ثمة في الأخبار التي تناولت حياة المتنبي وشعره نوع من التعارض يشير صراحة إلى أن تلك الأخبار التي كثيرا ما وقع اعتمادها في الإحاطة بجوانب من شخصية الشاعر وسلوكه وسيرته تحمل في تلاوينها ما به تتكتم عن مقاصد واضعيها وناقليها. وهو يعني أيضا أن أهميتها وفاعليتها في الذاكرة الجماعية التي تناقلتها, جيلا بعد جيل, لا تتأتى مما تقوله فحسب, بل مما تتستر عليه أيضا. لقد جاءت الأخبار التي حد ثت عن سلوك المتنبي, عن طباعه ونسبه ومبادئه, مسكونة من الداخل بحرص واضح على تتفيهه وتجريده من القيم. وبذلك رسمت له صورة في منتهى القتامة, صورة منفرة غاية التنفير محاطة بهالة من سواد. والناظر في هذه الأخبار, على غزارتها وتنوعها, سرعان ما يدرك أنها تتحرك في المكر. فهي تدور حول أهم القيم التي مجدتها الجماعة واحتفى بها الوجدان الجماعي ; حتى إذا عدمها المرء سقط وانحط وهان.
فصراحة النسب قيمة من القيم التي حرصت المدينة العربية على تكريسها وإعلائها. والثابت تاريخيا أن ما شهده المجتمع الإسلامي من تناحر بين الأجناس والأعراق على إثر الفتوحات وتوسيع هذه المدينة لمناطق نفوذها شرقا وغربا قد زاد في تكريس هذه القيمة وتمجيدها. ولئن كانت قيمة صراحة النسب قيمة قادمة من بعيد موروثة من مجتمع ما قبل الإسلام فإنها ظلت متحكمة بالوجدان الجماعي. بها تكتمل أمجاد المرء. وبها يشرف. داخل هذه الرحاب, وإلى هذه القناعة المتحكمة بالوجدان الجماعي وبالسلوك الاجتماعي استندت الأخبار التي جاءت تلح على أن المتنبي هجين النسب, نكرة, مجهول الأصول. عبثا سيحاول الشاعر أن يتعالى عن هذا النقص المشين في نظر المجموعة. وعديدة هي المرات التي سيعمد فيها إلى الرد على ما يعتبره الآخرون نقيصة وعارا. فيلجأ إلى المداورة ليلتف على ما يعده الآخرون معرة ونقيصة. يكتب البديعي مثلا: زوكان يكتم نسبه, فسئل عن ذلك, فقال: إني أنزل دائما على قبائل العرب, وأحب أن لا يعرفوني, خيفة أن يكون لهم في قومي ترة (ثأر).س1 غير أن هذا التردد بين إعلاء الشاعر لذاته وتمجيدها والتكتم على النسب وفق طريقة مواربة فعلا هو الذي سيمد أعداء الشاعر وخصومه من الحاسدين العيابين بجميع فرص التشفي والانتقام. فالغموض هو الذي يسمح للإشاعة بالانتعاش والانتشار. وما اكتنف نسب المتنبي من غموض هو الذي أعطى التقولات جميع مبررات انتشارها ورواجها.
يحدثن الثعالبي في يتيمة الدهر عن أحد هؤلاء الخصوم من العيابين فيكتب: زوبلغ أبا الحسن بن لنكك بالبصرة ما جرى بين المتنبي من وقيعة شعراء بغداد فيه واستحقارهم له, وكان حاسدا له, طاعنا عليه, هاجيا إياه, زاعما أن أباه كان سقاء بالكوفة, فشمت به.س2 هذا أيضا ما عيره به الحاتمي3. يذكر البديعي أن الحاتمي أصر على ملاقاة المتنبي وإيذائه فكان أن دخل عليه مجلسه فلما سأله المتنبي: زأي شيء خبرك?س قال الحاتمي: زثم انحدرت عليه انحدار السيل وقلت أبن لي عافاك الله ما الذي يوجب ما أنت عليه من العظمة والكبرياء? هل هناك نسبي ورثك الفخر, أو شرف توجت به دون أبناء الدهر.س4 إن الحط من نسب الشاعر على هذا النحو, في مجتمع يعتبر صراحة النسب قيمة لا يمكن للمرء أن يشرف إلا إذا حظي بها, إنما يرجع, في جانب هام منه, إلى الحظوة التي نالها الشاعر في زمنه. حتى لكأن الذين تناولوا نسبه وتكلموا فيه كانوا يصدرون عن وعي حاد بأن ما حققه الشاعر في زمنه من رياسة على الشعر ليس سوى جزء بسيط مما سيناله من مجد في المستقبل. وهم على يقين أيضا من أن الرياسة في الشعر لا تنتهي بموت الشاعر بل تستمر من بعده وتزداد مضاء. لذلك اختاروا أن يجعلوا الماضي وبالا عليه. ونبش الماضي, في مثل هذه الحال, إنما يخفي رغبة عاتية في الإبادة عن طريق تلبيس الحاضر والمستقبل معرة الماضي أو محو أمجاد الحاضر والمستقبل بما كان يشين في الماضي.
لم تكتف الأخبار التي تناولت شخصية المتنبي بالطعن في نسبه فحسب, بل عمدت إلى تجريده من أبرز قيمة من القيم الاجتماعية. فتفننت في الحديث عن بخله وحرصه على المال في ثقافة احتفت بالكرم ومجدته ونسجت من حوله الحكايات والأقاصيص. فما حد ثت به المتون القديمة عن كرم حاتم الطائي وكرم عروة بن الورد حامي الصعاليك مثلا يشير, ولو على سبيل الإيماء, إلى أن الوجدان الجماعي إنما احتفى بالكرم لأنه يعتبره قيمة مركزية من القيم التي عليها مدار الفتوة. ومعنى كونه قيمة أنه يرفع الذات ويتسامى بها ويدفع بالمرء إلى نوع من السفر باتجاه الآخر. فالكرم ليس مجرد عطاء. إنه إعلاء للذات عبر الآخر. وهو توسيع لمكان داخل الذات للآخر. الكرم معبر للحدود الفاصلة بين الأنا والآخر. إنه حركة تمكن من عبور تلك الحدود, حدود الداخل والخارج. إن الكرم نوع من التضايف بين الأنا وآخرها, بموجبه, تتعالى الذات على فرديتها وأنانيتها وتنفتح على غيرها فتستضيفه. ثمة في فعل الكرم وجه إنساني وبعد إلهي. بل هو فعل ينشئ للمرء مكانا بين الاثنين. حتى لكأنه إنما يمثل عمل غير الإنساني في الإنسان. إنه نوع من التسامي يمد الوجود البشري بالمعنى. وهو, من جهة كونه لحظة تسام, إنما يضعنا في حضرة ما تنضوي عليه المنزلة البشرية من عظمة تمد الحياة نفسها بالمعنى.
من هنا تستمد الأخبار التي حرصت على تجريد الشاعر من هذه القيمة عنفها ومضاءها وخطرها. إنها تتحر ك في المكر. وفي المكر تفتتح مجراها حريصة على سد السبيل المؤدية إلى التسامي في وجه شاعر نذر شعره لعبور الحدود الفاصلة بين ما هو فان عابر يطاله البلى, وما يبقى على الدوام ويتجدد باستمرار. لقد كان المتنبي على يقين من أنه عاد بالشعر العربي إلى أمجاده. كان على يقين من أنه جدد للشعر ناره وأعاد للكلمات لهبها. وكان على يقين أيضا من أن »الشعر ديوان العرب«. ومعنى كونه ديوانهم الحافظ لأي امهم وأمجادهم أنه مأوى كيانهم وموضع تجل ي ذاتهم الثقافية. إنه, بمعنى آخر, الموضع الذي ينكشف فيه وجدانهم الجماعي . وهو أيضا الموضع الذي يتوارى فيه هذا الوجدان ويختفي ويواصل السفر من جيل إلى جيل. وهذا يعني أن تجديد لغة الشعر وأسئلته إنما يعني تجديد الكائن ومد الوجود العربي نفسه بالمعنى في مرحلة عاصفة من تاريخ ذلك الوجود. وهو يجاهر بذلك في قصائده فيعلن متحدثا عن شعره:
إن هذا الشعر في الشعر ملك ** سار فهو الشمس والدنيا فلك5
وهو لا يخفي, في شعره, وعيه الدرامي بما آل إليه أمر الوجود العربي من وهن وضعة. وفي حين ينسب الشاعر إلى نفسه الكرم معلنا, في أشعاره, أنه ترب الجود والكرم. تعمد الأخبار إلى التشهير به وتنسج من حوله الحكايات التي تجرده من هذه القيمة. نقرأ مثلا: »قال ابن فورجة: كان المتنبي داهية مر النفس شجاعا حافظا للأدب, عارفا بأخلاق الملوك, ولم يكن فيه ما يشينه ويسقطه, إلا بخله وشرهه على المال. « إن الغاية من الخبر هي الحط من منزلة الشاعر وتجريده من قيمة الكرم. لكن الراوي لا يمضي إلى غايته رأسا, بل يتعمد المداورة والمواربة فيسند إلى المتنبي حشدا من الخصال ترفعه في ذهن المتلقي. ثم يعمد إلى ذكر الخصلة المذمومة التي يريد أن يلصقها به أي البخل والجمع والمنع. وبذلك يوهم الراوي بأنه إنما يقول صدقا ويلزم الحياد ويضفي على كلامه مصداقية ما كان لينالها لو اكتفى بذكر ما يشين الشاعر ويسقطه. وليس السخاء في إضفاء الصفات والخصال الممدوحة على الشاعر إلا طريقة في استدراج المتلقي إلى التسليم بأن الصفات المذمومة المشينة التي تسقط المرء وتعصف بمكانته في مجتمع مجد الكرم تمجيدا, هي فعلا مغروسة في طبع المتنبي وجبلته. وهي معرته ونقيصته التي لا يمكن أن تمحى أو تزول. لكن الأخبار كثيرا ما تعدل عن هذا الطابع التقريري الإخباري وتتخذ لها طابعا سرديا واضحا غايته استدراج المتلقي إلى التسليم بما تنقله من معرات المتنبي ومساوئه عن طريق الحكي والتفنن في سبكه وصياغته.
نقرأ: حكى أبو الفرج الببغاء قال: كان أبو الطيب يأنس بي, ويشكو من سيف الدولة, ويأمنني على غيبته له, وكانت الحال بيني وبينه عامرة دون باقي الشعراء, وكان سيف الدولة يغتاظ من تعاظمه, ويجفو عليه إذا كل مه, والمتنبي يجيبه في أغلب الأوقات, ويتغاضى عنه في بعضها. قال أبو الفرج الببغاء: وأذكر ليلة وقد استدعى سيف الدولة بدرة(عشرة آلاف درهم) شقها بسكين الدواة, فمد أبو عبدالله ابن خالويه طيلسانه فحثا فيه سيف الدولة صالحا, ومددت ذيل دراعتي فحثا لي جانبا, والمتنبي حاضر, وسيف الدولة ينتظر منه أن يفعل مثل فعلنا, فما فعل, فغاظه ذلك, فنثرها كلها على الغلمان, فلما رأى المتنبي أنها قد فاتته زاحم الغلمان يلتقط معهم, فغمزهم عليه سيف الدولة, فداسوه وركبوه, وصارت عمامته في رقبته, فاستحى ومضت به ليلة عظيمة, وانصرف فخاطب أبو عبد الله بن خالويه سيف الدولة في ذلك, فقال: يتعاظم تلك العظمة, وينزل إلى مثل هذه المنزلة لولا حماقته.س7
يتشكل هذا الخبر, من جهة بنيته الخارجية, قائما على مقدمة ومتن. ويعمد الراوي في المقدمة إلى الكشف عن هويته ويخبرنا بأنه ليس مجرد صديق للمتنبي, بل هو الخل الذي كان المتنبي يأتمنه على أسراره حتى تلك التي يمكن أن تؤدي به إلى التهلكة. إنه الصديق الذي اصطفاه من دون سائر الشعراء والمثقفين الذين كانوا يرتادون بلاط سيف الدولة. والراوي يلح على ذلك ويؤكده لنا قائلا: »وكانت الحال بيني وبينه عامرة دون باقي الشعراء. « وهو يلح أيضا على أنه الخل الذي كان المتنبي يلوذ به ويشكو إليه حاله كل ما أذاه الأمير الحمداني. بل إنه خل ودود يحتمي المتنبي بصداقته ووده كل ما ضجر من سيف الدولة وشعر بالحاجة إلى اغتيابه. ويعمد الراوي أيضا إلى الإيماء إلى أنه من المقربين الذين اصطفاهم الأمير لحضور مجالسه الخاصة حتى يقنع بأن ما سيرويه إنما شاهده عيانا. وهو ليس تقولا, بل شهادة يقوم بها أحد أصدقاء المتنبي وخلصائه. إن الراوي يعلم أن الصداقة قيمة من القيم البشرية التي تحظى بمكانة في الوجدان البشري مطلقا. وما إثارة فكرة الصداقة والإلحاح عليها على ذلك النحو إلا طريقة في جعل المتلقي يستسلم لقول الراوي ويسلم بما سيأتي في المتن من مثالب المتنبي. لكن الراوي لا يشرع في ذكر تلك المثالب إلا بعد أن يمهد للحادثة التي سيرويها. لذلك يشير إلى أن العلاقة بين الأمير والشاعر لم تكن صفاء, بل كانت متوترة. وكان كل منهما كثيرا ما يضيق بالآخر ويضجر منه. ففي حين كان المتنبي يعمد في ضجراته إلى اغتياب الأمير الحلبي ويأتمن على ذلك الراوي نفسه, كان الأمير, بدوره, يضيق بالمتنبي وسيغتاظ من تعاظمه, ويجفو عليه إذا كلمه.س
هكذا تصبح بنية الخبر نفسها طافحة بالدلالة على مقاصد الراوي. إن المقدمة ليست مجرد عتبة مؤدية إلى المتن. بل إنها هي التي سترسم حدوده وضفافه ومحتواه. وما سيأتي في المتن من تفنن في إيراد مثالب المتنبي وهوانه وضعته وحماقته سيكون بمثابة قلب في مسار السرد. وعملية القلب هي التي ستجعل المتلقي يستفظع تلك المثالب وذلك الهوان استفظاعا عظيما. أما الجفوة الحاصلة بين الشاعر والأمير فإنها ليست مجرد معلومة يدلي بها الراوي ليفيد بها المتلقي, بل هي سبيله إلى التفنن في استعراض مثالب الشاعر. وهي طريقه إلى التفنن في ذكر تشفي الأمير وتلذذه بهوان الشاعر وضعته. وللحكاية أن تواصل حبك مكائدها.
يتخذ القسم الثاني من الخبر طابعا مشهديا. ويتوسل استدراج المتلقي بواسطة التدقيق في وصف التفاصيل. ففي ذات ليلة يستدعي سيف الدولة بدرة (عشرة آلاف درهم). ويشقها بسكين الدواة. فيمد ابن خالويه طيلسانه وينال منها نصيبا. ومثله يفعل الراوي عندما يمد ذيل دراعته ويصيب منها ما تيسر. لكن المتنبي يرفض هذه العطية ويتعالى على هبة الأمير. لا يذكر الراوي لماذا أمر الأمير باستقدام المال. هل هي عادته في الإنفاق على جلسائه أم أنه كان قد دبر مكيدة للمتنبي وسيكون استقدام المال شروعا في إنجازها. وهو لا يذكر زمن الحادثة بالتدقيق. ذلك أن كلمة »ليلة« توهم بأنها تحدد الزمن وتضبطه فيما هي تفتحه على كل الليالي. إن الزمن مفتوح غائم غير محدد. والحال أن الليلة, تلك الليلة التي ستشهد هوان المتنبي قدام الناس, تلك الليلة التي سيدوسه فيها الغلمان ويركبونه ويلقون بعمامته فتعلق برقبته, لا يمكن إلا أن تكون ليلة لا تنسى. وفي حين يورد الراوي التفاصيل بكل دقة فيذكر أن السكين التي شق بها الأمير البدرة هي سكين الدواة لا غيرها, لا يذكر موقع تلك الليلة من الشهر والسنة. وللحكاية أن تواصل حبك مكائدها.
إن المتنبي شاعر تشهد الدنيا قاطبة بتعاظمه واعتزازه بنفسه, وقد أجمعت المتون القديمة كلها على مدى امتلائه بذاته. حتى أن حرصه على إعلاء نفسه وتمجيدها جعله يجرؤ, في حضرة سيف الدولة نفسه وعلى مرأى ومسمع من جلسائه من مثقفي العصر وخاصته, على المجاهرة بأنه خير من تسعى به قدم. لكن الحادثة التي يتفنن الراوي في سردها, وذكر تفاصيلها التي تخدم متعلقه إنما تنشد إثبات عكس ذلك, وتهفو إلى جعل المتلقي يسلم بأن عظمة المتنبي ليست سوى مجرد تعاظم كاذب. وتعففه ليس سوى طريق مؤدية إلى الضعة والهوان. فالخبر يأتي ملحا على أنه شره متكالب على المال يرفضه عطية من أمير, ثم يلتقطه منثورا على الأرض فتاتا وهوانا. والراوي يستعيد ما كان ذكره في القسم الأول من الخبر حول الجفوة التي بين الأمير والشاعر ويوظفه ليمعن في التشفي من الشاعر. فيذكر أن سيف الدولة غمز الغلمان على المتنبي بعد أن نثر الدراهم فما كان منهم إلا أن داسوه بالنعال ثم امتطوه. هل يعني هذا أن الأمير قد دبر مكيدة للمتنبي لعلمه أنه سيتعاظم إن هو سوى بينه وبين بقية جلسائه. وليقينه أنه إن هو نثر المال على الغلمان سوف لن يتمالك المتنبي بل سيتهالك ويهلك. إن الدناءة, في هذه الحال, تصبح مردودة على الأمير وبه ألصق. ويصبح المتنبي في وضع الضحية التي تتآمر عليها سلطة جائرة عابثة مولعة بإذلال الآخرين وامتهانهم. لكن التفاصيل التي يوردها الراوي لا تمضي في هذا الاتجاه ولا تؤكد هذا التأويل, بل تعترض عليه. وهي لا تنشد تتفيه الأمير وفضح السلطة بقدر ما تنشد الإيقاع بالشاعر والنزول به إلى أسفل سافلين.
فالشاعر يتماسك في البداية ويرفض عطية الأمير. وبذلك تواصل الحكاية نسج مكائدها إذ ترسم للشاعر في ذهن المتلقي صورة الإنسان متعففا زاهدا في المال يربو بنفسه عن الصدقة ولا يقبل العطايا إلا إذا كانت مكافأة. لا سيما أن الصدقة هبة وإشفاق. أما المكافأة فتكون استحقاقا يحفظ على المرء كرامته. إن الحكاية تمعن في التلاعب بالمتلقي لتجعله يستفظع سلوك الشاعر ويدين انحطاطه وتدنيه وسقوطه. وهي إنما ترسم الشاعر متعاليا رافضا عطية الأمير كي يكون سقوطه عظيما في ما سيأتي من وقائع. في المكر يفتتح هذا الخبر مجراه إذن. وبالكيد تنسج هذه الحكاية خيوطها وتحبك تفاصيلها. ثمة نقمة. ثمة ضغينة. ثمة رغبة عاتية في الانتقام من الشاعر ودوسه. والصداقة المعلنة في القسم الأول من الخبر ليست سوى فخ من الفخاخ التي برع هذا الراوي في إخفائها في تلاوين الكلام. يكفي أن نتملى التفاصيل وستنكشف الأحابيل جميعها. إن الخبر يلح على أن الغلمان سيدوسون الشاعر دوسا بالنعال. ووحدها الحيات, إن هي عادت, تداس بالنعال. فهل يعني هذا أن الخبر ينوع على هذا المثل? وسواء قصد الراوي أن يومئ إلى المثل ليجعل المتلقي يستحضره أو أن الكلام هو الذي نادى بعضه بعضا فإن مشهد الدوس بالنعال كان من المفترض أن يجعل الراوي يشفق على الشاعر الذي أخبرنا أنه خله الودود.
لكن الراوي هنا ينقل الأحداث ملتزما الحياد. والحياد في مثل هذه الحال, لا يتعارض مع قيمة الصداقة فحسب, ولا ينفيها فقط, بل إنه ينقلنا إلى ما في نفس هذا الراوي الصديق(!) من مرض وضغينة, ويضعنا في حضرة نوع من التشفي الفظيع الذي يعلن عن نفسه في شكل إشهاد وحياد. ذلك أن الحياد, في مثل هذه اللحظة, ليس سوى نوع من التلذذ برؤية الآخرين يسقطون ويهانون. إننا في حضرة نزعة سادية فاضحة تعلن عن نفسها في شكل حياد وأمانة في نقل أخبار الأصدقاء وهم يسقطون. ههنا أيضا يتنزل مشهد الغلمان وهم يمتطون الشاعر الذي هان كل الهون ويركبونه. وههنا أيضا تكشف الرغبة في تتفيه الشاعر عن وجهها القاتم الفظيع. ثمة في هذا الخبر رغبة واضحة في القتل. ثمة دم مراق ولو من قبيل المجاز والرمز. ثمة كرامة بشرية تنتهك انتهاكا لا يبقي ولا يذر. إن الخبر يلح على أن الغلمان »داسوه وركبوه, وصارت عمامته في رقبته فاستحى. « وهذه التفاصيل هي التي ستمكن الحكاية من الإمعان في نسج حبائلها والتفنن في حبك مكائدها. فمعنى الكلام, في الظاهر, أن الشاعر لم يستح إلا بعد أن مضى في الهوان والضعة إلى أقصاهما. لكن الصورة التي يبتنيها تكشف عن الرغبة العاتية في إبادة الشاعر وطرده من دائرة الإنساني والبشري . وحدها الدواب تركب وتمتطى. ولا بد أن يكون الراوي على يقين من أن مشهد الشاعر وقد ركبه الغلمان وامتطوه إنما يخلق نوعا من التوازي المخزي بين الشاعر والدابة.
أما إذا كان الراوي لا يعي ذلك التوازي فإن المسألة تصبح عندها أكثر ويلا. فالكلام سينقلنا وقتها إلى ما في نفس هذا الراوي الصديق(!) من ضغائن دفينة ونزعات شيطانية شرعت تطل برؤوسها من مضجعها مجرية الكلام وفق ما به تستدعي في ذهن المتلقي حدث التوازي المخزي ذاك. هل كان الراوي يعلم أن صورة العمامة المتدلية من الرقبة إنما تثير في الذهن صورة لجام الدابة? إن المشهد وما ينبني عليه من إصرار على خلق نوع من التوازي المخزي بين الشاعر والبهيمة التي تركب يضعنا في حضرة الخيال البشري وما يمتلكه من مقدرة فائقة على الامتثال للض غينة والحقد والإفصاح عما يربض في قاع النفس البشرية من نزوعات شريرة ومن ميل إلى الفظيع والمخزي والدوني . ولنا أن نتساءل عن هذا الدور الذي اضطلع الغلمان بإنجازه. لقد غمزهم الأمير على الشاعر. فكان ما كان. هل يعني هذا أن الغلمان كانوا يكرهون المتنبي ويتحينون فرصة الإيقاع به.
كيف يمكن لشاعر ملأ الدنيا وشغل الناس ونال من تبجيل السلاطين والأمراء والوزراء في عصره ما جعلهم يخشونه ويهابونه, أن لا يكون له في نفوس غلمان الأمير بعض من مهابة? هل كان الغلمان يخشون الأمير ويطلبون رضاءه وهم على دراية بأن مولاهم يمني النفس برؤية الشاعر مداسا مستباحا, فما كان منهم إلا أن لبوا نداء سلطة جائرة عابثة تطرب بمشهد الإنسان ذليلا مداسا منتهكا? لا بد أن يكون الغلمان على بينة من منزلة المتنبي عند سيف الدولة. لا بد أن يكونوا على دراية بأن هذا الشاعر هو الذي خلد أمجاد الأمير وأجرى بطولاته وأي امه على كل لسان, فنال على ذلك الحظوة وقرب من الأمير أكثر من جميع الشعراء في زمانه. الراجح أن جميع هذه الأسئلة لم تتبادر إلى ذهن الراوي ولم تجل بخاطره أصلا, فيما كان يصوغ الخبر مستسلما للذة التي وفرها له مشهد صديقه الشاعر مداسا ذليلا مستباحا. فهل معنى ذلك أن الصداقة المعلنة في القسم الأول من الخبر ليست سوى السبيل التي ستسمح لهذا الراوي الموارب, هذا الصديق المرائي, بصب أحقاده والتفريج عن ضغائنه الدفينة?
»نطق الراوي سيف الدولة بكلام يشهد على حمق الشاعر فيذكر أن سيف الدولة خاطب أبا عبد الله بن خالويه, بعد انصراف المتنبي, قائلا: »يتعاظم كل تلك العظمة, وينزل إلى مثل هذه المنزلة لولا حماقته. « هل يعني هذا أن الراوي يريد أن يورط الأمير في دم الشاعر المهان? إن مقدمة الخبر وما ورد فيها من ذكر للجفوة التي كانت كثيرا ما توتر العلاقة بين الشاعر والأمير تسمح للراوي بأن يفعل. لا سيما أن الإشهاد على الحماقة يتماشى مع ما ورد في المقد مة من إيماء إلى ما بين الشاعر والأمير من تناحر خفي . وعلى هذا أيضا جريان الحادثة التي ذهب ضحيتها الشاعر المهدورة كرامته قدام الجميع. فسيف الدولة هو الذي حبك المكيدة. وهو الذي غمز الغلمان على الشاعر, فأمعنوا في إذلاله. والحال أن المتون القديمة تجمع على أن الأمير كان يحتفي بالشاعر أي ما احتفاء حتى أنه كان يستصحبه في حروبه وغزواته ويباهي به أمراء زمانه ويعتبره زين مجلسه.
لهذه الحكاية طرائقها في نسج مكائدها إذن. ولها أيضا أفانينها في المواربة والتخفي على مقاصد واضعها. وهي إنما تستمد جميع أسباب قو تها وفاعليتها في ذهن المتلقي من مقدرتها الفائقة تلك على التخفي والمواربة. ولكنها إنما تصبح موضع ريبة وموضوع شك من طرائقها في التكتم على مقاصد واضعها. وليس غريبا, في هذه الحال, أن يحيا الشاعر وحيدا مقيما في السفر والترحال. وليس غريبا أن يكون على يقين من أن صلات سيف الدولة ستكون وبالا عليه. ليس غريبا أيضا أن تطفح قصائده بحرقة الفقد, فقد الصداقة والصديق, والإخبار عن وعيه بأن في تلك الصلات بعضا من ويلاته. 8 بل إن الش اعر كثيرا ما عبر عن يقينه بأن الصداقة قيمة قد اندحرت مخلفة العالم وراءها خلوا من الود , والإنسان وحيدا لا أنيس له إلا عزلته. وبلغ من يقينه باندحار الصداقة وفقد الصديق إلى حد اليأس من الجنس البشري. 9
غير أن ما تنبني عليه هذه الأخبار, فيما بينها, من تضاد وتعارض وما ينبني عليه الخبر الواحد من مواربة ومداورة وتكتم على مقاصد واضعه تظل بمثابة حوافز يمكن أن تدفع بالمتلقي إلى الريبة والشك في هذه الأخبار جميعها. يكفي هنا أن ننظر في هذين الخبرين وسنجد التغاير بينهما على أشده, والتعارض يعمل لا يكل . يجزم الخبر الأو ل بأن المتنبي كان شجاعا حافظا للأدب, عارفا بأخلاق الملوك, ومعرفته بأخلاق الملوك من شأنها أن تجعله يخفي شرهه ولا يزج بنفسه في مواقف رذلة تشين وتعصف بالوقار حتى إذا كان شرها متهالكا على المال فعلا. أما الخبر الثاني فإنه لا يتور ع من انتهاكه واستباحته على نحو مروع مخز فلا يسو ي بينه وبين غلمان الأمير فحسب, بل يصوره في وضعية تبعث على الإزدراء والشفقة. أما إذا قارنا بين هذا الخبر وما ينبني عليه من تجسيد لشراهة الشاعر وتهالكه قدام المال وحرصه على جمعه ومنعه, بأخبار أخرى تفندها وتعترض عليها فإننا سرعان ما ندرك أن الخبر لا يجسد شره المتنبي بقدر ما يضعنا في حضرة المكائد وهي تتفنن في حبك أحابيلها وتنسج شراكها. وعديدة هي الكتب التي تلح على أن الشاعر لم يكن مسلوب الإرادة أمام المال. يحدثنا أبو القاسم الأصفهاني مثلا عن ذهاب المتنبي بنفسه عن مدح غير الملوك10 ويذكر الثعالبي في يتيمة الدهر من أن الشاعر قد أغري بالمال مرات فانتصر لكرامته ولم يصدر عنه ما يدل على شره أو تكالب. نقرأ: »فيحكى أن الصاحب أبا القاسم طمع في زيارة المتنبي إياه باصبهان وإجرائه إجراء مقصوديه من رؤساء الزمان وهو إذ ذاك شاب وحاله حويلة ولم يكن قد استوزر بعد, وكتب إليه يلاطفه في استدعائه وتضمن له مشاطرته جميع ماله فلم يقم المتنبي له وزنا ولم يجبه عن كتابه ولا إلى مراده. « 11
غير أن هذه الأخبار التي تحرص على وصم الشاعر بمعرة البخل والتهالك على جمع المال ومنعه ستنوع من كيفيات حبكها لأحابيلها فتستغل ما أحاط بمقتل الشاعر من غموض وتشرع في التوالد منتهكة عرضه حريصة على تلطيخ ذكره بعار لا ينسى. ههنا يتنزل ما تناقلته المتون القديمة من أن البخل هو الذي قاد المتنبي إلى حتفه. يذكر البديعي في معرض حديثه عن مقتل المتنبي وابنه وغلامه أن الشح هو الذي قاده ومن معه إلى التهلكة. نقرأ: »وقيل إن الخفراء جاؤوه وطلبوا منه خمسين درهما ليسيروا معه, فمنعه الشح والكبر, فتقدموه, ووقع به ما وقع. «12 وفي حين تجمع المتون على أن فاتكا الأسدي ظل يتعقب المتنبي ويترصده في تطوافه بين الأقاليم والمدائن, مقرا العزم على قتله انتقاما منه على هجائه لابن أخته وتشنيعه به13 حتى ظفر به بعد أن غادر بلاط عضد الدولة وقتله غيلة, يورد الأصفهاني خبرا يتفنن في الإلحاح على أن بخل الشاعر هو الذي أودى به إلى حتفه. يعمد الراوي, في هذا الخبر, إلى تحريف ما شاع من أمر إصرار فاتك على قتل المتنبي. فيشير إلى أن فاتكا كان من قطاع الطرق وقد قتله لينهب متاعه ويستولي على ثروته. لذلك يمعن الراوي في وصف هذه الثروة قائلا على لسان أبي الحسن السوسي والي الوزير المهلبي على الأهواز: »ورد المتنبي علينا ونزل عن فرسه ومقوده بيده وفتح عيابه وصناديقه لبلل مسها في الطريق, وصارت الأرض كأنها مطارد منشورة. «14
هكذا تستغل الحكاية ما شاع حول المتنبي من أنه كان إذا سافر حمل معه جميع أمتعته وكل ثروته. وتومئ بذلك إلى أن حاله تلك هي التي ستغري به قتلته. لذلك يلح الراوي على أن فاتكا الأسدي حضر المشهد ورأى تلك الخيرات ثم »جاءه بجمع وقال: قد سار الشيخ من هذه الديار وشرفها بشعره والطريق بينه وبين ديرقنة خشين قد استوحشته أهل العياثة والخرابة والصعلكة وبنو أسد يسيرون في خدمته إلى أن يقطع هذه المسافة ويبر كل واحد منهم بثوب بياض. «15 لم يأت فاتك, للإيقاع بالمتنبي, بل جاء يطلب رزقا, فعرض خدماته على الشاعر وبين له ما يتهدد حياته من خطر. هذا ما يلح عليه الراوي مشيرا, في الآن نفسه, إلى أن بخل الشاعر وشرهه وتكالبه على متاع الدنيا هو الذي سيدفع به إلى رفض النصيحة ورفض خدمات فاتك. ثمة إيماء واضح إلى أن المتنبي بلغ من شدة بخله أن خير المغامرة بحياته وحياة من معه, على التخلي عن بعض متاع الدنيا. إن الحرص يهلك صاحبه. والبخل رذيلة تقود المرء إلى حتفه. هذه هي العبرة التي بها يتوسل الراوي استدراج المتلقي إلى النفور من شاعر يملك من المتاع ما جعل »الأرض كأنها مطارد منشورة« ويبلغ من شدة حرصه وشرهه حد ا يجعله يهلك دون بعض الأثواب.
غير أن الراوي لا يكتفي بالعبرة التي يضم نها كلامه بل يعمد إلى تصوير حادثة القتل تصويرا دقيقا ويبتني مشهدا يخلع القلوب قائلا: »فقام فاتك ونفض ثوبه وجمع رتوت الأعاريب الذين يشربون دماء الحجيج حسوا, سبعين رجلا ورصد له, فلما توسط المتنبي الطريق خرجوا عليه فقتلوا كل من كان في صحبته, وحمل فاتك على المتنبي وطعنه في يساره ونكسه عن فرسه, وكان ابنه أفلت إلا أنه رجع يطلب دفاتر أبيه فقنح خلفه الفرس أحدهم وحز رأسه وصبوا أمواله يتقاسمونها بطرطوره. « 16 ثمة في هذا المشهد نوع من التشفي المستتر. ثمة تلذذ بمشهد القتل يعلن عن نفسه وفق طريقة مواربة ممعنة في التخفي. فالراوي يحرص على تذكيرنا بأن قتلة المتنبي من »الأعاريب الذين يحتسون دماء الحجيج حسوا«. وهذا يعني أن ميتة المتنبي ستكون فظيعة في غاية الشناعة. لذلك يحرص على تذكيرنا بأنه لم يمت على صهوة فرسه ميتة الفرسان. لقد بطح أرضا بعد أن نكسه قاتله عن فرسه. حتى لكأن الراوي يحرص, من خلال رصده لهذه التفاصيل, على تفنيد قول المتنبي مفتخرا:
مفرشي صهوة الحصان ولكن قميصي مسرودة من حديد 17
أو لكأنه يهفو إلى محو صورة الشاعر منيعا على صهوة الجواد لاستبدالها بصورته مداسا تحت سنابك الخيل. غير أن ما ينبني عليه هذا المشهد من تشف لا يمكن أن ينكشف. فالراوي يتقن المواربة والزيغ. وهو بارع في التستر على ما داخل كلامه من إشهاد على أن فساد طباع الشاعر هي التي قادته إلى حتفه. لكن طريقته في استدراج المتلقي إلى إدانة الشاعر القتيل وتحميله جريرة مقتل ابنه سرعان ما تكشف المضمر وتفصح عن المسكوت عنه. فلقد تمكن ابن المتنبي من الإفلات من القتلة. لكنه عاد رأفة بدفاتر أبيه. لقد تمكن من النجاة. لكنه رجع يطلب تلك الدفاتر. فكان أن حز رأسه. وبذلك يكون المتنبي هو الذي قاد ابنه إلى هذه النهاية الفاجعة. ببخله وشرهه وتكالبه على المال قاد نفسه وصحبه إلى موت محقق. وبشعره وحرصه على دفاتره قاد ابنه, الناجي الوحيد المحتمل, إلى موت محقق ما كاد ينجو منه حتى عاد إلي.
واضح إذن أن نبرة التشف ي والانتقام التي داخلت هذه الأخبار جميعها لحظة حدثت بتكالبه على جمع الثروة من شأنها أن تجعل أشد القراء براءة واستسلاما لمكائد الرواة وألاعيبهم وبراعتهم في حبك الحكايات ونسج الأقاصيص يشعر, ولو من قبيل الحدس, بنوع من الريبة. لاسي ما أن صورة الشاعر كما ترسمها أشعاره تتغاير بالكل مع ما تحرص هذه الأخبار على تكريسه وإشاعته. ولا يمكن لشاعر زاهد في الدنيا عارف بخبايا النفس البشرية مثل المعري أن لا تعاف نفسه المتنبي إذا كان يتصف فعلا بكل هذا السقوط والدونية. وما احتفاء المعري بالشاعر وشعره واستماتته في الدفاع عنه إلا أمارة على أن المعري كان قد اطلع على أغلب هذه الأخبار والأقاصيص التي حاكها الحاسدون العيابون فأدرك أنها إنما نسجت خيوطها من المكر. ومنه فتلت أحابيلها وتمكنت مستندة إلى ما تنبني عليه من مداورة ومواربة وكيد من إحاطة صورة الشاعر بهالة من سواد. لذلك سيقضي المعري العمر كله مدافعا عن الشاعر قولا وكتابة. وسيصل الأمر بخصوم المتنبي إلى إذلاله وإيذائه غير عابئين بعماه وبعلمه وفضله ومنزلته.18 لقد آمن المعري بالمتنبي واعتبر شعره معجزا وألف في تبيان ذلك كتاب معجز أحمد.
وقبله نذر ابن جني علمه ومعرفته بأسرار العربية وآدابها للدفاع عن الشاعر, وألف في شرح ديوانه والدفاع عنه زما ينيف على ألف ورقة ثم استخرج أبيات المعاني منه وأفردها في كتاب ليقرب تناولها وكتب كتابا ثالثا في النقض على ابن وكيع في شعر المتنبي وتخطئته.19 وسيعمد ابن جني إلى نعت العيابين الناقمين على المتنبي بأشنع النعوت معتبرا المتنبي الشاعر الفريد الذي توغل في مناطق قل أن انفتحت في وجه غيره من شعراء العربية, وأجرى الكلام في مضايق لم يسبق إليها. وهو يجاهر بأن الشعر العربي قد شرع يفتتح تاريخ أفوله. فكان أن نجح المتنبي في تجديده فأعاد للكلمات طراءتها وللشعر ماءه. يكتب منتصرا للمتنبي, مدينا خصومه, مستنكرا جحودهم: »وما لهذا الرجل الفاضل من عيب عند هؤلاء السقطة الجهال وذوي النذالة والسفال إلا أنه متأخر محدث, وهل هذا لو عقلوا إلا فضيلة له منبهة عليه, لأنه جاد في زمان يعقم الخواطر ويصدئ الأذهان, فلم يزل فيه وحده بلا مضاه يساميه ولا نظير يعاليه, فكان كالقارح الجواد يتمطر في المهامه الشداد, لا يواضح نفسه إلا نفسه ولا يتوجس إلا جرسه. «20
أما ابن الأثير فإنه سيصل, في المثل السائر, إلى إعلاء المتنبي وتمجيده في نبرة إطلاقية واضحة. فيكتب: »وعلى الحقيقة فإنه خاتم الشعراء, ومهما وصف به فهو فوق الوصف, وفوق الإطراء. «21 لكن هذا الاحتفاء الذي صدر عن شعراء وعلماء في اللغة ومؤرخي أدب, يتعايش مع حشد من الأخبار والمواقف التي لا يخفي أصحابها نقمتهم على الشاعر وحرصهم على نكران فضله ورغبتهم في الحط من شخصه. غير أن خصوم الشاعر كانوا على يقين من أن الحط من شخصه وتتفيه شعره غاية تظل تطلب ولا تدرك. تنشد ولا تطال. فمما يروى مثلا عن الربعي عالم النحو الذي عرف المتنبي عند قدومه إلى فارس أنه قال: »قال لي بعض أصحاب ابن العميد: قال دخلت عليه يوما قبل دخول المتنبي فوجدته واجما, وكانت قد ماتت أخته عن قريب, فظننته واجدا لأجلها, فقلت لا يحزن الله الوزير. فما الخبر? قال: إنه ليغيظني أمر هذا المتنبي, واجتهادي أن أخمد ذكره… فكيف السبيل إلى إخماد ذكره? فقلت: القدر لا يغالب, والرجل ذو حظ من إشاعة الذكر, واشتهار الاسم, فالأولى ألا تشغل فكرك بهذا الأمر. « 22 لقد كان الربعي عالم نحو جليل. كان عارفا بصناعته حاذقا لها الحذق كله. بالكد ورشح الجبين نال الحظوة بين علماء زمانه. فلقد قرأ على أبي علي الفارسي عشرين سنة بالتمام. »وفيه يقول أبو علي: قولوا لعلي البغدادي لو سرت من الشرق إلى الغرب لم تجد أنحى منك. «32
وواضح أيضا من نقله لهذا الخبر وعدم ذكره لاسم صاحب ابن العميد, على ولع القدامى بإسناد الأخبار إلى قائليها, أن الخبر لاقى هوى في نفس هذا العالم الفضل. لقد كان الربعي من المعجبين بالمتنبي. كان معاصرا له. وهو على دراية بما اختلقه الحساد من مثالب تفننوا في إلصاقها بالشاعر. فمن المحتمل أن تدفع به الرغبة في الانتصار للشاعر إلى ابتداع هذه الحكاية. لذلك نسبها إلى صاحب لم يذكر اسمه واكتفى بالإشارة إلى أنه من أصحاب ابن العميد. ومن المحتمل أن يكون هو نفسه هذا الصاحب, لكنه تعمد عدم نسبة الخبر إلى نفسه. لا سيما أن رد فعل هذا الصاحب على رغبة ابن العميد الجارفة في »إخماد ذكر« المتنبي إنما تشير إلى أنه كان على بينة مما حققه هذا الذي اسمه المتنبي من مجد وسؤدد ورياسة على الكلمات. وهو يجاهر بذلك معلنا أن مجد المتنبي قد سطر وجرت به الأقدار. ولا راد لسطوة الأقدار. ونصيحته لابن العميد جاءت تجمع إلى الشفقة بابن العميد إعلاء واضحا للمتنبي وتنزيها له عن أن يمسه أذى أو تطاله معرة. وسواء كان هذا العالم الذي شهد تكالب شعراء بغداد على المتنبي وتسابقهم إلى عرضه, هو الذي وضع الخبر أو كان مجرد ناقل له, فإن انتصاره للمتنبي يظل أمرا حاصلا. ذلك أن نقل الخبر إنما يعد , في جميع الأحوال, نوعا من إشاعته وتكريسه ومنحه فرصة الانتشار والتوسع. وليس غريبا أن ينقل هذا العالم الجليل خبرا ينتصر للشاعر ويمجده, فمثله فعل ابن جني والمعري وابن الأثير مثلا. حتى لكأن الذين تكالبوا على الشاعر إنما صدروا عن نوع من الوعي المضني بأنهم لن ينالوا ما نال من سؤدد ورياسة. ووحدهم الذين اضطلعوا بدور مؤسس في علوم العربية وآدابها هم الذين ناصروه ولم يقعوا في فخ التحاسد والضغينة والكيد.
سيوسع الانتصار للمتنبي وشعره من دائرة انتشاره طيلة قرون وأحقاب. وسيكتب البديعي نفسه كتابه الصبح المنبي عن حيثية المتنبي في القرن الحادي عشر مدافعا عن الشاعر وشعره. فقلد كان البديعي يطمح إلى جعل كتابه صباحا جديدا يدحر عتمة ذاك الليل الطويل من التقولات التي أحاطت المتنبي وشعره ببعض من سواد. لذلك كثيرا ما تصبح الكتابة لدى البديعي منازلة لأعداء المتنبي وتشهيرا بفعالهم ومكائدهم. حتما كان الشيخ البديعي على يقين من أن هؤلاء الأعداء ينامون نومة اللحود منذ أحقاب. لكنه لم يغفر لهم فعالهم. لقد صاروا رميما عندما شرع في تأليف كتابه. لذلك صارت الكتابة لديه منازلة للتاريخ تهفو إلى تصحيحه. يكتب البديعي مثلا: »وكان الشيخ أبو سعد محمد بن أحمد العميدي عن أبي الطيب في غاية الانحراف, حائدا عن التمييز عن سنن الإنصاف, ونحن نورد كلامه, ونرد في نحره سهامه, فإنه تجاوز الحد وأكثر الرد . «42
إن الخبر الذي يورده البديعي عن ابن العميد وموقفه من المتنبي يظل بمثابة لحظة من اللحظات التي يمكن لنا أن نتمث ل من خلالها مدى ما أثاره المتنبي من ضغائن وأحقاد في نفوس معاصريه. لقد كان ابن العميد وزيرا. وكان أديبا أيضا. وهو يفصح عن نيته في القتل ورغبته في الجريمة. والخبر يتعم د التلاعب بالمتلقي. فيذكر الراوي أنه دخل على ابن العميد وقد كان شيع أخته, فوجده مستسلما لحزن صامت عميق لم يعد يقدر من شدته على الكلام. لقد وجده واجما. فظن أنه واجد لفجيعته في أخته. هكذا يمهد الراوي لقلب مسار الحكاية. إنه يصرف انتباه المتلقي إلى ما يمكن أن يتبادر إليه الذهن عادة في مثل هذه الحال. وحين يسلم المتلقي بأن ابن العميد واجم واجد من هول الموت وعظمته تجري الأمور عكس كل احتمال ويحدث القلب في مسار الحكاية. فيصبح فقد الأخت مسألة هي نة مقارنة بالمصاب الجلل الذي ابتلي به ابن العميد. هذا المصيبة التي تفوق الموت جلالة وعظمة هي المتنبي الشاعر الذي مافتئ ترحاله في المدائن والأمصار والأقاليم يستنهض حقد الحاقدين ويستنفر ما تنطوي عليه نفوس الساسة والأدباء في عصره من ويلات وشرور وليل. دخل ناقل الحادثة على ابن العميد فوجده مثقلا بالهم مغتم ا. لقد أخرس من شدة الحزن فصمت. وحين نطق عب ر عن رغبته في محو اسم الشاعر من الدنيا ومن ذاكرة الناس. ثمة رغبة في القتل تعلن عن نفسها بشكل مداور. فليس للمرء تحت الشمس غير اسمه وذكره. وإخماد ذكر المرء يعني إبادته ومحو آثاره محوا لا يبقي ولا يذر. لكن الأمر المحير فعلا, إنما هو معرفة أي هما كان يهفو إلى إبادة الشاعر ومحو ذكره, الأديب أم الوزير? ابن العميد صاحب السلطان والجاه المملك على الناس وعلى أمور دينهم ودنياهم أم الأديب الذي يمن ي النفس بمكانة المتنبي ومجده ورياسته على الشعر.
يذكر البديعي جازما أن هذه الرغبة في الجريمة إنما صدرت عن كليهما: الوزير والأديب. لقد كان الوزير يخشى على نفسه من تعالي المتنبي. يكتب البديعي مفسرا فزع ابن العميد: »وسمع أنه خرج من مدينة السلام متوجها إلى بلاد فارس وكان يخاف ألا يمدحه, ويعامله معاملة المهل بي, فيتكره من ذكره, ويعرض عن سماع شعره. «25 ويذكر أيضا أن ابن العميد قد أدرك لحظة فجيعته في أخته أنه لن يحظى بما حظي به المتنبي من مكانة في وجدان الناس أجمعين. لقد كان ابن العميد أديبا ذائع الصيت. لكنه كان على يقين من أن المتنبي وحده هو الذي نال شرف الاسم وحاز الرياسة والسؤدد. وهو يجاهر بذلك قائلا: »إنه ليغيظني أمر هذا المتنبي, واجتهادي أن أخمد ذكره, وقد ورد علي نيف وستون كتابا في التعزية ما منها إلا وقد صد ر بقوله:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر ** فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا ** شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
فكيف السبيل إلى إخماد ذكره? « 26
ثمة في هذا الكلام مجاهرة بفزع السلطة السياسية وهلعها من السلطة الشعرية. وابن العميد قد عاش كل ذلك عندما أتاه خبر توجه المتنبي إلى بلاد فارس. إن الهلع الذي عاشه ابن العميد إنما يدرك بالحال لا بالمقال. والخبر يتفنن في تصوير شد ة هذا الهلع وعنفه. فيلح على أنه قد بلغ منه مبلغا جعله يسلو وينسى مصابه في أخته لأن الآتي, أي مجيء المتنبي إلى بلاد فارس منطقة نفوذ ابن العميد, كان أعظم وأكثر جللا في نظر ابن العميد نفسه.
هكذا تتشكل الأخبار طافحة بالإخبار عن مقاصد واضعيها, رغما عن كونها توهم, في الظاهر على الأقل , بأنها إنما تلزم الحياد. لم تكتف الأخبار التي نسجت حول شخص المتنبي وسلوكه وطبعه بتجريده من هاتين القيمتين ورميه بالبخل ودونية النسب فحسب, بل عمدت مستسلمة لما تنبني عليه من رغبات دفينة في جعل الشاعر مضرب مثل في التدني والسقوط إلى تنويع مدونة المثالب التي كان واضعو الأخبار يحرصون بواسطتها على إخماد ذكره والتنفير منه ومن أشعاره. ولم تكن مدونة المثالب تتشكل اتفاقا أو على سبيل البخت والصدفة. بل كانت تتبع استراتيجية في منتهى المكر. ستحرص أيضا على تجريد الشاعر من قيمة أخرى من القيم التي احتفى بها الوجدان الجماعي ووسعت لها الذاكرة الجماعية مكانة ومنزلة ونسجت من حولها الحكايات والقصص. أعني قيمة الشجاعة التي عليها مدار أي ام العرب في ما قبل الإسلام. وعليها مدار سجل بطولاتهم ومآثرهم زمن الفتوحات وعند وقوفهم في وجه أعداء الملة في المدن الثغور. ستعمد الأخبار إلى نعت المتنبي بالجبن. وليس كالجبن معرة يمكن أن تشين المرء في الوجدان الجماعي العربي. ليس للجبن شبيه أو صنو يمكن أن ينزل بالمرء في مجتمع مجد الفروسية والبطولة والفتك. فلا مجال في مطلق الرجولة للخوف والهشاشة والجبن. فإذا لم يكن المرء شجاعا باسلا مقداما خرج من دائرة الرجولة وتلق فه عار لا يبلى.
عن الوعي بمنزلة الشجاعة في المتخيل الجماعي والوجدان الجماعي ستصدر العديد من الأخبار وتشرع في نسج أحابيلها. فتنطلق مما تحدث به المتون من أن المتنبي كان يرافق أمير حلب في حروبه وغزواته ضد الروم وتتفنن في تهزئة الشاعر. نقرأ مثلا: »وصحب سيف الدولة في عدة غزوات إلى بلاد الروم, ومنها غزوة الفناء التي لم ينج منها إلا سيف الدولة بنفسه, وستة أنفار أحدهم المتنبي, وأخذت الطرق عليهم الروم, فجرد سيف الدولة سيفه, وحمل على العسكر, وخرق الصفوف, وبدد الألوف. وحكى الرقى عن سيف الدولة قال: كان المتنبي يسوق فرسه, فاعتلقت بعمامته طاقة من الشجر المعروف بأم غيلان, فكان كل ما جرى الفرس انتشرت العمامة, وتخيل المتنبي أن الروم قد ظفرت به, فكان يصيح الأمان يا علج, قال سيف الدولة: فهتفت به وقلت: أي ما علج? هذه شجرة علقت بعمامتك فود أن الأرض غيبته. « 27
ينطلق الخبر من الإيهام بأنه سيحدث عن المتنبي بطلا. فيشير إلى أنه صحب سيف الدولة في غزوة نعتت بغزوة الفناء لأنها كانت وبالا على سيف الدولة وجنوده الذين أبيدوا على بكرة أبيهم إلا ستة منهم كان أحدهم الشاعر المطلوب تهجينه وتحقيره. وبذلك يوهم الخبر بأن الناجين كانوا من الأبطال الصناديد الذين لم يقدر جيش الروم على الظفر بهم. ويكفي بسيف الدولة موجودا من بين الناجين, وهو الفارس البطل, حتى يمضي المتلقي في هذا التأويل. لكن الخبر سرعان ما يشرع في الالتواء ويمعن في إعلاء سيف الدولة معولا في ذلك على ما عرف عن هذا الأمير الصامد في المدن الثغور من أمجاد وبطولات. إن سيف الدولة يجرد سيفه ويفرق الصفوف. بل إنه يبدد الألوف. فترتسم صورته على أديم النص نورانية. فهو الفتى الفاتك الذي يدوخ الأعداء ويخلفهم بددا. والثابت أن هذه الصورة, صورة البطل الذي يقدر بمفرده على مواجهة آلاف مؤل فة من جيش الأعداء ليست غريبة على الذهن العربي, بل هي من ابتداعه لحظة احتفائه بالشجاعة وتمجيده الإقدام. يكفي أن ننظر في السير التي مجدت البطولات الفردية مثل سيرة سيف بن ذي يزن أو سيرة عنترة في المتخيل الجماعي, وسندرك أن صورة سيف الدولة في هذا الخبر تتشك ل مفتوحة على العديد من النصوص التي مجدت البطولة الفردية وذهبت في مغالاتها إلى حد يتحول معه أولئك الأبطال إلى كائنات أسطورية خارقة.
والراوي إنما يعو ل على هذا الت نادي المحتمل بين النصوص في ذهن المتلقي كي يضطلع بدور في حجب ما ينبني عليه كلامه من مغالاة ومبالغة. ذلك أن المغالاة إنما الغاية منها الارتقاء بسيف الدولة إلى مستوى الرمز الذي يجسد الشجاعة والفتك حتى يتسنى للراوي, في ما بعد, تتفيه الشاعر بوضعه في القطب المقابل رمزا للجبن والخوف. فليست الغاية من الخبر تمجيد شجاعة سيف الدولة, بل الغاية منه التشفي من المتنبي بإظهاره في مظهر الر عديد الذي لم يعد يميز بين الأشجار وجند الأعداء من شدة جبنه وفرقه وهلعه. لا يكتفي الراوي بهذه الحيلة, بل يعمد إلى توظيف قانون الإضحاك. وبه يستدرج المتلقي إلى ما يريد إيصاله إليه من مثالب المتنبي. ههنا يتنزل مشهد الشاعر وقد علقت عمامته بشجرة فلاذ بالفرار مستغيثا وعمامته تنتشر ما بينه وبين الشجرة. غير أن الراوي لا يتفط ن إلى أن الصورة التي يبتنيها للمتنبي سرعان ما تستدعي في الذهن ما برع المتخيل الجماعي في ابتداعه حول الظرف والظرفاء والحمقى والمغفلين والممرورين.
فمشهد الشاعر فارا على ذلك النحو المضحك يمكن أن يتماشى مع شاعر كأبي دلامة تفننت المتون في رسم فكاهاته وطرائفه. ويمكن أن يسند إلى أحد المشاهير من الحمقى أو الظرفاء الذين تفننت الذاكرة العربية في نسج الأقاصيص والحكايات المسلية حول فعالهم وصنائعهم. وتلك مكائد الراوي. فالغاية من المشهد ليست إظهار المتنبي في مظهر الجبان الرعديد فحسب, بل الغاية منه النزول بالشاعر من مستوى ما اشتهر به من فخار وكبرياء إلى مستوى الحمقى والمغفلين الذين لا يملك المرء قد ام غفلتهم غير الضحك والشفقة. ولا بد أن يكون هذا الراوي الماكر على يقين من أن المشهد يبعث على الإضحاك فعلا. وهو إنما ينشد توريط المتلقي في امتهان الشاعر واحتقاره بواسطة الإضحاك. هكذا يصبح الخبر, رغم ما انبنى عليه من مواربة, مسرحا لنوع من التنادي الخفي بين النصوص. وظاهرة التنادي تلك إنما تشير, ولو من قبيل الإيماء, إلى أن واضع الخبر يستلهم نصوصا ولا يقول واقعا. وإذا الحكاية أدخل في باب أخبار الحمقى والمغفلين وبها ألصق. فهو يذكر أن سيف الدولة كان يواجه الألوف من جند الأعداء. كان القتال على أشده بين رجل فرد لا تسنده غير رباطة جأشه وإقدامه. لكنه يجد من الوقت متسعا ليراقب المتنبي ويداعبه منبها إياه بأن ما يحسبه علجا من جند الروم ليس سوى شجرة خبيثة تلهو بعمامته. أين كان المتنبي طيلة المعركة? لقد أبيد جيش الأمير إلا ستة أحدهم المتنبي. إن النجاة في مثل هذه الحال بطولة. ووحدهم المقاتلون الأفذاذ يمكن أن ينجوا في مثل هذه الوقعة المهلكة.
إن الراوي لم يقصد تتفيه الأمير الحمداني, بل تعمد إعلاءه كي يحط من مكانة المتنبي في الوجدان الجماعي كما أوضحت. وهو إنما يعول في ذلك على ثقته بنفسه ومقدرته على التلاعب بالمتلقي. لكن هذه الثقة هي التي جعلته لا يتفطن إلى أن المتلقي يمكن أن يبادله مكرا بمكر ويشرع في التساؤل. كيف يجد سيف الدولة الذي فقد جيشه كله إلا ستة أنفار منه, متسعا من الوقت للمداعبة واللعب والفكاهة. كيف يمكن لقائد يحضر مقتل جيشه ولا يألم أو يأسو, بل يتخذ من تلك اللحظة الجلل فرصة للعبث والتفكه. هل يعتبر القائد الذي يمضي بجيشه إلى موت محقق قائدا شجاعا أم متهورا فاشلا غير جدير بالاسم أصلا. يبدو أن المسافة الفاصلة في ذهن هذا الراوي الذي يطلب كرامة المتنبي ويصر على استباحتها, غير واضحة. فأي هما أكثر معرة الشاعر الذي يصر الراوي على إظهاره في مظهر الجبان الرعديد أم معرة الأمير يلقي بجيشه إلى التهلكة دون أن يحر ك ساكنا ثم يشرع في اللعب. الراجح أن الراوي قد انطلق فعلا من واقع نصي واستلهم نصوص الظرف في الثقافة العربية. وهي نصوص تتخذ من المفارقة طريقا إلى التسلية والإضحاك. وتتمكن, نتيجة طبيعتها تلك, من جعل المتلقي يستسلم للذة الإضحاك ويتناسى الواقع. فالعقد الذي ينشأ بين المتلقي والباث, بين واضع الخبر ومتلق يه في أدب الظرف والظرفاء هو الذي يدفع بالباث إلى المغالاة وتخطي الواقع. وهو الذي يلزم المتلقي بالنظر في محتوى الخطاب وقبول ما فيه من استحالة ومغالاة حتى تحقق الرسالة ما تنشده من إضحاك وتسلية. أما إذا خرجت الرسالة من دائرة ذلك الصنف من الأدب الذي شاع في الثقافة العربية, فإن العقد بين الباث والمتقبل يتغير هو الآخر. فيصبح الباث مطالبا بالامتثال لمتطلبات الجنس الأدبي وشروطه. وبالمقابل يصبح المتلقي حذرا لا يقبل بالاستحالة ولا يسلم بالمغالاة والمبالغة
إن الخبر وما انبنى عليه من مواربة تتوسل التلاعب بالمتلقي بواسطة الإضحاك يجعل الحكاية نفسها أدخل في باب التخيل والتوهم. وهي, وإن كانت تكشف مقدرة واضعها في ابتداع المواقف الهزلية التي لا تخلو من ظرف, إنما تضعنا في حضرة الخيال متفننا في العبث بالشاعر. ذلك أن الحكاية لا تلغي الواقع, بل تستدعيه; ولا تتعالى على الحادثة التاريخية, بل تستند إليها ثم تشرع في حبك مكائدها متوسعة في الكلام وفق ما يفي بمتعلق صاحبها وحرصه على تصوير المتنبي رعديدا جبانا مكللا بالهوان. يتجلى الاستناد إلى الواقع والتاريخ في توظيف السارد لمعركة الفناء. وهي معركة مشهورة من المعارك التي خاضها سيف الدولة في صراعه مع الروم. يكفي هنا أن نعود إلى الواضح في مشكلات شعر المتنبي, وسنجد أبا القاسم الأصفهاني يحدث عن هذه المعركة لكنه ينحرف بالتسمية ويستخدم كلمة »القناس الدالة على اسم بلدة بالروم. والراجح أن هذه المعركة كانت وبالا على سيف الدولة فعلا, لذلك يقرن الأصفهاني, في معرض إخباره عن أن المتنبي كان يرافق سيف الدولة في غزواته, بين غزوتين هما غزوة المصيبة وغزوة القناء. فيكتب: »ثم أقام المتنبي عند سيف الدولة على التكرمة البليغة وإسناء الجائزة ورفع المنزلة, ودخل مع سيف الدولة بلاد الروم في غزوتي المصيبة والقناء. «28 لكنه لم يشر أصلا إلى هذه الحكاية ولو من قبيل الإيماء, رغم حرصه على تقصي جميع أخبار المتنبي. وهو يذكر أنه جمع كل أخبار المتنبي ودون سيرته وأحاط بمشكلات شعره. يقول في مقدمة الكتاب: »وقد بدأت بذكر المتنبي ومنشئه ومغتربه ومضطربه وما دل عليه شعره من معتقده إلى مختتمامره ومقدمه عليالملك نضر الله وجهه بشيراز وانصرافه عنه إلى أن وقعت مقتلته بين ديرقنه والنعمانية واقتسام عقائله وصفاياه. ثم أردفه بتفسير مشكلاته. « 29.
على هذا النحو الممعن في الكيد والمكر تتوالد الأخبار محدثة عن تجرد الشاعر من القيم النبيلة. فتتسابق إلى عرضه. حتى أن الناظر في كيفي ات توالدها وتنويعها على الموضوعات ذاتها, وكيفيات رسمها لامتداداتها وحبكها لمكائدها يدرك أنها مسكونة إلى حد الهوس بتجريد الشاعر من جميع الفضائل التي لا يمكن أن يخلو منها أو من بعضها على الأقل أي بشر تحت الشمس. وهي تعمد إلى تجريده حتى من تلك التي شهدت له بها الدنيا قاطبة في زمنه وفي غير زمنه. لقد كان المتنبي شاعرا ملأ الدنيا وشغل الناس. تبارى الملوك في استدراجه إلى بلاطاتهم ومجالسهم وتسابقوا إلى مدائحه فيما هم يرجفون هلعا من ضجراته ومهجياته. لكن الأخبار ستتعمد التغاضي عن هذه الحقيقة التي تشهد بها المتون القديمة وتؤكدها جميع الكتب التي تناولت سيرة الشاعر. ستحرص على تجريده من فضل الشعر أيضا.
والناظر في المتون القديمة التي عنيت بشعر المتنبي يلاحظ, في يسر, أن مسألة السرقات قد احتلت فيها حيزا هاما. فتبارى خصومه في الرسائل والكتب التي تهدف إلى إخراجه من دائرة الشعر والنزول به في دائرة اللصوصية والسرقة. غير أن السرقة كما تحدثت عنها تلك المتون إنما ترجع إلى نوع من التمثل التبسيطي لحدث الكتابة نفسه. لم يكن القدامى على وعي بأن النص الإبداعي كيان تاريخي . ومعنى كونه تاريخيا أنه لا يفتح مجراه ويكون إلا داخل حشود من النصوص السابقة عليه والمتزامنة معه. وهو لا يتمك ن من تحقيق الفرادة والإبداعية إلا إذا تمكن من محاورتها والاغتذاء بمنجزها الفني. فيتحول القديم المتواري في تلاوين النص الذي استدعاه وصهره في محارقه إلى طاقة يتمكن, بواسطتها, من الانفتاح على ما تأسس قبله من إبداعات. ووقتها فقط, يصبح بمثابة حلقة نامية في مسار الإبداع. وهذا يعني أن إبداعية النص إنما تتأتى, في جانب مهم منها, من كونه إنما يفتتح مجراه مأخوذا بقديمه وماضيه, منشدا إلى ذاكرته أي إلى ما تأسس قبله من نصوص. ثمة تحاور سري ليلي ما يفتأ يتم بين النصوص والإبداعات في لحظة الكتابة ذاتها. لذلك يظل النص مهددا بالتردي في الاتباع والتلاشي في ما ليس منه. وهو لا يتمكن من افتتاح مجراه الخاص إلا إذا تمكن من تحقيق الانقطاع عن قديمه وماضيه وانتشل نفسه مما علق بالذاكرة من مسالك الإبداع ودروبه التي افتتحتها في ما مضى نصوص أخرى. لكن إبداعية النص تظل مشروطة أيضا بتحقيق التواصل مع ذلك القديم والتنامي ابتداء منه لأن التغاير مع القديم مشروط بالتواصل معه والانقطاع عنه في الآن نفسه.
لكن الأخبار التي عنيت بالحديث عن سرقات المتنبي ستكون أكثر عنفا مما حفلت به كتب النقد وتاريخ الأدب. فإذا كانت تلك الكتب تنهض على مقارنة البعض من أبيات المتنبي بأبيات قالها غيره من شعراء العربية فإن الأخبار التي تناولت سيرة الشاعر لا تقارن, بل تدين. ولا توازن بل تشهر وتفضح. من هنا يتأتى عنفها. ومن هنا أيضا تستمد خطرها. فما تقدمه كتب النقد من مقارنات يترك المجال مفتوحا قدام المتلقي كي يدقق النظر في التهمة ولا تسد عليه منافذ التأويل والتدقيق وإعمال الرأي. أما الأخبار فإنها تعتمد المكر طريقا إلى الإيقاع بالمتلقي وجعله يسلم تسليما بأن شاعرية المتنبي مجرد وهم وشعره ليس سوى محاكاة لشعر غيره واقتداء بمنجزاتهم وحشدا من سرقات فاضحة.
يورد البديعي في الصبح المنبي خبرا في منتهى المكر نقله من الإبانة عن سرقات المتنبي لأبي الحسن العميدي. وعملية النقل, في حد ذاتها, محملة بالدلالات. إن الخبر قد ورد في كتاب العميدي الذي توف ي سنة 433 هـ. أما يوسف البديعي ناقل الخبر من الإبانة فقد كان من أعيان القرن الحادي عشر الذين أرخ لهم المحبي في خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر وذكر أنه توفي »بالروم سنة ثلاث وسبعين وألف. «03 وليس المدى الفاصل بين العميدي والبديعي سوى التجسيد الفعلي للخبر وهو يرسم امتداداته ويوسع من دائرة انتشاره في الزمن. وهو إنما يستمد خطورته من كون الدارس لسيرة المتنبي لا يمكن إلا أن يعر ج عليه أو يستقدمه من كتاب العميدي.
لقد جاء العميدي ليمنح الأحقاد والمكائد فرصة الانتعاش والتجدد. فقبله نجح الحاتمي في إضرام الأحقاد في الرسالة الموضحة التي كتبها في مثالب المتنبي بطلب من الوزير المهلبي. لكنه عدل عنها فألف رسالته الثانية في ذكر خصال المتنبي ومحاسن شعره. أما العميدي فإنه لن يعرف الندم أصلا. وهو لا يخفي ضغائنه, بل يجاهر بأنه وضع كتابه من شدة النقمة على المنتصرين للمتنبي وشعره. لذلك ينعتهم بكونهم ليسوا مجرد أنصار ومعجبين, بل هم من »حاملي عرشه«. ولهذه العبارة مكرها. إنها تستدعي ما حدثت به المتون القديمة عن العرش وحملته في الأعالي لتومئ إلى أن أنصار الشاعر قد ضلوا وتلقفتهم الأبالسة لأنهم خرجوا من دائرة الإعجاب إلى حدود التقديس. وهو ما لا يمكن للمؤمن أن يرتضيه. ثمة في كلام العميدي رغبة في التكفير تتخذ من الاستعارات المستقدمة مما حفل به المتخيل الجماعي من صور حول العالم العلوي, وسيلة وتشرع في التشهير بالشاعر وأنصاره. نقرأ مثلا: »ولقد جرى يوما حديث المتنبي في بعض مجالس الرؤساء, فقال أحد حاملي عرشه: سبحان من ختم بهذا الفاضل الفحول من الشعراء وأكرمه, وجمع له من المحاسن ما ف ض ل به كل من تقد مه, ولو أنصف لعلق شعره كالسبع المعلقات من الكعبة, ولقدم على جميع شعراء الجاهلية في الرتبة. « 13
هذا الإلحاح على ما بلغه أنصار الشاعر من تعصب لا يأتي اتفاقا. فالغاية منه إضفاء نوع من الشرعية على تأليفه الإبانة والإقناع بأن كتابه لا يصدر عن النقمة, بل يصدر عن الرغبة في إجلاء الحقيقة. لكن النقمة سرعان ما تستبد بالكلام ويخترق الكتاب بالرغبة العاتية في محو اسم المتنبي من دائرة الشعر والشعراء لتصنيفه في عداد اللصوص والسراق والخاطفين. هذا ما يجاهر به العميدي قائلا: »ولقد تأملت أشعاره كل ها فوجدت الأبيات التي يفتخر بها أصحابه, وتعتبر فيها آدابه من أشعار المتقد مين منسوخة, ومعانيها من معانيهم مسلوخة. «23 لكن العميدي يتكتم على اسم صاحب المجلس واسم الشخص الذي ينعته بكونه من »حاملي عرش المتنبي«. وهو بذلك إنما يقتفي أثر الحاتمي ويستلهم طريقته في التكتم على ما يمكن أن يجعل الخبر محل تكذيب أو موضع شك . والراجح أن الذين تفننوا في اختلاق الأخبار ونسج الحكايات حول مسيرة الشاعر وشخصه وحاكوا الأقاصيص عن دونية نسبه كانوا على دراية بأنهم يريدون أن يجعلوا من ماضيه وبالا عليه. أما الذين تناقلوا الأخبار حول جبنه وسرقاته إنما كانوا على يقين أيضا من أنهم يرسمون للمكيدة مجراها في الزمن حتى يسد وا في وجه الشاعر بوابات المجد في المستقبل. وإجراء المكائد في الزمن, في المستقبل والآتي, إنما مرده الوعي الحاد بأن شاعرا سطع نجمه وذاع صيته حتى طبق الآفاق جميعها لا يمكن أن يطاله النسيان.
ثمة يقين بأن الذاكرة الجماعية قد شرعت توسع له في رحابها مكانة ومنزلة منذ ذلك العصر. لذلك ستضطلع الأخبار بمحاصرته في المستقبل أيضا. حتى لكأن الأخبار صدرت عن الوعي بأن الشاعر سيخلد ولن يطاله البلى فحرصت على إحاطته بهالة من سواد تلاحقه الدهر كله. وهي تصدر أيضا عن معرفة تامة بما في صميم النفس البشرية وأقاصيها من نزوعات شريرة ورغبات دفينة في تتفيه الآخرين انتصارا للذات وإعلاء لها. لاسيما أن الأخبار التي تسرعت إلى عرض المتنبي وشعره إنما نهضت على الزيغ والمواربة. حتى لكأن طابعها المخاتل ذاك إنما يهدف إلى إثارة تلك النزوعات في نفس المتلقي دون روية منه ودون فكر واختيار. لذلك يكفي أن نقرأ هذه الأخبار بقليل من البراءة ونسلم بما جاء فيها حتى تصبح صورة المتنبي فاجعة قاتمة منفرة تعافها النفس. لأن أغلب تلك الأخبار, بما تنبني عليه من مكر في نسج الأقاصيص والحكايات, إنما تنشد توريط متلق يها المفترض في الدم المراق, دم الشاعر الذي حرصت على استباحت
يكتب البديعي ناقلا ما جاء في الإبانة متصرفا في صياغته بعض التصرف: »ولقد حد ثني من أثق به: أنه لما قتل المتنبي وجد معه ديوانا أبي تمام والبحتري بخطه وعلى حواشي الأوراق علامة كل بيت أخذ معناه وسلخه, فهو يحل له أن ينكر أسماء الشعراء وك ناهم, ويجحد فضائل أولاهم وأخراهم إلى أن قال: وأنا بمشيئة الله تعالى أورد ما عندي من أبيات أخذ ألفاظها ومعانيها, وادعى الإعجاز لنفسه فيها, ليشهد بلؤم طبعه في إنكار فضيلة السابقين, ويسمه بما نهبه من أشعارهم بسمة السارقين. «33 يعمد الراوي الثاني, في هذا الخبر, إلى التكتم على اسم الراوي الأول مكتفيا بالإشارة إلى أنه من الثقاة. ولهذه الصفة دلالتها على أن ناقل الخبر يدرك إدراكا تاما أن ذكر السند هو الذي يمد المتن بمصداقيته. وهو إنما يوردها لتنوب عن السند وتؤد ي دوره. لكن فداحة التهمة الواردة في المتن هي التي تجعل تلك الصفة التي تسند إلى ناقل الحادثة محاطة بالريبة والشك . لا سيما إذا كان المتلقي على دراية بأن الإشاعات والفتن لا تستمد فاعلي تها وتوسع من دائرة انتشارها إلا إذا اكتنفها بعض من غموض. وامتناع الراوي عن المجاهرة باسم من نقل إليه هذا الخبر إنما يأتي ليحيط الحكاية بالغموض ويمد الخبر بما تمتلكه الإشاعة من مقدرة على التوسع والانتشار.
يلح الخبر على أن المتنبي افتضح يوم قتل. لقد كان موته نهاية وبداية في الوقت نفسه. كان نهاية للشخص, وبداية لفضيحته وانكشاف لؤمه ولصوصيته. لقد وجد معه »ديوانا أبي تمام والبحتري بخطه وعلى حواشي الأوراق علامة كل بيت أخذ معناه وسلخه. « لقد كان المتنبي لص ا. هذا ما يجاهر به الراوي فيما هو يومئ إيماء إلى أن الشاعر القتيل كان على غفلة كبيرة. فهو من أولئك اللصوص الحمقى الذين يتركون وراءهم ما يدل عليهم ويعجل الإيقاع بهم. غير أن بنية الخبر لا تخضع لشروط السرد وما يتطل به من تخف للراوي وقت إنجازه لحدث القص , بل ترد مجسدة للضغينة وهي تفتتح مجراها وتعلن عن نفسها جهارا. فالراوي الثاني يحدثنا بما قاله الراوي الأول حول افتضاح المتنبي يوم قتل. والحكاية, في حد ذاتها, تدين وتشهر وتفضح. إنها لا تخفي مقاصدها, بل تصرح بها. لكن الراوي الثاني لا يتمالك ولا يكتفي بما تطفح به الحكاية من إدانة, بل يتدخل بنفسه ويجاهر بنقمته على الشاعر القتيل وعزمه على التنكيل بقصائده والتمثيل بشعره. فتتوالى المعرات التي ينسبها إلى المتنبي. ويصبح الكلام مرصعا ترصيعا فاضحا بالمثالب تتوالى غزيرة لا تكل وتضعنا في حضرة العميدي حاقدا الحقد كله. فهو ينعت الشاعر بالجحود, بنكران الجميل, بلؤم الطبع, مجاهرا, في الآن نفسه, بأنه سيستعين بالله عليه وعلى فضحه, وبمشيئته تعالى, سيتمكن من إخراجه من دائرة الشعر ويلقي به هناك عميقا في دائرة السر اق والخاطفين. يلح العميدي على أن المهمة التي يستعين بالله على إنجازها إنما مرد ها انتصاره للحق ودفاعه عن الحقيقة التي تمكن الشاعر طيلة أيام عمره المنكد بكيد الكائدين وطعن الحاسدين من إخفائها. أما بعد أن قتل ورحل مكفنا في دمه وافتضح من أمره ما كان خافيا, فإن العميدي سيسد في وجهه أبواب المجد ولا نجاة. لم يتشكل هذا الخبر اتفاقا, بل إنه يستند إلى مصدرين. أو لهما ما عرف عن المتنبي من كونه كان مشاء مقيما في السفر والترحال. وهو يفاخر بذلك في شعره معتبرا الشعر والسفر صنوين. فمن تسكنه أسئلة الشعر لا يمكن أن يقيم في مكان, بل يمعن في الترحال قلقا متوترا باحثا عن الجديد والفريد. حتى لكأن أعظم ما يمكن أن يجود به الشعر إنما يكون في السفر والترحال لا في »الإناخة والمقام«.
لقد كان المتنبي مأخوذا بالرحيل, بالسفر, بالجديد الذي يحفز الحواس بالغريب, بالمفاجئ. ففي السفر يمكن أن يستبدل الأليف والمكرور والمتعارف, بالغريب والمفاجئ والجديد. 34 وتذكر الكتب التي عنيت بمسيرة المتنبي أن ما ورد في شعره من تمجيد للترحال وللإقامة في السفر إنما جاء يعبر عن طريقته في المقام تحت الشمس. فالسفر بالنسبة إليه كان فعل وجود. كان طريقة في المقام على الأرض. والإقامة في الرحيل هي التي جعلت الشاعر يحمل معه في ترحاله جميع متاعه. ويذكر أبو نصر محمد الجبلى ذلك, في معرض حديثه للخالديين عن ظروف مقتل المتنبي. يكتب: »يقول أبو نصر: وافاني المتنبي, ومعه بغال موقرة بكل شيء من الذهب, والطيب, والتجملات النفيسة, والكتب الثمينة, والآلات, لأنه كان إذا سافر لم يخلف في منزله درهما, ولا شيئا يساويه, وكان أكثر إشفاقه على دفاتره, لأنه كان قد انتخبها, وأحكمها قراءة وتصحيحا. « 35
إلى هذه الحكاية وغيرها من الأخبار التي تلح على أن الشاعر كان مشاء يطوي الأرض لا يقر له قرار سيستند الخبر ويشرع في نسج مكائده. فإذا كان المتنبي يحمل معه متاعه ودفاتره التي »انتخبها وأحكمها قراءة وتصحيحا« في حله وترحاله, فمن الطبيعي أن لا يترك وراءه ديواني أبي تمام والبحتري وهما المنهل الذي منه خطف كنوزه وفرائد أشعاره. لو كان المتنبي فطنا ذكيا لأتلف الديوانين ولما تركهما وراءه وعلى حواشيهما علامات تدل على ما سرقه منهما. لماذا لم يحفظ الأبيات وهو الذي تشهد له كتب تاريخ الأدب بقوة الحافظة. لماذا ترك وراءه مدونة تدينه وتفضحه. لماذا كان يجوب الأرض محملا بما يثبت جريرته وسرقاته. ما الذي يمكن أن يحدث لو ضاعت منه تلك المدونة الفاضحة ووجدها عالم لا يخفي نقمته عليه مثل العميدي, ألا ينكشف أمره? لقد بلغ المتنبي من شدة إعجابه بالديوانين مبلغا دفعه إلى استنساخهما بخط يده. وما إلحاح الراوي على عملية الاستنساخ تلك إلا إيماء منه إلى أن المتنبي قد خطف الأبيات التي وضع قد امها علامة في الحواشي. وما لم يضع أمامه علامة لا يعني أنه لم يسرقه, بل يعني أنه إنما مثل الفضاء الذي ستتحرك في رحابه تجربة المتنبي استلهاما أو اقتداء واتباعا.
وفي حين يعمد الراوي الثاني, في الخبر الذي أورده العميدي ونقله عنه البديعي, إلى التكتم على اسم الراوي الأول مكتفيا بالإشارة إلى أنه من ممن يوثق بكلامهم, يجري الأصفهاني هذا الخبر على لسان لغوي معروف هو عبد الواحد الحلبي. لقد قتل المتنبي في أرض موحشة خلاء في طريق عودته من فارس. وقاتله يشهد بأن ذلك الدرب »خشين قد استوحشته أهل العياثة والخ رابة والصعلكة. « وناقل خبر موته يلح أن قتلته نهبوا جميع أمتعته. كيف وصل ديوان البحتري إلى حلب. لا بد أن يكون القتلة قد انشغلوا باقتسام الغنائم عن تلك الدفاتر التي عاد ابن المتنبي يطلبها فكان أن حزوا رأسه حزا. هل يعني هذا أن الابن القتيل غامر بحياته ولقي حتفه طلبا لتلك الدفاتر حتى لا يقع ديوان البحتري في أيدي الناس أم أنه عاد لأنه عز عليه أن يترك تلك الدفاتر وما حوته من أشعار والده القتيل وبدائعه بين يدي قتلة قد يتلفونها إمعانا في الغي والتشفي? يبدو أن هذه الأسئلة التي من شأنها أن تحيط هذا الات هام ببعض من ريبة لم تجل ببال الراوي الذي يسند إليه الأصفهاني هذا الخبر. لكن العميدي كان على يقين من أن هذه الأسئلة هي مما يتبادر إلى الذهن فعلا. لذلك يعمد إلى طمأنة متلق يه المفترض فيستدرجه معلما إياه أن هذا الاتهام يتطلب تدليلا, ويعده بأنه فاعل ذلك بمشيئة الله وبعون منه.
أما المصدر الثاني الذي ينطلق منه العميدي إنما هو ما أشاعه الحاتمي , أحد خصوم المتنبي وأعدائه المجاهرين بنقمتهم عليه وبغضهم له, من أنه كان ينكر أنه سمع بأبي تمام والبحتري أو اطلع على أشعارهما. 36 ولا يكتفي الحاتمي بإيراد هذا الجحود بل ينطق المتنبي بما يدل على أنه يحقر الشاعرين معا ويتجاهلهما. فيذكر في الرسالة ذاتها أن المتنبي قد قال له في أحد ردوده عليه: »تنكب عن هذا, فهل تجد لأبي تمامكم هذا أو بحتري كم معنى اخترعاه? «37 لقد كان الحاتمي على يقين من أن جحود فضل الشعراء الأسلاف فعلة لا يمكن إلا أن تشين صاحبها. لذلك عمد إلى تكريسها وإلصاقها بالمتنبي. ويذهب إحسان عباس إلى أنه اختلقها ليستنهض الوجدان الجماعي إلى معاداته والنفور من جحوده فضل غيره.38 وقبله بأحقاب جزم الخالديان ببطلان هذا الاتهام المشين فذكرا أنهما التقيا الشاعر في بلاط سيف الدولة ونقلا عنه قوله: »أو يجوز للأديب ألا يعرف شعر أبي تمام وهو أستاذ كل من قال الشعر بعده. «39 وهما يؤكدان أنهما أعلماه بما ينسب إليه من جحود فنفى ذلك. نقرأ: »فأنكر ذلك, ومازال بعد ذلك إذا التقينا ينشدنا بدائع أبي تمام وكان يروي جميع شعره. «40
آن للمكائد إذن, أن تمعن في نسج حبائلها. لقد عمدت الأخبار التي تناولت شخص الشاعر واستباحته إلى التعريض بنسبه وشعره وطباعه. وهي إنما صدرت, في كل ذلك, عن حكايات يمكن للمتلقي أن يشك ك فيها أو يقابلها بنوع من الريبة والحذر. لكن الأخبار التي ستتناول عقيدتة وتحرص على طرده من دائرة الإيمان ستتخذ من اسم الشاعر نفسه طريقا إلى متعلقها. عبثا سيحاول أنصار الشاعر ممن حرصوا على الانتصار له من أمثال ابن جني أو ممن توسطوا بينه وبين خصومه من أمثال القاضي الجرجاني أن يلحوا على أن الشاعر لا يشرف إلا بشعره واقتداره على التصرف في الكلام أما عقيدته فإنها تظل بمعزل عن الشعر. إن تهمة المروق والاستهتار بالمقد سات مندس ة في الاسم نفسه. وليس للمرء في الوجود غير اسمه. من هنا تستمد التسمية خطرها وأهميتها. ثمة إنابة وقعت بين اسم الشاعر والصفة التي أطلقت عليه. بل إن الاسم صار يعرف بالصفة. ثمة عملية استبدال طالت اسم الشاعر حتى صار يعرف بالمتنبي.
لهذه التسمية مكائدها وويلاتها. إنها تدين وتشهر وتفضح. وسينجح الشاعر نتيجة صيته وما حققه بالشعر من أمجاد في محو ما تنبني عليه من إدانة وتشهير. فتصبح التسمية عبارة عن اصطلاح أو عبارة عن دال لا يعني مدلوله. وتصبح كلمة المتنبي دالة عليه شاعرا ملأ الدنيا ولا تدل على المروق والعصف بالمقدسات. لكن الأخبار والحكايات ستحرص على شد الدال إلى مدلوله الأصلي وتمحو عملية الزحزحة التي تمت. ستتفنن في تأول التسمية وتتصرف فيها كل متصرف. والراجح أن الهالة التي أحاطه بها الوجدان الجماعي هي التي أدت إلى تكالب الحاقدين عليه, والمكانة التي نالها في عصره هي التي جعلت الأخبار تلح على تعداد مثالبه. وخصومه من الطاعنين العيابين إنما استندوا إلى ما شاع حول »خبث معتقده« ورقة دينه وشرعوا ينسجون الحكايات التي تطرده من دائرة العقيدة وتعاليمها. لذلك جاءت الأخبار التي أسندت إلى علماء من ذوي الفضل وأهل الرأي والحكمة من أمثال أبي علي الفارسي وتلميذه ابن جني ممن عاصروه وجمعتهم به مجالس, وتلك التي لهج بها من ناصره من الشعراء من أمثال المعري, مضادة للأخبار التي جاءت تدين وتفضح وتشهر.
غير أن الأخبار التي حد ثت عن تعالي المتنبي تظل تشير إلى أن تعاليه لم يكن مجرد تظاهر بالعظمة, بل كان موقفا يصدر عن الوعي الحاد بما للكلمة من سلطان في زمن هان فيه الشعر والشاعر, ووعي مماثل بأن للشعر ثاراته. ولم يكن وعيه ذاك مجرد قناعات فكرية يلهج بها الشاعر حين يستبد به الضجر مما آل إليه أمر الشعر في زمانه من ضعة, بل كان نهجا سلوكيا كرسه في علاقته بممدوحيه. حتى أنه تمكن من قلب المفاهيم نفسها. فالتكسب بالشعر يعني التطواف كسبا للرزق. لكن أخبار المتنبي ستزحزح المفهوم عن دلالته. وتخرج بمفهوم التكسب نفسه عن دلالته المتعارفة. لم يعد الانتجاع يعني تنقل الشاعر بين المجالس والبلاطات طلبا لصلات الملوك. بل الملوك هم الذين سيستحثون الشاعر ويلحون في طلبه راجين أن ينعم عليهم بفضل الشعر. ثمة عملية قلب طالت الأدوار والوظائف. لقد كف الشاعر عن كونه يقول الشعر طمعا في عطايا الملوك, بل الملوك هم الذين صاروا يتبارون لنيل الحظوة عنده طمعا في مدائحه وأشعاره. كف الشعر عن كونه سلعة ذات قيمة تبادلية. وألجمت سطوة المال والجاه. فقد المال سلطانه قدام سلطان الكلمة. وعريت السلطة السياسية مما يصنع مهابتها وسؤددها حين وضعت في مواجهة السلطة الشعرية. ولذاتها انتصرت الكتابة.
المراجع:
1 – يوسف البديعي, الصبح المنبي عن حيثية المتنبي, ص 20. هذا أيضا ما يورده ياقوت الحموي في معجم البلدان, الوراق: موقع المجمع الثقافي (أبو ظبي) على شبكة الانترنات. http://www.alwaraq.com/cgi-bin/doccgi.exe/booksearch
2 – الثعالبي, يتيمة الدهر, الوراق. ويورد البديعي في الصبح المنبي في حيثية المتنبي الخبر نفسه متصر فا فيه تصر فا طفيفا. انظر ص 144-145.
3 – أبو علي محمد بن الحسن الحاتمي, الرسالة الموضحة في ذكر سرقات أبي الطيب المتنبي وساقط شعره, تحقيق محمد يوسف نجم, بيروت: دار صادر للطباعة والنشر ودار بيروت للطباعة والنشر, 1965, ص 11.
4 – البديعي, يوسف البديعي, الصبح المنبي عن حيثية المتنبي, تحقيق مصطفى السقا ومحمد شتا وعبده زياده, القاهرة: دار المعارف, سلسلة ذخائر العرب, الطبعة الثالثة (د. ت), ص 921. وانظر الحاتمي, الرسالة الموض حة, ص 11-12.
5 – المتنبي,المتنبي, ديوان المتنبي, بيروت: دار صادر, الطبعة الخامسة عشرة, 1944, الجزء الثالث, ص 113.
6 – يوسف البديعي, الصبح المنبي عن حيثي ة المتنبي, ص 95.
7 – نفسه, ص 92. ويورد كل من الثعالبي في يتيمة الدهر والبديعي في الصبح المنبي عن حيثية المتنبي حكاية تنوع على الموضوع ذاته وتهدف إلى تجريد الشاعر من قيمة الكرم وتلصق به معرة البخل.
8 – يكتب المتنبي مثلا : شر البلاد مكان لا صديق به ** وشر مايكسب الإنسان ما يصم, (الديوان, ص4 / 89.)
9 – يكتب مثلا: فلما صار ود الناس خبا جزيت على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن أصطفيه لعلمي أنه بعض الأنام (الديوان 4/ 274)
01 – أبو القاسم عبد الله بن عبد الرحمان الأصفهاني, الواضح في مشكلات شعر المتنبي, تحقيق سماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور, تونس: الدار التونسية للنشر, 1968, ص 15 وما بعدها.
11 – الثعالبي, يتيمة الدهر, الور اق: موقع المجمع الثقافي (أبوظ–بي) على شبكة الانترنات. -bin/doccgi.exe/booksearch http://www.alwaraq.com/cgi
12 – البديعي, الصبح المنبي عن حيثي ة المتنبي, ص 175.
13 – انظر مثلا ما يورده البديعي, ص 171, 175.
14 – أبو القاسم الأصفهاني, الواضح في مشكلات شعر المتنبي, ص 26.
15 – نفسه.
16 – نفسه, ص 26-27. يورد البغدادي القص ة نفسها في خزانة الأدب. انظر الخزانة في الوراق. –
http://www.alwaraq.com/cgi-bin/doccgi.exe/booksearch
17 – الديوان, ص 2/44.
18 – كانت صلة المعري بأسرة المرتضى متينة جدا, وكان يحضر مجلس الشريف المرتضى. وقد رثى أبا أحمد, والد الشريفين الرضى والمرتضى الذي توفي في جمادى الأولى سنة أربع مائة. وكان أنه حضر مجلس المرتضى, فجرى ذكر المتنبي, وكان المرتضى يكرهه ويتعصب عليه, وكان أبو العلاء يحب ه ويرى أنه أشعر المحدثين, ويفضله على بشار ومن بعده كأبي نواس وأبي تمام, فانتقصه المرتضى, وأخذ يتتبع عيوبه, فقال أبو العلاء: (لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قوله: »لك يا منازل في القلوب منازل« لكفاه فضلا.) فغضب المرتضى وأمر بإخراجه, فسحب برجله حتى أخرج. ثم قال المرتضى لمن حضره: أتدرون لم اختار الأعمى هذه القصيدة دون غيرها من غر المتنبي? قالوا: لا. قال إنما عر ض بقوله:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل
انظر: أبو العلاء المعري, شرح ديوان أبي الطيب المتنبي »معجز أحمد«, تحقيق عبد المجيد دياب, القاهرة: دار المعارف, سلسلة ذخائر العرب (د. ت), ص 100-101.
19 – أورده, إحسان عباس, تاريخ النقد الأدبي عند العرب: نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن, بيروت: مؤسسة دار الأمانة, 1971,, ص 278.
20 – نفسه, ص 278-279.
21 – أورده البديعي, الصبح المنبي عن حيثي ة المتنبي, ص 179.
22 – البديعي, ص 146; الربعي هو أبو الحسن علي بن عيسى الربعي النحوي البغدادي المنزل الشيرازي الأصل. كان عالما في النحو. توفي سنة 420 هـ.
23 – البديعي, الصبح المنبي في حيثي ة المتنبي, انظر ما يورده محق قو الكتاب هامش ص 146.
24 – البديعي, الصبح المنبي عن حيثي ة المتنبي, ص 181.
25 – نفسه ص 146.
26 – نفسه, 146-147.
27 – نفسه, ص 78-79.
28 – أبو القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني, الواضح في مشكلات شعر المتنبي, ص 11.
29 – نفسه, ص 6.
30 – المحبي, خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر, بيروت: دار صادر, (د. ت), ص 511.
31 البديعي, الصبح المنبي عن حيثي المتنبي, 182- 183.
32 – نفسه, ص 184.
33 –
34 – نقرأ مثلا : ألفت ترحلي وجعلت أرضي قتودي والغريري الجلالا
فما حاولت في أرض مقاما ولا أزمعت عن أرض زوالا
على قلق كأن الريح تحتي أوجهها جنوبا أو شمالا (الديوان, 3/341)
35 – البديعي, الصبح المنبي عن حيثي ة المتنبي, ص 371.
36 – أبو علي محمد بن الحسن الحاتمي, الرسالة الموضحة في ذكر سرقات أبي الطيب وساقط شعره, ص 106.
37 – نفسه, ص 681.
38 – إحسان عباس, تاريخ النقد الأدبي عند العرب, ز ص 379- 380.
39 – نفسه.
40 – البديعي, الصبح المنبي عن حيثية المتنبي، ص 143.