«المعلقة الأخيرة» للقاص العماني حسين العبري هي عنوان لقصة طويلة أو رواية قصيرة، صدرت له (٦٠٠٢) عن (دار الانتشار العربي) بعد رواية (الوخز) وأعمال قصصية أخرى.
انه ليس من باب الصدفة أن يكون عنوان «المعلقة الاخيرة» مكتوبا بمداد أحمر. فوراء هذا اللون الأحمر ما وراءه من دلالات كبيرة.
تحتوي الرواية على معلقات كثيرة بعضها على هيئة «مشانق» تتدلى من على جسور ثلاثة: (جسر القرم والجسر الجديد وجسر داخلية البلاد)، وبعضها الآخر على هيئة عقودٍ من الماس تشع على رقاب الحسناوات وتتدلى على صدورهن، او على هيئة «تمائم» صغيرة تتدلى من على المرايا الصغيرة في مقدمة السيارات، او على هيئة أشكال من مبدعي مُصممي الديكورات- وهي أكثر المشانق سحراً وألقاً- وبعضها غير مرئي؟ ولا يدرك على أية صورة معدة سلفاً. وهذا النوع الأخير قد يخرق العادة فيتدلى من الأسفل الى الأعلى، وليس من الأعلى الى الأسفل!
فأي معلقة أخيرة أو حبل أو مشنقةٍ يحق لها أن تمثل عنوان الرواية أصدق تمثيل؟
إن السؤال ذو علاقة جوهرية بالصورة السردية التي ستنتهي إليها القراءة. وفي هذه الصورة – كما سنلاحظ- لن نعثر على مشانق مصنوعة من حبال رخوة أو غليظة؟ تتدلى من على الجسور أو من على النخيل أو من أي مكان عالٍ تلفت الأنظار وتستميل الافئدة الواجفة. وإنما سنصادف لونا آخر من «المشانق» لا ترعش إلا من له القدرة على احتواء الوجود بكامله في لحظة تختزل كل الأمكنة وكل الأزمنة في صور وأشكال لا حدود لها. هذه الصور والأشكال التي كانت موجودة منذ الأزل وتتجدد باستمرار.
ومن هنا نستطيع أن نربط بين هذه «المشنقة» أو «المعلقة» غير المرئية وهي تتخذ أشكالا مخالفة في احساس كل انسان على الأرض، وبين هذه «المشانق» التي تتدلى من على جسور من الاسمنت والحديد أو من جريد النخيل أو من كل شيء يملأ العين ولا يمس ما وراءها.
وعلى كل حال فإننا- إلى حين- سنحاول الربط بين المرئي وغير المرئي حتى لا يغضب صاحب المشانق؟ الذي كان مهووساً بتعليقها في كل مكان، ويحب أن يراها صوراً معلقة على اللائحة المواجهة لمكتبه الذي كان يزاول فيه عمله الوظيفي اليومي باحدى الوزارت بالعاصمة. وحتى لا أنسى فإن هناك «مشنقة» أخرى اتخذت من مَصَرّ بطل الرواية ذي لون أزرق غامق- غالي الثمن- لا يعقد على الرؤوس إلا في المناسبات الكبرى. فهذه المشنقة او المعلقة هي التي ستضع نقطة النهاية للرواية. وفي الواقع فان مثل هذه الروايات؟ لا تكون لها نهايات! وعلى كل حال؛ فان المعلقة الأخيرة قد تتجسد في هذه أو تلك في أعين كثير من القراء، أما عندي فإنها لن تكون إلا تلك التي تحمل طابعها الوجودي. هذا الطابع الذي يحول العمل الروائي ويسمو به من الواقعي الى الفني. أي في الوقت الذي يصبح فيه الجسر هو غير الجسر، والمشنقة غير المشنقة والمصَرّ غير المصر! فكل شيء سيكتسب صفات أخرى تعمل على بناء الصورة السردية التي ستعكس ما يُدْهش ويرعش ويرْقص!
بطل الرواية هو عبدالله بن محمد؛ موظف بإحدى الوزارات بالعاصمة «مسقط» كان يزاول عمله الوظيفي مع زميلين له: (محمد وسالم) في مكتب لا يهتم إلا بشؤون الموظفين. وهو في نظر موظفي الوزارة – باستثناء زميليه- إنسان «ذو مزاج سوداوي وغير متصالح مع غيره»(١) كان ملتزما بساعات الدوام، ولم يكن يغادر مكتبه إلا قليلا، ومن عادته دائماً اهتمامه الشديد بمتابعة الأخبار المحلية والهامشية في بعض الجرائد والصحف الوطنية(٢). ان الخبر المحلي والهامشي- على الخصوص- هو المهم بالنسبة له. لم يكن يهمه الخبر الوطني العام او الخبر «العالمي» – مهما عظم شأنه في اعين الآخرين. إذ أن هذا الخبر الأخير لا يمكن أن يؤثر عليه او يستحوذ على رجل «مثله!»(٣) أما الهامشي بالنسبة له؟ فقد كان يعمد الى «قصهِ من الجريدة وتعليقه على لائحة مثبتة على الجدار المواجه لمكتبه.. وحين تمتلئ اللائحة او يشعر بان الصحف لم تعد تهتم به؛ يعمد مرة أخرى الى نزع القصاصات وتخريمها ووضعها في ملف خاص؟ يعود به الى منزله ليضعه داخل مكتبه الخاص(…) حتى تكونت له ثروة كبيرة من هذه القصاصات التي يعود إليها ليقرأها كل صباح قبل أن يذهب الى عمله؛ أو ليقرأها في أيام الاجازات او الايام التي يجد فيها نفسه وحيداً أو حزينا».(٤)
كان يشعر مع كل خبر «مهم» متعة خاصة تسلمه الى «حالة وجد»(٥) غريبة. ونحن لن نعرف أسرار تلك الأخبار الهامشية إلا ما تعلق بما كتبت عنه احدى الصحف ذات صباح وأشارت الى وجود «قطعة حبل تتدلى من على جسر القرم على هيئة مشنقة ممدودة باتجاه الشارع».(٦)
إن هذا الخبر «المهم» لن يسعده ولن يمنح له المتعة كعادته مع الأخبار الأخرى. ذلك لأن مثل الحدث ستهتم به الصحف لأيام وشهور، وسينتشر على نطاق واسع. وكان من عادة الأخبار الغريبة ان تستمر على اعمدة الصحف يوما او يومين ثم تنسى. أما هذه الاخبار الاخيرة فستستمر طويلا وستنتشر على نطاق واسع. وهذا ما كان يُزعجه ويوتره، بل وسيزداد هذا الازعاج وهذا التوتر في نفسه، وخاصة بعد أن اكتشف مشنقتين أخريين، احداهما تتدلى من على الجسر الجديد وثانيتهما من على جسر داخلية البلاد.(٧)
ان عبدالله بن محمد سيظل يعيش هذا التوتر المتزايد شدة وقوة الى يوم الأحد الخامس من شهر مارس. ومنذ صبيحة هذا اليوم سيتغير بشكل جذري في سلوكه وتفكيره وكل تصرفاته. ومع هذا التغير الجذري ستأخذ الأحداث مسرى آخر أكثر حدة، وستتخذ الأمكنة والأزمنة صيغة أخرى. وسينشأ لون من الحوار مع النفس لا عهد لنا به قبل صبيحة هذا اليوم.
فقبل اكثر من عشرين عاما كان يعيش حالة من الهدوء مع النفس، وهي حالة لم يكن يشعر فيها بالسعادة حقا، ولكنه- في نفس الوقت- لم يكن يحس بالضجر.(٨) لقد عاش هذه السنين الطويلة في بيت صغير استأجره في منطقة بالأحراش في مدينة مسقط. وهو مكان لم يشعر فيه بجديد يختلف عن قريته البعيدة الغارقة بين قمم جبال عالية وقاسية.(٩) كما لم يكن يشعر بتغيير فيما حوله، بالرغم من الصخب الذي كانت تثيره الصحف اليومية عن الجديد في هذه المدينة المستحدثة والعصرية.( ١٠) عاش في هذا البيت الصغير مع زوجته وولديه، ومع أمه بعد أن توفي والده. وكانت أمه التي ظلت معه سنتين قبل أن تلتحق بزوجها هي الوحيدة التي أحبها بقوة. أما والده فقد كان لا يحس تجاهه إلا باحساس معتدل.(١١) وبعد ذلك لا نعرف ان البطل قد دخل في علاقة حب مع غيره، بل انه لم يشر- ولو اشارة خفيفة- الى ولديه، اللهم إلا ما تعلق بزوجته التي لم يكن يحبها، ولكنه اعتاد الحياة معها، هكذا عاش اكثر من عشرين سنة – بعد انتقاله من قريته؟ من غير أن يفكر أو يحلم بتحقيق شيء أكثر مما هو عليه. فقد كانت كل أحلامه وآماله ضمن هذه الحياة العادية(١٢) الى صبيحة ذلك اليوم (الخامس من شهر مارس).
ففي صبيحة هذا اليوم سيدخل الى حمام غرفة نومه ليقف أمام المرآة. انه من جهة يحاول ربط مصره على رأسه، ومن جهة أخرى نجده يطيل النظر الى عينيه. وفي هذا الوضع سيجتاحه شعور بأن «شيئا غريبا في سبيله للحصول».(١٣) لم يستقم له ربط المصرّ ذي اللون البنيّ، كما لم يستقم له المصرّ الثاني الذي يحمل لوناً أزرق فاتحاً. كان متوتراً الى حد كبير وهو يحدق في المرآة، وكان يحس بأن شيئا مهماً يعتمل في داخله.( ١٤) انه الآن أصبح يدرك «ان المشكلة ليست بالضبط في داخله هو، بل فيما هو معلق على الجسور؛ أو في الحبال/ المشانق المصورة والمكتوبة على قصاصات صحف مثبتة على لائحة مكتبه».(١٥)
«نظر في المرآة، بحذر شديد مرة أخرى؟ وحدق في عينيه وفي شعر لحيته التي صبغها الشيب من جهة صدغيه وفي مقدمة ذقنه وقال في نفسه: انتبه يا عبدالله! انتبه! ها أنت تخل من توازنك من أجل قضية عابرة».(١٦) ازداد التوتر والقلق في نفسه؟ ويكثر من الاسئلة عن هذا المجنون أو المستهتر او الوغد الذي يعلق المشانق، ذاهباً في التفسيرات كل مذهب! ثم يسأل هذا السؤال: لماذا اختار هذا المستهتر هذه الجسور بالذات؟ ألم يكن من الأفضل له أن يختار أماكن خفية وبعيدة عن أعين الناس، وعن المؤسسات الرسمية ورجال الشرطة؟.(١٧)
كان متعباً حقاً مع تساؤلاته التي تحمل أكثر من وجه مفارق، ومتعبا أيضا مع مصرّيه: البني والأزرق الفاتح (وقد كان يلبسهما عادة طيلة أيام الاسبوع؟ أما المصر ذو اللون الأزرق الغامق فلم يكن يعقده على رأسه إلا في المناسبات الكبيرة) فهما لم يستقيما في غمرة اضطرابه ، مما جعله يختار المصر الثالث ذا اللون الأزرق الغامق. حاول – ببلاهة- أن يحدق في نقوشه «تائها في داخله في التفاصيل الصغيرة للقصاصات التي علقها على لائحة مكتبه (…) لينتهي الى ان ليس هناك من علامة واحدة تدل عليه، ذلك الذي يريد ان يستمر في تعليق المشانق (…) وليس هناك من علامة واحدة تستطيع ان تحدد متى وأين سيقوم بتعليق احدى مشانقه في المرة القادمة (…) نظر الى الشكل الذي اتخذه المصر؛ وقام بادارته قليلا على رأسه كي تتوسط واجهته في المقدمة (…) وفكر انه يبدو في مصره هذا كأنه على موعد مهم (…) وتمنى في داخله ان يكون هذا الأمر المهم هو أن تنتهي هذه القضية!».( ١٨)
في هذه اللحظات من التساؤلات مع النفس- وهو أمام المرآة- سيجتاحه(١٩) احساس غريب لم يشعر به منذ عشرين سنة، وهو «احساس حارق» داخل معدته، كما ستجتاحه «وخزة».(٢٠) يشعر بها جاثمة على صدره وكاتمة عليه نفسه!
انه في غمرة ذلك يدرك بأن «تلك الصدفة التي ابتناها لنفسه كل تلك السنوات آخذة في التصدع (…) ولو ان الامر كان أمرا مهما وذا شأن لكان اقتنع في داخله ان القضية تستحق ان تتصدع صدفته بسببها، لكن أن يكون السبب شيئا خارجيا، شيئا بعيدا ومعلقا على الجسر، شيئا هامشيا بعد كل شيء فهذا ما لا يستطيع فهمه!». هكذا يتردد عبدالله – في غمرة هذا التوتر المتزايد- بين السبب الداخلي والسبب الخارجي فيما يعيشه من معاناة. ومن اضطراب يفقده صوابه. انه منذ وقوفه امام المرآة؛ ومحاولات عقده لمصر بعد آخر: ومداومة النظر في عينيه، وتأرجحه في التفكير بين الماضي والحاضر، بين ذلك الاحساس الحارق والوخزة الجاثمة على الصدر وبين حوادث الجسر التي لا تريد أن تنتهي وبين شعوره بالقلق الذي يتمنى لمثل تلك الحوادث أن تنتهي، انه منذ تلك اللحظة سيتغير بشكل جذري. ومع هذا التغير في السلوك والتفكير ستبدأ رؤية اخرى مخالفة نحو الامكنة والازمنة ونحو كل العناصر المرتبطة بالأحداث. ان عبدالله سيدخل في «مونولوج) غريب. وبعبارة أخرى سينعطف على نفسه ولا يخرج منها الى العالم الخارجي إلا قليلا. وحتى حين يخرج الى هذا العالم الخارجي فان تصرفاته ستطغى عليها الآلية. انه سيهتدي الى فكرة «غريبة» وهي : «أن كل شيء مهم يعلق» فما كان مثار التساؤلات حول تعليق المشانق وحول من يقوم بهذا التعليق (وقد سبق ان نعته بالمجنون او المستهتر او الوغد)، وحول المؤسسات الرسمية والناس – اصبح الآن يأخذ صوراً اخرى. ان عبدالله مقتنع الآن بأن كل ما يعَلق مهم، فهل يعقل في نظره ان من علق القصائد الشعرية الجاهلية على أستار الكعبة كانوا من صنف المجانين والمستهترين والأوغاد؟! فالمعلقات الشعرية علقت لنفاستها وأهميتها. ولذلك فقد أصبح الآن يأخذ بفكرة «التماثل» بين تلك القصائد والمشانق!!
الرجل الذي يعلق مشانقه يريد أن يقول للجميع: «إن هذا الشيء مهم لي، وانني أقوم بتعليقه، ثم ان هذا الشيء المعلق لم يعد مهماً بالنسبة له وحده، بل اصبح مهما للجميع. ومن هنا لم تعد المشنقة مشنقته لوحده، بل هي مشنقة الجميع. فمنذ اليوم ستعجز المؤسسات الرسمية «ان تمنع أحداً يريد أن يعلق شيئا مهما». وبهذه الأفكار الغريبة والمشاعر التي تزداد سخونة في نفسه؛ سيتعقد الحدث أكثر، ويتخذ شكله الغرائبي المشع على كل الفضاءات. إن الأشياء – من خلال عناصر السرد البانية للصورة- لن تظل تعمل- منذ الآن- مع الجسور من نوع الاسمنت والحديد، ولن تظل كذلك مرتبطة بالاماكن (القرم والخوير وداخلية البلاد) بل انها ستتجاوز ذلك الى خلق جسور من نوع آخر أكثر ألقاً وسحراً؛ وستختار لها أماكن من لون يصبغها بصبغة خاصة. ثم إنها ستخلق شخوصاً تجعلهم يتحركون في فضاء أوسع يتجاوز حدود جغرافية عمان الى جغرافية كل أرض، يتسابقون على خلق مشانقهم ليعلقوها على أطراف النخيل، وعلى مراوح الهواء في البيوت، وعلى المرايات الصغيرة في مقدمة السيارات! وعلى كل شيء يمتد إليه النظر على جنبات الطرق أو على رقاب الحسناوات في شكل عقود الماس التي تتدلى على الصدور، وعلى الأشياء التي يبتكرها مصممو الديكورات، بل وحتى على أشكال أكياس الشاي من خلال هيئتها الدائرية. بحيث ستبدو عملية غمس الشاي في كوب ماء مثل عملية اعدام لذيذة!
وبعد هذا كله ستمتد القضية الى أطفال المدارس الذين «سيتعلمون في مناهجهم الدراسية؛ وفي الرياضيات التطبيقية: كيف يعدون عدد الأفراد الذين يمكن لرقابهم أن تُعدم داخل مشنقة واحدة!!». هذه هي العوالم التي كان يتحرك البطل داخلها؛ ويحاور الأشياء، مرة على صفحة المرآة – وهو ينظر الى مصره الغالي ذي اللون الأزرق الغامق بعد أن ربطه بإحكام على رأسه تتصدر واجهته المقدمة – ومرة ثانية على اللائحة المعلقة في مكتبه في الوقت الذي كان «يحك جسده أكثر من مرة، ويشعر بألم خفيف يتآكله على الكتفين وأعلى الظهر؛ ويشعر بتوتر يظهر على هيئة عرق خفيف ينتح على ظهره أولا ثم على رقبته!». ومرة ثالثة وأخيرة حين كان أمام جسر القرم وهو ينظر- مثل كل الناس المجتمعين هناك- إلى مكان المشنقة التي لا وجود لها أصلا- أو حين كان يتلهف ويريد أن ينظر الى عيني الرجل المطارد من قبل الشرطة ويصعد إلى أعلى الجسر! لقد كان الحوار مع النفس في هذه اللحظات الاخيرة يعكس أكثر من دلالة. لقد بدا له أن المنظر: «لم يكن واقعياً.. كان ثمة غبش يحيط بالأشياء (…) وقف أول مرة مولياً وجهه جهة الشرق. ثم تراجع قليلا لينحني قليلاً.. ولكنه لم ير هنا حبلاً او مشنقة.. ثم تراجع الى الوراء ليتجه الى الناحية الأخرى من الجسر باتجاه الغرب. ثم عاد ليحدق ملياً في الجموع الصاخبة المترقبة؛ التي كانت تنتظر منه شيئا (…) فكان لابد أن يفعل شيئا(…) فك ربطة مصره ذي اللون الازرق الغامق، وربط طرفاً منه على أعمدة الجسر؛ ثم اختفى لمدة قليلة من الزمن (…) ثم انقذف شيء بشكل فجائي باتجاه الأسفل. كان ذلك عبدالله بن محمد ذاته، حاسر الرأس، جاحظ العينين؛ يتأمل في الأفق!». أما الناس المترقبون فقد اصيبوا بصدمة، وعلت صرخات وهمهمات. أما بعضهم فقد كانوا يوجهون كاميرات هواتفهم النقالة، ليلتقطوا صوراً للحادث!!».( ٢١)
كيف نقرأ هذه الرواية؟ ما نوعية التفاعل مع الجسور ومع المشانق المتدلية من على هذه الجسور ومع المشانق الأخرى التي شاءت لها الرواية ان تتدلى من على أماكن أخرى؟ ما الأشياء التي تختفي وراء المصر الأزرق الغامق وقد تصدرت واجهته في المقدمة؟ ثم ما الأسرار وراء النقش المثير الذي يقرأ فيه البطل سره الدفين ويخفيه عنا؟ وما معنى- أصلا- أن يتخذ من هذا المصرّ الغالي حبلاً لمشنقته؟ ماذا وراء الاحساس الحارق؛ والوخزة الجاثمة على الصدر؟ ثم كيف تواجه القراءة قصة «الصدفة» التي ابتناها عبدالله لنفسه لمدة تزيد عن عشرين عاما؟ أما سرُّ لأزمته التي يكررها لسانه بين حين وآخر: «كيف تؤثر فيه الأخبار البعيدة وتستحوذ على شخص أو رجل مثله؟!».(٢٢) فقد تثير أكثر من تساؤل. وأخيراً لماذا نجد هذا الإلحاح الشديد على النظر في عيني البطل في اللحظات الأخيرة، حين كان هذا الأخير مطارداً أو غارقاً في عرقه؟ ثم هل هناك بطل مطارد غير عبدالله بن محمد؟! ثم ان عبدالله لماذا كان يحس بالاختلاف عن الآخرين؛ وخاصة أثناء التلقي للأخبار الوطنية والعالمية؟ ثم يحس أيضا بأن «ثمة شيئاً غريباً في سبيله للحصول!».( ٢٣)
انني قبل مواجهة ذلك كله – لا اعرف السر الذي جعلني أتذكر الجسر الذي تعاملت معه تجربة الشاعر العماني الكبير سيف الرحبي في ديوانه «جبال»:
ها أنذا ألمح الجسر الذي مشت عليه الملايين قبل وتبخر
ألمحه من البعيد بحدْبته التي تصل الغابة بالبحر بعد أن أزهق التعب كياني
ألمحه كمخلص ينتظرني منذ الأزل حيث أرتمي في الحانة المطلة على بحر الشمال الهائج
(…)
حيث أجد نفسي في صباح اليوم الثاني على
سرير امرأة لا أعرف اسمها أو شكلها، فأهرب متسللاً
على أطراف أصابعي في الظلمة الحادة؛ تحدوني رغبة
في رؤية الفجر وهو ينطلق مرحاً أو كئيبا على جسر
خلاصي؛ أراه يضرب بحوافره الضوئية أرض المدينة
ويحملني هكذا بين اليقظة والنوم مخمورا إلى
مخبئي في الضفة الأخرى!!
فالجسر هنا جسر خلاص، ولكن خلاص التجربة الشعرية من نوع آخر، يختلف عن جسور التجربة السردية. ذلك لأن الجسر الشعري سيسمحُ للبطل بالانتقال من ضفة الى ضفة. بينما الجسر السردي سيعمل على شنق صاحبه وهو في منتصف الطريق، ويظل مشنوقاً أمام جموع غفيره؛ بعضها يصاب بصدمة وبعضها الآخر ينقل صورة البطل على شاشات الهواتف النقالة! ولكن مهما يكن من أمر فان الجسر في كل الحالات يحمل معنى الخلاص!
ثم إني الى جانب جسر الرحبي أتذكر عشرات من الجسور الأخرى يتصدرها جسر ت.س. إيليوت الذي يظل علامة خالدة على الأرض الخراب. ثم إني الى جانب هذه الجسور تحضرني صور كثيرة لأبطال روايات يرتبطون بطريقة من الطرق مع عبدالله بن محمد، وخاصة من ناحية هذا الخلاص المأساوي. ومعنى هذا؛ هل القراءة- إذا- ستجد نفسها أمام بطل إشكالي في «المعلقة الأخيرة» وخاصة اذا تفاعلت بعمق مع ما تعكسه صفحة المرآة من شعر لحية مصبوغ بالشيب من جهة الصدغين وفي مقدمة الذقن، وتفاعلت أيضا مع هذا الحوار النفسي الرائع، وهو غارق في محيط من الأسئلة التي لا تنتهي!
إن الاحساس الحارق؛ والوخزة الجاثمة، والشعر الأبيض الذي يشع على الصدغين والذقن؛ «والصدفة التي ابتناها لنفسه واستطاع أن يخفيها عنا مدة عشرين سنة.( ٢٤) ان هذا الداخل هو المسؤول إذاً. لكن الواقع السردي سيفرض العالم الخارجي أيضا: «إذ لو كان الأمر أمراً مهماً وذا شأن؛ لكان اقتنع به في داخله؛ ان القضية تستحق ان تتصدع صدفته بسببها. لكن ان يكون السبب شيئا خارجيا شيئاً بعيداً ومعلقاً على الجسر؛ شيئا هامشياً، فهذا ما لا يستطيع فهمه».(٢٥)
فالقراءة- في الواقع- لا يمكن لها ان تفصل بين العالمين: الداخلي والخارجي. فهما متشابكان الى حد التعقيد الممتع. وهما المسؤولان معاً عن تشكيل الصورة السردية في سير الأحداث وتطورها، وحركة الشخصيات في الفضاء السردي، وفي تنوع وتلون الأمكنة والأزمنة، وفي هذا الحوار مع النفس المشبع بالتساؤلات القلقة والمتوترة. لكن السؤال الذي ينبغي أن يطرح هنا هو: هل استطاع هذا العمل- في غمرة هذا التوتر الكبير- بأحداثه وتحركات شخصياته وصور أمكنته وأزمنته وحواراته ان يرضينا فنياً؟ فنقتنع- تلقائياً- بأن الخلاص الذي تم على الجسر لم يكن خلاصاً مقحماً من قبل الكاتب. انني سأترك الجواب للقراء الآخرين، أما أنا- من خلال قراءتي الخاصة- فقد انتهيت الى أن الصورة السردية تكشف عن عنصرين جوهريين في عملية بنائها؟ وهما عنصر التواصل وعنصر فعل الموت. فحين تتوقف القراءة عند جسور: القرم والجسر الجديد وجسر داخلية البلاد فإنها ستعتبرها أدوات للتواصل. إنها أدوات تربط بين ضفة وضفة، أو بين مرحلة ومرحلة، أو بين عهد وعهد، في فترة تمتاز بالتوتر والقلق باعتبارها فترة انتقال وتحول من قرى واقعة بين جبال عالية وقاسية الى مدن مستحدثة ومعاصرة. وهذا الانتقال او التحول ينبغي ألا يربط بوقائع الأمكنة والأزمنة.
نعم.. إن عبدالله بن محمد كان مدمناً على قراءة الأخبار والأحداث المحلية، وقد كون منها ثروة ضخمة. وذلك لمدة عشرين سنة، ولكنه لم يفصح لنا- من هذه الأخبار- إلا عن الجسور والشنق وبعض الأحداث عن عدم تغيير ما حوله- بالرغم من صخب الصحف وضجيجها- ولكن القراءة تستطيع أن تعرف من خلال تعاملها مع النص الروائي طبيعة هذه الأخبار وما تنطوي عليه من أسرار. فالقراءة الأدبية في زمننا المعاصر؛ لم تعد قراءة وصفية بل هي كشفية. ومن خصائصها ان تشارك المبدع وتقوم بملء الفراغات. إن ملء الفراغ الذي يقوم به الناقد او القارئ أصبح في نظري مكوناً أساسياً في العمل الأدبي والنقدي معاً، فوراء موقف عبدالله من الصحف- مثلاً- التي كانت تملأ الدنيا صخباً بأحاديثها عن التجديد والتغيير؛ وموقفه من الهيئات الرسمية التي كانت تحجب الأخبار عن الصحف والصحفيين.. الى آخر القائمة في هذا الموضوع- فوراء مثل هذه التصرفات ما وراءها من أحداث كان عبدالله ينظر إليها بعين الريبة والشك. ان التغيير لا يمس إلا ما يتعلق بالواجهة التي تطل على الساحات والشوارع. (انظر الاصلاح الذي قام به مالك البيت الذي كان يسكنه عبدالله ص٩).
فما يمتلكه عبدالله من مواقف تجاه العالم الخارجي كان عاملاً أساسياً وراء انطوائه وعدم تفتحه على الخارج وعدم اقباله على تحقيق أشياء لتضاف الى ما عليه، في هذه المدة الطويلة من الزمن! فهذا العالم الخارجي كان سبباً واحداً فقط في وجود جسر لم يعد أداة تواصل بين انسان وآخر؛ أو بين مرحلة ومرحلة أو بين ضفة وضفة بل أصبح أداة للخنق والشنق!
ولكن الى جانب هذا العالم الخارجي هناك عالم داخلي؛ وهو عالم أكثر اضطراباً وتوتراً بسبب «الإحساس الحارق» و«الوخزة الجاثمة على النفس» وهناك «الصدفة» التي ابتناها لنفسه منذ عشرين عاماً. فهذا أيضا سبب آخر أساسي كان له تأثير واي تأثير على مسار الأحداث وتلون الأشياء.
ان هذا العالم الداخلي هو الذي سيخلق تلك الجسور التي هي من نوع آخر غرائبي وخارق. فعبدالله – في يومه الخامس والأخير من شهر مارس سيكتشف هذا النوع من الجسور او المشانق في أشكال صور «عقود الماس» التي تطوق أعناق الحسناوات؛ وتتدلى على صدورهن، وأشكال أكياس الشاي؛ وأشكال وصور التمائم الصغيرة التي تتدلى من على المرايا التي توجد في مقدمة كل سيارة؛ بل ان عبدالله لن يعد يرى الأشياء في الكون إلا في صور هذه المشانق. فيتحول الموت من هيئته الانفرادية الى هيئة وجودية!
إن فعل الموت أصبح اختياراً في نظر عبدالله بن محمد، والمعلقة تصبح أمراً مهما، فها هو يهتدي باحساسه الغريب الى أن المشنقة او المعلقة تماثل وتشبه القصائد الشعرية الجاهلية التي ارتأى القوم أن يعلقوها على استار الكعبة. فاختيار هؤلاء الناس لم يكن بسبب جنون او استهتار. فهل يعقل ان تجعل هؤلاء الذين علقوا معلقاتهم على أستار الكعبة من المجنونين او المستهترين او من المعتوهين او من الأوغاد؟! ان الشعر عُلق على استار الكعبة لنفاسته وأهميته. ولذلك تصبح المشانق في مثل هذه الأهمية والنفاسة. هكذا يصبح فعل الشنق او فعل الموت اختياراً . فليس هناك من قوة سلطوية تستطيع أن تمنع أحداً من صنع مشنقته وتعليقها كما يشاء هو ويختار.( ٢٦) ومن هنا فإن فعل الموت يماثل ما نجده في كثير من الروايات الوجودية . فأغلب أبطال (ألبير كامو) يلتقي بهم عبدالله بن محمد في فعل هذا الاختيار.
ثم ان هذا التواصل – من خلال الجسور – الذي يؤدي الى الموت وليس الى الحياة، او بعبارة أوضح الى «الخلاص» بالمفهوم الوجودي، يمتد الى نوع من العلاقة التي يدخل فيها الشرق الى الغرب. فالعمل السردي استطاع أيضا الكشف عن نوعية هذه العلاقة في المحطة الأخيرة، قبل أن يقذف عبدالله بن محمد نفسه من على الجسر؛ مشنوقاً بحبل مصرّه الأزرق الغامق. «وقف مولياً وجهه باتجاه الشرق. ثم انه تراجع قليلاً وسط ضجيج الناس واستغرابهم، ثم انحنى قليلا لينظر الى الحبل/ المشنقة. لكنه لم يجده. لم يكن هناك حبل ممدود ومعلق في هذه الناحية. فارتد الى ورائه واتجه الى الناحية الأخرى من الجسر باتجاه الغرب. وحدق ملياً في الجموع الصاخبة التي كانت غير قادرة على معرفة ما يحصل لكنها كانت مترقبة. لم يكن عبدالله آنذاك قادراً على ادراك ما الذي كان يفعله حقاً. كان كل ذلك الجمهور الحاشد ينتظر منه شيئاً. فكان لا بد له أن يفعل شيئا».(٢٧)
فحين وقف هذه الوقفة بين الشرق والغرب، تبين له بوضوح ان الشرق لم تكن فيه مشانق تتدلى من على الجسور؛ ولكنه حين نظر جهة الغرب وجدناه يستجمع كل قواه ليرمي نفسه بعد أن ربط حبل مصرّه على رقبته. ثم يقف بعض الناس ويتقدمون لالتقاط صور مناسبة للحادث!
ان المنظر – وهو على الجسر- «لم يكن واقعيا».(٢٨) هذا ما أدركه عبدالله قبل الشنق. «كان ثمة غبش يحيط بالأشياء ويجعلها غير قادرة على النفاذ الى عينيه الغارقتين في العرق!».( ٢٩) ان البطل لم يكن يعي شيئاً؛ كان غارقاً في عالمه الداخلي، هذا العالم الذي لم يخرج منه إلا قليلا. فهو مع مشاعره واحاسيسه الداخلية اكثر مما هو مع الناس في العالم الخارجي. وقد نجح العمل السردي نجاحاً كبيراً من هذه الزاوية. ولذلك فإني أعتبر أن حسين العبري قد وضع نفسه على سكة الابداع؛ وحقق قفزة نوعية من خلال «المعلقة الأخيرة».
إنني – قبل أن أختم كلمتي- أحب أن أعود الى هذا السؤال الذي يمثل العصب الاساسي في العمل السردي: هل فعْل هذا الموت في صورته الوجودية جاء في النص منسجماً مع حركة البطل وتطور الحدث وتلون الأمكنة والأزمنة وسخونة المونولوج، وخاصة في اللحظات الأخيرة من حياة عبدالله؟ إنني أطرح هذا السؤال، لأن بعض القراءات ربما ستذهب الى أن الكاتب هو الذي كان يحرك كل شيء، ويوجه كل شيء بفعل فكرة وفلسفته في الحياة.
نعم.. إننا نعلم أن كل شيء في العمل السردي وراءه الكاتب أو القاص، ولكن القارئ ينبغي ألا يشعر أو يحس بذلك. فكل ما يهمه هو أن يرى الكاتب متوارياً عن الأنظار؛ فحضوره يشوش على القراءة ويجعلها متوترة بل ويفقدها. ولذلك فإن عنصر الانسجام، أو روح التلقائية مع العناصر البنائية مكون أساسي، عليه يتوقف نجاح أو فشل الصورة السردية. وفي هذا الموضوع بالذات أستطيع القول: إن عبدالله كان في مستوى الحدث؟ ولم اشعر به في أية لحظة أنه يتقمص شخصية الكاتب او القاص. ولكن لادراك ذلك كان لابد للقراءة أن تملأ مجموعة من الفراغات. فما أخفاه عنا طيلة عشرين سنة (الصدفة التي ابتناها لنفسه) و(الاحساس الحارق) و«الوخزة الجاثمة على النفس) و(نوعية الأخبار الهامشية التي كان يتابعها ولم يفصح عنها) و(الانطوائية على النفس والتأمل في داخلها) كل ذلك يجعل القراءة تقتنع بأنه شخص مختلف، وليس شخصاً كما يقول عنه الراوي: (لم يكن يستطيع أن يفكر انه مختلف بطريقة ما عن الذين من حوله).( ٣٠)
ومعنى هذا أن التحول من صور المشانق التي تتدلى من على الجسور الى مشانق من نوع «عقود الماس على رقاب الحسناوات» و«أكياس الشاي» و«الحبال- في شكل التمائم- على المرايا الصغيرة في مقدمة السيارات» و«مراوح الهواء في البيوت» الى آخر الصور والأشكال في القائمة. بل وأكثر من هذا؟ حين تنتقل صورة المشنقة الى أطفال المدارس؛ الذين سيتعلمون في دروس الرياضيات كيف يضعون عقدة لمشنقة تتسع لاعدام أكثر من رقبة!». وكذلك هذا التحول الجذري في رؤية البطل حول الذي يعلق المشانق، من المجنون او المستهتر أو الوغد الى شخص مهم، يمتلك كامل الحرية في تعليق ما يشاء وفي المكان الذي يختاره من غير أن تمنعه أية قوة سلطوية على الأرض. إن هذا التحول او الانتقال من رؤية الى رؤية نحو الأمكنة والأزمنة وما يجري من أحداث ليس سهلاً. إني أقول: إن عبدالله بن محمد أيضاً لم يكن سهلاً!
الهوامش
١ – المعلقة الاخيرة ص٣. ٢ – نفسه ص١١.
٣ – نفسه ص13. ٤ – نفسه ص١٣.
٥ – نفسه ص14. ٦ – نفسه ص٢١.
٧ – نفسه ص١١. ٨ – – نفسه ص١٢.
٩ – نفسه ص. ١٠ – نفسه ص١١.
٢١ – نفسه ص13. ١٣ – نفسه ص١٦.
١٤ – نفسه ١٥ – نفسه
١٦ – نفسه ١٧ – نفسه
٨ ١- نفسه ص20. 19 – نفسه ص٢١.
٢٠ – نفسه ص١٩ 21 – نفسه
٢٢- انظر ص٥٩. 23 – انظر ص١٦.
٢٤ – نفسه ص٣٩ 25 – نفسه ص٥٧.
٢٦ – نفسه ص٨٥. 27 – نفسه
28 – نفسه ص٦١. 29 – نفسه ص٦٢.
٣٠ – نفسه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
٭ ورقة قدمت في النادي الثقافي.