واتكأت الى شجرة المستكة أنتظر.
كان ابن عمي قد أعطاني ظهره، وخطا ناحية قبو المقبرة الغربية تغوص قدماه في لحم الميتين الذي أصبح بمرور السنين سبخا بنيا تذرره الريح.
على عتبة الدار، تحت السراج المطفأ المعلق في العقد المتآكل تجلس عمتي «مريم». عندما أحست بي وضعت كفها على جبهتها وتأملتني لحظة ثم قالت: «ها أنت قد جئت». ولما سألتها عن أفي خفقت عيناها الكليلتان وقالت بدون أن تنظر ناحيتي «كلهم هناك» وأشارت بيدها ناحية المغارب، ثم أردفت «يبنون المقبرة».
مرت لحظة صمت وأنا واقف أطل عليها. كومة من عظام، أسمعها تقول لنفسها «الدوام لله، والأمر لصاحب الأمر». رأيتها تغيب عني، تتأمل تيار الماء الجاري في النهر الصغير أمام الدار.
أقف في الممر الذي يفصل بين المقابر، أتأمل أبا الهول البارك فوق ظهورها، وأشم رائحة الرماد. شواهد من رخام مطمومسة اللمعة تحمل أسماء من رحلوا.
عمي الكهل يجلس القرفصاء بجانب المقبرة، يشد ذيل ثوبه من بين فخذيه ويطل شعر صدره الأشيب من فتحة الجلباب. يكبس على رأسه طاقية من صوف الغنم، وبصعوبة مسح عن جبهته التراب. تأملت جلد رقبته المكرمش وتفاحة آدم بارزة وسط خطوط من تجاعيد متقاطعة كالمصير.
عندما رآني حاول النهوض، لكنني شددت على يديه أن يبقى. كان صامتا كبيت مهجور، ينظر ناحيتي وقد حفرت الدموع مسارين على وجهه وسط غبرة الرماد.
قال:
– حتى العظام تحمل ملامحها.
سقط رأسه على صدره، وسمعت نشيجه يطو في المكان.
كانت المقبرة قد أزيل سقفها القديم، وسمعتهم يتصايحون مع ضربات الفؤوس، ودك «الكواريك» ارفع التراب من هنا» «الحفر يمضي الى عمقه» «حاسب العظام. اركنها بجوار الجدار».
خطوت صاعدا كوم التراب، ونظرت في عمق المقبرة، كانت عميقة على نحو ما، رطبة، يشيع بها سكون الموت.
ضربات الفؤوس، وجهد الرجال الذين يرفعون التراب، والأحجار القديمة السوداء مكومة في الركن.
راودني شعور غامض عندما فكرت فيما قاله عمي. اختلج جسدي وضغطت أضراسي، «عمي آخر من بقي من الكبار. يحمل على كاهله سنينه وينتظر في الرواق القديم دوره».
خرج ابن عمي من مد الظل الممدود، يحمل ألما مضاعفا، بيده جوال من الخيش، وكان قبل أن يغيب عني قد قال لي (جفا قلبك وهيئه للاحتمال). وعندما نظرت للرجال الذين يحفرون، رأيتهم يتوقفون ثم يرفعون ظهورهم وينظرون ناحيتي بنظرات غامضة بينما يمسحون جباههم بذيول جلابيبهم.
حل صمت مفاجيء سمعت فيه النبض الحي، وأدركت أنهم يقودونني بغير ألم الى فجيعة ما. أنا أعرفهم. هم لا يفاجؤونك، يسحبونك، يسحبونك من يدك على دروب غير واضحة، ويتركونك وقد طقطق منك شعر الرأس.
تعثرت على الأحجار وكدت أهوى، وتبعت ابن عمي حتى اختفينا عن النظر.
على حصير مفروش فوق ظل التمر خنة، قبض ابن عمي أسفل الجوال وقلبه أمامي.
هوت على الحصير الجماجم الخربة، تصطك ببعضها وتحدث صوتا مكتوما اخترق قلبي. كانت موحشة وشائهة وقد اخترقها البلى والرميم.
شعرت للحظة كأنني أقف على الشاطىء الآخر للأبدية. همست وأنا أتأمل كوم العظم الخارج من لحده القديم:
– أهلي.
قرفص ابن العم أهمل ذئب، وجلست أنا على الحصير أمامه.
مد يده وحمل جمجمة واجهني بها. أخذت أتأمل فجوات العينين والفم والأنف، والجبهة الضيقة، والثلاث أسنان الباقية في الفك العلوي، وسر عان ما اكتست العظام باللحم والملامح، وشعت بالنور الانساني الحي، وبرقت العينان بالحنان القديم، وتحركت الشفتان مبسمة طيبة منورة، صحت:
– إنها أمي أمينة.
– هي والله.
وخفت أن أمد يدي وألمس رأسها وأنا أراها تحدق ناحيتي بفجوتي العينين الفارغتين.
ركنها ابن العم ورفع الرأس الأخرى فواجهني الفك السفلي كامل الأسنان بينما العلوي خاليا تماما فصحت هن غير وعي:
– ستي هانم.
– هي. عندما فتحنا القبر، وضربته الشمس رأينا أسنانها تضري كحبات الماس. وتعرفت على «الطاهرة» أختي، وعمي «عبدالمنعم» هؤلاء الذين قضوا في حياتي قبل أن يرحل أبي.
استندت الى جذع الشجرة مقهورا وسألته صارخا:
– وأبي ؟
صمت لحظة، ثم نظر في عيني، وتشاغل بإشعال سيجار ته، حثثته صارخا:
– أبي ؟ أين أبي ؟
أجاب:
– لم نجد له أثرا.
نهضت واقفا وقد تكاثف رعبي فيما صعد من الأروقة الضيقة صوت المقريء:
(وما يستوي الأحياء ولا الأصوات إن دث يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور).
ووجدتني أعود الى الدار طفلا. ينتزعني ما فات مما أنا فيه في لحظة واحدة.
فناء يسوره الحجر، وحظيرة في حضنه من لبن أخضر، وكافورة وتوتة، وخلايا من النحل الأليف، وأبي جالس بجرمه الهائل يغط حبلا من القيل وينظر ناحيتي، وأنا أمسك بقرني الحيوان مرتديا قميصه فيما تعنفني جدتي «استر نفسك». صامت وهائل وكأنه روح المكان:
– يا سلامة.
ابتسم:
– قل يأبه يا ابن الكلب.
– خذني معك الليلة لأسوق البهيمة في الساقية.
– سأخذك.
وأشعر بدمه ينتفض في دمي. يمتد من أول الميلاد حتى لحظة أنافس في حضنه داخل عباءة بنية لها رائحته التي لا تنسى.
فرد بدنه قائما، وخطا ناحية النهر، ورأيته يتجرد من ملابسه ويخطو أول الليل الى الماء، ساترا عورته بيده، وسرعان ما يغيبه النهر فيما تتلاحق أنفاسه حيث تأتيني وأنا أشاغب مع الحيوان.
وقت ميت، والمقابر المتناثرة تنظر لخضرة الأرض بحزن جليل.
مرت لحظات من الصمت نشطت فيها الريح، واذرت التراب في دوامات خريفية. اعتلا الجو برائحة العظام فصدعتني الرائحة الصاعدة من الكهوف فهربت ناحية السماء المفتوحة لآخر مداها، ورأيت ركض السحب الى الفناء.
– أين أبي؟
هتفت بها مصحوبة بألم غامض. كنت أنظر اليهم وقد توقفوا عن العمل ينظرون حيرتي ولا يجيبون. «أنت الإنسي الفرد الذي رأت عيناه ما رأت». صفر صوت الريح كالجرس، فركضت أتبعه مفارقا من يحفرون، بينما في أخر لمحة من نظر، رأيت أخي يقطع بفأسه السحلية نصفين، أحدهما انطمر في التراب بينما الآخر يرف ملتاثا على نفسه، وأنا أجري بالشوط برأسي يطن فيه صوت المقريء الكفيف.
(2)
الريح والشمس والمطر يهبون على المدينة فيسحبون منها السنين.
وأنا وقد غدوت كهلا ما أزال أبحث عن أبي. وبرغم لتك السنين التي سحبتها مني الشمس والريح والمطر الا أنني لم أتكيف أبدا مع لوحات النيون، واشارات المرور، وزحمة الظهيرة، وواجهات العرض، والملصقات بخطوطها المختلفة. مارست عادة تغير الفصول، وتأمل النهايات، ومقاومة أشواق القلب تجد» أبي الذي لا أعرف إن كان حيا أو ميتا.
بدأت بتدريب نفسي على الخروج من زمن لزمن، اجتر ما جرى بضني القلب، وأنهض مطوفا بالأماكن التي كان يألفها أبي.
قطعت الطريق المضفر بالكافور والتوت، مخترقا الحقول لأجد رفيق عمر أبي جالسا فوق حصير تضفره ألوان زرقاء وخضراء وحمراء، وبجانبه طاقيته وبيده سبحة من العنبر تتابع حباتها في ارتطام رصين، يطل رأسه الصفير من فتحة ثوبه، فيما يشبه وجهه تينة جافة، ويرمش بعينين كليلتين ناحيتي وقد غامت ذاكرته فيما يشبه شبورة الصباح.
عندما سألته عن أبي، لم يجبني، وغاب يتأمل ذلك الطريق الذاهب الى بطن البلد:
– أبي يا عمي.
قال:
– من ذا الذي يريد أن يرحل قبل الأوان.
وراح مني حتى لم أعد قادرا على احتواء ذاكر ته، ورأيت وجهه شاحبا كالقرطم، وتذكرت ما مضى عندما كانوا في مضيفة الدار، شرق البيت حيث كانت تأتي رائحة المعسل والشاي،وطعم العشاء، ونسوة الدار جالسات على حافة الليل ينتظرن أمر الرجال، وأنا الصغير انصب الفخاخ على شاطىء النهر للقطا والعصافير أول الصباح.
عدت للسوق المروع بالبشر، وزحمة الحيوان، وأصوات البيع والشراء. هناك كان يقف في وسطهم فاردا طوله. قلت (كان دائما وسط الناس لم مسحت المكان بعيني فارتد حاسرا كان يجس الضرع، ويتأمل هامة البهيم فاذا ما ختم بالقراءة والعافية، سحب الشاري حلاله ومضى. وعدت اتكىء على السور ناظرا اليه وهو يفك مقود الجواد ثم يشدني من ثوبي ويثبتني على ظهره لاسعا كفله بخيزرانته فيعدو الجواد على السكة التراب، وأنا أصرخ بكر عزم الخائفين، يأتيني صوته لم تشبث أو تنكسر رقبتك).
أخلاط من صور، وذكريات قديمة يطفح بها قلبك، وأنت تدور من مكان لمكان. تعود من نفس البداية، وتنشغل بالمستحيل فيما يهرم منك البدن، وينظر لك الخلق باعتبارك أحد البهاليل، يحاصرك زمنك، ولقفة النفس التي تأتي بالحنين والضني.
أغلقت اليوم خلفي باب منزلي بالمدينة التي أقطنها. نزلت من المترو ودرجت على أرض الميدان. ينحدر الجنود المتورطون بأحذيتهم الثقيلة من بوابة المحطة يتأملون البنت التي تقف في كشك بيع الزهور المندى بالماء.
كانت الشمس حادة صيفية عندما انطويت على ظلي. وعندما فارقني صار تحت قدمي فوطأته ومضيت ومضى معي. صدى لرنين ترام، وشارع خفت منه الزحمة وتراجعت حركته، وأنا أقف أرقب واجهات البيوت القوطية، وتماثيل الجص التي تحمل شرفاتها في صبر السنين،وأبراج مدورة ومسدسة يقف على علوها حمام غريب في مدينة غارقة في الزحمة والفناء، مدينة لم تعد من لحم ودم.
كانت واجهة المحل الذي أقف أمامه من مرايا مصقولة لامعة.
وكانت الشمس تسقط على بدني فتعكسه المرايا بجلاء.
والمدينة التي أمضيت بها أندح العمر تبدو في هذا الوقت باغية وقديمة. تذكرت في لحظة المرايا هذه حينما كان يزورني صاعدا من مشرق النور حتى هذه الضاحية قرب النهر:
– لا أحد يفرط فيما ورثه.
ويسبقني على الشاطىء المزهر، واقفا بالقرب من الماء الجاري، يتقدمني بخطوات متأملا تلك المراكب الراحلة بأشر عتها المفرودة بالريح والشمس تغرب للمنتهى البعيد.
يغرف بكفيه الماء، ويطرح با ناحية الضوء، فأرى وأنا أتأمله لؤلؤ الماء ينداح كالأحلام.
كانت طرقاته التي على الباب، والتي أعرفها بعزمها، وهوا متها. أفتح الباب فأراه واقفا بقامته المديدة، ووجها الصارم يشيع فيه حنان كالنور، بجانبه، على الأرض «روادة» من خير. لا يقطع عوايده أبدا. ينفلت ابني الصغير من بين قدمي فيلتقطه رافعا إياه حتى وجهه، هاتفا به:
– أهلا سبع الغربية.
لحظة أشعر فيها بتيار الدم ينتفض، بادئا جريانه من عروقه مارا بشراييني حتى ابني الصغير الذي يضمه الآن في حنية.
للكهل الذي يدب بالعصا على الأسفلت ذاكرة حية، وله فسحة من زمن يبحث فيها عن السنين.
نخلة الميدان بلا عراجين، وشجرة البلاد الغريبة بلا أوراق. وأنا أقف في زحمة ضوء المرايا يجذبني الذي يأتي تجاهي من قلب قلب نورها الحي.
من القادم نحوي؟
الكهل الذي وخط رأسه المشيب وانطوى على جروحه ؟
كأنني أعرفه، أمضيت معه عمري منذ ولدت، ومنذ كنت أركب جواد الريح رامحا على السك التراب، واستدفىء في قماش العباءة الحي.
روعت عندما شبه لي أنني فهمت، لكنني تماسكت، وغلبني الشعور ببهجة الاكتشاف والتعرف في هذه اللحظة من العمر الأخير.
قلت ,سلالة من سلالة. أب عن جد.
وكنت أخطو ناحية المرايا متأملا ذلك الواقف فيها وكأنني أشق الغيوم مكر طائر. الحاجبان، والعينان، والشفتان المزعومتان، ولمعة العين الخاطفة كحد السكين، والحزن المغلف الوجه كقناع قديم، والرأس وقد اشتعل شيبا.
أخطو وقد ملأتني البهجة كلما تعرفت على ذلك الذي في المرآة. كأنني أنسحب من تيار متدفق على أرض غير قلقة وصبوت موسيقى يطو من محل المرايا، وأنا أتأمل ذلك الذي أعرفه، والذي أمضيت عمرا باحثا عنه، منذ تعرفت على الموت في مقبرتنا النائية.
كنت قد جمعت عزمي عندما صرخت في الشارع، وقد نفذت الصرخة من الطين الى الماء:
– أبي.. أبي..
سعيد الكفراوي (قاص من مصر)