«إلى المرأة الوردة، تلكَ وهذي
كُلَّما استمدت الأسماء عُذوبتها من الورود»
م. ح
تلك القصة العذبة (كما بِلُغة العنوان) والتي صدرت طبعتها الأولى، في كتاب من القطع الصغير، عام 1980، قبل سبعة وعشرين عاماً من كتابة السطور هذه، مازالت اليوم قادرةً على تجديد روح الذكرى في قرائها، إن لم تكن تحفز على إطلاقها في بعضهم للمرة الأولى، وتحيلهم إلى المساحات الشاسعة التي تفصلهم عن عُذوبة عالم الفرح الصغير، ولو كان محاطاً بمظاهر القهر والقمع والظلم، وبكل ما يبدد براءة الصبا، ويهدد طهره. ذلك العالم الذي يحاول أن يحقق توازنه، دون أن يفلح تمامًا، في التصدي المباشر للحيف الذي يحيق به، لأن الظلم أكبر بكثير من أن تنصفه أي عدالة، يُوجِدُ لنفسه في تناهيات اللاوعي، مساحات صغيرة لكنها مؤثرة، من الذاكرة، يحرص كثيراً على تحقيقها فيها، لتعلق في ثناياها، دون استعصاء استعادتها لاحقاً، في مقارعة ستكون أكثر تكفؤًا بمرور الزمن الذي يصنع من الإيماءة النبيلة ماردًا عتيًّا أمام وحش القهر الذي يتضخم بدوره، لكنَّ الذاكرة، بهذا النحو، تستمد تماسكها إزاءه، وتحقق تكافؤها، ونصرها الرمزي إن شاءت.
لا تحقق «تلك» الواردة في عنوان القصة – والتي تضع أحداثها السارد في لا موضع الذي كان صبياً وقت الحدث، ولم يعد كذلك أثناء السرد – فجوتها الزمنية المتمثلة بالسنين التي أمست تفصلها عن الحدث المروي والتحولات التي حلت بالشخصية التي تنظر الآن من بعد وإدراك الزمن الحالي للسرد والمتشبث في تفاصيله بالطفولة المروية فحسب. بل، زيادة لما تقدَّم، تعمق من المسافة العاطفية القائمة بين شخصية السارد، وبين «تلك» المرأة الوردة التي لم تكن، وحتى قبل الشروع في قراءة القصة، إلا على «تلك» المبعدة من السارد، أو لعل «تلك» تكون المحصلة النهائية التي تصل إليها الشخصيتان (السارد والمسرود عنه) كمصير حتمي مترسخ في ذهن الأول وتوقعات القارئ، الطرف الثالث، حيث يتسق هذا الاستنتاج مع المؤشرات التي تبوح بها خاتمة القصة. إلا أن كثيراً من المؤشرات تدعو إلى الاستنتاجين المتقدمين معاً: أي أنه وبعد قراءة القصة، نصل إلى أن «انتصار»، تلك المرأة الوردة، أو «المرأة من فصيلة الورود»، حسب السارد، ستظل دائماً بعيدة (وإن دنت منه جسدياً وبكافة تشكلاتها الشخصية في السرد) حتى في الأجزاء التي تتآلف فيها روحيهما معاً، وكما ستكون بعيدة أيضاً بعد اختفائها الغامض إلى الأبد في نهايتها، ويظل تحقق ظهورها في ذاكرة السارد صبيًّا وكبيرًا على مستويين مُختلفين من وعي شخصيته.
لم تكن انتصار امرأةً بالمعنى الحرفي، بل كانت صبيةً تكبر السارد بسنوات أثناء سير الحدث (وربما اكتسبت مكانة المرأة لهذا السبب)، إلا أنها كانت تظهر وتتصرف كامرأة حقيقية بالنسبة إليه، المرأة الأكثر تشكلاً واكتمالاً عن باقي النساء اللاتي من حولهما، ولعلها وجه الفرح الأوحد في حياة الصبي المكدود العامل في مصنع راحة الحلقوم. وما يمنحها تلك المرتبة الاستثنائية كونها الصَّبيَّة الوحيدة في مصنع يكتظ فيه الصِّبية الذكور والنساء الأخريات المُسنات. والمفارقة الطاعنة هي أن يعمل هؤلاء معاً في مصنع لسكاكر راحة الحلقوم، ولا يجترون من ورائه إلا مرارة (في الحلقوم؟) تصاحب مراحل عملهم الشاق.
من هنا تأتي دعوة الصبي (السارد حينما كان صبيًّا) لمشاركتها لحظة سعادة مبتغاة: حفلة عرس لإحدى قريباته تقام في فناء بيته. إنه الخبر السار الذي يتحرق الصبي السارد ليخبره فاتنته انتصار منذ مطلع القصة، وهو الجزء الذي يتكرر استدعاؤه في أكثر من جزء كحدث مفصلي، لا يكتسب أهميته القصوى من ظاهره إلا بعد استيعاب دلالاته لاحقاً. إذ يرغب الصبي للحظة الفرح المرجوة أن تكون جزءً من عالميهما الآخر الليلي الاحتفالي ذلك الذي يكونان فيه منفصلين وبعيدين (بالمعنيين المادي والنفسي) عن عالم الكد الصباحي البغيض الذي لا يملكان سيطرة عليه، بل على العكس تماماً، حيث هما ضحيتان لكيان المصنع القامع، وأن تكون هي جزء من عالمه الداخلي، جزء من حلمه المشروع، هذا الذي سيبدو أكثر سياقياً وأكثر استحقاقاً لهما معاً بالمقارنة مع الوضع الشاذ الخارج عن سياق الطفولة والفرح في عملهما. هل هي رغبة أخرى من الصبي في أن يرى «تلك المرأة» في حِلَّة أخرى أكثر لباقة ولياقة من فتاة المصنع العاملة الكادحة، أكثر أنوثةً وعذوبةً؟.
إنها تفلح حقاً في الظهور بذلك المظهر الآخر الشفيف، الأكثر استحقاقًا إنسانيًّا، الأكثر أنوثةً، قادمة إلى بيت العرس بصحبة أبيها، متشحةً بشال من صوف، بشفاهٍ حمراء، ومرتدية فستانًا أحمر، أي مُحمَّلة بكل الدلالات التي يجسدها اللون في حضورها الملفت، بل وببراعتها في الرقص في الحلبة، وسط تراجع الراقصات المحتفيات، من الحضور، الأقل منها براعة ومهارة وخروجهن الواحدة تلو الأخرى من الحلبة، واستئثارها بجدارة مستحقة لها، وطلب الأخريات منها مواصلة الرقص. إنها لحظة السحر حيث الوردة «الحمراء» تتراقص في لحظة فرح نادرة أمام العيون المتسعة بالإكبار، وخصوصًا عينا الصبي اليافع الذي يختلس النظرات من بعد، وهو يكف الأطفال المتسلقين لجدران البيت عن التلصص.
ولأن هؤلاء المُحتفلين لا يمكن أن يفرحوا ولا يليق بهم الفرح حسب ما تذكره أم السارد، فلا بد أن تأتي امرأة حامل من المدعوات الراقصات وتعلن في نهاية السهرة عن فقدان اسوارتها فتفسده، ولابد لها أن تتهم انتصار بسرقته، أثناء التفتيش الجماعي، حين يُكتشف وجود الإسوارة لديها، وإن ظلت هذه الأخيرة تنكر التهمة مرارًا، فإنها تُطرد من الحفل والبيت أخيراً، ويُقلُّها أبوها في عودتها، كما في قدومها، ناسيةً أو تاركةً عن قصدٍ شالها الصُّوفي في البيت مؤكدًا حضورها المعنوي في غيابها الجسدي. من الجلي أن هذا السقوط المجازي من القمة إلى القاع، من كونها صانعةً للفرح إلى سارقته، يتراءى بقسوةٍ أمام ناظري الصبي الصامت العاجز عن إبداء تعاطفه نحوها أو الدفاع عنها أمام ذلك الجمع، وإن كان قد فعل فإن مبعث ذلك الدفاع سيكون عن الأنا تلك التي أردت لانتصار الحضور، والبقاء، وتحقيق ذات الإعجاب (الذي شرعت حقاً في اكتسابه في الجزء الأول من الحفل أثناء الرقص)، بل الحب الذي يكنه لها، خصوصاً أنها مدعوته، وبهذا ينتمي إليها وتنتمي إليه، وسيرى أن إدانة انتصار هي في الحقيقة إدانة ضمنية له هو الذي دعاها إلى الحفلة ستسترعي دفاعاً وتفسيراً مقبولاً من طرفه، لكن أنّى يتأتى له تقديم ذلك إزاء دليل السرقة الظاهري.
تتوازى حادثة السرقة تلك، في تجسيدها لفكرة تلاشي لحظات الفرح القصيرة بما يكدرها من أحداث، مع حادثة أخرى داخلية في المصنع، قفص الحرية، إذ يعبث العاملون بروح طفولية بأكياس السُّكر (انتصار تلحس السُّكر المُلقى على ثياب الصبي، وهو يلحس السُّكر العالق في ثيابها في تبادلية دلالية ملفتة) يومَ تغيُّب صاحب العمل، «الرجل الثور»، كما يطلق العاملون عليه، ممارسين مساحة ضيقة من مرح الحرية قلما استطاعوا ممارستها في ذلك المكان السجن. وحين يشجُّ الرجل الثور، في اليوم اللاحق، رأس أحد الصبية، ويدعى «صابر»، مُحمِّلاً إياه تبعات ذلك العبث البريء، تنتفض انتصار وتهاجم الرجل الثور دفاعاً عن صابر، وهو فعلياً دفاع عن جميع المُنتفعين بلحظة الفرح الوخيمة من أقرانها العاملين في المصنع، كل المستحقين لها، مما يؤدي إلى ضربها من قِبل الحُرَّاس وطردها من المصنع، وهذه تكون المرة الثانية التي يشهد فيها الصبي وردته تدهس دونما أن يكون قادرًا على حمايتها.
كان لابد لانتصار أن تلقي نظرة وداع لصبيها المكسور في نهاية المطاف، ولعله أيقن بحتمية ذلك الوداع، بعد هاتين الحادثتين المتتاليتين، حتى بعد إعادة إسوارتها إليها، دون أن تستفهم أو تطلب منه الإيضاح. إذ تكتشف المرأة الحامل لاحقاً في ليلة العرس ذاتها أن إسوارتها، التي تبين نسيانها لها في بيتها، تتطابق مع إسوارة انتصار التي ظلمتها، فتوكل للصبي إعادتها لها (تجنباً للحرج)، ويفعل ذلك بعد طردها من المصنع أثناء مشييهما. يعيدُ إضافةً إلى الإسوارة، الشالَ الأبيضَ الذي تركته (أو لم يتيسر التقاطه) بعد طردها من الحفلة. ولعلَّ الشال الأبيض كان إشارة موحية ودلالة ضمنية إلى نقاء وبراءة انتصار أخفق المحتفون في التقاطها.
وكأنما بإعادته لممتلكاتها تلك يمنحها إشارة أخيرة بضرورة رحيلها،لا رغبة منه في ذلك، بل لإلحاح الموقف (أو الموقفين في هذا السياق)، بأنها حقاً لا تنتمي لهذا العالم البائس، هي المتوشحة بفتنة البراءة ( كما في حادثة اتهامها بسرقة الاسوارة) والمتحلية بروح العدالة ( كما في تصديها الشجاع للرجل الثور دفاعاً عن صابر). هي ليست إذاً في محلٍّ يُمكنها من تحقيق تلك القيم العُليا، وهذا المكان لا يكتسب استحقاقية كونها تحاول أن تجعله منه مكان أفضل مما كان عليه، في ظل عجز الصبي السارد عن كف الأذى عنها، وهو دور أكبر من يُتوقع منه، إلا أن السارد يستشعر بشيء من الذنب إزاء عجزه وعدم رضاه من دوره الطبيعي كراصد للأحداث غير قادر على توجيهها أو تغيير من مسارها.
الظلم إذاً في كل مكان: في المصنع وكل ما يحمله من رموز سُلطوية ضد الطبقة الكادحة العاملة من بسطاء الناس وفقرائهم. وهذا وإن كان ليس مبرراً تماماً، إلا أن الظلم الذي يمارسه أبناء الطبقة ذاتها على بعضهم بعضاً أكثر بشاعة في جوهره من الظلم الأول، كما يتجسد في اتهامات السرقة التي أُخذت على ظاهرها، وما تشكل تلك الحادثة من مظالم واتهامات باطلة لعلها تمثل ما يكيله مجتمع أو أحد أفراده على الإنسان فتدفعه إلى الرحيل. فالمرء الذي يتعرض إلى ظلم من الفئة التي يفترض انتمائه لها، لا يجد أفضلية لهذا المجتمع من الظلم الذي يتعرض إليه من قبل سُلطات أخرى.
لكن أتحقق انتصار نصرها المعنوي برحيلها المُوحش، وتودع ذكراها حاضرةً في خلد السارد ليُحكى عنها لسنين من بعد، وتستحوذ على الحنين إلى السرد، ويكون بذلك الرحيل أكثر بلاغةً من البقاء، وأكثر حضوراً، أكثر حكمةً منه؟.
مـــازن حــــبيب كاتب من عُمان