منتظرا. (صمت. وبغتة تمضي ميكايلا نحو الجثة).
ميكايلا: ساعدني. (بين ميكايلا وإستيبان ينزلان جثة برونو ويأخذانها إلى منتصف الخشبة. صمت. يتأملان الجثة. صمت. ميكايلا، مليئة بالعفة والاحترام، تمسك يد برونو: تقبلها. من الممكن أن تبكي ميكايلا. صمت. ميكايلا تغطي وجه برونو بمنديل).
ميكايلا: علينا أن نخفي الجثة.
إستيبان: نخفيها، لماذا؟
ميكايلا: إذا رأى القاضي الجثة هنا، فسوف يتهمك بقتله.
إستيبان: ماذا تريديني أن أفعل؟
ميكايلا: سوف نترك الجثة في أبعد منطقة ممكنة عن هنا…
إستيبان: حسنًا، سأساعدك.
ميكايلا: إنها أفضل طريقة لإخفاء الجثة: الحديقة جد كبيرة بحيث يكون من المستحيل تقريبًا على أي شخص أن يعثر عليه. ساعدني: امسكه من ساقيه.
إستيبان: دعيني أمسكه من كتفيه، حيث سيكون أثقل.
ميكايلا: لا، افعل ما أقوله لك.
(بين ميكايلا وإستيبان يأخذان برونو. يختفيان بين البطانيات وهما يأخذان معهما برونو. صمت. لا أحد على خشبة المسرح. يظهر إستيبان وميكايلا مرة أخرى).
ميكايلا: لا أعتقد أن أي شخص سيعثر عليه.
إستيبان: وإذا وجدوه، ماذا سيحدث؟
ميكايلا: ستضيع قضيتك. (صمت).
إستيبان: متى وصل برونو إلى المرحاض؟
ميكايلا: لست أدري. كلما أتيت أجده مقيدًا. منذ أن كنت طفلة صغيرة جدا.
إستيبان: ولم تكوني تشعرين نحوه بالأسف؟
ميكايلا: نعم، في البداية نعم. أنا كنت أجيء إلى هنا في الصباح وأتبول بحضوره وكان يحب ذلك كثيرًا. وكان ينظر إلي مليئا بالفرح. في وقت لاحق كنا نلعب، كنت أحمل أنا الرمل في الدلاء وكان هو يدفن قدمي (توقف) لكن كان من الصعب جدًا اللعب معه لأنه كان دائمًا مقيدًا ومريضا جدًا.
إستيبان: هل كان مريضًا دائمًا؟
ميكايلا: نعم، دائمًا. دائما كان يتقيأ دما بالإضافة إلى ذلك فإنه ما دام لم يغير له أحد أبدا بدلته، فقد تيبس الدم على قميصه وعلى بدلته. (صمت) لإرضائه، كنت أحضر له أيضًا الشوكولاتة واللوز والدبابيس، وخاصة الكثير من الدبابيس.
إستيبان: لماذا كان يرغب في الدبابيس؟
ميكايلا: لوخزي بها. لما كنت طفلة، كان يخزني في ساقي، والآن، بما أنني قد صرت امرأة، كان يخزني في الثديين وفي البطن فقط.
إستيبان: وأنت كنت تسمحين له بذلك؟
ميكايلا: بالتأكيد، لم لا؟
إستيبان: لكن هل يؤذيك ذلك كثيرًا؟
ميكايلا: نعم، كثيرًا. كان يستحيل علي تقريبًا أن أقاوم (صمت)
بالإضافة إلى ذلك، لم يكن يسمح لي لا بالبكاء ولا بالصراخ.
إستيبان: وإذن لماذا كنت تأتين لرؤيته؟
ميكايلا: كنت أشعر بالملل كثيرًا. وعندما أكون معه، كنت أعاني كثيرًا، لكنني على الأقل لم أكن أشعر بالملل.
إستيبان: لكنه كان وحشًا، إذن.
ميكايلا: الأسوأ ليس ذلك. الأسوأ هو أنه كان يحكي ذلك لوالدي لاحقًا. (توقف) منعني والدي بشكل قاطعٍ من المجيء لرؤيته والأكثر من ذلك بكثير إحضار أشياء له. حسنًا، هو كان يخبره دائمًا وهذا هو السبب في أن والدي كان يضربني.
إستيبان: أخبرني والدك أنك خطيبته.
ميكايلا: نعم، إنها طريقته في الحديث. في الواقع، أنا لم أكن خطيبته حقًا، لكن والدي كان يعجبه أن يقول للجميع إنني خطيبته، وإن كان ذلك من جهة أخرى ليس شيئا جد زائفا. لذلك كان يأمرني في حضور الغرباء بتقبيله ومعانقته بأكبر قدر ممكن من الاضطرام. ولم يكن والدي أبدا يرى ذلك كافيا.
إستيبان: وهل كنت ستتزوجينه؟
ميكايلا: لا، ليس ذلك. الزواج منه كان مستحيلًا، هو لم يكن بإمكانه أبدا أن يخرج من المرحاض.
إستيبان: لماذا؟
ميكايلا: أبي وحده يعلم ذلك. أخبرني والدي ذات يوم أنه كان قد جاء إلى الحديقة مرة، مثلك، وأنه منذ ذلك الحين يوجد هنا.
إستيبان: هل أدين من قبل القاضي؟
ميكايلا: لست أدري. هذه الأشياء لا تُعرَف هكذا وعلى هذا النحو.
إستيبان: هو قال لي بأنه بريء وأن عليَّ أن أدافع عن قضيته.
ميكايلا: نعم، هذا كان يقوله للجميع.
إستيبان: كيف للجميع؟
ميكايلا: أجل، لكل أولئك الذين كانوا رفاقه لبضعة أيام في المرحاض.
إستيبان: هو أخبرني أنه كان دائمًا بمفرده.
ميكايلا: نعم، هذا مؤكد. لكن هذا لا يمنع من أنه من وقت لآخر لم يكن معه رفيق مقيد معه بالأصفاد ذاتها في كعبيهما. لكن هؤلاء الرفاق دائما كانوا يتمكنون من بردها ثم الهروب، وهو الأمر الذي كان يجعله يعود إلى العزلة.
إستيبان: وماذا كان مصيرهم؟
ميكايلا: كان والدي يهتم بقضاياهم بدون أدنى شك. لا أظن أن أيًا منهم نجح في الخروج.
(صمت). حركة مأساوية من إستيبان. تخرج ميكايلا مشطًا كبيرًا جدًا وغير متناسب من جيبها وتمشط شعرها بشكل متدلل).
ميكايلا: لقد كانوا جميعًا جد لطيفين. (صمت) كانوا يشعرون بالرأفة لحالي وكانوا يعدونني بأنهم سوف يخرجونني من هنا (صمت) كانوا دائمًا ممتلئين بالأمل. وكان الحديث معهم ممتعا.
(يدخل خوستينو. لا يقول شيئًا. ينتظر غير متأثر بآلام الغير. ميكايلا، وهي تولي ظهرها لوالدها، تسخر منه: تخرج لسانها. إستيبان، مرعوبًا، يقوم بإشارات إلى ميكايلا للتوقف عن السخرية من والدها. يباغت خوستينو إستيبان بينما هو يقوم بإشاراته إلى ميكايلا، تنظر إليه بحركة عتاب، ضوضاء، يبدو أنه تتم عملية سحبٍ لقطعة أثاث ثقيلة.
يظهر القاضي. يدخل وهو يدير ظهره إلى الخلف ساحبا طاولة صغيرة لها درج. ثمة أربعة كراسي مربوطة إلى الطاولة، مثل عربات القطار إلى القاطرة. القاضي لديه زجاجة في أحد جيوبه وهو متسخٌ جدًا. لديه لحية طويلة إلى حد ما.
إستيبان يتأمل بفضول. ميكايلا لا تنظر إلى القاضي لكنها تستمر في إخراج لسانها لوالدها. قام القاضي بفك رباط الكراسي بعناية، لكن بدون مهارة. بلا ريب، بدقة كبيرة يضع الطاولة والكراسي -وهو يتخذ العديد من الاحتياطات، يقيس بالعين، ويتشمَّمُ الأرضية، … إلخ. – يضع الطاولة ثم الكراسي أمامها).
القاضي: اجلسوا. (يذهب إستيبان للجلوس على أحد الكراسي).
القاضي: (بعنف.) لا، ليس بعد.
(ينضم إستيبان خائفًا. يأخذ القاضي الكرسي الذي كان سيجلس عليه إستيبان -ينظر إليه بغضب- ويضعه خلف الطاولة. يجلس عليه).
تصير وضعية الطاولة والكراسي كالتالي:
القاضي: اجلسوا. (لا أحد يجلس).
القاضي: ألم تسمعوني؟
إستيبان، خائفا، يجلس على أحد الكراسي على اليسار. القاضي، منزعجًا جدا، ينهض، ويمسكه بعنف من سترته، وينقله إلى الكرسي على اليمين. على الفور تجلس ميكايلا وخوستينو على الكرسيين في اليسار: ميكايلا على الكرسي الأبعد عن القاضي، وخوستينو، على الأقرب. يجلس القاضي على كرسيه خلف الطاولة.
يقوم القاضي بإخراج العديد من الأوراق من جيوبه، ويضعها بترتيب دقيق على الطاولة: لما يخطئ في المكان الذي يتوافق مع الورقة، يصحح الخطأ. ثم يخرج زجاجة نبيذ كانت لديه في جيب آخر ويضعها على الأرض جنب الكرسي. وأخيرًا، يخرج شطيرة كبيرة جدًا بالسجق المجفف ملفوفة في ورق الصحيفة. خلال الوقت كله الذي ستستغرقه المحاكمة، سيأكل الشطيرة بطريقة رتيبة وجد بطيئة. أكثر من أن يكون بصدد الأكل يبدو أنه يقضم).
القاضي: بغتة، يتوجه نحو إستيبان، وهو يشير إليه بإصبعه). لقد تم إخباري بقضيتك بطريقة غير واضحة جدا. آمل ألا تجعلني أضيع الكثير من الوقت ولأجل ذلك، وبشكل أكثر إيجازا قدر الإمكان، أن تشرح لي قضيتك بالصرامة الواجبة.
(إستيبان يحاول التحدث).
القاضي: (مقاطعا له). إذا قلت لك أن تشرح لي قضيتك بالطريقة الأكثر إيجازًا، فذلك بسبب رغبتي في أن يصدر الحكم في قضيتك بأسرع وقت ممكن. لكن إذا كان ضروريا لإثبات أي من أطروحاتك، استدعاء شهود يوجدون بعيدين جدًا من هنا، فلا تقلق، فسوف نحضرهم. شعار محكمة الطوارئ هذه هو الصرامة والعدالة.
(إستيبان، وقد وجد العزاء).
القاضي: اِبدأ.
إستيبان: في الواقع، سيدي القاضي، أظنُّ أنه لن يكون من الضروري حتى أن أُحاكَمَ.
(القاضي، مباغتًا ومنزعجًا، يتوقف عن قضم الشطيرة. ينضمُّ الأب -خوستينو- ويقوم بحركة مُستنكِرة، ميكايلا، سعيدة جدًا، تقوم بحركات مُستحسِنة).
إستيبان: الشيء الوحيد الذي حدث لي هو أنني ضعت في الحديقة وأريد أن أخرج منها بأسرع وقت ممكن. أظنُّ أنني أطالب بحقٍّ من حقوقي. مالك هذا البيت لا يسعه إلا أن يسمح لي بأن أخرج. حقًا لا يمكن تصور وجود شخص -مالك لعقار ما- يضع عقبات أمام أناس ضاعوا في إحدى حدائقه، حتى يتمكنوا من أن يخرجوا منها.
(خوستينو، مطأطئ الرأس يبدو مندهشا. ميكايلا تشجع إستيبان. ترسل له قبلات بيدها. القاضي يقضم الشطيرة).
القاضي: ليس لدي ما أقوله ضد ملتمسك من حيث المبدأ. (يأخذ زجاجة النبيذ، وينزع سدادتها من الفلين). يبدو أن له ما يبرره جدا بالنسبة لي. (يشرب جرعة نبيذ من الزجاجة مباشرة وبدون كأس). لكن هناك ثمة تفصيل يكتسي خطورة بالغة. أقصد، كما قد تكون خمنت فعلا، الأصفاد في كعبك.
إستيبان: الأصفاد… قد وضعت ببساطة للزينة، ألبسُها في كعبي للزينة. ما الغريب في ذلك؟ (ميكايلا متحمسة، تُشجّع، إستيبان).
القاضي: لا، حقًا، لا غرابة في أن تلبسَ الأصفاد كزينة. (صمت. يقضم. ينفضُ فتات الخبز الذي يملأ لحيته) تُشاهَدُ أشياء جد غريبة. (توقف.) في سني، يمكنك أن تتخيل أنني رأيت الكثير من كل شيء. (توقف. يقضم. يتوقف عن القضم. يشير بإصبعه إلى إستيبان ويتحدث إليه بنبرة اتهام.) أنت لم تضِع في الحديقة. أنت تم اقتيادك إلى المرحاض من قبل صاحب البيت (يشير إلى خوستينو) الذي قيدك بالأصفاد (يستعيد هدوءه. يشرب جرعة من النبيذ. يغيّر بعض الأوراق من موضعها. يقضم. ميكايلا، حزينة، خوستينو، سعيد. صمت).
إستيبان: نعم، هذا صحيح. هو الذي قيدني.
القاضي: (بشكل روتيني.) هل كنت وحدك في المرحاض؟
إستيبان: نعم.
القاضي: (وقد أحسَّ بالسأم) هل تقصد أنه لم يقيدك مع أي أحد؟
إستيبان: نعم، كنت وحيدا. لهذا أريد أن أهرب. كنت أشعر بالملل كثيرا. لقد قيدني دون أي مبرر، ولهذا أردت أن أهرب. (توقف). قمت ببرد الأصفاد وتمكنت من الهروب.
القاضي: (يتحدث إلى نفسه). تلك الأصفاد لا قيمة لها.
إستيبان: لقد كلفني ذلك الكثير من الجهد.
القاضي: من المنطقي أنك كنت ترغب في الهروب. لو كنت في وضعيتك سأفعل الشيء نفسه. أن يكون المرء مقيدا وحده بشكل مطلق في المرحاض لا ينبغي أن يكون الأمر ممتعًا. لو كان هناك سجينان لكان ذلك شيئا مختلفا. سوف يكون هناك دائما شيء لكي يتم حكيه. ألا تعتقد ذلك؟ (صمت) أقول لك إن لم تكن تفكر مثلي في الشيء نفسه.
إستيبان: (بصوت ضئيل مثل خيط رقيق) أجل.
(القاضي يقضم شطيرته. ينهض من كرسيه ويمضي باتجاه إستيبان. يتحدث إليه بأدب).
القاضي: اسمح لي. انهض لِلَحظةٍ.
(يغير القاضي من وضعية الكرسي بحيث يصير في مواجهته تمامًا. يجلس من جديد).
القاضي: (بعد قراءة إحدى الأوراق الموجودة على الطاولة.) نظامك لا يساعدنا على الإطلاق.
إستيبان: أي نظام؟
القاضي: النظام الذي لديك في الدفاع عن نفسك. (توقف). أنت تكذب كثيرًا (توقف. بعدوانية) كان معك في المرحاض رجل آخر اسمه برونو، وقد كنت مقيدا معه بالأصفاد.
إستيبان: لكنه كان مريضًا جدًا، كما لو أنه ليس موجودا.
القاضي: كيف إذن هربت وحدك؟
إستيبان: لقد قلت لك بأن برونو كان مريضا جدًا ولم يكن قادرا على الهروب.
القاضي: ألم يكن يرغب في الانضمام إليك؟
إستيبان: لا، لم يكن قادرا. لم يكن بالكاد يستطيع أن يتحرك. كان شبه مشلولٍ.
القاضي: شبه مشلول؟
(إستيبان يحاول أن يتحدث).
القاضي: (وهو يصرخ.) انتظر.
(القاضي على ورقة بيضاء كبيرة يضع بعض الملاحظات الكبرى وبتمثيلٍ فائقٍ. يرى التأثير وهو يفصل الورقة وينظر بعينين ضيقتين).
القاضي: إذن اتفقنا على أنه كان مشلولا.
إستيبان: حسنًا، شبه مشلولٍ.
القاضي: وهل ساعدك هو على الهروب؟
إستيبان: لم يكن يستطيع.
القاضي: واضح! لكنه لم يعترض أيضًا.
إستيبان: لا، لم يعترض.
القاضي: وبينما كنت أنت تبرد الأصفاد كنت تتسبب له في الأذى.
إستيبان: لا، ليس هناك أي أذى.
القاضي: (بهدوء) الأمور تنتقل من سيئ إلى أسوأ. (توقف.) برونو كان يرغب في الهروب، لكنك لم ترد أن تساعده. من جهة أخرى، كان هو معترضا بكل قوته على هروبك، وأخيرًا، ألحقت به أذى فادحًا في كعبه بينما كنت تقوم ببرد الأصفاد: والآثار بعد ما زالت باقية.
(القاضي يقضم. ميكايلا منكسرة. خوستينو سعيد جدا. القاضي يشرب جرعة من النبيذ).
القاضي: هل ترغب في أن نذهب إلى المرحاض لنرى الآثار؟
إستيبان: لا.
القاضي: إذن أنت تصدقني.
إستيبان: نعم.
القاضي: يجب أن يكون المسكين برونو قد عانى كثيرًا بسببك.
خوستينو: (يقوم من كرسيه.) برونو ليس في المرحاض. (يجلس مجددًا).
القاضي: (يتوقف عن القضم) هل سمعت؟
إستيبان: نعم.
القاضي: وأين هو إذن؟
إستيبان: لا أعرف أي شيء عن ذلك.
القاضي: ألا تعرف أي شيء عنه على اعتبار أنك آخر رفيق له؟ هذا أمر غريب. غريب جدًا.
إستيبان: سوف يكون قد هرب.
القاضي: مستحيل. (يبحث في الطاولة عن ورقة. يلوّحُ في يده بالورقة التي كان قد كتب عليها في السابق). لقد أخبرتني للتو أنه لم يكن يستطيع أن يتحرك، وأنه كان شبه مشلول.
إستيبان: لكن من الممكن أن يكون قد تحسن لاحقًا.
خوستينو: (يقف من جديد ويتحدث مصحِّحا. يستمع إليه القاضي باهتمام ويتوقف عن القضم).
اسمحوا لي بأن أذكر بعض الحقائق التي قد تعطي توضيحات أكبر للمحاكمة.
القاضي: بطبيعة الحال.
خوستينو: كما أمكنك أن ترى، سيدي القاضي، يتبنى المتهم موقفًا من الممكن أن يربك محكمة تشتكي من عيب السذاجة. ويحاول المتهم بأن يظهر بمظهر رجل شريف غير قادر على فعل سيئ. لكن لننظر إلى الوقائع بالصرامة اللازمة. تم اقتياد المتهم إلى المرحاض حيث تم تقييده مع برونو. وتم وعده بمحاكمته في أقرب فرصة ممكنة. وبدلًا من الانتظار دون تمرد وقت محاكمته، يحاول المتهم فرض الأمر على واقع الأشياء ويهرب. هذا يجب أن يفسر بشكل خالص وبسيط على أنه عدم ثقة غير مقبول تجاه العدالة. إذا كان المتهم يدعي أنه كان في المرحاض دون اقتراف أي ذنب وحتى في حال خلاف مع أبسط القواعد الأولية للتأديب، كما يبدو أنه كان يريد أن يقول في بداية المحاكمة، فما كان ينبغي له أن يتبنى أي حل آخر سوى انتظار أن تقول العدالة كلمتها في حقه بحسب ما تحكمه لصالحه القوانين. إني أصر على أن حقيقة عدم انتظار القول الفصل للمحكمة والهروب يجب ألا يُفسر سوى على أنه يمثل انعدام ثقة لا يحتمل تجاه العدالة والقانون. بعد أن أوضحت هذه النقطة الأولى، التي يمكن اعتبارها الأساس لبقية تصرفات المتهم، سأنتقل إلى النقاط الأخرى، التي لا تقل أهمية عن الأولى. قال المتهم إنه ضاع في الحديقة، وأنه لم يكن يعرفني، وأنه لم يكن مقيدًا إلى شخص آخر، وما إلى ذلك من الأقاويل. أي أن المتهم كذب مرارًا وتكرارًا، محاولا بأكاذيبه خلق الأعذار اللازمة لإخفاء أخطائه. (توقف). من خلال توسط أشخاص كانوا لظروف خاصة شهودا على الأحداث التي وقعت في المرحاض أثناء حبس المتهم فيه عرفت بعض التفاصيل المدهشة. لقد عرّض المتهم برونو لتعذيب العطش: رغم أن هذا الأخير كان يطلب منه ماء، لكن المتهم لم يرغب أبدًا تقريبا في أن يقدم العناية له. وبسبب هذا عانى بشكل قاسٍ. بعدئذ خطرت في ذهن المتهم فكرة برد الأصفاد قصد الهروب. ونظرًا لكون الأصفاد كانت تمسك أيضًا بكعبي برونو ما دامت هذه الأخيرة تقيِّدُ الاثنين، فقد قام المتهم بكشط كعب برونو بشكل كبير مما تسبب له في جرح عميق جدًا. إن برونو، الذي كان منهكا من الألم، بالكاد لم يكن يستطيع أن يقاوم أشكال التعذيب التي كان يلحقها به المتهم. وبمجرد تحرره من القيود، تخلى عنه دون أن يعود للاهتمام بعطشه مجددا. (توقف). لكن هذا ليس الأسوأ. (توقف. بشكل احتفالي). وجد خدمي جثة برونو في الحديقة: لقد تم خنقه. (توقف). رغم أني لا أعرف شيئًا على وجه اليقين، إلا أنني أستطيع أن أتوقع مسبقا أن كل الظروف تجعلنا نرى أن المتهم هو الذي خنقه.
إستيبان: (بعنف). لا، لم أكن أنا.
(ميكايلا كئيبة. يشرع القاضي مجددا في الأكل. ويشرب جرعة من النبيذ، ويتبنى نبرة هادئة. صمت).
القاضي: إذن من كان الفاعل؟ هل ستتهم شخصا ما؟
إستيبان: لقد انتحر.
القاضي: كيف؟
إستيبان: بالسلسلة في المرحاض.
القاضي: أنت تناقض نفسك. قلت لنا في البداية أنه بالكاد كان يستطيع أن يتحرك، وأنه كان مشلولا.
إستيبان: بدون شك بذل جهدا.
خوستينو: يجبُ أن أشير إلى أن الجثة تم العثور عليها جد بعيدة عن المرحاض.
القاضي: إلى جانب ذلك، ذاك. هل الموتى يمشون؟
(إستيبان يرتاب).
إستيبان: لقد قمت أنا وهي (يشير إلى ميكايلا) بنقل جسد برونو. كنا خائفين من أن يتم اتهامي بقتله إذا ما تم العثور عليه.
خوستينو: (جديرا) سيدي القاضي، أعتقد أنه من غير المجدي الاستمرار. لكي يدافع المتهم عن نفسه فسوف يتهمنا جميعًا. وفقًا لجميع الأدلة، فهو القاتل وبالتالي يجب إدانته بجرمه على الفور.
إستيبان: (مغتاظا جدًا.) انظر من الذي سيدينني، الشخص الأقل جدارة لكي يستطيع القيام بذلك، الشخص الأكثر قسوة التقيته في حياتي.
(تشجع ميكايلا إستيبان وترسل له القبلات. يبدو خوستينو مرتبكًا. القاضي يستمع باهتمام).
إستيبان: هذا الرجل دون سبب أتى بي إلى الحديقة وجعلني محبوسا في وسط المتاهة، في مرحاض قذر ومع صنف من جثة حية. وكل هذا بلا سبب، فقط لأجل ممارسة القسوة. ومن منطلق القسوة فقط، كان يسيئ معاملة ابنته كل يوم بجلدها. (بشكل ساخر). ها هنا الأب الصالح، الأب الذي كان يحب ابنته. من جهة أخرى، ميكايلا ليست ابنته وهو يستغلها في كل الجوانب: يتظاهر بصورة الأب الصالح بينما هو في الواقع طاغية حقيقي. انظر، انظر سيادتك، إلى ظهر ميكايلا. سوف ترى آثار الدم من شدة الجَلد بالسياط الذي اقترفه ضدها والدها هذه الليلة.
خوستينو: (للقاضي) أتوسل إليك التحقق مما إذا كان ما ينطق به هذا الرجل حقيقة.
القاضي: ليس تحديدا.
خوستينو: أتوسل إليك.
(القاضي يكشف عن ظهر ميكايلا. لا يوجد شيء غير عادي فيه، إنه أبيض، بدون أي ندوب وبدون أي آثار للدم).
إستيبان: (يصرخ.) هذا غير ممكن.
(ميكايلا تغطي ظهرها.)
القاضي: هذه هي الطريقة التي تتصرف بها مع هذا الرجل الذي أيقظني من السرير لكي يتم إجراء محاكمتك وحل قضيتك على الفور، وهكذا لا تضطر إلى الانتظار. هذا الرجل الذي لم يفعل شيئًا سوى التصرف بشكل جيدٍ معك، والذي عمل على تخليصك من كل أنواع الأخطار.
إستيبان: (بعناد). إنه مجرم. يرتب كل شيء على طريقته.
القاضي: كيف تجرؤ على معاملته بهذه الطريقة؟ (توقف)
سأقول لكم الأهم: أنا لست إلا عبدا له. أنا أحد قضاةِ محاكم الطوارئ، لكني في النهاية لست أكثر من عبد له، هو له علي حق الحياة والموت. من جهة أخرى، هو قد اختارني، أنا الذي أعرفُ بكوني أكثر قضاة الطوارئ تسامحًا، لأحكم عليك، فقط لكي يظهر لك اهتمامه بك. لا داعي لمعرفة المزيد: هجماتك الغاضبة عليه تكفي لإعلان إدانتك.
خوستينو: لا، أتمنى أن يستند الحكم على أساس الوقائع التي صدرت عن المتهم أثناء إقامته في المتاهة، لكن دون الأخذ بعين الاعتبار أي شيء مما قاله ضدي.
القاضي: – يمكنك أن تعتبر نفسك رجلا محظوظا.
(يبدأ القاضي في مراجعة أوراق وأوراق. صمت).
القاضي: إدانة المتهم لا تقبل أي موضع شك. (يشرب جرعة من النبيذ. يقضم قليلا من الشطيرة). المتهم، منذ بدء المحاكمة، قد صرح بكل أنواع الأكاذيب التي سيكون من باب إهدار الوقت العودة إلى التذكير بها. والأسوأ: أنه شكك في العدالة وحاول الهروب. لإغلاق هذا النوع من الجرائم، قام بتعذيب رفيقه في المرحاض وخَنَقه وأراد في الأخير إخفاء جثته في الحديقة. المتهم مذنب بارتكاب جريمة قتل خطيرة جدا (توقف. يشرب. يقضم).أحكم عليه بالإعدام. (توقف. يشرب. يقضم). سيأتي الحراس الذين يقرعون الطبول للبحث عنك فورا.
(بأقصى سرعة يضع القاضي جميع الأوراق في جيوبه. وأيضا الزجاجة. يربط الكراسي بالطاولة التي تبقى مثلما كانت عند وصوله. خلال هذا الوقت، ذهبت ميكايلا لكي ترى والدها، وهي تداعب ظهره بحنو. هذا الأخير يقبلها من وقت لآخر على جبهتها، مليئا بالوفاء والإخلاص. وإستيبان، منكسرا، وساكنا دونما حركة).
القاضي: (إلى إستيبان).لا تتحرك من هنا. سوف يأتي الحراس للبحث عنك بالطبول.
(يخرج القاضي ويسحب الطاولة).
(يتبعه خوستينو وميكايلا. خوستينو يأخذ ابنته بحنان وهو يضع ذراعه على كتفها. يذهبان).
إستيبان، وحده على خشبة المسرح. صمت. طبول جد بعيدة. إستيبان، غير مطمئن، ينظر نحو البطانيات. يرتاب. يدخل المتاهة ويهجر خشبة المسرح.
وقت. طبول في البعيد. يظهر إستيبان متعبا. يتقدم ضوضاء الطبول. يرتاب إستيبان. يرفع بطانية لكي يلج المتاهة. خلفها يوجد برونو محتضرا).
برونو: أنا ظمآن.
(يتراجع إستيبان مغتما. البطانية تغطي برونو. الطبول تتقدم. إستيبان يرتاب. إلخ).
ستارة..
الهوامش
** هذا الاقتباس من أمريكا، لكافكا، لا يظهر في المخطوطة الأصلية أو في الطبعة الإسبانية الأولى من مجلة Mundo Nuevo عالم جديد.