ولد فيليب لوجون الانشائي الفرنسي والمرجع العالمي الأول في دراسة السيرة الذاتية، في 13 أوت (اغسطس) 1938 »دأب على الكتابة منذ سنّ العاشرة. ثم جَعَلَته إصابته بداء الرئة في سن الرّابعة عشرة يُقيم سنة ونصفًا في مصحة وقائية في شامونيكس Chamonix، فوجد في الشعر ملجأ وارفًا، ولم يعتد كتابة السرد إلا حين عاد من جديد إلى معهد هنري الرابع حيثُ تابع دراسته قبل أن يتم قبوله في دار المعلمين العليا. وسرعان ما غدا تحرير اليوميات بالنسبة له سبيلاً تؤدي إلى تحمل العودة إلى الحياة الاجتماعية، التي لم يكن يعتبرها ملائمة.
فاختار أن يكون أستاذًا، بسبب الجوار بين هذا الشغل ونشاط الكتابة. وأحرز «لتبريز في الآداب العرضية«سنة 1962، وتولّى التدريس في جامعة شمال باريس حتى سنة 2004 مركزًا حياته العملية في دراسة «ليوميات الحميمة«، سواء منها يومياته أو يوميات المشاهير… أو المغمورين.
فأضحى من المتخصصين العالميين المعترف بهم في مجال السيرة الذاتية، بعد أن ابتدع مفهوم «لميثاق السيرذاتي» على وجه الخصوص، ودأبَ على مواصلة بحوثه، بعـد تقاعـده واشتراكـه فـي بعـث «لجمعية من أجل السيرة الذاتية»، والإشراف عـلى موقعـه الخاص عـلى الانتـرنـيت الموسـوم بـ«الميثاق الذاتي» http://www.autopacte.org
هكذا غدا مهتما بمسودات السيرة الذاتية ومخططات أعمالها، فتمكن من أن يكون ممثلا لقطاع البحث الأدبي الموصول بالسيرة الذاتية عموما.»
عُرف منذ السبعينات بكتابه المؤسس «أدب السيرة الذاتية في فرنسا» الذي اجترح فيه تعريفه الشهير للسيرة الذاتية بوصفها «المحكي الاسترجاعي النثري الذي يقوم به شخص واقعي لوجوده الخاص،عندما يركّز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة. »
ثم أعاد النظر فيه في مؤلفه العمدة«الميثاق السير ذاتي» الذي مثل الانطلاقة العالمية لمشروعه النقدي حيث لفت اليه الأنظار منظّرا و ناقدا مختصا في دراسة الأدب الشخصي دون سواه.فقد انشغل بهذا النوع من الكتابة رغم ما يعانيه من تهميش يصل حد عدم الاعتراف به ضمن الكتابة الأدبية. لكن لوجون انصرف ينظّر له ويكتشف جمالياته وفنونه إلى أن أصبح اليوم تيارا للكتابة تفرّعت عنه أجناس أدبية مختلفة.
من أشهر مؤلفاته:السيرة الذاتية في فرنسا 1971 الميثاق السير ذاتي 1975 الأنا هو آخر 1980 أنا أيضا 1986 ممارسة اليوميات الشخصية 1990 كراستي العزيزة 1990الذاكرة المفقودة 1991مسودات الذات 1998أنا الآنسات 1993من أجل السيرة الذاتية 1998شاشتي العزيزة 2000علامة حياة،الميثاق السيراتي 2.2005 اليوميات الخاصة،تاريخ وانطولوحيات 2006 ومؤلفات أخرى عديدة.
حول مشروعه النقدي ومفهوم السيرة الذاتية ومآزق التعريف وراهن الكتابة الذاتية وواقع التخييل الذاتي وعوامل نشأة هذا المصطلح ومساهمة دوبرفسكي وحول اليوميات الشخصية ومدينة السيرة الذاتية ونضال لوجون ضمن الجمعية من أجل السيرة لذاتية وتفاصيل أخرى يدور هذا الحوار.
السيرة الذاتية مشروع حياة
– كيف وصلتم إلى هذا التخصص الدقيق الموصول بِنقد «السيرة الذاتية» وإنشاء نظرية في شأنها؟
في البداية قدمتُ إليه يحدوني ميل شخصي إلى هذا الشكل الخاص من أشكال الكتابة. إذ اكتشفتُ سريعا أنني غير قادر على اختراع قصص أو كتابة قصائد، فضلا على أنني كنتُ قد اعتدتُ إنشاء «يوميات» منذ الخامسة عشرة، أي أن أشكل حياتي وأن أتابعها في كل يوم بالعكوف على الكتابة أو التفكير فيها، هذا ما كنتُ مفلحًا فيه.
بيد أنّ يومياتي ذاتها لم تكن لتشفي غليلي. لقد كانت تفتقر إلى قوة التعليل، وسطوة الجاذبية؛ تلك التي لم تكن لتنبثق إلا من بناء متكامل. لقد كنتُ أرنُو إلى رؤية تأليفية تشمل حياتي، عسى أن أتمكن من أن أعبّر عن مشاكلها وأن أحل مغلقاتها.
هكذا كنتُ أحلم بـ«السيرة الذاتية» القائمة على الالتزام بالحقيقة، والمُعرضة عن التخييل، والملمّة بمجال ابتداع أشكال جديدة. بيد أنّ مسيرتي، باعتباري باحثا في السيرة الذاتية، لم تترسخ إلا بعد ذلك بوقت طويل، أي سنة 1969، حيث غدا لي من العمر إحدى وثلاثون سنة، بعد اضطلاعي بالتدريس في الجامعة خلال أعوام متعاقبة، واتجاهي نحو استهلال البحث في مواضيع أخرى، وانتباهي إلى أنه في إمكاني توحيد مَسَاريْ حياتي… بعقد بحوث مهنية حول محور تولّهي الشخصي!
وكان لذلك قادحان إثنان، أولهما ثورةُ مايو التي عدّلت معابر التخصص الجامعي، فلم يعد المرء مكرهًا على إعداد أطروحة، إنما صار في الإمكان تولّي النشر الحر، مع البحث عن اعتراف المؤسسة بالبحوث المنشورة بعد ذلك. وثانيهما صدفة المطالبة بشغل، حيثُ اقترحت عليّ إحدى المَوْسُوعات أن أسهم في مؤلَّفِهَا حول «الأدب» المقسم تبعا «للأجناس». وكان هنالك الرواية، والشعر، والمسرح، البحوث الخ. بيد انّ «السيرة الذاتية» لم تكن قد حظيت بعد بمصلح خاص، فكانت مجرد نشاطٍ ثانويٍّ على هامش الأدب.
وبما انّ السياق كان يقتضي الخوض في الأدب العالمي، فقد اخترتُ أن أمضي سنة كاملة في تلافي عدم درايتي بالاطلاع على سِيَر ذاتية ألمانية، وإنجليزية، وأمريكية، وإسبانية، وروسية، وصينية مترجمة، كما حرصتُ على استكمال معرفتي بالسير الذاتية الفرنسية.
فمكنني هذا من الانتباه إلى وجود نقد أدبي قديم ومُهمّ يعالجُ السيرة الذاتية في الإنجليزية والألمانية، بينما لا يوجد في الفرنسية شيء يُذكر! بيد أنّ كارثة ما قد حلّت بي بعد عام واحد من ذلك، تتمثل في تغيير صيغة الموسوعة، وإقبال منظميها على مكافأتي على الفصل الذي أعددتُ دون نشره!
هكذا غدت هذه الكارثة بمثابة الصدفة الحسنة بالنسبة إليّ! وإنّي لآسف اليوم على استهلال أعمالي في ذلك الوقت بإعداد مختارات شَاقة من الأدب العالمي. لذلك عدتُ حينها إلى المجال الذي أعرفه أكثر من سواه، وأزمعتُ أن أتناول السيرة الذاتية الفرنسية، أي أزمعتُ أن أعكف على الكتاب الجامع الذي كنتُ أفتقر إليه حينها لإعداد مقالتي.
وكانت السلسلة الجامعية الموسومة بحرف «U» [إشارة إلى لفظ «جامعي»] لدى أرماند كولان، تنشر دراسات أحادية خاصة بالأجناس. ولم تتضمن أي سفر يبحث في «لسيرة الذاتية». فأعددتُ تخطيط كتابي الأول، وتم قبوله، ثم رأى النور سنة 1971: «لسيرة الذاتية في فرنسا».
m كيف تمَّ قبول هذا المصنف الذي يعالج جِنسًا يعتبره النقاد ثانويا بالنسبة إلى الرواية والشعر؟
لعمري إنّ هذا جيد جدا. ذلك أنّ الرواية والشعر «شخصيات» بالغة السطوة، إلى درجة أنها لا تنشغل ببروز منافس ثانوي، كان قد سايرها منذ وقت طويل! بيد ان التماس إجابة على سؤالكم يقتضي النظر في أعمالي منذ سنة 1975 بصفة إجمالية.
فعلى إثر المشهد الشامل الذي قدمته «السيرة الذاتية في فرنسا» درستُ نصوصا بالغة التبايُن [روسو، ستندال، جيد، سارتر، ليريس] للتدليل على أنّ الالتزام «لسير ذاتي» يُمكن أن يكون محفوفًا بأنماط تعبير مخْتلفة [فلا توجد أشكال مقننة، إذ تبقَى السيرة الذاتية حقلا للتعبير المفتوح].
لذلك درستُ أيضًا من زاوية لسانية [وباستعمال الذرائعية ونظرية التقبل] نفس الالتزام. وذلك في بحث نُشر أولاً في مجلة الانشائية [Poétique] سنة 1973 في مفتتح مصنفي «لميثاق السير ذاتي»، وهو من أفضل كتبي قراءةً [أو أفضلها مَبيعًا على الأقَلّ، وهو الوحيد اليوم المنشور في سلسلة كتاب الجيب].
وبما أنّ بحثي قد انطلق من تعريف السيرة الذاتية [تعريفًا كلاسيكيا، كان يمثل نقطة انطلاق فعلية بالنسبة إلي] فلقد كنتُ أبدو نظير قاضٍ متزمت بَعْضَ الشيء! رغم أنّ منهجي كان معاكسا تماما، فقد كان منهج مُحلل مُرهف الحس عارفٍ بتحولات التاريخ.
ولقد شملت ردود الفعل هذا الجهد بكامله؛ أما في ما يتعلق بالرواية فالأمر أقربُ إلى التمادي… منه إلى ردّ الفعل. فلقد كان سارج دوبروفسكي Serge Doubrovsky -بنشره «روايته» التي تحمل اسم» «الابن» [أو خيوط]- قد استعمل عبارة «تخييل ذاتي» للإشارة إلى ممارسات وُسطى بين الرواية والسيرة الذاتية التي كانت دراستي التحليلية تتيح تناول تقاطعاتها العديدة والمختلفة.
بيد أن ردود الفعل الحادة قد تأتت من جانب الايديولوجيا، فكنّا إزاء رَدّي فعل متعاكسين… مما يوحي بأنني واقف في الوسط تماما!
أكثر الرّدُود حدة صدرت عن جورج غوسدورف George Gusdorf الذي كنتُ شديد الإعجاب بعمله [شروط السيرة الذاتية وحدودها، 1956]، والذي لم يتحمل قلة احتفائي بأصول ممارسة السيرة الذاتية [ذات الطابع الديني] واعتباري كل ما سبق «عترافات» روسو مجرد «ما قبل تاريخ»! والحق أنني قد اقترفتُ خطيئة فَهْم أولى جُمَلِ «لاعترافات» فهمًا حرفيًا: «أُعِدُّ عملاً لا نظير له!».
اجتهد جورج غوسدورف للبرهنة على جهلي، في كتابه الضخم المنشور في جزءين، والموسوم بـ«خط حياة»، فأكد أنني قد كنتُ «غير سوي من الناحية الدينية»، ويُمكن أن يجعلني هذا أبدو عكسيا «غير سوي من الناحية السياسية» في عيون نقاد آخرين، أخص منهم بالذكر النقاد الأمريكيين الذي كانوا قد آخذوني على الاحتفاء [إضافة إلى الرفع من شأن روسو] بنموذج أبيض، وذكر، وغربي، من نماذج السيرة الذاتية، وبالإعراض الأعمى عن الحقائق، وهو أمر مماثل لبنود إعلان الاستقلال الأمريكي التي كانت تُعلي من شأن المساواة بين الناس…دون اعتبار جهود الآخرين!
… فقد تمت مؤاخذة «حلف السيرة الذاتية» للجانب الشكلاني الذي درج على إهمال اشكالات الجنس والنوع والطبقة الاجتماعية، واندهش النقاد من إقبالي في كتاب سنة 1975 على تحليل أربعة نصوص رجالية [روسو، جيد، سارتر، ليريس] دون النظر في نص نسوي واحد!
والحقُّ أنني قد ملتُ إلى الأخذ بجميع هذه الانتقادات التي مكنتني كلها من التعرف على موقعي! وللإجابة على استفساركم أعتقد أنّ بحوثي كانت قد قُبلت سنة 71/1975 قبولاً حسنًا في فرنسا، في الأوساط المدرسية والجامعية على وجه خاص، حتى لكأنها كانت تُضفي شرعية جديدة على نصوص قد لبثت حتى ذلك الحين خارج «الناموس الأكاديمي» رغم أنّ التلاميذ والطلبة كانوا معجبين بها، وكانت تُوفر آليات فكرية تمكن من الإبحار في مجال ضبابي معقد.
تجلّى هذا منذ منتهى الثمانيات بظهور «السيرة الذاتية» في برامج بعض المناظرات، ثم في برنامج التعليم الثانوي، ولا ريب أنّ أعمالي لا تمثل علة فعلية لذلك… بيد أنها كانت قد واكبت هذه المسيرة بلا شك.
الميثاق السيرذاتي ونشأة التخييل الذاتي
m ألم يُمثل «الميثاق السير ذاتي» مادة استفهامات شتّى، خاصة فيما يتصل بـ«المربع الخالي» الذي أثار رغبة سارج دوبروفسكي؟
ليس هذا ضربًا من النقد، إنما هو مغامرة مثيرة لم أنتبه إليها. فبعد نشر سارج دوبروفسكي «روايته» «لإبن»/«خيوط!» سنة 1977 كان قد كاتبني للتعبير عن الإلهام الذي استقاه سنة 1973 من اللوحة ذات المدخل المزدوج، وذات المربعات التسعةحيثٌ زاوجتُ بين مقياسين، مقياس الميثاق السير ذاتي [أو غير المحدد، أو القصصي] واسم الراوي [المندغم مع اسم الكاتب] أو غير المحدد، والمختلف عن اسم الكاتب.
كنتُ أقول إنه في الإمكان الخروج باستنتاجات مهمة رغم أنني لم أظفر بأمثلة على التقاطع بين «الميثاق السردي/والإسم المطابق لاسم الكاتب». فقد كنتُ غير مُوفَّقٍ في اعتبار أنّ المربع كان فارغًا، وأنّ هنالك عددًا من السوابق في هذا السياق رغم كمون السبب في قيمة النتائج… على اعتبار أنّ سارج دوبروفسكي قد اختار هذا النظام لكتابه «الابن» [أو خيوط]، ولكتبه اللاحقة.
وذلك بإطلاق مصطلح «تخييل ذاتي» على التركيبة الخاصة جدا التي تمكّن من إعدادها، والمتمثلة في اعتماد اسمه الحقيقي، وضمان صحة المعلومات المقدمة، والتحرر في مجال رصف الأساليب المراوغة، واعتبارها نمطًا قافزًا فوق الألفاظ!
إننا مع دوبرفسكي إزاء شعر جمّ، و«توضيب مُلائم»، رغم ندرة العثور على دلالات الإبداع الحق! فهو لا يجيد السباحة بعيدًا عن ذاته. ويبدو أنّ خلق المصطلح العام «تخييل ذاتي» يتماشى بلا شك مع حاجة أكيدة في الحقل الأدبي الفرنسي في عهده، خاصة أن هنالك من استحوذ عليه.
نخص منهم بالذكر فانسان كولونا Vincent Colonna الذي أخذ مصطلح تخييل مأخذ الجد… فوسع مفهوم «لتخييل الذاتي» وجعله يشمل حيواتٍ متخيلة أصلا… بيد أنها مُسندةٌ من قبل الكاتب إلى شخصية تحمل اسمها!
بين هذين القطبين انبثقت كل أنواع الدمج الممكنة، الخاضعة لشتّى الأخلاط الوسطى بين علامات السيرة الذاتية وممارسات التخييل.
على إثر ذلك تمت استساغةُ المصطلح من قبل رجال الصحافة، وشيئا فشيئا استُعمل «التخييل الذاتي» للدلالة على المجال الأوسط القابع بين «السيرة الذاتية» والعمل التخييلي. فنشأ من ثمة خلط نظري لاشك في جدواه بالنسبة إلى الإبداع.
فما هو الفرقُ بين «التخييل الذاتي» وما كُنا نُلقبه بـ«قصة سير ذاتية»؟ إن واحدًا من الأصدقاء الإسبان، ممن نشروا كتابًا حول هذا الموضوع يحمل عنوانًا بديعًا: «الميثاق الغامض»!. قد رغب في أن يوحي بأن الرواية «السير ذاتية» كانت تمثل أسلوبًا محرجًا يصحبه إحساس بالخجل حيث «الأنا» ليس محبوبًا كثيرا… بينما نلاحظ أن «التخييل الذاتي» يُطالبُ بهذا الحق، ويُعيدُ السجال في شأن الايمان بذات مكتملة ومتناسقة، ويفتتح أمامها سبيلا أوفر حرية تمرّ بالتخييل وتُفضي إلى «عدم الثبات» بالنسبة إلى المحتوى، وإلى «الاختراع» بالنسبة إلى الشكل!
ألسنا هنا إزاء تجربة دينامية تُغري بالمتابعة؟ خاصة انّ هنالك ندوة تُعقد في سيريزي لاسال Cerisy La-salle تجمع بين عدد من الكتاب القائلين بـ«التخييل الذاتي» وعدد من النقاد الذين انكبوا على دراسته.
وسوف أشارك في هذا اللقاء بصفتي مستمعا، لا مساهما، ذلك انني قد بقيتُ في مجال السلوك الشخصي متعلقا بالمجهود الرامي إلى الإمساك بالحقيقة في أعماق أي تخييل تلقائي ولا ريب أنّ هذا الأمر يقوم على ضرب من السذاجة، بيد أنّه لا يختلف في ذلك عن الموقف المعاكس!
m ألا ينبع الاختلافُ بين «التخييل الذاتي» و«السيرة الذاتية»، مثلما لاحظ البعضُ من أنّ الأولى شعبية وديمقراطية، في إمكان أي كان أن يمارسها، بينما تلبثُ الثانية حكرًا على المشاهير؟
أنا أرى عكس ذلك! لقد أثبت سارج دوبروفسكي فعلا، على صفحة الغلاف الرابعة من كتابه «الإبن» [خيوط]» ما يلي: «سيرة ذاتية»؟ كلا… إنها منزلة خاصة بعظماء هذا العالم في آخر أطوار حياتهم، وفي أسلوب بهي رائق، إنها «تخييل» لأحداث واقعية جدا، إذا أردنا… فهي «تخييل ذاتي»…!
إنّ سارج دوبروفسكي يُعلن تواضعه بلا شك، لكنه يفعل ذلك بكثير من قلة المهارة.
فهو يخلط بين السيرة الذاتية ذلك الجنس الديمقراطي والشعبي بلا منازع، و«المذكرات»، ذلك الجنس «لتقليدي» الذي يمارسه أشخاص ذوو حيثيات عمومية مهمة قادرون على تقديم شهادتهم لتبرير عملهم.
ولا جدال في أن «التخييل الذاتي» يبقى وقفًا على «عظماء هذا العالم»، أو وقفا على صنف بعينه من أولئك الذين يُقِّدرون أنهم من «الكُتاب»، ويستشعرون اختلافًا بالنسبة إلى الناس الذين يكتبون بكيفية معهودة في «أسلوب جميل» دون أن يكونوا حقا، مثلهم، قد توفقوا في ابتداع شكل جديد.
انّ «التخييل الذاتي» ممارس خاصة من قبل «كتاب» قد نُشرت أعمالهم، أو يأملون في أن تُنشر؛ أي من قبل أقلية، أو «رهط» من النخبة، أما «السيرة الذاتية»، تبعا لرأي ألبار تيبوداي التهجيني فهي: ««فن» غير الفنانين، أو «رواية» غير الروائيين». ههنا تكمن عظمتها!
إنها تحدث دون تقديم، بيد أنها ليست دون متطلبات. ومن أخطاء زمننا، فيما أرى، أن نخلط بين «الفن» و«التخييل»! ففي الإمكان ابتداع أشكال جديدة ضمن حقل الحقيقة. أما الديمقراطية فهي موصولة بالسيرة الذاتية أكثر من سواها، في ذلك الحقل الذي نطلق عليه اليوم «لكتابات العادية»، أي في مجال من الكتابة التقريبية الهادفة إلى التبادل، حيث تلتقِي تجارب متباينة دون أن يبحث أي منها عن الغلبة.
بيد أنّه يوجد ما هو ديمقراطي أكثر من «السيرة الذاتية»، إنه «ليوميات». ولعلكم تتعجبون لهذا الجواب! حيث إنكم قد خاطبهم صاحب كتاب «الميثاق السير ذاتي» المُنظر، مؤسس «الجمعية… من أجل السيرة الذاتية» (A.P.A)، المناضل، هذا الذي يُجيبكم… بيد أن الرجل ذاته مستعدّ للتبرير!
m هل «السيرة الذاتية» الخالصة إلا ذلك «النوع» المستحيل؟ وهل يفرض «التخييل» أو «الخيال» نفسه على السيرة الذاتية دائما»
يؤدي بنا استفهامكم إلى جوهر الجدل. وهو جدل لا يُمكن لأي كان أن يكون فيه مصيبا أم مخطئا! وهل هذا في بعض وجوهه إلا من قبيل ما يسميه «كانط» [Kant] «Antinomie» «مفارقة»؟ لهذا يتسنّى لي أن أرتب إجابتي بالاستناد إلى ترددك المعجمي! تقول: «لمخيال أو الوهم»، كأنما هما شيء واحد!
كَلاّ، «فالمخيال» لا يعدو أن يكون ضربًا من التوهم الساذج، أو قُل التوهم الطبيعي، أما «التوهم» فهو «المخيال» وقد تحقق!
هل لي أن أزيد الأمر تفسيرًا؟ فحياتنا لا تعدو أن تكون من قبيل «الخيال»، لكن هذا الخيال هو واقعنا، ولنا أن نحاول وصفه بإخلاص ودقة، في مستوى الدرجة الأولى، وهو ما يُمكُن أن يكون قاعدة لعمل تحليلي نقدي، يصحبه جهد بطولي يصبو إلى حقيقة مستحيلة: إن إيديولوجيا النزاهة (وهي نزاهتي في واقع الحال) تمتلك صيغة ساذجة (فأنا أعرف حياتي، وأُقبل على توصيفها كما هي)… وصيغة أخرى معقدة (حيث أمضي في بحثي عن ذاتي بأن أجعل من مخيالي ما أمكنني ذلك موضوع وصف واضح جلي.)
ويوجد من ناحية أخرى أولئك الذين يعتقدون أنه في الإمكان أن نعرف هذا «المخيال» بكيفية أوضح بالانسياق مع اندفاعه وليس بمُعارضته، أي بتحمل حراكه الخلاق وتطويره، على اعتبار أنّ حياتنا من قبيل التخييل، وأننا لا نملك حقيقة أخرى!
فأولئك الذين يندفعون ضد الرياح نلقبهم بـ«الرياح القائمة» أما أولئك الذين ينساقون معها، فهم «لرياح الخلفية»! ولا شك أننا هنا إزاء وضعيتين متقابلتين، بيد انهما يشتركان في انه يستحيل -فيهما معًا بلوغ النهاية، بسبب خشية خوف.
في الواقع فإن الجميع مترددون، مجارون للريح، بيد أنّ البعض (أولئك النزهاء قريبون من مصدر الريح) أما الآخرون فبعيدون! وهل الجميع في نهاية المطاف إلا ممن يُمكن وصفهم بالسذاجة، بسبب اعتبار ذلك شرطا من شروط الحياة، رغم تخبط كثيرين في هذا الفخ، واعتبارهم أولئك الذين اختاروا المنفذ المعاكس أناسًا سذّجًا بسطاء!
إني أعتذر عن هذه «الفلسفة» التبسيطية، ولعلني أُدعى إلى أنّ أضيف إليها تمييزًا بين ما هو متصل بالحاضر وما هو متصل بالماضي.
إن حركة بناء هويتنا، هذه المتوهّمة،تصطدم بعراقيل عديدة في الحاضر، في مستوى الممارسة المباشرة للحياة الفعلية أكثر من تلك الموصولة بإعادة بناء الماضي، هذه التي تبدو أكثر طواعية، وأكثر لينًا… وغير مؤهلة للمعارضة (رغم إمكان وجود ارتداد الحقيقة بكيفية جديدة أحيانا).
فالناس يغيرون ماضيهم مثلما نغير قمصاننا! ألم يعمد بول ريكور Paul Ricœur إلى رسم هذا الحراك الدائم المفضي إلى اندماج الذات والآخر في صلب هويتنا بلفظ «هوية».
«فالهوية» ذاتُ إيقاع متحول لأن الحياة تقتضِي قدرة على التأقلم المستمر، والحاضر أكثر ضغطًا، وكذا الأوهام التي تعمره بكيفية حادة.
هكذا نغدو إزاء وضعيتين اثنتين في كتابة الذات: فبينما تمثل اليوميات نوعًا محدودًا، رغم انفتاحه على الآتي غير المعلوم، واعترافه بحدوده وإبحاره محاذاة الحقيقة، فإن «السيرة الذاتية» يُمكن أن تنساق بسهوله أكبر مع إغراءات الخيال، أما «لتخييل الذاتي» فأمر آخر…
اسم العلم والهوية السردية
m في إجاباتكم تحدثتم مرات عديدة عن «أسماء الأعلام»، فأحطتموها بأهمية كبرى يمكن أن تجعل «السيرة الذاتية» تعمد على «الأنا»… بكل بساطة!
كلا، لا إمكان لذلك إطلاقا. فمن هو «الأنا»؟ إنه ذلك الذي يكون بصدد الكلام. فهو يتماهى- في موقف مباشر للتوصل الشفوي- مع جسد مخاطبي ووجهه، حتى حين أكون غير عارف اسمه!
وما ان تغدو المُشافهة غير مباشرة، في الهاتف مثلا، وباستثناء المرات التي نكون فيها عارفين بصوت المتكلم، فإننا نكون في حاجة إلى اسم! ويتم الإدراك بالجسم والوجه والصوت فنحتاج إلى اسم نلتمس به هويتها. لا خلاص من ذلك. رغم انه من البديهي أن نتناساه!
أنا ذاتي في كتابي الأول، «السيرة الذاتية في فرنسا»، كنت قد ذهلت عن ذلك، فلم أنعطف على «سم العلم». والغالب أنني قد حررتُ بحثي في شأن «الميثاق السير ذاتي» لمعالجة هذا الخطأ. ولعل ذلك قد ساهم في مواساتي تقريبا، ومكنني من أن أكون في كنف صحبة طيبة، إذ كان عالم اللسان الكبير آميل بنفينست Emile Benveniste قد غضّ هو أيضا من قيمة فئة «أسماء العلم»، وذلك في تحليله للتلفظ. «الأنا» لا تختلف عن عملة الورق الائتمانية، التي تتأتى قيمتها مما تغنمه من رصيد الذهب الموصول بأسماء العلم.
فاسم العلم هو الذي يُكسبنا هويتنا، ليس في عيون الآخرين فحسب… إنما بتعويض جسدنَا أولاً، ثم في نظرنا أيضا، على كر الحقب.
فالهوية السردية التي يتحدث عنها بُول ريكور Paul Riceour لا يُمكن أن تتخلى عن الهوية الاسمية، إنما تتكفل بإكسابها مضمونا. ألم يكن سيورون Cioran يقول: «على إثر بعض التجارب، ينبغي تغيير الإسم، حيث لم يعد المرء هو ذاته!»؟
«فـأنت» لست «أنا»، أيها العزيز واضع الأسئلة الذي لم ألتق به البتة، ولم أره، ولم أنصت إليه، والذي لا أعرفه إلا من خلال شبكة الأنترنيت: أنت بالنسبة إليَّ «كمال الرياحي»، مثلما توقع جميع رسائلك عن طريق الأنترنيت. وكنت قد تأكدتُ بالإبحار في غوغل Goofe أنك كاتبٌ تونسي شاب، قد نشر رواية «المشرط» سنة 2006… إلخ.
وأنا أيضا لست أكثر صلة «بأنا» منك أنت، أنا لستُ إلا «فيليب لوجون» Philippe Lejeune الذي تلقون عليه استفهاماتكم بعد قراءة ما نشر من مصنفات. ولا شك أنّ إسمي معقد وغير مستقر، مثل جميع الأسماء. فأنا استعمل لمناداة أهلي عددًا من «لكنَى» التي لا يمكن أن أعلن عنها، من ذلك القبيل الذي يتعذر كشفه أمام العموم.
ولقد صادف أن نشرت مقالات تحت أسماء المستعارة [ولم يكشف أي كان أسلوبي الذي يتعذر على التقليد]، وكان لي الكثير من الأسماء المتماثلة، بعضها معروف مثل لاعب بيانُو متخصص في الجاز، أو راكب جياد سباق، أو واضع رسوم متحركة، أو رسام صوفي.
وكنتُ في الآونة الأخيرة قد قدمتُ مداخلة في معهد ثانوي، فَتَمّ الإعلان عنها بمعلقة مشفوعة «بصورتي»، إنما الطريفُُ أن الناس لم ينتبهوا إلى أنها صورة الرسام الصوفي! وبما أنه قد بلغ عامه الرابع والثمانين، بينما لم أتجاوز التاسعة والستين، فإن الأمر قد أضناني كثيرا، قبل أن تشملني عاصفةٌ من الضحك والاستفهام: «وإذا ما مات قبلي؟ أي موضوع للتأمل هذا؟!».
m لكن ما رأيكم في السير الذاتية المكتوبة تحت أسماء مستعارة؟
ينبغي التثبت، فإذا كان إسم الكاتب مماثلا لاسم الراوي أو الشخصية، ففي الإمكان تقبل الكتاب على أنه سيرة ذاتية، إذ لم يُلاحَظ وجود تمييز داخلي. ولن يتغير شيء إذا ما كان هذا الإسم المنسوب إلى الكاتب إسما مستعارًا أو إسما مثبتا في السجلات المدنية. ومن في إمكانه أن يؤكد لي أن «كمال الرياحي» هو اسمك الفعلي؟ هو إسم كاتب «رواية المشرط»! وهب أنني قد لاحظتُ الآن أن هذا الكاتب قد نشر كتابا جديدا نعته بـ«سيرة ذاتية»، حينها سأتولى قراءته باعتباره كذلك.
ومن ناحية أخرى فإن أمر الكُتاب الذين عُرفوا في الغالب تحت كنية أو لقب بعينه لا يُمثل سرًّا، إنما يمثل إسما «حرفيا»، وهم يروون في سيرتهم الذاتية كيف اختاروا ذلك اللقب. أما إذا ما نشرت، بإمضائك السيرة الذاتية الخاصة بشخصية تحمل اسما يختلف عن اسمك الشخصي فإنك تدخل في فضاء الرواية (التي يُمكن نعتُها بالسيرة ذاتية إذا ما أوحيت لقرائك أن السيرة الذاتية المختلقَة ليست بعيدة عن حياتك الواقعية تمام البعد.
أما إذا ما أقبلت على نشر سيرة ذاتية لشخص مجهول تحت اسم مؤلف جديد تماما ومختلف، دون أية صلة مرجعية بـ«كمال الرياحي» [مهما يَكن على صلة شبه بك أو دون صلة شبه…] فإنك تدخل ألعابًا مذهلة لا مثيل لها إلا نادرًا! فمن السهل ابتداع شخصية، وأقل من ذلك ابتداع كاتب [مثلما فعل في فرنسا رومان غاري Roman Gary الذي اختلق آميل آجار Emile Ajar] أو مثلما فعل كتاب عديدون [مثلما فعل في البرتغال فرنندُو بيسوا Fernando Pessoa]. فهل أنت مستعد للتخلي عن اسمك!؟
مدينة السيرة الذاتية
m ما هي مهام «الجمعية في سبيل السيرة الذاتية»، وما هو مجال عملها؟ هل ينتمي أعضاؤها إلى فئة الكتاب أم النقاد؟
أعضاء الجمعية هم الأشخاص الذين يدفعون اشتراكاتهم! ولا يوجد أي شرط للانتماء. فلقد قرر 750 شخْصًا دعم أعمال الجمعية أو المساهمة فيها. وهم في غالبيتهم أشخاص عاديون وغير معروفين، قد أعلنوا تعلقهم بكتابة السيرة الذاتية.
إن لهذه الجمعية، التي أسست سنة 1992 غايتين. تتمثل الأولى في تقبل كل الكتابات السير ذاتية التي يُعهد بها إليها، لقراءتها وإحصائها والمحافظة عليها، [حكايات/جرائد/رسائل]. وهي في الغالب تتسم بأنها غير معروفة.
بانتهاز مناسبات مقالات الصحف، والبرامج الإذاعية، والندوات، نتولى التعريف بعرض هذا القبول المدعوم بشبكة «الاتصال المباشر». لذلك كانت النتيجة أننا نحصل كل سنة على حوالي 180 إيداعًا [الإيداع يُمكن أن يتراوح بين نص في عشر صفحات، أو مذكرات في 64 كراسا].
ولقد عثرنا على مدينة صغيرة غير بعيدة عن ليون Lyon، تعرف بـ أمبريو-آن-بوجاي Ambérieu- en- bugey أزمعت أن تعيننا بوضع مكتبتها البلدية العامة تحت تصرفنا: إذ نفتقر إلى محلات أرشيف لتخزين الـ2600 من العطايا التي حصلنا عليها، كما نحتاج إلى أعمال الرقن، وإلى قاعة مطالعة للباحثين والراغبين في الاطلاع الذي يُقبلون على قراءة نصوصنا.
هكذا تغدو أمبريو Ambérieu «مدينة السيرة الذاتية»، هذا ما تشير إليه معلقة إعلان بارزة لدى مدخل المدينة. وتتولى إدارتنا توزيع النصوص الوافدة على خمس «مجموعات قراءة» (كل منها متكونة من عشرة أشخاص، يعملون كامل السنة في مجال قراءة الكتب «بأسلوب ودّي».
فليس من أهدافنا الوصول إلى أحكام جمالية، أو إصدار مواقف أخلاقية في شأن النصوص، أو غربلتها. فنحن نقبل كل ما يرد علينا، بالشكل الذي يرد به، إذ نجعل من أنفسنا «متقبلين وديين»! فنُحرر تلاخيص وجذاذات قراءة مفصلة حول كل نص، نتولى نشرها مرة كل سنتين، مشفوعة بجدول إحصائي، ضمن مجلدات «الفهرست المبوب» الموسوم «بالذاكرة الكبرى»، والذي ظهرت منه سبعة مجلدات حتى الآن.
انطلاقا من هذه المجلدات يتمكن الباحثون من الاشتغال. وهم في الغالب مؤرخون أو علماء اجتماع؛ وكثيرا ما يقدم هؤلاء دراسات… بل إني أذكر أنه قد تمّ إعداد «رسالة دكتوراه حول التعبير عن عاطفة الحب»، أنجزتها مؤرخة بالاعتماد على 240 نصا من نصوص رصيدنا.
إننا إزاء كنز حقيقي، مصنف شامل مدهش حول الحياة المعاصرة (ذلك أن أغلب النصوص تعود إلى القرنين العشرين، والواحد والعشرين). ففي فرنسا يوجد أشخاص كثيرون، غير معروفين، متمسكون بإعداد يومياتهم، أو كتابة حكايات لأبنائهم، أي للقادمين بعدهم، دون أي طموح أدبي، كل ما هنالك أنّ لهم رغبة في التواصل، والقدرة على البقاء.
لهذا فإننا بالنسبة إليهم نؤدي وظيفة حافظ السر [إذ نتولى السهر على أسئلة مباشرة مع «أصحاب الهِبات»] والقائم بالتأمين ضدّ الموت [ذلك أن أرشيفاتنا، التي تولينا إيداعها في مكان عام قد اكتسبت كل إمكانات الدوام والاستمرار].
وكنتُ أعلاه قد لاحظتُ أن «الجمعية في سبيل السيرة الذاتية» تهدف إلى غايتين. لهذا فالغاية الثانية تتمثل في السماح باللقيا بين الأفراد المولعين بالسيرة الذاتية. فذلك يُمكّنُ من تكوين مجموعات في عدة أماكن من فرنسا، تعنني بالمطالعة أو التفكير، أو الكتابة.
ونتولى تنظيم اجتماعات عامة، وموائد مستديرة، ونهايات أسابيع للالتقاء، وعرض الأعمال، كما ننشِئُ مشاريع مختلفة مع «التربية الوطنية»، والمكتبة الوطنية الفرنسية، وإذاعة فرنسا، إلخ.
كل هذه الأعمال الدائرة في مجال التنشيط الثقافي نعتني بها على صفحات مجلتنا الدورية «خطأ روسو» التي تصدر ثلاث مرات في السنة (والتي تطبع في 1000 نسخة)؟ ويتمحور كل عدد من أعدادها حول «ملف» مركزي.
قصد تمكينكم من فكرة عامة… هذه هي القضايا التي اعتنينا بها في الأعداد الستة الفارطة: «الأُسر/الصور الذاتية/ التعمير/ أنا والانترنيت/ أنواع الأغذية/ البدايات…
الميثاق السيرذاتي مرة أخرى
m لقد أطلقتم على مصنفكم «علامات حياة» (2005) عنوانًا ثانيا هو «الميثاق السير ذاتي2». فهل يمثل مواصلة لكتابكم الأول، أم إنه يحتوي على عناصر جديدة؟
1975-2005: يحدث الأمر «بعد ثلاثين سنة»! إنّي لأرجو أن يكون هذا الكتاب في جدّ الكتاب الأول، إنما هو مباشر أكثر، ذو مقاربة سهلة. فهو كتاب… «سير ذاتي». في الفصل الأول أُُنجز تاريخ عملي منذ بداياته، أوجه النقد إلى أخطاء الشباب التي اقترفتُ في «السيرة الذاتية في فرنسا»(1977)، أُعيد صياغة جهدي النظري منذ حلف سنة 1975 الذي بقيت وفيا له، بأسلوب أكثر بساطة.
أفسر كيف قمتُ بتوسيع أفقي حتى السيرة الذاتية العادية، ثم حتى اليوميات الشخصية، أحلل علاقتي بالتاريخ والمؤرخين، أروي مغامرة الجمعية في سبيل «السيرة الذاتية». أفسر كيف قمتُ بتوسيع أفقي حتى السيرة الذاتية العادية، ثم حتى اليوميات الشخصية، أحال علاقتي بالتاريخ والمؤرخين، أروي مغامرة الجمعية في سبيل «السيرة الذاتية» أفسر لماذا أحب جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau، أفسر في فصل يحمل عنوان «الوكوليس يتناول العشاء عند لوكوليس» كيف بدأتُ كتابة يومياتي الشخصية في الحادي عشر من أكتوبر سنة 1953، حين كنتُ في الخامسة عشرة من عمري. وكان ذلك بمثابة محاولات سريعة تصبو إلى التدليل على الكيفية التي تتواظف بها التزامات حياة، وعلى تطور عمل نظري.
ولا أعتقد أنني قد تغيرتُ، إنما أرجو أن أكون قد وسعتُ من المشاهد التي أرنُو إليها، أن أكون قد جعلتها أكثر لينا، أن أكون قد أغنيتها. وعلى القارئ أن يصدر حكمه. فبفضل ما كشفتُ له من خفايا الواقع الإنساني المتواري خلف النظرية… أرغبُ في أن أجعلهُ يُحس بالسكينة، وأدفعه بدوره إلى الحراك، وأُمَكِّنَه من أن يعوضني.
m هل اطلعتم على الترجمة العربية، التي أنجزها عمر الحلّي، لفصلين من «حلفكم»؟ فقد لقيت هذه الترجمة نجاحا كبيرا. ثم ما معنى هذا النجاح بالنسبة إليكم!
إنّ خيار عمر الحلي كان موفقا، فقد تناول من الكتاب فصلين نظريين، الأول والأخير، وتغاضى عن الفصول الموصولة بالتقاليد الفرنسية. يُمتعني هذا النجاح الذي تشيرون إليه. ولاشك أنه يعود إلى الطابع المجرد لمقاربتي القائمة على البرغماتية، وهو معقد ومتشعب، كما يعود إلى علامات الطريق، والميل إلى التعرف على جهات الشمال والجنوب! فلكل حضارة نصوصها السير ذاتية، ذات الاختلاف النسبي، ولها وظائفها الاجتماعية، وأنماط مواضيعها،ذلك أنّ درجات الخصوصية تختلف من فضاء إلى آخر، بينما يُعطي التحليل اللساني، ونظرية البدائل (التي يتناولها الفصل الأخير) منهجا لتفهم الطريقة التي يُولّد بها هذا الفعل آثاره، بإعلان اختلافه عن التخييل. فلقد لفت انتباهي (بل باغتني في البداية) أن أرى شيئا فشيئا نص «الميثاق السير ذاتي» مترجما إلى اثنتَيْ عشر لغة! فلو سعيتُ إلى فرض النمط الخاص بروسو على الكون بأسره فإن دراستي سوف تلبث سجينة المجال الفرنسي. فالتحليل قد مكنني من عزل عنصر «محدود»، لكنه عنصر كوني!
الكتابة عن الذات والتجربة الرقمية
m أنتم تنتمون إلى نُقاد نادرين يُثيرهم توزيع الأوراق من الجديد، هذه التقليعة الرقمية، فهل لكم أن تخوضوا معنا في نشاطكم في هذا الحقل؟
لا شك انّ اهتمامي بهذا «التوزيع الجديد للأوراق» موصول بذلك الموقف التحليلي. فلا وجود لنموذج ثابت للسيرة الذاتية: كل شيء تاريخي متحول. لا وجود لثبات (جزئي) إلا في مستوى الفصائل الأولية، أما العمل السير ذاتي فمنظومة مركبة من عناصر لا حصر لتنوعها. «الأنا»، النزاهة، الخصوصية، إلخ… تبدو قيما نسبية متحركة. ننتبه إلى ذلك كلما تلهينا بتنويع العناصر!
ونسأل هل في إمكان صورة ما، دون اللجوء إلى الكلام، أن تقول «أنا»؟ فكيف تَمكَّنَ التعبير الشخصي من النفاذ إلى عالم الصورة؟ لقد اعتنيتُ بتقليد السيرة الذاتية في الرسم، منذ عهد النهضة، وببروز السيرة الذاتية في السينما الوثائقية منذ سبعينات القرن الماضي.
الاستفهام ذاته يُثار في باب الصوت: وأنا الآن أشتغل على تاريخ الاستجواب الصحفي، والحوارات الإذاعية، والتاريخ الشفوي.. وهي كلها تمثل مواقف تتولى إضاءه الكتابة نفسها، بإبراز التعالقات التي يُمكن الاستناد إليها أيضا، رغم أنها تتولى اخفاءها في الغالب.
فوسائل الإعلام (الكتابة، الصوت، الصور… إلخ) ليست مجرد «وسائط» للتعبير عن «أنا» ثابت. بل قد يكون الأمر عكسيا، قد يكون «الأنا» نتاجا لوسائل التعبير هذه!
يتجلى ذلك في الأنترنت. إذ توليتُ دراسته في «لصحف على الشبكة» خلال سنة كاملة، بداية من أكتوبر 1999 حتى أكتوبر 2000، بلزوم مقعدي أمام الشاشة.
ومَثّل ذلك تحديا لي: إذْ كنتُ أبحث عن فهم مسألة لم تكن قط مما اعتدتُ الخوض فيه. فقد كنتُ حذرًا خلال اليومين الأولين والأيام الثلاثة الأولى، ثم اعتنقتُ هذه الشعائر الجديدة بسرعة، أي غدوتُ متفتّحا إزاء إمكان تقبلها. وكان ذلك مثيرًا جدا؟ فلقد تداخل كل شيء في علاقات الأنا بالآخر، المكان والزمان. فاندمجت الخصوصية بغتة بالعالم الواسع. وتيسر للمرء أن يعرض حياته، تحت اسم مستعار، على آخرين مجهولين، في إمكانهم أن يتولوا الإجابة والتعليق! وللمرة الأولى في تاريخ البشر غدا من الممكن ليوميات خاصة أن تُقرأ تباعًا حال كتابتها، دون انتظار مرور وقت على ذلك! وكان في الإمكان مسايرتها، يوما بعد يوم، ومقاسمة واضع اليوميات الحميمة عدم معرفته بالمستقبل، حيث يكون المتقبل معاصرًا لما يحياه شخص مجهول. وكان ذلك استثنائيا إذ كان يُمكن أن يوجد «مخبر» للملاحظة! ولم أكن حينها قد أدركتُ أبعاد الظاهرة إلا بصفة جزئية، حيث كان العالم لدى بداية ظاهرة عُظمى! فلم أكن سنة 1999 قد أحصيتُ إلا 69 مصنفا من جنس اليوميات معروضة على شبكة الأنترنيت. رغم أنه في الإمكان أن يكون بعض هذه الأعمال قد أفلت مني. فلا شك أن عددها محدود جدا… قياسًا بمئات ألاف المواقع التي يُمكن إحصاؤها اليوم!
فالإمكانات الواسعة، التي تسمح لأي كان، دون خبرات، وبالضغط على زر معين، بأن يُنشئ لنفسه موقعا شخصيا على الشبكة… لم تظهر عندنا إلا سنة 2002. حيث كانت لفظة موقع Blog مجهولة في فرنسا سنة 1989.
فلقد تابعتُ هذه الملاحظات بداية من أكتوبر 99 حتى ماي 2000، وكان نتاجها كتابي الموسوم بـ«شاشتي العزيزة» الذي صدر في أكتوبر 2000، وهو يبدو اليوم، سنة 2008 بمثابة وثيقة أركيولوجية.
وبما أنني كنتُ قد انتبهتُ إلى سرعة الحراك في هذا المجال فقد تابعتُ يوميات أخرى موصولة بمسألة تقبل كتابي، وبالأثر الذي كان يحدثه في أصحاب اليوميات الذين راقبتهم.
كان في حسباني أن أستهل كتابة يوميات لدى بداية كل أكتوبر من السنوات الموالية. لم أتعهد ذلك سنة 2001، ثم انتبهتُ إلى أنّ الأمر مختلف جدا عن تجربتي سنة 1999. فأقلعتُ… فقد كنتُ رائدًا سنة 1999، أما سنة 2003 فأنا مجرد مقلد تجاوزته الأحداث! «فالعولمة» لا تدرك المنتوج الصناعي والمبادلات التجارية، إنما التعبيرات الشخصية أيضا. رغم ذلك فإن هنالك جانبا يواصل المقاومة في هذا الحقل: تنوع اللغات والثقافات!
في إمكاننا أن نعتبر «الأنترنت» دافعا نحو التماثل وسورًا يحمي الجماعات في نفس الوقت، هكذا تزدهر فقاقيع لسانية كبرى في وقت واحد، وهي تجهل بعضها البعض! ألا تكون لنا فرصة جديدة أمام «أنا» الحضارات!؟
اليوميات الحميمة في الانترنت هل مازالت حميمة؟
m لكن… ألا يُوجد تناقض هَهُنَا؟ فهل لليوميات «لخاصة الحميمة» أن تحافظ على سماتها تلك، رغم تعاقب نشرها وإشاعة عرضها على مستعملي الانترنيت قاطبة!؟
لكن… في إمكان اليوميات ألا تكون «حميمة»! ويُمكن أن يتأتى ذلك عن محتواها، لا من كيفية نشرها! ولنا أن ننساق مع فكرة أنّ النشر الحيني يجرُّ قدرًا أكبر من الرقابة الذاتية! بيد أنه ينبغي أن نكون على بينة من وجود خُطوط حمراء للرقابة تبعا لفئات العمر، والانتماء الاجتماعي.
فالأحكام في شأن اختراق وازع الحياء، أو عدم التحفظ، تختلف من مجال إلى آخر. وما يتم اليوم في الأنترنيت، من ناحية أخرى، لا يختلف كثيرا عما حدث منذ وقت قصير في حقل الأدب! فقد أخذ بعض الكتاب، في فرنسا، يُقبلون على نشر «يومياتهم» في أسفار متعاقبة بعد انقضاء وقت قصير على تحريرها. فعل رونو كامو Renaud Gamus ذلك منذ عشرين سنة: إذ أصدر سنة 2007 يوميات سنة 2006. أما باسكال سافران Pascal Servan فلقد دأب منذ ثماني سنوات،على نشر يوميات السنة المنصرمة في جانفي من كل سنة.
فالأسفار المتعاقبة تسمح للكُتّاب بمراجعات شتّى وحذف مقاطع كاملة بحذر شديد. وقد غدا هذا البذخ الذي اختاره بعض الكتاب في متناول أيدي الجميع، فالنشر الحيني واليومي عبر الانترنيت، يحذف «سدادة الأمان» الموصولة بالمراجعة. فما يُنشر في كل يوم سرعان ما يصبح نهائيا، دون مدة للتفكير.
لا شك أن في هذا كثيرا من المخاطر، ولا شك انه في إمكاننا أن نلاحظ -رغم وجود يوميات غير متحفظة أو فاحشة- أنّ غالبية «المواقع» تتضمنُ يوميات يغلب عليها الحذر، وهي تعتني برصد تقلبات المزاج أو الأحداث الآنية، فهي ضربٌ من البحوث الشخصية أكثر من أن تكون بوحًا حميمًا. إنها من قبيل الملاطفات أو المحادثات القائمة على التبادل الاجتماعي. فهي تسمح لأصحابها بتأكيد مواهبهم، وجدة آرائهم أكثر من كشف خصوصياتهم. إنها ضربٌ جديد من السلوك الاجتماعي الذي يجعلنا إزاء نوع مستحدث من «ليوميات» بصدد الإنشاء!
إننا نُدعى إلى انتظار مرور بعض الوقت لتأمل التاريخ. فلقد اتخذت اليوميات في فرنسا، خلال القرن السابع عشر سبيلين: من ناحية اليوميات المخطوطة، وكانت في بداية أمرها جماعية (رصد التأريخ، كتب حكمة إلخ) ثم غدت شيئا فشيئا فردية، شخصية، أو حتى حميمة (منذ مستهل القرن الثامن عشر). ومن ناحية أخرى «اليوميات» المطبوعة (التي أصبحت يومية في فرنسيا منذ منتهى القرن الثامن عشر)… الذي دأب الناسُ فيه على نشر المعلومات والأفكار والآراء بين أفراد المجتمع.
أما ما يحدث اليوم بفضل معجزة «الواب» فيتمثل في هذين الفرعين، الذين كانا قد اختلفَا عن المحافظة على التسمية ذاتها، («اليوميات»). وأقبلا مجددًا على اللقيا، دون رصد أي ضغط اقتصادي، أو ضرورة انتاجية، على نشاط هذه الصحف. فاليوميات على الأنترنيت يُمكن أن تواصل وجودها، خلال سنوات، بفضل ثلاثة قراء، بل دون قراء أصلا! فذلك لا يسبب أذى لأي كان، بل يُمكن الجميع مع خطوط متساوية.
السيرة الذاتية المتحركة
m هل تُقرون بأن «السيرة الذاتية» لا تكتب إلا مرة واحدة خلال الحياة؟ ألا يُمكن اعتبارها قد كُتبت تبعا لموقف يُمكن أن يتغير؟
بلى! إنّ السيرة الذاتية تندرج ضمن إيقاع «الهندسة غير الثابتة»! إنها إعادة بناء منسجمة مع الحاضر. فإذا كانت حياتك قائمة على التواصل، وإذا كنت تتولى كتابتها في سن متأخرة فإنه قد يتراءى لك أنك بصدد كتابة الصيغة الوحيدة الحقيقية لحياتك…
أما إذا كانت حياتك تتطور باستمرار، وإذا ما توليت كتابتها مرات متعاقبة فلسوف تتأمل المشاهد خلفك، وتتولى تركيبها من جديد كي ينسجم مع تحولاتك!
وفي الإمكان ببساطة أن نفكر في أن نشر سيرة ذاتية يُمكن أن يحد من سرعة تطور الأفراد، إذ يبدو أنهم مكرهون على البقاء أوفياء بعض الشيء للصورة التي ابتدعوا حول أنفسهم. بيد أن هنالك حوادث مذهلة وذات دلالة. فجان بول سارتر Jean Paul Sartre مثلا،الذي روى ذكريات طفولته مرتين، بفارق زمني بلغ خمسة عشر سنة، وباستعمال معجم متناقض كليا… فقد قدم في فترة 1939/1940 في «دفاتر الحرب العجيبة» صورة ضاحكة فرحة، وأكد أنّ الدين لم يلعب أي دور في مشروع وجوده ككاتب، أما عند تحرير «الكلمات» بداية من سنة 1954، فقد قدم عن طفولته صورة قلقة مأساوية، جعل كل نجاحاته الطفولية تتحول إلى هزائم، وأكد أن العقيدة -التي كانت تنقصه- هي التي دفعته إلى الارتماء في أحضان الفن!
وكان بين الطورين قد كتب «ما هو الأدب؟» وغدا ماركسيا، وأخذت حياته شيئا فشيئا تُماثل أفكاره. وبما أن نص 39/40 لم يكن قد نُشر (لم يحدث ذلك إلا بعد موته) فقد كان يتمتع بحرية تامة، سمحت له دون حرج بأن يفعل ما فعل!
السيرة الذاتية، التي يبدو أنها تستحضر الماضي، تُقبل على قول الحاضر في واقع الحال، إلى درجة أن الصورة الأكثر مصداقية من صور حياة الفرد يُمكن أن تُمثل تعاقب السير الذاتية التي يُمكن أن يكون قد استطاع كتابتها في مراحل مختلفة… بشكل من الأشكال… فهي بمثابة يوميات سيرة الذاتية.
السيرة الذاتية والديكتاتورية
m هل في إمكان نوع السيرة الذاتية أن يحيا تحت نير نظام غير ديمقراطي؟ وهل له أن يزدهر في ظل أنظمة ديكتاتورية؟
بلى، بيد أنه في هذه الحالة مُكْرَهٌ على البقاء طيّ الكتمان، وعلى دخول «سياق المقاومة، وإمكان التسبب في مخاطر جمة لصاحبه، لاستناده إلى الرهان المتمثل في بزوغ الحقيقة، يوما ما! فاليوميات هي أكثر الأشكال ملاءمة لهذه المقاومة.
إن الكتابة اليومية في ظل حكم ديكتاتوري ذات وظيفتين: أولاهما آنية موصولة بحفاظ الكائن على هويته وبقيمه في ظل نظام يتوق إلى القضاء المبرم عليها، أما ثانيهما فيقوم على عدم السماح للمغالطة والنسيان بالغلبة. فالكتابة تبقَى نشاطا سريًا لوقت ما، أما إذا ما تم اكتشافها فالمرء يمكن أن يلقى حتفه! ولقد تمّ في الآونة الأخيرة نشر كتاب في فرنسا يجيب مباشرة على استفهامك: لهيلانة كاماراد Hélène Camarade، موسوم بـ«كتابات المقاومة». وهو يمثل اليوميات الحميمة تحت الرايخ الألماني الثالث (تولوز، مطابع جامعة ميرال 2007). ولك أن تستحضر ذكرى يوميات «معتقل فرصوفيا»، التي كانت قد دُفنت تحت الأرض، ثم بُعثت من جديد لتتمكن من الشهادة بدل أصحابها الهالكين.
ولا شك أن النماذج في هذا الباب لا يُمكن أن تُحصى، ولنا أن نقع عليها تحت النظام الشيوعي، أو غيره من الأنظمة الديكتاتورية. فلقد تم فتح الأرشيف الروسي منذ 1989، فظفر الباحثون بوثائق محفوظة بكيفية جيدة (وفي هذا تناقض عجيب)… بِيوميات كانت قد مثلت دليل إدانة بالنسبة إلى كُتابها، ثم غدت اليوم تمثل أدلّة ضد جلاديهم!
أذكر مثلا أنني قد اطلعت على يوميات نينا لوغوفيسكايا Nina Lourgovskaïa التي نشرت تحت عنوان: «يوميات تلميذة سوفييتية (لافون 2005 Laffont)، وهي يوميات كتبت في سن 14-18، من قبل تلميذة ثانوي لم تتمكن من الصمت، وهي يوميات تسببت في ترحيلها صحبة أسرتها إلى معسكرات الغولاك سنة 1937.
هكذا تَغدو اليوميات أسلوب مقاومة رئيسيا، لا السيرة الذاتية، التي غالبا ما تُراعي فن التشكيل الأدبي، وتصبو إلى العثور على قراء يعسر أن نجدهم في ظل الدكتاتوريات. أما اليوميات فهي لا تنتظر أية قراءة، كما ان جانبها الفني ينسبُ الموهبة عادة إلى أفراد مجهولين. إن السيرة الذاتية غالبًا ما تزهر عند سقوط الديكتاتوريات، وهذا ما لاحظناه في إسبانيا خلال الآونة الأخيرة.
mمن خلال كتابكم الموسوم بـ«أنا الآنسات» (1993)… أية خصوصية تجدون في النساء… هل تمكنت الأوانس من التحرر من صمتهن الطويل؟
أَستشفّ من هذا وجود صلة جلية باستفهامكم السابق! كيف تمكنت النساء من التحرر من ديكتاتورية الرجال؟ إنّ الكتابة النسائية في مستوى الطبقات الحاكمة في فرنسا قد تحررت أول أمرها بفضل المراسلات (بداية من القرن 17) ثم وقع ذلك بفضل اليوميات الخاصة (بداية من نهاية الثامن عشر)، إلى درجة تأكيد سلوكين يُعتبران إلى اليوم بمثابة النشاط «النسائي» عموما، وهما كتابة الحياة الخاصة بجوانبها الحميمة، وما يُعاكسها من كتابات عامة أقرب إلى الصياغة الأدبية، تُنسبُ إلى الرجال… لا شك أننا هنا في باب الرواسم والكليشيات، إنما هي رواسم تستند إلى جانب من الصحة!
بالنسبة إلى اليوميات، باغتتنِي سنة 1991 الصورة الجامدة Stéréotypée التي شاعت في شأن «أوانس» القرن التاسع عشر، والقائمة على معرفة ثلاث أو أربع يوميات منشورة، هي ذاتها دائما… وهي يوميات أوجيني دي غيران Eugénie de Guérin وماري باشكيرتساف Marie Baskkirtseff وماري لوناري Marie Lenérue.
لذلك دأبتُ على الإبحار داخل الأرشيفات العامة والخاصة وعثرتُ على أكثر من مئة من «يوميات الأوانس» مكنتني من إعداد جدول أكثر دقة. ولفت انتباهي إلى أنّ اليوميات قد غدت بداية من نهاية القرن الثامن عشر أسلوبا لتربية الفتيات،في صفوف الطبقات الحاكمة.
وكان يتم تدريبُ الفتيات على كتابة اليوميات منذ القداس الأول، حوالي 10 أو 11 سنة، حيث تقع مراقبتهن وإصلاح كتاباتهن أحيانا، حتى يتمكن الأهل من توجيه أخلاقهن وإصلاح أساليبهن في الكتابة.
والإشكال (إذا ما تيسير أن أتحدث هكذا) يتأتّى من أنه يصعب تعليم الناس الكتابة دون ردّة فعل… تتمثل في أنهم سوف يقبلون يوما على هذا النشاط، لحسابهم الخاص! ففي سن المراهقة غالبا ما تميل الفتيات إلى تأمل مستقبلهن، مما يجعل «اليوميات» ذات استعمال خاص، بل استعمال سري أحيانا.
ولقد حاولتُ متابعة حركة التحرر الأخلاقي هذه الهادفة إلى الإبداع الذهني والفني طيلة القرن التاسع عشر، وذلك بإعطاء الكلمة إلى هؤلاء الآنسات… اللائي لبثن مُلجمات، شيئا ما! وكان ذلك إسهامًا فيما يُلَقّب اليوم بـ«لدراسات الخاصة» Gender Studies، أي في سياق إيقاع سيمون دي بوفراو: حيث «لانولد… إنما نُصبح امرأة»!… الآن أيضا تُوجد ألوان من الضغط تدفع الفتيات. إلى كتابة يوميات. فالآباء في فرنسا، والأجداد أيضا، يُهدون إلى صغيراتهم دفاتر لطيفة تحمل أقفالاً… من النوع الذي لا يفكرون البتة في تقديمه إلى الأولاد!
اليوميات الحميمة والمحظور
m إن تمييز «السيرة الذاتية» من «اليوميات» يلحُّ عمومًا على البعد الزمني، فهل توجد اختلافات مهمة أخرى؟
إنّ الاختلاف الآخر الممكن يتمثل في المتقبل: وسأعود إلى هذا، بيد أنني أرغب بدوري أن ألح على الزمن، أو على إحدى نتائج هذا الاختلاف.
فالسيرة الذاتية تقوم على سرد استرجاعي… وهو فعل يشمل أزمنة الماضي والحاضر ضمن حدود سطوته الوهمية. فكاتب السيرة الذاتية يعرف نهاية حكايته، إنها هو ذاته، في طور كتابتها. هكذا يُمكن للسيرة الذاتية أن تتكون من بداية ووسط، ونهاية. فهي من هذا المنظور: «عمل أدبي». أما اليوميات، بالنسبة إلي، فلا يُمكن تعريفها باعتبارها حكاية، إذ تتمثل في «تعاقب آثار محددة زمنيا»، «آثار» مكتوبة في الغالب بلا شك، إنما هي سردية بالضرورة. قد تكون أفكارا أو أوصافا، إلخ… ولا شك أنّ هذا المسلسل الذي يحمل تحديدًا زمنيا ينفتح دون توقف على مستقبل غير متوقع يَحُدُّ من سطوة كاتبه!
فمن يتولى تحرير «يوميات» يملك في الغالب عناصر متتالية، أو برنامج عمل، وقواعد كتابة. بيد أنه في نهاية المطاف يتولى ذلك بالاشتراك مع قرين تصعب مراقبته، إنه المستقبل… حتى حين يكون فعل كتابة اليوميات -ولو جزئيا- يتحمل وظيفة إعداد تتمة السيناريو…!
فاليوميات لا تُستهل كتابتها بدءًا من النهاية: إنها تعكس الحياة مثلما نحياها، غير ثابتة، تحمل أخطارها، بل إن موقف صاحبها من هذا المستقبل «موقف فعل» أكثر منه «موقف معرفة». فقارئ اليوميات الذي يُمكن أن يكون، أو هو في الغالب كاتبها نفسه، قد أمضَى وقتًا على كتابتها. هو أيضا في موقع يختلف تماما عن موقع كاتبها:
ففي إمكانه القفز على بعض الصفحات للتعرف على أحداث لم يكن يعرفها الكاتب. لهذا فإن اليوميات المكتملة (أحيانا بسبب موت صاحبها) يُمكن بلا شك إعادتها إلى مجال «الأعمال الأدبية». بيد أن اليوميات، حسب كتابتها الآنية تعكس حقيقة إمكاناتنا!
أما العمل الأدبي الذي يتكون من أجزاء فيكشف وهم إحساسنا بالضرورة. وإني إذ اعتذر عن هذا الاستطراد الفلسفي، فانني أرى أنّ الإشكال الزمني لا يمكن داخل حلف «نحو السرد» فحسب، إنما هنالك رهانات الماوراء أيضا. من ذلك التنازل نحو اليوميات من قبل المؤمنين «بالعمل الأدبي»، مثل موريس بلانشو Maurice Blanchot.
أعود في النهاية إلى استفهامكم، فالسيرة الذاتية تكاد تكون مكتوبة في أغلب الأحيان للآخر، مثلما هي مكتوبة لذواتنا. أما اليوميات فعكس ذلك، يُمكن ألا تكون مكتوبة للذات!
لقد فاجأني عدد من كُتّاب اليوميات الذين يجزمون بأنهم قد أتلفوا كل يومياتهم، أو جزءًا منها. فرغبة الحفاظ على بعض آثار الحياة يُمكن أن تتضارب مع خوف الانكشاف إزاء الآخرين، أقرباء كانوا أو مجهولين. ذلك أنّ أفضل حارس أسرار… هو الصمت!
m هل يبدو كُتاب «اليوميات الخاصة» حين نتأمل التاريخ أكثر جرأة، أو أكثر حرية، من كتاب السيرة الذاتية؟ أو لعل الغموض بين «السيرة الذاتية» و«الرواية» هو الذي رفع من شأن بعض الجوانب المحظورة في أعمالهم.
حين نتحدث عن «رفع المحظورات» فإننا نفكر بسرعة في «لجنس»، تسألونني إجمالاً عن إمكان اللجوء إلى سر اليوميات (وهي كشفٌ مغاير في الزمان) أو إلى افتعال الهروب من الوهم (وهو كشف غير مباشر)، لمواجهة صعوبات السيرة الذاتية العامة، ذات الشكل المحيل على ضرب من ضروب الإعلان عن خيارات جنسية معينة!.
من الصعب تقديم إجابة مطلقة، فالأمر على صلة بالعصور، والحالات، لهذا سألجأ إلى نماذج فرنسية. فلقد لفت انتباهي أمران، إذ كان روسو قد أعلن في «الاعترافات» عن برنامج نزاهة تامة، وقدم المثال، خاصة في باب الجنس… بيد ان الكُتّاب الذين عقبوه لم يقتفوا أثره، إذ أكّد كُتّاب السيرة الذاتية الفرنسيون تحفظهم الكامل خلال قرن ونصف، حتى مصنف أندري جيد André Gide الموسوم بـ:«إذا لم تتلف البذرة»، بل إنهم كانوا في الغالب يقفون من قلة التحفظ موقفا سلبيا.
لذلك يتم التعبير في اليوميات المحافظة على سريتها عما يُمكن أن ألقبه باستكشاف جنسي محتشم، وهو ما نجده عند أميال Amiel، وبشيء من الجرأة عند جيل ميشلاي Jules Michelet أو جَهان ريكتوس Jehan Rictus (الذي لبثت يومياته غير منشورة حتى اليوم) أو بعد ذلك عند بول ليوتار Paul Leautard.
ولاشك أن معضلة الحكايا الجنسية لا تكتفي باختراق المحظورات الجنسية فحسب، إنما تصف مشاهد يٌشارك فيها آخرون، فتكشف حياتهم الخاصة رغما عنهم أحيانا! فالحياة الخاصة ملك مشترك، ولها نواميسها. ألم تتم مؤاخذة رُوسُو لتقديمه اعترافات السيدة وارانس أكثر من اعترافاته الشخصية. هذا ما قد يبدو ملائمًا من خلال موقف مفتعلي الهروب من الأعمال التخييلية ذات الطابع السير الذاتي.
يأمل المرء أن يتمكن من التعبير بحرية بإهمال الإشارة إلى الهويات، ويشتغل على الشك! بيد أنّ هذا اللعب مُغالِطٌ، فلا جدوى من تغيير الأسماء، إذا ما انتبه المحيطون بك إلى الحقيقة! أما المعنيون بالأمر فسرعان ما يتعرفون على أنفسهم بسهولة.
إنّ كل المحيطين بسارج دوبروفسكي Serge Doubrovsky يعرفون جيدا من هي راشال Rachel التي يثأر منها بوحشية في «قطعة التخييل الذاتي» الموسومه بـ«حب الذات» 1982؛ وأعترفُ أني قد قرأتُ في الآونة الأخيرة بحرج كبير أيضا «رواية» فيليب فورست Philippe Forest… «لحب الجديد (غاليمار 2007). وكتاب ايمانوال كارّار Emmanuel Carrère الموسوم بـ«حب روسي» (P.O.L. 2007).
وقد يذهبُ في ذهن الواحد منّا أنه يُشارك شخصًا ما سريره، فإذا به يجد نفسه نائما داخل كتاب. لهذا يبدو أنه من دواعي الحذر أن نلبث بعيدين عن الكُتاب!
على إثر هذا الاستطراد أعود إلى سؤالك. ذلك أن الحدث السير ذاتي المباشر والمعترف به يحوي قوة خارقة. وهذا ما وقعنا عليه منذ سنوات في «حياة كاترين م. الجنسية» للكاتبة كاترين مييّايْ Catherine Millet (Gallimard 2001). وهو كتاب مجانبٌ للحياء فيما يبدو، بيد أنه «سريريْ» حقا بالنسبة إلى سيدة قد أقبلت على تحليل مطول لحياتها الجنسية الحرة والكثيفة، وهذا من الأشياء المستحدثة في المشهد الأدبي. فلقد ذهب زمن الاعترافات السريعة التي تصيب الحياة الجنسية بالتفاهة في مستوى عروض الشاشة الصغيرة، أو فوق صفحات المجلات. إننا إزاء حدث إناسي أصيل شُجاع… يُعيد تناول المشعل من يد جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau.
m في كتابكم «يوميات للذات» Un journal à soi (2003) الذي أعددتموه مع كاترين بوغار Catherine Bogaert نشرتم مختارات من اليوميات، فما هي مقاييس اختياركم لها؟
كانت خياراتنا مستندة إلى «التنويع» و«النمذجةُ». فحين يتحدث النّاس عن «مختارات» فإنهم يستحضرون في الغالب «أجمل الصفحات ضمن نوع من «مناظرة» الجودة، أو «عيون الأدب». أما أنا وكاترين بوغاآر فلقد كنا على موجة أخرى! ذلك أن المقتطفات لم تورد هنا لقيمتها الذاتية، خاصة إننا معا نعتقد ألا معنى لقراءة صفحات مفصولة عن أصلها. فتجربة الاطلاع على يوميات ينبغي أن تكون متواصلة، خاضعة لضرب من المعاشرة. فمقتطفاتنا كانت تهدف إلى إيضاح الجدول الذي أعددنا حول سعة هذه الممارسة، في تنوعها البديع!
وسألجأ هنا إلى عقد مقارنة. فماذا نعرف عن البحر حين نكون على ضفافه؟ هو المساحة التي تنبثق منها أحيانا بعض الجُزر، أو بعض الأسماك التي لا تتغير، والتي يجلبها الصيادون، وبعض الأعشاب والمحار الملقى على الشاطئ!
حين نتذوق بشراهة بعض «اليوميات الأدبية»، فإنّ ذلك يختلف بعض الشيء عن الانغماس في طبق سمك موسى في أحد المطاعم: إنها لذيذة جدا، بيد انه يعسر الجزم بأنها تمكننا من معرفة حقيقية بالحياة داخل البحر.
أنا وكاترين لم نكن نبحث عن فتح مطعم أسماك، إنما متحفً للتاريخ الطبيعي. لذلك ارتحلنا نحو الأعماق حيث ألقينا شباكنا، وجعلنا غواصينا ينزلون معنا، للعودة بنماذج، وصور لا حصر لها!
إنّ الجمال هنا لا يصدق، كذلك تنوع نباتات البحر أو حيواناته… فالطبيعة خيال مجنون، وهذا مماثل تماما لليوميات.
لي أن أقدم أرقاما: إذ تنشر في فرنسا حوالي ثمانين يومية في السنة (خاصة يوميات أدباء رجال)، بينما يوجد حوالي ثلاثة ملايين شخص (8% من السكان أكثر من15 سنة) يشغلهم إعدادُ ضرب من اليوميات، بشكل غير منتظم في الغالب!
وكان عنوان كتابنا الثانوي: «تاريخ ممارسة»، فكتابة اليوميات هي ممارسة، وقد سعينا إلى إثبات ذلك! وكانت فكرتنا تدور حول اعتبار «المطبوع» يُنقِصُ كثيرا من «أثر» «الفريد»! ومن المقدرة الفنية (الورق-الحبر-الكتابة-الرسوم- الوثائق المصاحبة).
وكانت فكرتنا أيضا تؤكد أنّ اليوميات يمكن أن تصاحب كل أبعاد حياتنا: فهنالك يوميات للحلم، وأخرى للمآتم، أو الحروب، أو العناية بالحديقة، والمطبخ، أو للتربية، والمطالعة والأمراض، والشغل، والعطل إلخ. لكل واحدة من هذه الفصائل –في متحفنا- اخترنا نماذج قد لا تكون أرفع من النماذج الأخرى، لكنها دالة عليها.
إننا إزاء صفحات «نماذج» نعيد تقديمها مشفوعة بصور منها، باختيار تلك التي «تحاور العين بطريقة خاصة»، إذا ما تيسّر أن أقول هذا! هذا هو مبدأ «مختاراتنا». فالكتاب يوجد في إطار إيقاع العرض الذي كنا قد نظمنا في ليون au Lyon 1997. حيث أكدنا، عبر الواجهات الزجاجية، أننا نعرض ضربًا من تاريخ اليوميات، من الصفحة الأولى حتى الأخيرة، عبر 250 مخطوطا من يوميات معروفة، وغير معروفة.
m ما هي دواعي كتابة يوميات حميمة؟ ما هو حضور الاضطرابات في هذا المجال؟
كلا قطعا! إننا هنا إزاء استيهام… فغالبًا ما يعمد أولئك الذين لا يقومون بإعداد يوميات، أولئك الذين يزعجهم ذلك (فليس من المريح بالنسبة إلى البعض أن ينظروا داخل ذواتهم) إلى الاطمئنان على صحتهم العقلية باعتبار أصحاب اليوميات أشخاصا مرضى. كل الدلائل تشير إلى أنّ رواة اليوميات لا يختلفون عن الآخرين في شيء.
كل ما هنالك أنّ اضطراباتهم الذهنية -حين تكون هنالك اضطرابات بالصدفة- تنكشف للعيان بسبب الإشارات التي يتركون عن أنفسهم! وأنا أقترح تقديم الإشكال بكيفية مغايرة: ما هي جدوى كتابة يوميات بالنسبة إلى التوازن النفسي؟ يدور جوابي حول اعتبار ممارسة اليوميات من قبيل الوقاية لا العلاج، هي مثل ألعاب القوى، أو ممارسة رياضة… إلخ.
إن ذلك يُحافظ على لياقة المرء وصحته، ويُمَكِّن من المزيد من الدربة، يسمح للذاكرة وقدرات التفكير بأن تتمرن. وذلك يدرب على فن الكتابة بممارستها بانتظام. فهو نشاط محبب، مهدّئٌ بنّاء. لكن الحياة يُمكن أن بطبيعة الحال تقترح علينا أساليب للحصول على نتائج مماثلة.
من ناحية أخرى فإن إعداد يوميات شديدة الانتظام يُمكن أن يُفضي إلى سلبيات: منها تجميد شخصية المرء، ويؤدي بحراكها إلى التؤدة والتريث. لذلك فإنني لا اعتبر أنّ كتابة يوميات من الأمور النافعة بالضرورة! أحيانا ينبغي علينا التغاضي عن ذواتنا، والمرور بأطوار إهمال، مثلما يحدث للمزارع الذي يناوب حرثه. وهذا على أية حال ما ينهض به كل الناس بصفة عفوية. فمن قبيل الوهم أن يذهب في ظننا أنّ «كتابة» اليوميات يُمكن أن تكون من الصفات التي تمثل «طبعا» أو شخصية ما!
فمن النادر أن يحتفظ الناس بعادة تحرير مذكرات خلال حياة بكاملها. كل ما هنالك أنّ الأمر يحدث في بعض الأطوار، خلال الأزمات التي تُمكننا اليوميات من تجاوزها، أو من التوقف عندها،… وأحيانا نعود إلى ما كتبنا بعد عشرين سنة، لغايةٍ مغايرة تماما…
فمن المستحيل التعميم في هذا المجال. كل ما هنالك أننا إزاء ضرب حسن من ضروب الوقاية.! أما اعتبارها علاجًا، فأنا أشك في هذا، البصر، السمع، الكلام، البعد عن الآخرين، كفاءاتهم… أيضا… تبدو ضرورية… انطلاقًا من مستوى ما من مستويات الاضطراب؟
m حسبتُ أنّ اليوميات الحميمة شائعة بالنسبة إلى جميع الحضارات إلى أن اطلعتُ على ما كتبتم في شأن يوميات اليابان، المختلفة تماما في رأيكم!
تبعا من خلال القليل الذي أعرفه عنها! إننا دوما نتكئ على الترجمات -وتبعا لحدود رغبتنا في الاطلاع- ينبغي الإقرار بهذا بكلّ تأكيد. فإن «النِّكّي» «اليوميات»؟ التي تُنسبُ إلى تلميذات البلاط في اليابان خلال القرن العاشر والحادي عشر أو سجلات ما قبل النوم هي في الغالب ثبوتٌ شعرية عجيبة) مثل تلك المنسوبة إلى ساي شوناغون Sei Shônagon في العصر نفسه… تجعلنا نحس بالألفة، ويُمكن أن تُغذي كتاباتنا (مثلما كان الأمر بالنسبة إلى جورج شراك) بيد أننا سرعان ما ننتبه إلى اختلافها وغرائبيتها، لطابعها المحدود، والزائل.
يوجد وهمٌ موصول بالرغبة في تقويم ماضي حضارتنا، أو عادات الحضارات الأخرى المختلفة عنا، بإعادتها إلى أساليب تصرفنا الراهنة، هذه التي نعتبرها اليوم بمثابة النماذج! فحين حررتُُ «الميثاق السير ذاتي» أكدتُ أن عملي لا معنى له إلا في أوروبا بداية من النصف الثاني من القرن XVIIIs.
وكنت قد لاحظتُ أعلاه في خصوص موضوع محدد، أنه كان من الممكن استعمال تحليلاتي الواقعية (البرغماتية) خارج هذا الحقل الثقافي. لكن لا معنى للرغبة في العثور على «روسو» في كل مكان!
لقد لفتت انتباهي مؤخرًا المقدمة الجديدة التي شفعت بها صابرينا ماروين Sabrine Mervin الترجمة الفرنسية لسيرة محسن الأمين الذاتية (1967-1952)، فحللت مظاهر الحرج والتوتر الناتجة عن الإحالة الدائمة على السيرة الذاتية الغربية الحديثة في مجال دراسة السيرة الذاتية العربية التقليدية.
وقصد العودة إلى استفهامكم الموصول بكونية اليوميات فإنني أفكر من جديد في إخفاق محاولات البحث التي باشرتُها بمناسبة زيارات خاصة إلى الجزائر أو مصر. بفضل بعض الزملاء سعيتُ إلى استجواب مجموعات من الطلبة حول اليوميات مثلما كنت قد فعلت في تحقيقاتي في فرنسا.
لكنني سرعان ما انتبهتُ إلى أنّ الاستجواب لم يكن ملائما، وأن مجموعات الطلبة الفرنكوفونيين لم يكونوا يمثلون مجموع السكان، لقد كنتُ قادما من الخارج تصحبني أسئلة غير جيدة!
فقد أفهمتني طالبة في الجزائر، خلال وقت طويل، كيف أنه في حسبانها أنّ كتابة اليوميات كانت نسبيا من الممارسات الأدبية الغريبة بالنسبة إلى وطنها: الدين، الأسرة، صعوبة الحصول على مكان منفرد، غياب التشجيع على التصريح…
لقد استخلصتُ من كل هذا فكرة مفادها أنّ هذه القضايا تقتضي تحقيقا من الداخل، إذن: الكرة في ملعبكم مثلما نقول: لك المبادرة! وليس لي أن أقدم من الخارج مصحوبًا بأسئلة غير مجدية، وحُب اطلاع ليست في مكانه رغم وجود ضرب من «العولمة» في ثقافة الشباب، فإن كل بلد، وكل ديانة تحتفظ بخصوصياتها…
هذا ما نلاحظه داخل الفضاء المسيحي ذاته، حيث إنّ العلاقة بالذات، وبالأدب الحميمي، غير متماثلة… الكاتوليك والبروتستانت!
أسلوب السيرة الذاتية
ليس سهلا أن يلتزم المرء بالبساطة
m كان بيفون يعتبر أن «الأسلوب هو الرجل»، فإلى أي حدّ يُمكن تطبيقُ هذه الصيغة على السيرة الذاتية التي تعرفون.
أنا سعيد لأننا نُنهي لقاءنا بهذا السؤال، الذي ليس معقدا! دومًا يلفت انتباهي أمر ناتج عن قراءة روسو: «هيلويزا الجديدة»، الإيميل، الخطب، بحوثه في النظرية السياسية إلخ. رغم إنها أخاذة حقًّا… فإنها قد غدت قديمة جدا في مستوى الأسلوب. أما إذا ما فتحنا «الاعترافات» فإنه يبدو لنا أنها قد كتبت للتو، لذلك فإننا حين نعيد إغلاق الكتاب نكاد ننصت إلى صوت روسو يتردد عبر أسماعنا! لقد كان روسو يعي أنه يبتدع صلة جديدة بالكتابة: «أن أعبر عن كل شيء مثلما أشعر به، دون بحث، دون حرج، دون أن أرتبك إزاء ألاعيب الأسلوب». ليس سهلا أن يلتزم المرء بالبساطة، ذلك يفترضُ ضربًا من الزهد وتؤدي إلى الإعراض عن تصنع البلاغة، والجمالية التقليدية، الموصولة بالرغبة في استدرار الإعجاب، والادعاءات الأدبية.
لقد كتب أناتُول فرانس Anatole France سنة 1987 مرافعة لصالح الكتابة السير الذاتية التي تُنسب إلى الناس العاديين، وكان قد لاحظ أن بساطها تيسر لها مواصلة البقاء، بينما سرعان ما تسقط أغلب القصائد والروايات التي اجتهد أصحابها في صياغاتها طبقًا لقواعد الجماليات المؤقتة في النسيان وتغدو غير مقروءة.
يبدو لي أنّ هذا الأمر سليم إلى حد ما، خاصة أنّ جدوى هذه النصوص الإبداعية تتزايد مع مرور الزمن. وما كان تافها يغدو ذا قيمة تاريخية، ثم إنّ شكل الكتابات البسيط أو الصافي يسمح لها بأن تخترق الزمن. يُمكن ألا تشجع على العثور على أشكال جديدة! ذلك أن السيرة الذاتية بالنسبة إليّ هي طريقة أخرى للنضال ضد النزعة الأكاديمية، والدُّرجة الأدبية في الوقت ذاته ممارسة لكتابة «مُخفّضَة»… لها… بل عليها أن تكون كتابة بحث.
لهذا أظن أن القرن العشرين قد جعل السيرة الذاتية تولد على اعتبارها فنًّا، حتى حين تنتقل من مجال المراكز الخلفية إلى مجال الطليعة!
وهي مثل الرواية في الماضي، يُمكنها أن تلتهم أي شيء! فليست السيرة الذاتية «نسخة» من حياة تم تكوينها، فهي استكشاف للحياة عبر اللغة… في إمكانها أنّ تكشف عن غير المنتظر أو ذاك الذي يعسر أن نعبر عنه.
ذلك أنّ اكتشاف أعماق اللاوعي التي غاص فيها التحليل النفسي والسريالية، إضافة إلى و هو ما يفسر فوزه بعدد من الجوائز منها جائزة أحسن فيلم في مهرجان روتردام وجائزة أحسن فيلم بمهرجان تاومينا بايطاليا.
رغبة الآلام الخفية والحروب والمجازر الرهيبة، مثل ما وقع في زمن النازية أو في راوندا… قد جعلت من الضروري البحث عن أشكال تعبير جديدة.
لهذا فإنني أرغب في النهاية أن أتولّى تمجيد «لطلائع» الذين فتحوا سبلا مستحدثة في فرنسا مثل ناتالي ساروت Nathalie Sarrautes، وكلود مورياك Claude Mauriac وجاك روبو Jacques Roubaud وخاصة ميشال ليريس Michel Leiris وجورج بيراك Georges Perec.
إلى كل من هذين الأخيرين خصصتُ مصنفا مستقلا واستلهمتُ كلا منهما في كتاباتي السير ذاتية الشخصية. لقد جعل ميشال ليريس الشعر والانزياح الناتج عن تجميع الأفكار والكلمات في قلب السيرة الذاتية… فأفضى بالسرد والخطاب إلى منزلة ثانوية، فتعلمتُ معه أن أراود لاوعيي الخاص، وطفقتٌ أحلم بحركة الكتابة التي لا تتوقف، تلك التي تمنع الموت من أن يحتفظ بالكلمة الفصل!
أما جورج بيريك فلقد استكشف سبُلاً منحرفة للتعبير عن ألم يصعب وصفه، بسبب اختفاء أُمٍّ يغلب أنه قد تم اغتيالها في أوشويتز Austhuitz. فعل ذلك بفضل تطوير كل ألاعيب الضغط والانحراف التي يَسمح بها الكلام بحيوية، وسخرية جعلتا يأسه أخويا وأساسيا.
هكذا كانت اختراعاتهما معًا تشجع مستكشفين آخرين، قصد إنجاز استكشافات أخرى. لهذا يمكننا أن نفكر في أنّ القرن الذي ينفتح أمامنا سيشهد تطوير فن جديد في مجال السيرة الذاتية!
حوار أجراه: كمال الرياحي تعريب: صلاح الدين بوجاه
كاتب من تونس أكاديمي من تونس