حاوره – عِذاب الركابي
كاتب عراقي
سحرَته «السينما الجوّالة» العابرة بين قرى ومدن العراق في وسائل النقل النهرية 1946، فشكّلت أحلام يقظته ومنامه، ثمّ تسنّى له أن يُشاهد الأعمال العظيمة والجادة، وأن يُذهل بالتحريك والمخيلة والبناء في مسلسلات الكرتون. كتب القصّة والرواية كتمرين مستمر لكتابة السيناريو والحوار. أدهشته سيمفونيات الموسيقى الكلاسيكية، ووقع تحت سطوة المسارح وفنون التصوير والإضاءة والصوت، لكن السينما كانت همّه الأكبر.
قاسم حول مخرج سينمائي وفنّان وروائيّ عراقيّ، يعدّ من مؤسّسي السينما في العراق. خاض تجربة الإخراج السينمائي بالتزامن مع مغامرة الكتابة، الشاقّة والممتعة في آن. تجلى ذلك في أشكال ثقافية عدّة كالمسرح والرواية والمسلسل الدرامي والفنون الإذاعية والتلفزيونية المتنوعة. تخرج من معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1964، وأنتج فيلما يعد من بواكير السينما العراقية حمل عنوان «الحارس»، ثمّ أخرج فيلمه الوثائقي الطويل «الأهوار» الذي تعرض للحرق، فأُجهض بذلك مشروع امتد لعشر سنوات في تصوير الواقع الفلسطيني واللبناني. وعندما لاذ بحلمه في زمنِ الطغيان خارج حدود المكان، غذّته الأسفار بتجارب معرفية لا محدودة. تجلّى حضور العراق عميقًا في وجدانه فأخرج فيلم «بغداد خارج بغداد»، كما تجلّى وهج القضية الفلسطينية في فيلمه «عائد إلى حيفا» المأخوذ عن الرواية الشهيرة لغسان كنفاني، بالإضافة إلى غيرها من الأعمال اللافتة.
* سينما، وإخراج، ورواية، ومسرح، وصحافة، ودراما تلفزيونية وإذاعية. وليمة أحاسيس أليسَ كذلك؟ ومغامرة شاقة وممتعة في آنٍ..! أي بوّابة فكر وفن وإبداع كانت وراء مرور كلّ هذهِ الفنون بأمانٍ وصخبٍ ضروري، والقلب الواحد نبضُ حمامةٍ تتناسلُ أو زهرة تتفتح؟ حدثني!
– السينما يعبر عنها الناقد الفرنسي الإيطالي المولد “أنادو”.. بالفن السابع وهو قد أصاب “نسبيا” الهدف. ولذلك فإن السينما جامعة الفنون وأهم أدوات التعبير الثقافية. السينما هي ثورة ثقافية جاءت حصيلة طبيعية وضرورية، منذ أن فكر العالم البلجيكي “جوزيف بلاتو” بأن الصورة الثابتة التي اخترعت باختراع كاميرا الفوتوغراف، فكر هذا العالم أن يحرك الصورة، وكانت ثمة محاولات سبقته، ولكنها أخفقت ولم تحقق نتيجة، وكان يجري تجاربه على عينيه، وعندما نجحت التجربة وتحركت الصورة الثابتة، كان قد فقد بصره ولم يرها.. لم يشاهد حلمه. فالسينما، ولأنها جامعة الفنون كنت أحتاج لأن أخوض تجارب أدوات التعبير الثقافية من كتابة القصة والمسرحية والفنون الدرامية الإذاعية والتلفزيونية وصولا إلى السينما، فعملت على تأسيس مؤسسة سينمائية في العراق بعد تخرجي في معهد الفنون الجميلة وهي “مؤسسة أفلام اليوم” وكتبت أول قصة سينمائية بعنوان “الحارس” ومثلت أحد الأدوار الرئيسة في الفيلم وهو دور الرسام، وأسندنا الإخراج إلى المخرج التلفزيوني خليل شوقي وكان يقف إلى جانبه أستاذنا الذي علمنا المسرح وكان قد درس السينما في إيطاليا أيضا، لكي نستكمل تجربة مهمة صارت تأريخا ثقافيا في الثقافة العراقية وجلبنا للعراق الجائزة الفضية من أول مهرجان سينمائي في تونس وهو مهرجان قرطاج، ولم تكن في المهرجان الأول جائزة ذهبية إذ أقرت الذهبية كجائزة أولى في الدورة اللاحقة وكانت الفضية هي الجائزة الأولى. أصبح الفيلم إشارة ثقافية سينمائية في العراق وفي المنطقة العربية وحتى في العالم.. هذا جانب، ما يتطلب مني أن أبقى في عالم المعرفة الدرامية بكل لغاتها التعبيرية وشروطها الموضوعية، وفي جانب آخر فإن الحياة الثقافية في العراق تأثرت سلبا بالتحولات السياسية وخسر العراق والعراقيون فسحة الاستقرار ما ترك ذلك من أثر سلبي على أهم أداة ثقافية وهي ذات بعد اقتصادي ليست كلفته من السهولة، كما أدوات التعبير التشكيلية وكتابة الشعر أو القصة واقتصاد الطباعة والنشر .
إن السينما هي أداة تعبيرية متشعبة الكلفة تبدأ من الفيلم الخام وشروط الطبع والإظهار مرورا بتقنيات الكاميرا وأكسسواراتها وأكسسوارات التصوير من الرافعات والإضاءة ومكونات الصوت مرورا بأجور الممثلين وكتابة السيناريوهات وأجور التوليف في المونتاج.. هو عالم متنوع في مفردات لغة التعبير ومن الطبيعي أن يكون لكل مفردة من مفردات تلك اللغة ثمنٌ باهظٌ، والمنتج دائما يخاف من أن يخوض التجربة، فتنهار قدرته المالية، سيّما إذا لم تكن الدولة داعمة للإنتاج السينمائي حين الدولة تعاني من الإنقلابات السياسية العسكرية وغيرها، فيدخل الوطن في نفق مظلم، لم تعد الشاشة السينمائية من أهداف السلطة. هنا تحتم الضرورة الموضوعية أن أكتب القصة وأكتب السيناريو وأكتب المسرحية وأتقن لغة الحوار وهو شأن مهم وخطير إذا لم تتقن كتابته، بل وأدخل عاملا في استوديوهات السينما وأتعلم تصحيح منقي الألوان “الفلاتر” وأتعلم التصوير والمونتاج وشروط الطبع والتحميض، وفي ذات الوقت أترأس تحرير الجانب الثقافي في المجلات، فمن حيث أدري ولا أدري صرت بالضبط مثل قاموس السينما المتكامل، حيث السينما تستكمل بالضرورة شروط الفن والأدب والموسيقى والمؤثرات الصوتية التي هي أيضا مؤثرات موسيقية مثل جملة الصمت في الموسيقى التي تعتبر جملة موسيقية. صرت دائما أفرض شروطي في العمل على المؤسسات التي أتعامل معها.. في الفترة الأولى من تجربتي في فيلم “الحارس” وخلال فترة الإنتاج وما بعد الإنتاج وأنا ألعب دور الرسّام في الفيلم وحين شاهد الفيلم في أول أسبوعين ثلاثة وتسعون ألف مشاهد وبإعجاب شديد، شعرت بأنني فقدت حريتي، فكان الناس يتطلعون نحوي بإندهاش وهم الذين لم يعتادوا الإنتاج السينمائي في وطنهم، حيث السينما الواعدة محدودة الفرص. كان يصعب علي تناول وجبة الغداء في مطعم أو تناول وجبة العشاء على ساحل نهر دجلة في أبي نؤاس ويصعب على صعود الباص، حيث ينهض الكثيرون من مقاعدهم احتراما لي حين لم يكن متسعا في الباص.. أسير في الشارع فيمشي الناس إلى جانبي أو يسبقوني ويتلفتوا نحوي.. شعرت بأن حريتي مستلبة، فقررت أن أتوقف عن التمثيل والظهور على شاشة السينما، وفضلت المكوث وراء الكاميرا مخرجا دون أن تظهر صورتي على الشاشة! وهكذا بدأت مسيرتي مخرجا سينمائيا، مع أني لا أحب كلمة مخرج.. هو تعبير في القاموس العربي عن الشخص الذي يدير شؤون العملية الإنتاجية، وهو صاحب الرؤية البصرية والرؤية الموسيقية والرؤية البنائية دراميا والرؤية الصوتية حوارا ومؤثرات ورؤية التوليف والمكساج. فصرت في الآونة الأخيرة أكتب على الشاشة فيلم لـ قاسم حول بديلا عن سيناريو وإخراج، لأن إدارة الفيلم ومسؤولية المعني بإدارة الممثلين وطاقم الفنيين والبنية الدرامية وتفسير النص بصريا.. شأن لا يتناسب وكلمة “مخرج” لا أعرف من أين استقاها المجمع اللغوي العربي!
* عرفناك، بل تتلمذنا على حسّكَ الشعريّ، وموسيقى جسدك التي سمعناها من كلّ حرف وكلمةٍ وجملة، سينمائيا ومخرجًا بارعًا، يصعبُ على مَن يتحدث عن فنّ السينما والمسرح ألّا تكون في حديثهِ البداية.
– عندما باشرت في أول صباي بقراءة “تشيخوف” و”أرثر ميلر” و”تنسي وليامز” و”هنريك أبسن” و”أوجست سترندبرغ” و”يوجين أونيل”، وسواهم من كبار كتاب المسرح ومن ثم ثقافتي عن المسرح الإغريقي من خلال “أسخيلوس” وسوفوكليس” و”يوربيدس”، لا شك استهوتني كتابة المسرحية، وأشعر بامتنان شديد لأولئك الذين أتقنوا كتابة الحوار الذي يتسم بالبلاغة والشاعرية، بعكس الذين هجموا على مسارح الثرثرة والنكات المثيرة لاستفزاز رغبة الضحك المجاني في الشوارع، فيما المسرح بشكله الأرستقراطي الرؤى هو ظاهرة أرستقراطية في فن المشاهدة، وهكذا صرت أدعو من خلال محاضراتي وكتاباتي إلى مسرح يتسم بالمعاصرة التي هي امتداد لظاهرة المسرح الكلاسيكي الإغريقي الأصول منذ متذرعات “إسخيلوس” في العام 490 قبل الميلاد، وتطورها لحين أن استقى “شكسبير” أصول كتابة المسرحية وإخراجها، فتشكلت حينها ظاهرة الثقافة المسرحية في الغرب، وأخذنا منها صيغة المسارح، ومن ثم فن السينما ولكن بطريقة فيها الكثير من الفهم البدائي الذي لم يذهب في مفهوم عمق الثقافة المسرحية والسينمائية، ليس فقط على مستوى الإبداع ولكن أيضا على المستوى الاقتصادي في فهم اقتصاد المسرح واقتصاد السينما.
لقد تطورت عوالم المسرح في الغرب وتنوعت أشكال تلك المسارح، حتى أصبحت بعض المسرحيات سواء أكان الكلاسيكية منها أو تلك التي يبدع في كتابتها كتّاب معاصرون، صارت كثير من المسارح يستمر عرض المسرحية فيها لخمس أو عشر سنوات، ويتغير الممثلون، لأن أعمارهم تصبح أكبر من الشخصيات المرسومة في المسرحية. أنا عشقت كتابة المسرحية، فكتبت ونشرت عددا من المسرحيات بعضها تم إنتاجه في العراق ومنها “عودة السنونو” و”المدينة المفقودة”. هذه كانت بداياتي، وكنت في صباي في سن الثامنة عشرة قد شكلت في مدينة “البصرة” فرقة مسرحية هي “فرقة النور” قبل السفر إلى بغداد للالتحاق بمعهد الفنون الجميلة ودراسة خمس سنوات مسرح كانت حصيلتها أن شكلت فرقة مسرح اليوم وقمت بتأسيس مؤسسة أفلام اليوم وأصدرت مجلة أسميتها السينما اليوم.. بحثا عن فنون درامية وبصرية وإعلامية متطورة ومعاصرة.
* لماذا السينما؟ أهي مجرد حركة وأداء وصوت وفكرة وانفعالات؟ أمْ هي ما وراء ذلك! لا المعنى بلْ حُلم المعنى– بتعبير رولان بارت.. ما تعريفك الشعري المُموسق للسينما كفنّ جماهيري ساحق وعريق؟
– قضيت طفولتي في الريف العراقي البدائي حيث لم أشاهد سيارة ولم أشاهد ناسًا يديرون شؤون الحروب، ولم أشاهد أفلام كرتون سوى مرة كل ستة شهور؛ حيث تأتينا السينما الجوّالة، وتقدمها لنا النقطة الرابعة الأمريكية، وتأتينا عبر وسائل النقل النهرية لعدم توفر طرق للمواصلات بين أرياف العراق ومدنه. كان ذلك في العام 1946 فتركت الصورة عندي حالة سحرية، شكلت حلمي في يقظتي ومنامي، حتى إذا انتقلت من الريف إلى مدينة البصرة وشاهدت أول ما شاهدت فيلم “عنتر وعبلة” لنيازي مصطفى، ومن خلال قراءاتي في صباي وقع بين يدي كتاب يحمل عنوان “عزيزي شارلي” للسينمائي المصري “كامل التلمساني” وهو عن شخصية “شارلي شابلن” الفذة في عالم السينما كاتبًا، ممثلًا، مخرجًا، وموسيقيًا.. وأعماله التي تتنوع بين الفيلم الصامت القصير والفيلم الطويل ومن ثم الأفلام الروائية الصامتة “بدون الحوار” أو تلك التي أدخل فيها الحوار. صرت متابعا لشارلي شابلن وأفلامه، وكانت فصول كتاب “عزيزي شارلي” قد فتحت أمامي آفاق السينما وطبيعة الإنتاج السينمائي، فصارت السينما حلمي الحياتي. لم تكن في العراق أكاديمية ولا معهد سينمائي، فدرست المسرح وحسنا أني عرفت المسرح كتابة، تمثيلا، وإخراجا، ما قادني ذلك نحو سينما حقيقية وليست تلك الأفلام التي زجت بها السينما العربية مع كل ذكاء وعبقرية رجل الأعمال المصري “طلعت حرب باشا” رئيس مجلس إدارة بنك مصر الذي أدرك مفهوم “اقتصاد السينما” و استثمار السيولة النقدية في دنيا الأفلام فأنشأ ستوديو مصر وجلب كل تقنيات السينما وجلب خبراء السينما من إيطاليا، فنشأت سينما مصرية لا يستهان بها، لكنها لم ترتق إلى ما نطلق عليه المستوى القياسي، الذي يسميه البعض الفيلم العالمي. لا يوجد فيلم عالمي بهذا المعنى ولكن يوجد فيلم قياسي مستوفيا لشروط البناء والتمثيل والموسيقى والمؤثرات، كما أفلام المجتمع الأمريكي وكما أفلام الواقعية والواقعية الجديدة في إيطاليا وكما أفلام الموجة الجديدة في فرنسا وأفلام فايدا وبيرجمان. هناك تعبير عربي يقول “الجمهور عايز كده”، أبدًا.. قدم للجمهور فيلما مستكملا للشروط القياسية فسوف يحبه ويتطور لديه إبداع التلقي. في بداية السبعينيات كنا أسسنا نادي السينما في بيروت ووجهنا دعوة للمخرج الكبير “بيير باولو بازوليني” وكنا أقمنا أسبوعا لأفلامه، وفي حوار معه بعد عرض أحد الأفلام سألته لمن تعمل أفلامك فقال “إنني أعمل أفلامي لمشاهد اسمه بازوليني” بمعنى، مفترضا الجمهور بوعيه هو، ولا يخضع لمفهوم “عايز كده”. وللمناسبة فكنت أود إخراج فيلم مستوحى من حكايات ألف ليلة وليلة، وسألني عن مقترحي في أكثر المواقع ملاءمة لتصوير فيلم “حكايات عربية” الذي ينوي إخراجه وهو أيضا مستوحى من حكايات ألف ليلة وليلة، وكنت صورت المناطق التي كنت أنوي تصوير فيلمي فيها صورا فوتوغرافية عن بنايات مدينة حضرموت وهي بيوت طينية غريبة التصميم الهندسي، فاستهوته الصور وطلب مساعدتي وكنت على علاقة مع رئيس وزراء اليمن علي ناصر محمد ومع وزير ثقافة اليمن عبد الله باذيب، وطلبت منهما تقديم التسهيلات للمخرج “بازوليني”، وسافر إلى اليمن وأنجز هناك تصوير الفيلم. مواقع التصوير والكومبارس من جنوب اليمن ما يناسب حكايات ألف ليلة وليلة.
لقد تركت السينما الإيطالية في شكلها الواقعي ومن ثم المدرسة الواقعية الجديدة تيارًا سينمائيا ترك أثره على السينما في كثير من بلدان العالم ومنها السينما العربية في مصر تحديدا. لم تكن الواقعية في السينما تيارا فكريا في أول بداياته. لقد ذهبت السينما الإيطالية إلى الواقع بسبب الأزمة الاقتصادية التي سادت العالم بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبشكل خاص الحرب العالمية الثانية حيث انهار الاقتصاد العالمي ولم يعد بمقدور شركات الإنتاج في إيطاليا دفع أجور مدينة السينما “جينا جيتا” فترك المخرجون مدينة السينما وتوجهوا نحو البيوت الشعبية رافضين ديكورات مدينة السينما وتقنياتها، وباشروا في سينما جديدة من واقع الحياة الإيطالية فكرًا ومكانًا. وحين ظهرت الأفلام على الشاشة أحسّ المشاهد بأن لتلك الأفلام نكهة مختلفة عن ديكورات مدن السينما، فأطلق على موجة الأفلام “الواقعية الإيطالية” وهذه الأفلام اقتضتها الضرورة الخلاقة ولم تذهب الكاميرا بمحض إرادتها. فتطورت فكرة سينما الواقع إلى الواقعية الجديدة وظهرت لهذه الأفلام نجوم سحرت شاشات السينما ومخرجون أفذاذ كان منهم “بازوليني” و”فليني” و”دي سيكا” و”أنطونيوني” و”إيتوري سكولا”.. ما دعا هوليوود لإغراء نجوم الشاشة الإيطالية للعمل في أمريكا.
* رحلة طويلة، انطلاقا من مؤسسة السينما والمسرح في العراق، كمؤسّس خبرة، وفكر، وجهد عظيم، إلى صانع ومشارك في مؤسسات السينما والمسرح في عديد الدول العربية..! هل أدّت مؤسسة السينما والمسرح في العراق دورها رغم وجود سلطة جائرة؟ ولدينا سينما ومسرح قاما بطرح القضايا الاجتماعية والسياسية.. حدثني بشجون عن سينما ومسرح الأمس، وما هي عليه الآن!
– كنت تحدثت عن تأسيس أول مؤسسة سينمائية لإنتاج أفلام ذات نهج واقعي يتسم بالشاعرية إنطلاقا من قراءاتي ومشاهداتي كناقد سينمائي لأهم صحيفة عراقية في حقبة الخمسينيات وهي صحيفة “المواطن” التابعة للحزب الوطني الديمقراطي “كامل الجادرجي”، وبعد أن عرض الفيلم وحقق نجاحا جماهيريا وماديا تحركنا لفيلم ثان مقتبس من مسرحيتي “عودة السنونو” لكن سرعان ما وجدت نفسي في بيت مما يطلق عليه بيوت الأشباح، بعد أن حلّ على العراق نظام فاشي بحمل صفات الفاشية بكل مضامينها السوداء. لقد حاولوا إلحاق مؤسستي “مؤسسة أفلام اليوم” بحزب السلطة وتمويلها وتكريس نتاجها السينمائي لأيديولوجية الحزب الحاكم.. رفضت العرض ولكنني دفعت الثمن غاليا. فأغلقت مؤسستي ومجلتي السينمائية، وحين خرجت من بيوت الأشباح المرعبة مهشما غادرت إلى بيروت وتعرفت إلى “غسان كنفاني” وألحقني رئيسًا لتحرير القسم الثقافي في مجلة الهدف التي كان يصدرها في بيروت.. وكانت حقبة عملي مع الروائي المبدع والصحفي المدهش “غسان كنفاني” قد أمدتني بثقافة صحفية متطورة ضمن الصحافة اللبنانية، وبعد استشهاده ووفاء لعلاقتنا الثقافية قررت أن أحول روايته “عائد إلى حيفا” إلى فيلم روائي في العام 1980 وكانت الحرب الأهلية في لبنان لا تزال مشتعلة وإن كانت توحي” لنهايتها، وقد اخترت لبطولة الفيلم إضافة إلى “بول مطر” و”حنان الحاج علي” و”جمال سليمان” و”منذر حلمي” و”حسين لوباني”، الممثلة الألمانية “كريستينا شورن”، لتلعب دور اليهودية البولندية. أهداني الموسيقار “زياد الرحباني” تأليفًا موسيقى الفيلم، وساعدني في مواقع التصوير رئيس الجمهورية اللبنانية “سليمان فرنجية” ورئيس وزراء لبنان “رشيد كرامي” حيث منحوني ميناء طرابلس لأحوله إلى ميناء حيفا الذي تم تهجير الفلسطينيين منه في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي. الفيلم أكملته عام 1982 وصار يعرض في أنحاء العالم منذ ذلك التاريخ وحتى كتابة هذا اللقاء، حيث عرض قبل أيام في مدينة أمستردام، وسيعرض بعد أيام في جامعة أوكسفورد في بريطانيا وأيضا في مدينة البصرة.
إن علاقتي مع السلطة الجائرة في العراق تتمثل في علاقة مؤسستي “أفلام اليوم” ومنع إصدار مجلة “السينما اليوم” لأنني أردت المحافظة على الاستقلالية الفكرية والفنية وعدم الخضوع إلى الأيديولوجيا بشكل عام، سيّما حين تتسم الأيديولوجيا بالفاشية. فتعرضت للإيذاء. التجربة الثانية تتمثل في إخراجي لفيلم الأهوار، وهي المنطقة التاريخية التي يعود تاريخها لأكثر من سبعة آلاف سنة.. وكنت صورت مناطق الأهوار التي تشكل ثلثي مساحة جنوب العراق، مسحتها بصريا بكاميرا احترافية وبفيلم قياس 35 مليمترًا وقمت بإظهار الأفلام وطبعها في ستوديوهات “ميكرو ستامبا” في إيطاليا، لكن سعي السلطة لتجفيف مياه الأهوار التاريخية وعدم النظر إلى أثر التجفيف على البيئة، البيئة المناخية والبيئة المائية، اتخذوا القرار بإدعاء اختفاء المعارضين لنظامهم بين غابات القصب التي تنبت في أعماق الأهوار، وحتى لا يبقى فيلم الأهوار “فيلمي” شاهدا على الجريمة قرروا حرق كل المواد المصورة والتي مدتها ما يقرب من عشر ساعات، وكذلك حرق كل نسخ الفيلم الوثائقي عن الأهوار، وكنت أحتفظ خارج العراق بنسخة من الفيلم “في بيروت” حيث كنت أقيم.. أُحرق الفيلم في العراق، والفيلم الذي يقيم معي في بيروت تم أسره حيث أخذه الجنود الإسرائيليون يوم غَزوا لبنان، أخذوه مع كل جهودي لعشر سنوات في تصوير الواقع الفلسطيني واللبناني، واعتبروه من الغنائم وحفظوه في وزارة الحرب الإسرائيلية، لكن ثمة مصادفة أن شخصا كان يملك نسخة تالفة من الفيلم، تلفت أثناء الطبع ورُميت في القمامة فأخذها لبيته واحتفظ بها وباعها لي بعد سقوط النظام، وعملت على ترميمها وتصحيح ألوانها، وقد كلفني ذلك مالًا وجهدًا. ربما استعدت من جماله وألوانه وصوته ما نسبته حوالي سبعين بالمائة من قيمته اللونية والصوتية وموسيقاه.
دائما عندي مجابهات مع العسف الذي هو سمة السلطات عموما وسمة السلطة العراقية بشكل خاص، فعندما أخرجت فيلمي الروائي “بيوت ذلك الزقاق” وبعد إنجاز الفيلم طلبت مني السلطة تغيير بعض مشاهد الفيلم ورفضت، فأنا عنيد في إبداعي وصعب التنازل، وأتذكر دائما ما قاله لي بازوليني “إنني أعمل أفلامي لمشاهد اسمه بازوليني”.
* كان للفن السينمائي في بعض الدول العربية كالجزائر وليبيا والمغرب وتونس ولبنان إضافات فكرية وفنية رغم قلّة وندرة الإنتاج! هل طغت السينما المصرية على فاعلية هذهِ البلدان، رغم ما لها من بصمات بدت شاحبة؟ ما تقييمك للسينما العربية على وجه الخصوص؟
– مشكلتان قائمتان منذ بدايات السينما المصرية.. السيناريو والإنتاج.. دائما يسقط الفيلم العربي في شروط المشاهدة التي أوجدتها السينما العربية ذاتها. السينما العربية خلقت جمهورا عربي الذائقة بسبب ظاهرة الاعتياد. ولذلك بقيت محلية ولم ترتقِ للقياسية وشروطها العلمية والموضوعية. وبقيت في سوق التوزيع العربي، وأيضا تلعب المشكلات السياسية دورًا سلبيا سواء على مستوى التوزيع أو على مستوى الحرية في تناول الواقع الذي منه تستقي السينما موضوعاتها. هناك رقابة اجتماعية وثانية دينية تُخضع الإبداع لشروط المجتمع، يضاف إليها السلطة السياسية التي تخاف من العملية الإبداعية وحرية التعبير. إذن فهناك مشكلات حقيقية في درب الإبداع والإنتاج السينمائي، ما حال ذلك دون عبور الفيلم العربي نحو عوالم المشاهدة في الغرب، ولو تمكن من عبور الحدود الجغرافية لتطور بالضرورة ولَفَتح آفاقا أمام المنتج “الممول” الذي بمحدودية السوق العربي والرقابة العربية صار يعمل بحذر شديد وصل لظاهرة الخوف، فقد تطيح الرقابة بتجربة سينمائية مهمة، الرقابة السياسية أو الاجتماعية والدينية، بقدرته الإنتاجية وتبعده عن هذا العالم الجميل.
السينما العربية في جانب آخر بحاجة إلى بناء القاعدة المادية للإنتاج المتمثلة بقوانين ثقافية، وبأكاديميات سينمائية وبمدن سينمائية، وبصالات سينما نظامية، وبشركات توزيع، ومهرجانات سينمائية حقيقية.. هذه القاعدة المادية تخلق سينما تمتلك مواصفات وشروط الفيلم السينمائي بصيغته القياسية التي يطلق عليها البعض “العالمية”. وهو تعبير مجازي.
* ما سبب استمرار السينما المصرية ونفوذها وانتشارها؟ أهي اللهجة الأكثر انتشارا؟ أم ثقل البلد الإعلامي بكل كوادره الكبيرة والشهيرة؟ كيف كانت علاقتك بكبار المخرجين المصريين على سبيل المثال لا الحصر: علي بدر خان، عاطف الطيب، محمد خان وغيرهم؟ مَن أدهشك ولفت انتباهك من هؤلاء المخرجين الكبار؟ مَن مخرجك الأمثل عالميًا؟
– السينما المصرية هي صورة لأفلام المجتمع الأمريكي ونسخة منها. مع اختلاف القدرة الإنتاجية. فهناك شركات إنتاج وليس منتجون أفراد. فبقيت السينما المصرية تتجول في الوطن العربي، هناك مترو جولدين ماير، كولومبيا، رانك، يونايتد آرتست، يونيفرسال، كولومبيا، باراماونت، والت ديزني.. كل هذه الشركات شكلت عالم هوليوود. هناك محاولة ممتازة بادر بها رجل الأعمال “طلعت حرب باشا” رئيس مجلس إدارة بنك مصر، الذي استثمر السيولة النقدية لبنك مصر في اقتصاد عالم السينما وأنشأ استوديو مصر. ولكن قليلة الأفلام التي ارتقت إلى لغة التعبير القياسية في السينما.
علاقاتي مع المخرجين المصريين، بلْ ومع السينمائيين المصريين وطيدة، عمل معي في بعض أفلامي المونتير المبدع “أحمد متولي”، و”محمد الطباخ”، والمونتيرة “نادية شكري”، وبالنسبة للمخرجين فنحن التقينا كثيرا في مصر، وفي مهرجانات السينما وأيضا في بغداد، “توفيق صالح “ و”يسري نصر الله”، و”محمد خان”، و”خيري بشارة”، و”رضوان الكاشف” و”علي عبد الخالق”، و”مجدي أحمد علي”، و”نبيهة لطفي”، و”علي أبو شادي”، و”هاشم النحاس”، وكنت عضوا في لجنة تحكيم مهرجان القاهرة. والمخرجون المصريون موهوبون في عالم السينما، ولكن طبيعة الإنتاج السينمائي المصري بقي عربيا. في غياب شركات الإنتاج النظامية وعدم توفر السيولة النقدية أغلب المخرجين أصدقائي.. كل الأسماء دونما استثناء. عالميا تعرفت على “بازوليني” وعلى “فايدا”.. وكنت ساعدت بازوليني في فيلم “الليالي العربية” حيث وفرت له فرصة تصوير الفيلم في اليمن بحكم علاقتي مع رئيس وزراء اليمن علي ناصر محمد ووزير الثقافة عبد الله باذيب، وكنت دائم الزيارات إلى اليمن الجنوبي سابقا وصورت هناك وساعدت اليمن من كتابة نظم السينما وأنقذت تاريخهم الذي صوره البريطانيون وكنت أحمل جواز سفر يمنيًا حين امتنع نظام بغداد الدكتاتوري عن منحي جواز سفر! أنا لم أتأثر بأي مخرج ولكن بالتأكيد كنت مولعا بأفلام “إيليا كازان”، و”بيرجمان”، وبشكل خاص مخرجي السينما الإيطالية فلليني وبازوليني وأنطونيوني ودي سيكا وإيتوري سكولا وكل مبدعي السينما الإيطالية، وكنت في العام 2009 رئيسا للجنة التحكيم لأفلام أكاديميات السينما في العالم في مدينة كراكوف وأتيحت الفرصة لي للتعرف إلى المخرج الكبير “فايدا”، وكان يرعى بعض مخرجي تلك الأفلام وحضر المهرجان وكنا نناقش مستوى أفلام الأكاديميات. كل هذه العلاقات وطدت علاقتي بالسينما العالمية، وكثيرة هي المهرجانات التي شغلت فيها إما رئيسا أو عضوا في لجنة التحكيم.
كيف دخلت السرد من أوسع أبوابه– الرواية؟ كتبتَ الرواية أم كتبتك؟ هل رواية “على أبواب بغداد” كانت البداية؟ أهي تأريخ مؤلم لجرح بغداد الذي فاق جرح جلجامش في موت صديقه أنكيدو؟ هلْ كانت بغداد غير بغداد؟ قلْ لي كيف تراها الآن من شرفة منزلك في لاهاي؟
الروايات العظيمة كثيرا ما حاولت السينما تحويلها إلى سيناريو لتنفيذها فيلما سينمائيا. رواية البحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست– 1908 حاولت السينما تحويلها إلى فيلم. أجمع كل النقاد أن الرواية كانت أعظم من الفيلم. الرواية هي عالم ثان. والسينما لا تستطيع تحويل الرواية كاملة إلى فيلم. فهناك خيال الروائي واستراحات الرواية أثناء القراءة وتأمل القارئ المبدع الذي قد يستغرق في قراءتها يوما أو أكثر أو حتى أسبوعا أو أكثر، فيما مشاهد السينما يشاهدها في ساعتين. إن متعة القراءة هي متعة مختلفة عن متعة المشاهدة، وإبداع كتابة الرواية هو غير إبداع الفيلم السينمائي، كل أداة تعبير لها أسلوبها، لذلك عندما يلح علي موضوع ما لإنتاجه سينمائيا ولا أجد فرصة التمويل أحوله إلى رواية، وحتى الآن كتبت أربع روايات وهي “العزير، سوق مريدي، على أبواب بغداد، وما بين النهرين”. أكيد أن جرح بغداد في الوجدان الواعي هو جرح دام، وهذا ما جعلني أكتب على أبواب بغداد. وقد أخرجت فيلما سينمائيا عنوانه “بغداد خارج بغداد” عن بغداد من خلال شرفتي في هولندا. وهو فيلم غريب وحديث ومتميز. كتب عنه الكثير كفيلم شاعري ومعاصر.
* لماذا الرواية؟ ولم تكن القصة القصيرة أو القصيدة؟ هل يُمكن أن نسمّي كتابة الرواية لديك هجرة شرعية، وأنت الربان والمركب والبحر؟ ما أسباب هجرة عديد الكتّاب والشعراء والصحفيين والفنانين إلى الرواية؟ أهو لقب الروائي الأسمى؟ أم هي الجوائز العربية العديدة؟ ألا ترى أن بعض المراكب ضعيفة بلْ مثقوبة والبحر هائج؟ أهي نسمة صحية في الفضاء الثقافي العربي؟ أم ماذا؟ هناك مَن يثرثرون ويكتبون على الغلاف رواية؟ ما رأيك؟
– نعم أنا أكتب القصة القصيرة أيضا، ونشرت قصصي أكثر من طبعة وستصدر كافة قصصي القصيرة في مجموعة أعمالي الكاملة. كل أدوات التعبير الثقافية تسحرني، ولكن السينما هي همي الأكبر. كتابة الرواية ليست سهلة، وكما تقول، كثيرون أو “كثيرات” يكتبن الروايات، وحين أقرأ أغلب تلك الروايات لا أستطيع إكمال قراءتها، فالكاتبة التي لا تدرك بناء الرواية دراميا أو بناء شخوصها علميا، فإنها تكتب رواية ذات بعد، إما يقترب من التقريرية أو يندرج نحو المعاصرة “المدعية”. وأكيد أن مسابقات الرواية وجوائزها تغري الكتاب.. والحديث يطول!
* الإخراجُ عشقك حتى الهوس والجنون كفنان كبير، وقد أخرجت عديد الأفلام وموضوعها روايات عراقية وعربية، وهلْ يُمكن نسيان “بيوت في ذلك الزقاق” و”عائد إلى حيفا”؟ ما أهمّ الأسس التي يقوم عليها فن الإخراج، ويمكن أن تصنع مخرجًا جادًا ومثابرًا؟
– صحيح ما يطلق عليه الإخراج السينمائي هو هاجسي العظيم. السينما هي رؤية واعية لا أدري لماذا أطلق على التسمية كلمة الإخراج أو المخرج.. ولذلك في أفلامي الأخيرة الروائية أو الوثائقية صرت أكتب فيلم لـ قاسم حول. تسألني أن أحدثك عن أسس الإخراج السينمائي، وهي وجهة نظر شخصية. أولا أن تدخل السينما من باب المسرح، فالمسرح يعلمك أسس البناء، وهي مفردة مهمة من مفردات لغة السينما، عليك أن تعرف فن التشكيل، وليس بالضرورة أن تكون رساما أو نحاتا، أن تعرف أسس وأبعاد الشعر وليس بالضرورة أن تكون شاعرا، ولكن بدون العشق والثقافة الشعرية، فإنك تسقط البعد الشاعري للفيلم السينمائي، وكذا الحال بالنسبة للموسيقى، فأنا أتدخل في موسيقى الأفلام. عشت في حياتي مستمعًا لكل سيمفونيات الموسيقى الكلاسيكية وأعشق مشاهدة الموسيقى من مسارح الموسيقى والباليه وخاصة في الاتحاد السوفييتي ورحلاتي الثقافية كثيرة، هذا إضافة إلى معرفة فن التصوير والإضاءة والصوت. وليس بالضرورة أن تكون أنت المصور أو مهندس الصوت أو مهندس المناظر.. أن تعرف كل شيء في عالم السينما، وكتاباتي في القصة والرواية هو تمرين لكتابة السيناريو والحوار.
* هل لديك طقوس مائزة في الكتابة والإخراج والتحرير والأرشفة، والإعداد للمسرح والسينما؟
– أكيد لدي طقوس عبادة حقيقة.. من طقوسي في العمل، تراني مستمعا جيدا لكل الملاحظات التي يبديها الممثلون، وأنا عندما أسمع رأيا متقنا أتبناه. ولكن حين يستحق موعد التصوير أكون دكتاتورا لطيفا.. ممنوع الحديث.. ممنوع الكلام.. المكان صامت سوى صوت الفيلم.. هذه طقوسي في عمل السينما.
*ما تقييمك للمسلسلات الدرامية العربية، وعلى سبيل المثال السورية والخليجية والمصريّة، وقد أصبحت الزاد الأشهى للتلفزيون العربي في كلّ مكان.. لحظة هروب محببة للمواطن من هموم العمل والحياة وقضايا السياسة والاقتصاد.. وماذا تقترح لدراما عربية فاعلة مغيّرة؟
– مشاغلي سينمائية. وجهاز التلفزيون لص بصيغة أفندي، فلقد أخذ من السينما جمالها. وهو إضافة إلى هذه المهمة فإنه يبث الموجات الكهرومغناطيسية التي تتعب النظر. هناك مسلسلات تلفزيونية استلبت عقول وعواطف المشاهدين ورمتهم في خيالات الجهالة، وخاصة تلك المسلسلات التجارية العربية أو التركية أو الهندية. أنا شخص متأمل وانتقائي. أشاهد الأعمال العظيمة والجادة، وأحب مسلسلات الكرتون الأنيقة التي تنفذها شركة “والت ديزني” وأكاد أجزم بأنني شاهدت جميع ما أنتجته شركة “والت ديزني” ويسحرني التحريك والمخيلة والموسيقى والبناء.. وعدا ذلك فإنهُ مضيعة للوقت.. إذا استلبك التلفاز سقطت في العادية، وفي تشويه الذائقة، وأنت صاحب مخيلة ومبدع ثقافة والسينما في صيغتها الروائية والوثائقية مدهشة إذا أنتجت وفق الشروط الموضوعية لقيم البناء والجمال.
التحريك السينمائيّ فقد الدهشة وأصبح استلابًا
* ما تقييمك للقنوات الفضائية؟
– هناك قنوات فضائية غربية متخصصة بالفيلم الوثائقي، وهناك تطور في شركات التوزيع “نت فليكس” مثالا، والتطور التقني للإنتاج، وأيضا لشروط المشاهدة، يمنحك فرصة الاختيار. وحرية التعبير في الغرب بلغت من المدى ما يدعو للاحترام في المشاهدة، أما المسلسلات العربية فأغلبها مزيِّفة للتاريخ حسب الأهواء السياسية للجهة المنتجة ودولتها. لم يعد ثمة وقت للمجازفة في الوقت.. العالم أصبح مزدحما بشاشات التلفزة، ولقد تغيرت تقنية وسائل الاتصال، وحتى وسائل الأرشفة والنبل الإنساني، وهيمنت أهواء ذات أهداف غريبة على الواقع الاجتماعي والجمالي، وسرقت جدلية العلاقة بين المبدع والواقع. لم يعد لديك فرصة لتأرخة وطنك وذاتك المبدعة، وحتى رومانسية الحكايات التي أبدعت فيها “والت ديزني” تغيرت بسبب تغير التقنية، ولم يعد ذلك التحريك السينمائي مثار الدهشة، لكنه أصبح مثار الاستلاب!
* التجريب ذروة كل ثورة فنيّة– خوسيه ساراماجو!
هل السينما فنّ تجريبي؟ أليس الفنان والمبدع مجرّب عام؟ ألم يجاهر كبار الكتّاب في العالم به، بورخيس يقول “طوال عمري وأنا أجرّب”، وميلان كونديرا يقول “أنا تجريبي”.. وبرأيي كل إبداع خارج التجريب هشيم تذروه الرياح؟ ماذا تقول؟ هل قاسم حول تجريبي؟
– لعل هذا السؤال يقع في ذروة الوعي. لو فرضنا ونحن في عالم يطلق عليه الشرق الأوسط، وبهذا الوصف الجغرافي فقدت أوطاننا ملامح هويتها وأصالتها. لو فرضنا أن فضائية تلفزيونية أو مؤسسة ثقافية، كما بعض القنوات الفضائية المتميزة للذائقة التي يتناقض أصحابها، لو فرضنا أنه تأسست مثل هذه القناة أو نادٍ لسينما النخبة في عالمنا الشرق أوسطي، وبدأنا نبرمج أفلام المجتمع الأمريكي وحتى أفلام الكاوبوي أو الأفلام ذات البعد التاريخي وحتى الديني، أو نبرمج أفلام الواقعية والواقعية الجديدة وأفلام الموجة الجديدة، فسوف لن نحصل حتى على جمهور تلك النخبة، فلقد أسهم الإعلام في تهديم البنية الثقافية وبالضرورة الاجتماعية والروحية. هذا “التحول” وليس “التطور” استلب عقل وعاطفة المتلقي، وفرضت التقنية “المخبولة” نفسها على البشرية. يوما قال “جون فورد” مخرج أفلام الكاوبوي الأمريكية المتقنة الصنعة: “إذا لم نقض على التكنولوجيا فسوف تقضي علينا”. هنا ونحن في عالم التدهور، الذي سيقود الإنسان لأن يتقبل ظاهرة الدمى البشرية المتحركة في سرير الزوجية!
لقد قادني الواقع الاجتماعي للتفكير في الانتقائية والتجريب، وأخرجت فيلمين روائيين بهذا الاتجاه. الفيلم التجريبي الأول لم أعرضه بعد ومضت عليه سنوات وسوف أعرضه يوما، والفيلم الثاني أثار في جماله اندهاش النقاد المبدعين، وهو فيلم “بغداد خارج بغداد”.. وقادني التفكير في عالم التجريب السينمائي إلى سينما حلم الواقع. وكتبت معالم هذه السينما، المعالم الفكرية والمعالم الجمالية، وانتبه السينمائيون في تونس لأفكاري البصرية وطلبوا مني محاضرة طويلة في شرح أبعاد “سينما حلم الواقع” والتونسيون ذوو خبرة في الانتقائية الثقافية، فراحوا يسجلون تفاصيل محاضرتي صورة وصوتا وتعددت الأسئلة في تلك الأمسية الثقافية وصولا إلى أبعاد السينما الجديدة، منطلقة أفكاري البصرية من فكرة ما تدفعه الأحلام من بصريات ذات مدلولات جمالية، وكيفية تسخيرها في بناء الواقع الاجتماعي سينمائيا، حتى لا تسقط الروائية السينمائية في الواقعية الفوتوغرافية، بل وترتقي بالثقافة السينمائية إلى المستوى السيمفوني في الموسيقى، في ذات التلقي والارتقاء بالذات الاجتماعية إلى الذات الإبداعية في المشاهدة والسمع والتلقي. ترى هل سيترك لنا ذلك الازدحام المسطح من المشاهدة التلفزيونية فرصة لكي نرتقي بإنسانيتنا إلى السمو، وألا نسقط في مجتمع القطيع؟ ذلك هو السؤال!
* كصحفي وإعلامي، وقد أسهمت في تحرير عديد الصحف الثقافية العراقية والعربية.. كيف تقيّم صحافتنا الثقافية؟ كيف تُعلل هذا التراجع الثقافي والإعلامي الذي نعيشه في الفضاء الثقافي العربي، مجلات مهمة أقفلت نهائيًا، ومجلات لها ثقلها الإبداعي أصبحت إلكترونية، وغيرها يصدر ولكن ليس بانتظام! هل الوضع السياسي الهزيل وراء هذا الهزال الثقافي؟
– الصحافة المقروءة باتت في مرحلة الانحسار، وحلت محلها الصحافة الإلكترونية، وقد انهزمت صحافة الصحيفة والمجلة الورقية الجميلة أمام النت.. ونحن ننتظر صحافة “الغيوم” التي ستغذيك بواسطة الهاتف الصغير الذي يبث الموجات المرضية على “فسلجة” الإنسان. نحن صراحة أسرى هذه الظواهر التقنية الخطيرة، إذا لم نتوصل إلى عالم عربي بكل طوائف أديانه الإنسانية والروحية.. عالم عربي يحتفظ بقيم الروح، وصفات الشخصية الإنسانية بعيدا عن مجتمع القطيع!
* هناك غضب مسموع وجارح ضدّ المثقفين، سارتر يراهم “ فئران لزجة”، ورولان بارت يقول “نفايات بشرية” أي لا فائدة من وجودهم، وآخر يقول ستة بائعي خضار أفضل من مثقف.. ما سلبيات مثقفينا العرب على وجه الخصوص؟
– هذا الغضب الوجودي على لسان سارتر وغير الوجودي من قبل المثقفين الحقيقيين، الذين كانوا مرعوبين من هزالة التنصت على ارتقاء المثقفين، هو صحيح ومبدئي، وكما قال الفيلسوف الروماني «اميل سيوران»ارتقِ ارتقِ عاليا، فهناك القليل من البشر”!
* الإبداع والفنّ والكتابة هي سهم التحّررُ، والأفضل برؤى كبار الكتّاب في العالم، وعلى رأسهم الناقد السيميائي رولان بارت “اللاقواعد” في الكتابة، وكلّ نصّ يخلق قواعده الخاصة بنفسهِ.. ما رأيك؟ ومفهوم الحداثة وما بعد الحداثة لا شكل للكتابة.. لا شكلَ للإبداع؟ ماذا تقول ككاتب وفنان لهُ حضوره في الفضاء الثقافي؟
– فقط أن لا تكون الحداثة هروبا من المعرفة والوعي والإدراك. بالنسبة لي، الموسيقى السيمفونية في قيمها الكلاسيكية توصلت إلى تألق في التلقي الثقافي، وحين نرتقي بأعمالنا الكتابية الأدبية أو أعمالنا البصرية السينمائية إلى المستوى السيمفوني، فإننا ارتقينا بمستوى الرواية مثلما نرتقي بمستوى الفيلم الروائي أو الوثائقي.. السيمفونية هي قمة تكامل الإبداع في التأليف والتنفيذ والبناء والحس والجمال، وهي مستوفية للشروط الموضوعية لقيم الجمال.
* يُروى أن “صموئيل بيكيت” كان يكره تقييم أعماله، وأنهُ يهربُ كالملدوغ.. هل تحبّ تقييم أعمالك الفنية والروائية؟ هل أنصفك النقد ككاتب وفنان ومخرج؟ هل لدينا حركة نقدية فاعلة، يمكن أن تتبلور لنظرية فنية تستحق الدراسة؟
– إذا أستطعت أن أشاهد أعمالي السينمائية مرتين فأنا في منتهى السعادة وأشعر أنني بلغت القمة في الإبداع. شكرا لله أنني متنوع العطاء بين الرواية والقصة والفيلم الروائي والوثائقي.. والنقد بمعنى وعي الرؤية بشتى بداياتها الفكرية والفنية الجمالية.
* يقولُ “أينشتاين”: “الزمنُ حيوان خُرافي”!
هلْ الزمن مُقيد للفنان والمبدع؟ يقول جلّ الفلاسفة إنهُ المنتصرُ الوحيد؟ كيف نهزم زمننا الذي يخترق شراييننا، ويعبث بقلوبنا، وبأحلامنا، أسرع من الضوء؟
– الزمن شأن مخيف لو لم نعمل على تناسيه، فالأفضل أن ننساه، ولو عشنا وعي لحظاته من خلال عقارب الساعة، فسوف نموت في أحضانه، ربما ونحن في قمة العطاء والإبداع.
* في روايتك “على أبواب بغداد” تقول: “ اليوم كانت عندي رغبة أن أقتلَ واحدًا من هؤلاء الـ…..، سأكون سعيدًا لو شاهدتهم، وكل منهم يتهاوى بعد أن أسدد نحوه فوهة بندقيتي.. أنا لا أحبّهم، أشكالهم بحد ذاتها لا تعجبني، وملابسهم لا تعجبني”– ص29..!
أي بورتريه لديك لبغداد تحت الاحتلال؟ هل كان للديكتاتور دور في هذا الإذلال لشعبنا؟ حدثني!
– آه..! روايتي “على أبواب بغداد” مثل فيلمي “المغني” شبح الدكتاتور ماثلٌ أمامي. كان على موعد معي ليلتقيني في يوم جمعة من عام 1978 في الساعة الحادية عشرة صباحا، وكان يريد أن يضع أمامي مقبرة مخيفة من الهدايا يهديها لي، وأدركت هذا الفخ المخيف. ساعدني الحظ في أن يصل بغداد القائد الفلسطيني “جورج حبش”، وبالاتفاق معه قبل سبعة أيام من موعد المقابلة، تمكن “جورج حبش” من أن يحصل لي على تأشيرة ليبية وبطاقة سفر وبسرية كاملة لأن الموعد الذي حصلت عليه كان يوم الجمعة الساعة السابعة صباحا. وكنت أعيش حالة رعب كاملة كان يتمنى نقيضها الكثير من المثقفين وأنا لا أطيقها.. تسللت من مدخل قاعة المطار الخاص بما يسمى القيادة القطرية مع مدير مكتب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وبأمر من الصديق القائد «جورج حبش» دخلت صالة الانتظار، وخشيت أن يتأخر الإقلاع. حينما حلقت طائرًا في الفضاء وحال شعوري أنني تجاوزت حدود العراق فضائيا، وتركتهم يبحثون عني في كل بيوت العراق، طلبت من المضيفة كأسين. رشفتهما مرة واحدة ونمت!