أولت وزارة التراث القومي والثقافة في سلطنة عمان، عناية بالغة بإنشاء المتاحف وتجديدها، ويأتي المتحف الوطني في روي، أحد أحياء مدينة مسقط، شاهدا على هذا الاهتمام، الذي يعكس رؤية حضارية تقرأ الماضي وهي تستشرف المستقبل.
في سياق التاريخ، سيؤكد المتحف على دوره الحضاري في حياة الشعوب المتحف هو آلة الزمن الأسطورية التي تسبح بك عائدة الى عشرات أو مئات خلت من السنين، توغل في الماضي، وتنهل من التراث، لترفد الحاضر بآيات ولمحات، اختلستها من الزمن لتعيش الراهن بقلب مرهف، ينبض بالحياة. حياة الأسلاف.
ومثل سبيكة تتراكم عليها ذرات المعدن النفيس، لتزداد قيمتها، تتنامى قيمة المتحف. يوما بعد يوم، وهو سيضيف الى دفاتره سطورا جديدة، بين نموذج لبناء قديم، أو عدة حرب عاشت
انتصارا، أو وسام سيخلد صاحبه أو حلي ازدانت بها امرأة مليحة، أو رسالة تحكي تاريخا، فالمتحف هوا لذاكرة. والذاكرة هي مرصاد الحياة ورصيدها الأبقى.
اشرف أبواليزيد
رسالة أولى
وأول ما يطالع الزائر في المتحف الوطني، وداخل قاعته الرئيسية، نسخة من الرسالة التي بعث بها الرسول (ص) لأهل عمان يدعوهم للاسلام، مع نماذج من أدوات الكتابة القديمة كالكتف والمحبرة والمحفظة.
ولأن الكتابة كانت البداية، فإن تلك الرسالة هي أول المقتنيات.
عشرون عاما
ويحتفل المتحف الوطني هذا العام بمرور 20 سنة على انشائه، وقد عرف في السابق باسم متحف السيد نادر بمسقط، وانتقل الى مقره الحالي في روي بمبنى المكتبة الاسلامية عام 1988، ليطلق عليه هذا الاسم.
مجد الملاحين
في صدر القاعة بالدور الثاني مسرح يجسد – عبر نماذج من السفن العمانية – مجد الملاحين العمانيين وقد عرفت عمان صناعة السفن منذ أقدم الأزمنة، فالروايات القديمة تحدثنا عن أول اتصال بين الجزء الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين في عهد السومريين القدماء، فقد أطلق على عمان اسم (مجان) في ذلك الوقت الذي يعني أرض السفن أو ميناء السفن.
والى جانب شهرة أهل عمان في صناعة السفن، فقد نشطوا كملاحين مهرة وصلوا الى سواحل الخليج والمحيط الهندي وجنوب شرق آسيا وشرق افريقيا.
وقد اشتهرت بعض المدن العمانية بصناعة السفن مثل صحار وصور ومطرح.
وكان العمانيون في سابق الأزمنة يتبعون في صنع سفنهم التقاليد السائدة في صناعتها في المحيط الهندي.
إذ كانت السفن تخرز بالألياف وتشد ولا تسمر بالمسامير الحديدية وأما الأخشاب المستخدمة فكانت الساج، الفيني العيني، والفنس الذي كان يجلب من الهند.
وفي الوقت الحاضر، تصنع السفن من الألواح الخشبية التي تثبت بالمسامير الحديدية بدلا من الحبال ولا يزال الأهالي يستخدمون نفس الأدوات القديمة لصناعة السفن.
ومن أنواع السفن العمانية (الغنجة). ومقدمتها تشبه منقار (الببغاء) ولها مؤخرة مربعة فيها فتحات خلفية. لها ثلاثة صواري. حمولتها تتراوح بين 130 – 300 طن وكانت تستخدم في التجارة. و(البوم). وتتميز بمقدمة مستقيمة القائمة على زاوية 45º حمولتها تتراوح بين 74 و 400 طن – كانت تستخدم لنقل البضائع والركاب. و(السنبوق) وبه المقدمة المنخفضة المحفورة ذات الشكل المنحني والمؤخرة العالية – وحمولته تتراوح بين 20- 150 طنا. وكان يستخدم في السابق كمركب لصيد اللؤلؤ، أما الآن فيستخدم في الشحن ونقل الركاب. و(الجالبوت) وتتميز بالمقدمة العمودية والمؤخرة العريضة، حمولتها تتراوح بين 40 و 75 طنا، لها صار واحد، واستخدمت في عمان في التجارة البحرية. و(البدن). ويتميز بالصدر البارز والمؤخرة العالية الحمولة تتراوح بين 20 و 100 طن استخدم لصيد السمك والنقل الساحلي. و(الشاشة) وهو مركب صيد بدائي صغير، يصنع من سعف النخيل، تربط أجزاؤه بالحبال ثم يملأ الهيكل بلحاء شجر النخيل وألياف جوز الهند وأغصان النخيل التي تساعد على الطفو. ثم يمد عليها ما يشبه الغطاء طولها حوال 10 أقدام. ويستخدم لصيد السمك بالقرب من السواحل، كما يصلح للاتصالات مع المراكب الراسية في الميناء. أما (البانوش)، فيصنع في المنطقة الجنوبية من السلطنة تربط أجزاؤه بالحبال وألياف
جوز الهند بدلا من المسامير. وأخيرا (البغلة) ولها مؤخرة عريضة، تتميز بالسطح العالي وبالممرات العالية، وبالفتحات الخمس الموجودة بها. لها ثلاث صوار، حمولتها تتراوح بين 190
– 400 طن وربما تزيد أحيانا على نحو 500 طن.
وتعرض تلك النماذج مع خلفية لخارطة ضخمة توضح طرق الملاحة بين عمان والقارتين الافريقية والآسيوية.
البيت العماني التقليدي
أقسام المتحف /الغرف توزعت بين ما هو تقليدي وما سواه. وقد اجتمع لغرفة البيت العماني التقليدي عناصر البهجة والحياة، حتى لكأن الموسيقى لا تزال تصدح في أرجاء الغرفة التي استبدلت الألحان بالالوان. سرير خشبي جوانبه من الأرابيسك البني اللون وستائره بلون
الفرح، لابد أن تعتليه بدرج، كأنك تترك الأرض الى سماء حياة جديدة، المندوس – وهو صندوق الكنوز – ملمح تقليدي في الخليج بوجه عام وفي عمان بشكل خاص. تجمع فيه العروس ثمينها من حلي وثياب بأدراجه الظاهرة والسرية. والمرايا تتوزع الزوايا عبر النظر وساعة
عتيقة ومبخرة وأوان للطعام، ولصاحب البيت مجلسه الذي يتلو فيه القرآن الكريم. وغير بعيد يزور رواد المتحف القسم الخاص بالملابس العمانية النسائية من المناطق المختلفة للسلطنة (محافظة مسقط، محافظة ظفار. منطقة الباطنة، المنطقة الشرقية، المنطقة الداخلية، منطقة الظاهرة ومحافظة مسندم) كما يمكنه أن يرو قسم الأواني النحاسية، التي يتصدرها ذلك القدر الكبير، بصنبوره، ويخبرني ابراهيم الدغيشي (المرشد بالمتحف) أنه مصمم لتسخين المياه بالفحم، خاصة لاستخدامها في الشتاء حماما للأطفال. إن تصميما ابتكاريا كهذا يثبت المهارة التي طوع بها الصانع العماني أدواته لتصبح قطعة فنية، وحياتية.. في آن واحد. وقد استخدم العماني القديم المواد الخام المختلفة ليقدم لنا – في هذا المتحف وسواه آيات فريدة من الفخار والنحاس، من الجلود والخشب من سعف النخيل وصوف الماشية، من الفضة والذهب. وأنطقها جميعا لتعزف سيمفونية إبداع وتفرد. تشهد بخصوصية هذا الفنان الذي صهر كل المؤثرات الافريقية والآسيوية، العربية والاسلامية، في بوتقة ميزت مفرداته، فصارت هناك خصوصية عمانية في كل ما رأيناه.
من مقتنيات المتحف
سنرى مجموعة الأسلحة النارية، وبينها عدد من البنادق التي أهداها صاحب الجلالة السطان قابوس بن سعيد المعظم، الى المتحف، صنعت من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، في أوروبا.
ومجموعة الخناجر التقليدية وتعود للقرنين التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
أما مجموعة الرسائل فمنها رسالة من السيد برغش بن سعيد سلطان زنجبار الى الوالي عبدالله بن حمد بن سعيد والي لامو، يعود تاريخها الى 1883، ورسالة من السيد ماجد بن سعيد سلطان زنجبار الى والي لامو يعود تاريخها الى 1864، ورسالة من السيد سعيد بن سلطان، سلطان عمان وزنجبار الى جابر بن عبد البر ومحمد بن خميس بتاريخ 1824، وعدد آخر من الرسائل التي تكشف الكثير من الصفحات المجهولة في عمان.
مجموعة التحف الآسيوية الصينية والفخارية. وهي أوان من الصيني الأزرق، ومزهريات، يرجح أنها صنعت في القرن 18، وزخرفت فيما بعد. ومزهريات يابانية عديدة.
مجموعة العملات وبينها ريال ماريا تريزا، النمساوي. المصاغ من الفضة وكان يتداول في عمان حتى العام 1968. عندما استبدل به الريال السعيدي. ومن أندرها عملة سكت في عدن قبل 577 هجرية في حكم توران شاه بن أيوب.
ويوجد عدد من المقاييس والمكاييل التقليدية التي استخدمت أوائل القرن 19، وقد امتلكها صائغ من سوق مطرح، وأخرى تعود لبلدية مسقط في بداية القرن الـ 18، ومفاتيح وأغراض أخرى.
أما المشغولات الفضية فعديدة، مما يبرز أهميتها واهتمام النساء بها، فهناك خلاخيل النساء (النطل)، الحروز، البناجري، الحلي، الحنحون، والقلائد، وقد صنعت أغلبها في نزوى في القران التاسع عشر. وسيعجب الزائر من الكم الهائل من أغراض الزينة التي استخدمتنا المرأة العمانية، والحرفية الهائلة التي أبدع في صياغتها الفنان العماني، عد الأدوات التي استخدمتها في حفظ الكحل وأدوات الزينة وسوها.
غرفة الفضاء
على صغرها،إنها تنقلك من الجو التاريخي الغابر للمتحف الى الخيال العلمي الذي تحقق في الرحلات الاستكشافية للفضاء. هرمان زجاجيان يواجهان الداخل لغرفة الفضاء. بهما علم السلطنة في العام 1969 والعام 1972، وقد أهدى ريتشارد نيكسون صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم صخورا تذكارية من سطح القمر، اجتلبتها سفينة الفضاء أبوللو 17، وعلى الشاشة شاهدت الشريط المصور لتلك الرحلة الأسطورية، واللوحات التذكارية المعلقة في القاعة الصغيرة، هكذا يقدم المتحف تلك اللحظات الخالدة بعد أن احتفظ بها في عباءة التاريخ.
اقتراحان
بعد تلك الجولة الصباحية، خطر ببال لو أن للمتحف موعدا مسائيا. يختلف اليه زوار جدد، وأسر أخرى، ربما تعسر لغير سبب في الصباح زيارته. وإذا كان المتحف الوطني يقيم بين الحين وآخر معارض خارجية. تتيح الفرصة لمن يرغب في مشاهدة مقتنياته. فإن الموعد المسائي المقترح قد يساهم بشكل أكبر في زيادة عدد الزوار من داخل السلطنة وخارجها. الراغبين في التعرف على صفحات من التاريخ العماني.
وكان الشريط المصور الذي شاهدته في غرفة الفضاء عن رحلة أبوللو 17 دافعا للسؤال عن امكانية اعداد وزارة التراث القومي والثقافة لشريط مماثل عن المتحف وغيره من المتاحف، يمكن للرواد شراؤه، بشكل يستثمر على نحو معرفي ومادي.
إن جهد الوزارة المتواصل في ترميم الآثار وتجديد المتاحف، ومع اتساع خارطة المستكشفات، يحتاج الى مؤزرات مماثلة لدعم رسالة المتحف، الذي يضيء الذاكرة البصرية للأجيال القادمة.