اختلفَ الباحثونَ والدارسونَ حَوْلَ مَفْهُومِ الْمُفَارَقَةِ فِي النَّقْدِ الأدَبِي اختلافاً واسعاً ومن ثمَّ ، فيجب أن نتتبع هذا المفهوم من الناحية اللغوية , والناحية الاصطلاحية، فقد ذكر صاحب اللسان أن «المفارقة هي المباينة ، يقال فرق الشيء مفارقـــــة ، وفراقاً مباينة، والاسم : الفرق وتفارق القوم ، فارق بعضهم بعضاً (1) فالمفارقة من حيث دلالتها المعجمية ، هي مفاعلة ، من فرق والمفاعلة تدل غالباً على الاشتراك في الفعل، ومن ثمَّ ، فهي افتراق وتباعد بن جهتين متضادتين ، كأنَّ كلَ جهة تمعن في التباعد عن الأخرى.
اهتمَّ النقدُ الأدبيُّ الحديثُ بنظريةِ المفارقةِ اهتماماً كبيراً ، لأنها أَصّبَحتْ جزءًا أسَاسِيًا في بناءِ النصِ الشعريِّ / النثريِّ علي حدٍ سواء. وقَدَّمَ الَنقدُ تعريفاتٍ كثيرةً للمفارقةِ ، وحاولَ (دي – سي – مويك ) أنْ يُّقدّمَ لها تعريفاً بسيطاً بقْولِه : « إنها فَنَّ قول شيء دونَ قَولِه حقيقةً بمعني أننا نتواصلُ إلي فهمِ المعنى المقصودِ بطريقةٍ غَيرَ مباشرة ٍدون أَنَ يدلَّ ظاهرُ اللفظِ على ذلكَ» (2). وفي معجم أكسفورد المختصر NCISEOXFORDDICTIONARY) توضيح أكثر لهذا المفهوم ،» وهو أنَّ في أسلوبِ المفارقةِ إما أَنْ يُعَّبَر المرءُ عن معناه بلغةٍ تُوحي بما يتناقضُ مع هذا المعني أو يُخالفُه ، ولاسيما بأنْ يتظاهَر المرءُ بِتَبني وجهةَ نظرِ الآخرِ ، إذ يستخدمُ لهجةً تدلُّ علي المدح ِولكنْ في وقت غير مناسبٍ البتة . كما لو كان في حدوثهِ في ذلكَ الوقت سخريةً من فكرةِ ملاءمةِ الأشياءِ ، وإما أَنْ يَسْتَعملَ الشخصُ اللغةَ بطريقةِ تَحْمَل معنى باطناً موجهاً لجمهورٍ خاصٍ مُمَّيز ، ومعنى آخر ظاهراً موجهاً للأشخاصِ المخاطبين أو المعنيين بالقول» (3)..، ومن ثم «فإن مصطلح المفارقة (IRONY) مشتق من الكلمة اللاتينية (IRONIA التي تعني التخفي تحت مظهر مخادع ، والتظاهر بالجهل عن قصد وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
1- هو شكل من أشكال القول يكون المعنى المقصود منه عكس المعنى الذي تعبر عنه الكلمات المستخدمة، ويأخذ عادة شكل السخرية حيث تستخدم تعبيرات المدح ، وهي تحمل في باطنها الذم والهجاء.
2- نتاج متناقض لأحداث كما في حالة السخرية من منطقية الأمور .
3- التخفي تحت مظهر مخادع أو الادعاء والتظاهر،وتستخدم الكلمة بشكل خاص للإشارة إلى ما يسمى «بالمفارقة السقراطية» من خلال ما عرف بفلسفة السؤال، وكان سقراط يستخدمها ليدحض حجة خصمه»(4) ويشير خالد سليمان في درا سته (نظرية المفارقة) (5). إلى أن العناصرَ المشتركةَ بَيْنَ التعريفاتِ المتعددةِ تتمثلُ في ثلاثةِ عناصر .
أولاً: الكلامُ الذي يتمَّ تنسيقَه في منظومِة معينةِ ، بحيث يؤدي (الدال) في هَذهِ المنظومةِ مدلولاتٍ سياقيةً نقيضةَ لمدلولِه المعجمي.
ثانيا: الرسالة وهى ما تَحمْلُه المفارقةُ منْ المعاني أو الدلالاتِ النقيضة للدلالةِ المعجميةِ الظاهرةِ ، أو ما تودُ المفارقة أنْ تحققةُّ في نفسِ ِصحابِ البصيرةِ من رؤيةٍ.
ثالثاً : صاحبُ البصيرةِ هو الطرفُ الذي تتحققُّ رسالةُ المفارقةِ نفسها لديه وينحصُر صاحبُ البصيرةِ هذا في واحدٍ أو أكثرَ من الأطرافِ التاليةِ: –
الباث Emitter
المتلقي Recover
الضحية victim وهو الطرفُ الذي يقعُ عليه مضمونُ المفارقةِ .
وتشير الدكتورة نبيلة إبراهيم إلى أنْ المفارقة َ تعبير لغوىُّ بلاغىُّ يرتكزُ أساساً على تحقيقِ ِالعلاقة ِ العلاقةِ النغميةِ أو التشكيلةِ، وهي لاتنبعُ من تأملاتٍ راسخةِ ومستقرةٍ داخلَ الـــذاتِ، فتكون بذلك ذاتَ طابعِ غنائيَّ أو عاطفيَّ ، ولكنها تصدرُ أساساً عن ذهنِ متوقدِ ووعى شديد للذات بما حولها» (6) .ومما لاشكَّ فيه أن المفارقةَ مصطلحُ نقديُ قديمُ ، فعلي الرغمِ من وجودهِا كما يذكر ( مويك ) (7) . مع محاورات سقراط وفي جمهورية أفلاطون ، حين كان سقراط يتظاهرُ بالجهلِ استخفافاً بالخصومِ ِ، فإن كلمة (Irony) لم تظهْر في الإنجليزية إلا بعد عامِ 1502 كما أنها لم تدخلْ في الاستعمالِ الأدبي إلا في بداية القرنِ الثامن عشر رغم وجود كلمات أخري في الإنجليزيةِ ، يمكن اعتبارَها (مفارقة جنينية) embryonic Irony ) مثل يسخر Flout يقرأ gib يعتبر (Jean) يغمز ( mock ) يتهكم scofp . الخ . وقد وقع أكبرُ تطورِ لمصطلحِ المفارقةِ ، كان عندَ انتقالِه مَنْ زاوية من تقعُ عليه المفارقة أو الضحيةُ . الزاويةِ أو الارتفاع ( بمفارقة الأحداث (IRONYOFEVENTS) إلى ما وراءَ الطبيعةِ عَن طريقِ تخيل أنَّ هناك قوةً قدريةً خارقةً وراءَ الأحداث ، وهي قوة ساخرة مزاجية معادية أو غير معادية أو غير مبالية ٍ. ومن أبرز من َركَزَ على هذا المفهوم ِفريدريك شلجيل (f.schilgle حيثُ بدتْ المفارقة ُعلي يده جدليةً متضادَة . فإنَّ الطبيعةَ عِنْده عمليةٌ جدليةٌ قانونها الخلقُ المتواصلُ والإفناءُ المستمرُ في الوقتِ نفسهِ والإنسانُ فيها ليس سوى شكل واقع تحت تأثيِر هذا القانونِ . وحدث تحولً جذري في دلالةِ المصطلحِ إذا لم تعد المفارقةُ مجردَ وسيلة ) (deric للتعبيِرِ عَن معني أو موقفٍ مساوٍ وإنما صارتْ منهجا له Methodology) (له كل مواصفات المنهجية العلمية ومقوماتها، وتوجد دراسات جادة وقيمة حول المفارقة منها علي سبيل المثال لا الحصر . دراسة الدكتور محمد العبد بعنوان المفارقة القرآنية، دراسة خالد سليمان المفارقة والأدب، والمفارقة التصورية للدكتور علي عشري زايد، والمفارقة للدكتورة نبيلة إبراهيم …. وغيرها.
1ـــ تعد المفارقة الدرامية من أنواع المفارقات التي اشتملت عليها نظرية المفارقة في النقد الأدبي ، وهذه المفارقة الدرامية إنما تنبع من البنية العميقة للنص الأدبي بعامة والشعري بصفة خاصة ، لأنها تمثل جوهر النص، وروحه ، وغايته التي خُلِقَ من أجلها هذا النص في الحياة ، كما تنبثق المفارقة الدرامية من ذلك الصراع الذي ينشأ عن طريق الحوار المخادع بين متحاورين ، يتجاذبان أطراف المفارقة للإيقاع بالضحية ، التي تقع عليها المفارقة ، ونجد لها تعريفا مقاربا لمفهومنا الذي توصلنا إليه، فإن معجم تاريخ الأفكار يعرف المفارقة IRONY بأنها ذلك «التصارع بين معنيين الذي يوجد في البنية الدرامية المتميزة لذاتها: بداية؛ المعنى الأول هو الظاهر الذي يقدم نفسه بوصفه حقيقة واضحة، لكن عندما يتكشف سياق هذا المعنى، سواء في عمقه أو في زمنه، فإنه يفاجئنا بالكشف عن معنى آخر متصارع معه، هو في الواقع في مواجهة المعنى الأول الذي أصبح الآن ، وكأنه خطأ، أو معنى محدود على أقل تقدير، وغير قادر على رؤية موقفه الخاص»(8). وارتبطت المفارقة الدرامية منذ نشأتها بالمسرح ، ومنها اتكأت الأنواع الأدبية الأخرى علي الإفادة من المفارقة المسرحية إلي الدخول في عوالم أدبية أخرى كالمفارقة الشعرية والروائية والقصصية، وقد أشار دي سي ميويك إلي المفارقة الدرامية ، فيقول «ارتبطت المفارقة الدرامية بالأساس بالمسرح، فهى متضمنة بالضرورة في أي عمل مسرحى، لكن هذا لا يعنى عدم وجودها خارج المسرح، وهى تكون أبلغ أثرًا عندما يعرف المراقب ما لا تعرفه الضحية ويضرب ميوك مثالاً على ذلك من قصة يوسف وإخوته»(9) ونلاحظ يوسف الذي يستضيف إخوته في مصر، وهم لا يعرفونه، وربما أصبحت المفارقة فيها أقل أثرًا لو لم يكن يوسف يعرف إخوته بينما القارئ يعرف»(10) كذلك تتحقق المفارقة الدرامية عندما يعرف المراقب ما لا تعرفه الضحية. وهذا النمط من المفارقة متداخل بشكل أو بآخر مع ما يعرف بمصطلح مفارقة الأحداث» (11). ولكي يفرق ميوك بينهما، يضرب مثلاً بالمدرس الذي قام بترسيب طالب في الامتحان، في الوقت الذي ظل فيه الطالب يعلن بيقين تام، أنه أدى الامتحان بشكل جيد، وأنه يتوقع النجاح دون شك، فالحالة هنا تمثل حالة مفارقة، ولا يوجد بالنسبة للآخرين شيء من هذه المفارقة إلا بعد أن تظهر نتيجة الطالب(12). ولايختلف تحديد مفهوم المفارقة عما قدمه معجم و قاموس أكسفورد أن مصطلح IRONY مشتق من الكلمة اللاتينية IRONIA التي تعني التخفي تحت مظهر مخادع أو الادعاء والتظاهر بالجهل ، وتستخدم الكلمة – بشكل خاص – للإشارة إلى ما يسمى بـ المفارقة السقراطية من خلال ما عُرف بفلسفة السؤال، وكان سقراط يستخدمها ليدحض حجة خصمه.(13). وعليه يمكن لنا أن نخلص من هذه المفاهيم المتعلقة بالمفارقة بعامة والمفارقة الدرامية بخاصة إلا أن المفارقة الدرامية ،هي نتاج إنساني محض ، وإبداعي صرف أي أن صانع المفارقات يريد أن يتخفى وراء أقواله وأفعاله حتى يصبح المتلقي في حيرة من أمره أمام النص المقروء، أو المسموع أو المُشَاهَد ، ومن ثم فإن قصيدة الحداثة العربية حفلت بكثير من المفارقات الموجعة على مَرِّ تاريخها الطويل.
2- بعد رحيل الشاعر المصري حلمي سالم صدر ديواناه الأخيران «حديقة الحيوانات ومعجزة التنفس» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 2013 تطرح هذه النصوص الأخيرة في حياة حلمي جُمَّاعَ تجربته الطويلة والعميقة التي امتدت رحلتها أكثر من أربعين عاما في حديقة الشعر العربي وبخاصة الحداثة العربية . جاء الكتاب في جزأين / ديوانين ،الأول يحمل حديقة الحيوانات والثاني معجزة التنفس الذي كتبه في (مارس ، أبريل ، مايو، يونية 2012) ما بين مستشفى المعادي العسكري ، وفيصل حيث مقر إقامته بالجيزة ، مصر .
كان حلمي سالم يرصد أدق تفاصل حياته في نصوصه الشعرية الطويلة التي يغلب على طابعها الدهشة والحضور والانفلات المجازي والدرامي، ليس لقصيدته خط ثابت أو معيار واحد ، بل هي مجموعة من اللامعيارية اللغوية والبلاغية التي تركتز على المجانية وتشظي الدلالات الصاخبة المسكونة بالوجع . وقد تجلى أيضا حضور الوطن بشكل واسع في هذه النصوص ، لما ألمَّ بالوطن من أحداث جديدة وتحولات مصرية مهمة ، لم يكن حلمي بعيدا عن صنعها ، فهو من الشعراء الحالمين الذين أصروا على تحقيق أحلامهم في وجود وطن عفي ، ينهض على يد أبنائه الخلصاء .
يطرح سالم في الديوان الأول «حديقة الحيوانات» صورة العالم الشعري الذي يقف في منزلة بين منزلتين حددهما الشاعر في قوله :
«استرح يا حبيبي لا يرى جسدك سواك ، فكنْ على بعد محسوب لكي أتمَّ النغمة التي تدربت ُ عليها في المعهد الشرقي، لا أريد للجنين أن يذهب ، فربما كفَّ اللصوص عن سرقة الملاءات ، أو ربما كفت يداي عن رعشة الأصيل كلما مرَّ طيفٌ ، سأكون في المستشفى الخصوصي، لفحص طبيعة الأحشاء واكتشاف انفجار الخلايا . أنت سلام في حياتي، فلاتكن حربا».
تعلن الذات الشاعرة في المقطع الفائت صورة المرض الذي ظهر في حياتها ، فكان سلاما عليها ، لا حربا ، وكأنها ترجو من زائرها أن يكون لطيفا لا ممزقا لأجنحتها ، كما تعلن عن ماهية المرض المقلق الذي زلزل أجنحة نصوصها ومنحها إنذارا متعجلا بالرحيل ، وكأن الشاعر حلمي سالم يمنحنا صورة بريئة فطرية للحيوانات المجازية التي تشبه نصوصه الشعرية في براءتها، وتمردها وجنوحها ورغبتها في المغامرة المجهولة التي لا تلقي بالا للعواقب الوخيمة التي يمكن أن تحدثَ من جرَّاء المخاطرة بالحياة لأجل الشعر.
وفي ديوانه معجزة التنفس، يرصد سالم تفاصيل الألم الحنين الذي ألمَّ به ، فيقول في نص بعنوان «السارقون»
«كان الطبيب بالنجمات الثلاث، والنسر ، يحط مبضعا على فأر ليستأصل الداء ، بينما كان النقيب الشاب في شارع جانبي ، يصوب الرصاص نحو عيون فتى يصيح ،يا عدل ُ ، وجند النقيب يهتفون فيه: أحسنت يا باشا . وحينما كان الطبيب بالنجمات الثلاث والنسر يشقط الماء عن رئتي حتى لا تموتا غرقانتين بعدما أن أفلتا من أن تموتا مأكولتين بالكيمياء والفئران ، كانت جموع في قارعة الطريق تحمل نعوش أبنائها الذين سلموا السر الإلهي ، تحت البيادات والجنازير والرتل المدرع ، عندما صاحوا في الميادين : يا كرامة .
قلتُ لبنت بيضون ، وهي تعطيني حبة المضاد : هذا وجهان لعملة واحدة : الرحمة والعذاب ، ظفرنا نحن بالرحمة ، وتركنا الفتية للعذاب ، يالنا من لصوص أنانيين ، يا جماعة الخير : لا بدأننا لم نقرأ سورة «العادلون».
اتكأ حلمي سالم في بنية نصه على المفارقة الدرامية المؤلمة التي صاغها من خلال معاناته مع المرض من ناحية ومعاناة فتيان مصر الذين دهستهم المدرعات أمام ماسبيرو ، تكمن العلاقة بين هذين المشهدين في ولادة جديدة للذات الشاعرة من ناحية وولادة الآخر الذي يداوي وطنا ويجري لها العمليات الجراحية من ناحية أخرى ، وكأن سالم نفسه تخلى عن وجعه الأحادي ليحدثنا عن أوجاع وطن بأكمله فقد الكثير من أبنائه في صورة النعوش التي رحلت إلى عالمها الأخير ، وكأنه كان يدرك رحيله العاجل في ظل رحيل هؤلاء الشباب ، فقد تَجَلَّىَ ذلك أيضا في نهاية نصه أثناء حديثه لرفيقة عمره «إيمان بيضون»، (ظفرنا نحن بالرحمة وتركنا الفتية للعذاب) ، وكأنه في عز مرضه الذي لايصدقه ولا يعترف به يدرك أنه رحمة إلهية ومنحة ربانية .
صحيح أن سالم كان قد مر بتجارب مرضية كثيرة من قبل وانتصر عليها ، كماجاء في ديوانه «مدائح جلطة المخ» ، فإنه في هذه الحالة الأخيرة يدرك أنه لن يفلت كما فلت في المرات السابقة ، فيستدعي صورة أمل دنقل في الغرفة رقم (8) بمعهد الأورام الذي فيه مات ، فيقول متناصا مع القرآن الكريم : « بلى ، قادرون على أن نسِّوي بَنَانَه». قال عازف من قبل : تاج الحكيمات أبيض ، فأخذته الحكيمات إلى حيث يعرف : هل السلطان لص أم نصف نبي ؟ وحيث يشكر زرقاء اليمامة على نبوءتها ، ويعتذر لها عن غباء الذين لم يسمعوا النصحَ .» أما أنا فأقول :عندما جاءت رقية إلى العناية المركزة،و لمحتها بين نوم وصحو ، قلت يا شقيقة الشهر بللي شفتي بالماء ، فالشهيق رسالة الأنبياء والزفير معجزة الرب».
لايخلو استدعاء الآية القرآنية من دلالة في بداية النص لدى سالم ، وهي تشي بأن الجسد الذي غرق في المرض ، يحتاج لقدرة ربانية أن تعيد بناءه مرة أخرى ، وهي تعزز قدرة الذات على البقاء وتمسكها بالحياة رغم آلامها وانهيار ملامحها الفطرية الصوفية التي تتحد بالمعشوق الأكبر وتلوذ برحمته الأبدية التي لا تموت .
تبزغُ روح التصوف في نصوص حلمي سالم بزوغا حميما ، حيث إنه يجسد في نصه ذاتا أخرى، تطلب الخلود والفناء في روح المحبوب الأعظم يقول: «قسم جراحة الصدر هادئٌ ، لأن المصدورين لايحبون أن يروا كلماتهم . تخرج مصحوبة بالدم ، قلتُ لآمر المشاة : أريد أن أتملى حبيبي قبل معراجي». تبدو رغبة الذات في لقاء الحبيب قبل الدخول في غرفة العمليات ، والمعراج الداخلي الذي تلَّبَسَ الذاتَ من حين لآخر ، والتحامها بعرفانية نقائية، اتحد فيها العاشق بالمعشوق؛ للفناء الداخلي ؛فيقول الشاعر : «جاءني صوت حبيبي : أنا في يمينك وشمالك كالشمس ، أنا أمامك وورائك : كالشجرة ، أنا تحتك وفوقك ، أنا حولك كفرس النبي ، فادخلْ امتحانك الملون ، كي تخرجَ أخا لياسمين» تبدو روح التصوف بيضاء في نصوص حلمي سالم على المستويين اللغوي والدلالي من خلال استرفاد أصوات أقطاب المتصوفة الكبار أمثال ابن عربي والحلاج والنفري والسهروردي المقتول وغيرهم ، وذلك من خلال استدعائه لمفرداتهم وأحوالهم الداخلية العرفانية التي تمنح كل شيء للحبيب . فقد سكنتْ الذات روح المحبوب ، وأصبحت خلاياه تسكن البدن المتوهج محيطة بها من كل جهة ، لانقاذها من الموت المحتوم ، يقول : « قبَّلتُ أيديهم وتقدمتُ وفي صعود ربوة ، وهم يذرفون الدمعَ ، وقبل أن يختفوا همسَ لي الصبىَّ الذي جعل مهاتفته لي جزءا من دوائي : احترسْ يا رفيقي من الموج والنوَّات والصبايا الغارقات والغريق ، حيث الفتى النحيل يصرخ : ستنجو يا شقيق الأب ، وحيث نعرف أننا عميانٌ مالم نرَ باللسان مستقبل الحب ، وحيث يحضن الجندي طفلا فوق دبابة».
يُنتجَ النصُ الشعري لدى سالم أساطيره وشخوصه الخاصة به التي تتكون عنها المشاهد الشعرية المتضامة والمختلطة المسكونة بالحياة أيضا ما بين صورة الدموع التي تسقط على خدود الأحبة ، وصورة الموت التي تسكن الذات الشاعرة ، وما بين الجندي الذي يحمل طفلا فوق دبابة تعبيرا عن المحبة الباقية ، أوالمخاطرة المؤلمة التي تدمي العالم الأرضي ، في ظني أن روح الذات في معجزة التنفس كانت تختبر قدرتها على الفراق والموت بعيدا عن الأحبة ، كما منحتنا مفردات النص إشاراتٍ عدة للرحيل والفراق . وكأنها تعلم أن في المخاطرة جزء من النجاة ، لأنها تؤمن بأن الحياة إذا لم تحمل مخاطرة ما لأجل تحريك الساكن والمستقر، لن تكون ذات جدوى.. سيظل حلمي سالم مضيئا في شعريتنا العربية .
الهوامش :
1ــــ ابن منظور: لسان العرب، مادة فرق.
2ـــ دى – سى – مويك : المفارقة وصفاتها : ترجمة عبد الواحد لؤلؤة ،
3 ـthe shorter oxford English dictionary on historical principles prepared by William little h.w. fowler j. coulson revised and edited by c.t. onios oxford at th clareendon press1956.p105.
4ــ السابق نفسه .
5ـ خالد سليمان : نظرية المفارقة ،
6ـ نبيلة إبراهيم : المفارقة ، فصول ع 3،4 ص 123 ، 1987.
7- دي سي مويك : مرجع سابق .
8ــ Dictionary of the history of ideas studies of seleted
pioral ideas voluime charles son newyork 1973 p. 626
أحمد الصغير\
\ ناقد وأكاديمي من مصر