كان إحساسا غريبا ، ذلك الذي اعترا ني، وانا اعبر الممر الفاصل بين الطائرة ومطار موسكو الدولي.
اذكر ان الساعة كانت تقارب الخامسة صباحا ، وكان مذيع الطائرة قد اعلن لاكثر من مرة بأن درجة الحرارة شارفت الثلاثين تحت الصفر ، وبالرغم من عدم تعودي على مساع مثل هذا الرقم ، فقد كنت مهتما فقط بجدران الممر الحديدية.. !
لم يكن ممرا عاديا ، ولكنه كان حلقوما طويلا مثل الثعبان ، وضعوه خصيصا لكي لا نتجمد من البرد ، ونحن نعبر المسافة الفاصلة بين الطائرة ، وذلك البلد الغامض.
كنت مشدودا ومتوجسا من شي ء ما. وكانت بي رغبة في العدو ، باتجاه المطار او العودة حيث الطائرة.. كان المهم عندي عبور الممر بأسرع ما يمكن.
حدثت بعد ذلك حوادث شتى ، وفرغت من نفسي بهذا البلد ، وافرغت فيه من بعضي الآخر حتى اكتفيت او كدت ، وألفت المكان حتى كاد يألفني. وقدمت له أجمل سنوات شبابي قربانا.. وكنت راضيا واكثر.
عرفت الكثير بهذا البلد ، وجبته جنوبا وشمالا ، وتعلمت مجامل لغته ، ومغالق أسراره ، وكنت صديقا وفيا للبجع الابيض الحزين بنهر الفولغا ، ودخنت أجمل القصائد مع سجائر " الكوسموس kosmos "عند قدمي تمثال بوشكين ، وكنت لا افوت فرصة للالتحام بالعجائز او بالصبايا. وفي موسكو فقط تتكامل العجائز بالصبايا ، ولا سبيل للوفاق مع مزاجية الثلج ، ولا مع غنج طيور "الدوننباي dounanbey" الا اذا تحللت حكم العجائز وهمسات الصبايا _ في ذاكرتك ووجدانك _ وامتزجتا بما توفرت عليه قبل ذلك كله.. !
جئت موسكو طالبا للعلم أو بعضه ومطالبا بشهادة ثقيلة على النفس وتبدو لي غامضة ومثيرة ورغم عشقي الفطري للطمة وشغفي الشديد بالشعر ، فقد مرت سنتان قبل ان اتعرف الى باريسا الكسندروفنا..
كانت باريسا الكسندروفنا امرأة في الخامسة والاربعين من عمرها. وكانت ابتسامتها تخفي فعل الزمن على وجهها بشكل مدهش.
التقيت بها صدفة. كانت مسؤولة عن مبيت الطلبة _ حيث اسكن ـ بشارع "غالوشكناGaouchkina "وكنت طالبا مشاكسا استحوذ على غرفة خاصة بضيوف المعهد من طلبة القارة الاوروبية.. جاءت غرفتي تشتعل غضبا. وامرتني بمغادرة الغرفة في الحال. دعوتها لشرب فنجان من القهوة اللبنانية _ كانت اهدتها لي أحدى العابرات _.. وما كان لمثل باريسا الكسندروفنا ان تقاوم رائحة البن المحنك.
وهي التي تستسلم كل صباح لطعم القهوة الروسية _ الكريه _. عند الرشفة الثالثة ، بات واضحا انها نسيت تماما ما جاءت من اجله ، وكانت آخر آثار الغضب تتراجع في زرقة عينيها ، وهي تتفرس بدهشة في جدران الغرفة أين اصطفت عشرات الصور المختلفة الأحجام والالوان والاشكال والمواضيع.
كانت لوحات غريبة فعلا تجمع بين رسم لوجه الفرعون توت عنخ أمون ، وآخر لبيكاسو ، وسلفادور دالي ، وبوب مارلي ، والان بارك ، والحبيب بورقيبة ، وكلاوس كينسكي ، واو جين يونسكو ، وليرمنتوف ، ووالدي رحمه الله ، وغيرهم..
وعند الجانب الآخر ، كانت ترقد مجموعة ضخمة من الكتب باللغة الروسية والعربية والفرنسية ، وكومة أخرى من الصحف والمجلات العربية ، ورسائل مبعثرة ، واوراق متناثرة هنا وهناك.
سألتني عن كل صورة ، وحين كنت أجيبها باقتضاب ، كانت تعيد نفس السؤال باصرار غريب.
ربما كان للبن دور.. وربما لانني كنت منهارا لتأخر ماشا _ صديقتي _ وربما كانت باريسا الكسندروفنا تعرت تماما من اقنعة الوظيفة.. المهم انني وجدت نفسي اتحدث معها بطلاقة غريبة عني.. حدثتها عن لعنة الفراعنة وعن كلب كافكا وعن شذوذ بيكاسو.
حدثتها عن والدي _ رحمه الله _ وقلت لها بانه مات استجابة لنداء سمعه من عمق البحر.
حدثتها بشكل لم اعهده في اطلاقا.. وكنت اختلق اغلب الحكايات ، والغريب انني كنت اشعر بأنني اقول الحقيقة تماما.. وحتى هذه اللحظة ، يخيل الي بأن والدي مات استجابة لنداء سمعه من عمق البحر ، وبأن كلب كافكا اسمه _ يوشا _ ، وهو أسود اللون ، ويقف على قائمتيه الاماميتين – كما يفعل الشطار-.
خرجت باريسا الكسندروفنا من غرفتي. وقد نفذ اليها ذلك العالم الأزرق.. وتعودت الا أقلق لتأخر ماشا _ صديقتي _.
كانت باريسا الكسندروفنا رقيقة النفس ، وكانت الكلمة مفتاحا الى عالمها وقلبها ، وقد فتحت لي كل المغالق واكثر.
بعد مدة بدأت انتبه الى حكاياتها ، وكنت قبل ذلك أتظاهر بمتابعتها.. كانت تحدثني عن الكسندر بوشكين وهي تمسك نفسها عن البكاء بصعوبة. وحين كانت تقرأ لي من الذاكرة بعض المقاطع من روا يته الشعرية " يفغين اونيغن " _ كان وجهها يحتقن من الانفعال ، وكان تنفسها يتسارع ، وكان كل ذلك شاذا وغريبا عن عاشق الشعر الذي كنته حتى ذلك الوقت.
كنت قد درست عن بوشكين حتى مللت منه ، وعرفت عنه ما يكفي لأسود بياض عشر صفحات عند الامتحان المنتظر آخر السنة الدراسية. وكنت اعرف كما يعرف كل طلبة صفي بأن ألكسندر سر غاييفيتش بوشكين ولد في موسكو في 26 مايو 1799 ، وبأنه تربى على عشق الحرية ، وذلك ما جعله يهتم بالتنظيمات السرية وينخرط في الجمعيات المعارضة للنظام القيصري الرجعي ، وانه بدأ بكتابة الشعر وقرضه في سن مبكرة جدا ، وتعرض للنفي والاصطدام بالقيصر ، وانه كتب : " روسلان ولودميلا" _ و"نافورة باغثي سراي" _ و " الاسير القوقازي" وكتب عن القوقاز كتابا آخر يصف فيا الابدا عات التي حبا بها الله هذه المنطقة من العالم ، وانه كتب روا يته الواقعية " يفغين اونيفن " وصور من خلالها طبيعة المجتمع الاقطاعي ولذلك يعتبر مؤسس الواقعية النقدية في الأدب الروسي.
واضافة الى ذلك فقد كنت احفظ عن ظهر قلب ستة مقاطع من شعره رغم اننا كنا مطالبين بحفظ مقطعين فقط ، لعرضهما يوم الامتحان الشفوي في مادة الأدب القديم والوسيط ، وأدب رواد الثورة الفكرية في روسيا.
كنت اعرف كل ذلك واكثر عن الكسندر بوشكين الذي مات على اثر مبارزة دبرت له مع ضابط فرنسي في الجيش القيصري ، وكان ذلك يوم 28/ 1/1837.
كنت اعرف كل ذلك عن بوشكين ، فلماذا يحتقن وجه باريسا الكسندروفنا بذلك الشكل _ وهي تقرأ مقاطع من شعره ؟!
وانتبهت مرة الى دمعة تنحدر من مأقي باريسا الكسندروفنا وهي تقرأ مقطعا من قصيدة " روسيا" _ الذي كنت احفظه جيدا ، وكان بالقطع بيت احبه يقول : ".. اني احب سماع اصوات البعوض.. وصوت افراح الصبيان.. فوق المرتفعات
حيث يثيرون الصخب.. كي تأتي الصبايا..
كنت كمن يستفيق من غفوة طويلة.. طويلة.."
واحسست بانني عدت ثانية داخل نفس ذلك الحلقوم الطويل الذي كان يربط الطائرة ومطار موسكو الدولي. وكانت دمعة باريسا الكسندروفنا _ خيطا _يشدني باتجاه الجانب الآخر_ عكس اتجاه الطائرة.
وكانت المرة الأولى التي اشعر فيها بأنني بموسكو_ بعد اكثر من سنتين فيها.
كنت كالطير الوليد أحسني طليقا بهذا البلد الذي لم آلفه قبل ذلك ابدا..
مر وقت طويل على ذلك ، غادرت موسكو فيه ، وعدت الى ارض الوطن.. ولكنني لم احتمل دعسا بات الاصدقاء القداس.. وصياح ديكة الصباح ! لم احتمل حنان والدتي ، وتصفح جرائد المساء فغادرت الوطن ثانية ولم آخذ معي الى بلاد براشت وهيفل وديكارت سوى ديوان " اغاني الحياة "
لأبي القاسم الشابي. وديوان "ألوح للمنصف الوهايبي – ومسرحية "بيارق الله " للبشير القهواجي _ و" حدث ابو هريرة قال.." للسعدي _ ونسخة معربة من الكتاب المقدس. ومصحف للقرآن الكريم _ عليه امضاء والدي ، رحمه الله وجواز سفري ، وقصيدة "وحيد القرن " لعبد الحليم المسعودي _ مدونة بخطه الكوفي. وملف به
بعض الوثائق التي لا غنى عنها..
مر وقت طويل بعد ذلك ، ارهقني اللهاث وراء تحصيل ثمن كراء الغرفة المعزولة التي ارتضيتها سكنا. ولكنني كنت كلما انفردت الى نفسي ، اتذكر قولة باريسا الكسندروفنا ، وهي تودعني بمطار موسكو الدولي : ".. اذا عصفت بك الاحزان ، فلذ ببوشكين.. وحين تقرأ له ، تذكر جيدا ، انه كان يخاطب الورد باسمائه ، وانه كان يعتذر للماء عن تأخر البجع الوحشي.. ".
موسكو تحترق الآن ، سمعت أنهم يذبحون الخيول والبشر هناك. احيانا يراودني احساس بأن كل ما يقال حول موسكو هراء. وافسر كل الحكايات الغريبة التي اسمعها عن الدمار والجوع اليومي هناك انه بسبب الحسد والبغض والغيرة العمياء.. وحينها فقط تترآى لي موسكو عروسا بيضاء. تتقدمها " ماشا" الصغيرة ، وتقف عند قدميها حارستها "باريسا السكندروفنا". تلك المرأة العظيمة ، التي مازلت رغم كل الاحداث التي عصفت بموسكو_ تراسلني ، لتخبرني بأن موسكو اصبحت اجمل
مما كانت ، وأن ما يقلقها فقط هو تأخر مجيء البجع الوحشي هذا العام.
كمال العيادي القيرواني (كاتب تونسي مقيم في ميونيخ بالمانيا)