صدر في ربيع العام الحالي العدد الثامن والعشرون من مجلة بانيبال، مستهلا العام العاشر من الصدور المنتظم لهذه المجلة المعنية ـ كما يشير غلافها ـ بنشر «الأدب العربي الحديث» مترجما إلى اللغة الإنجليزية، متيحا لجمهور هذه اللغة فرصة للتعرف على الإسهام العربي المعاصر في الإبداع الإنساني.
هكذا أحب أن أرى بانيبال، ليس باعتبارها خدمة مقدمة للعرب وأدبهم وحسب، وإنما باعتبارها في المقام الأول خدمة للقارئ الغربي، تيسر له الوصول إلى أدب لا يستطيع اختراق حاجز اللغة إليه. بانيبال إذن، شأن كل جهود الترجمة بين مختلف اللغات، هي جهد إنساني نبيل. لا ينبغي أن ننظر إليه باعتباره فرصة قد ينال بها العرب اعترافا من الآخر، وإنما باعتبارها إسهاما في تشكيل وعي هذا الآخر.
وإذا كانت إحدى المؤسسات الثقافية العربية لم تجد «شخصية ثقافية» تكرمها باعتبارها شخصية العام الثقافية إلا شخصية مترجم قضى عمره يترجم الأدب العربي إلى الإنجليزية، فلعلها ما فعلت ذلك تعبيرا عن لهفة عربية إلى «الترجمة»، أو إغواء لآخرين بـ «ترجمتنا» إلى فردوس لغاتهم. لعلها ما فعلت ذلك إلا تقديرا لقيمة «المترجم» ودوره ـ مهما تكن اللغات التي ينقل منها وإليها ـ في إثراء الثقافة الإنسانية وتعميق التفاهم بين البشر مختلفي الألسن، وذلك على وجه التحديد هو السبب في فرحنا باستمرار هذه المجلة في الصدور إلى أن بلغت عامها العاشر.
ربما لا يكون مرور عشر سنوات على صدور مطبوعة مهما تكن أهميتها سببا للاحتفاء، فقد يرى البعض أن ذلك من طبائع الأمور، ولكنه في الظروف الحالية للثقافة العربية سبب وجيه للفرح. ففي هذا العام نفسه تتعرض مجلة «إبداع» للحجب بقرار من الناشر الأكبر في العالم العربي كما يحلو للهيئة المصرية العامة للكتاب أن تصف نفسها، وفي هذا العام أيضا نفتقد صدور «الكرمل» المتوقفة تقريبا منذ نحو عام. كما يشهد هذا العام مرور خمسين عاما على صدور «شعر» البيروتية، وصدور العدد الخمسين من فصلية «نزوى»، فلا يلقى الحدثان ما هما جديران به ليس من الاحتفاء، وإنما من التأمل وإعادة النظر والبحث في الأثر الذي حققته هاتان الإصدارتان.
بوسع من يطالع العدد الحالي من بانيبال أن يضع يده على السياسة الحاكمة لها، فالعدد الذي تتصدره لوحة لفنان مصري ـ عادل السيوي ـ يقدم للقارئ الغربي ملفا للشعر اللبناني، بعد أن كان عدد سابق ـ هو الخامس والعشرون ـ قد قدم ملفا عن «الكتابة الجديدة في مصر»، بما ينفي عن المجلة شبهة الانحياز إلا إلى الأدب بعيدا عن ضيق الأفق القطري الذي يسم الكثير من المطبوعات المهتمة بالأدب العربي.
ولا يتم تقديم الشعر اللبناني عبر الباب الآمن من خلال الاكتفاء بترجمة كبار الشعراء الذين أكدوا وجودهم بمرور السنوات، وإنما يتسع الملف ليشمل شعراء شبابا وتجارب طازجة، بما يؤكد أن صفة «الحديث» التي تتصدر غلاف المجلة ليست مجرد صفة مجانية وإنما تعبير عن توجه أصيل لدى القائمين على المجلة.
وفي الملف نفسه يتجاور من يكتبون بالعربية ومن يكتبون بغيرها من اللغات مثل إيتل عدنان وهو ما يكشف عن اتساع مفهوم «الأدب العربي» لدى القائمين على المجلة.
في افتتاحية العدد، تشير محررة المجلة «مارجريت أوبانك» إلى أن ثمة «العديد من المبادرات المهمة لتحسين وضع الترجمة الأدبية من العربية وتغيير مستوى الحوار والتبادل الأدبيين بين الدول العربية من ناحية وأوربا وأمريكا الشمالية من جهة». ومن المبادرات التي تشير إليها أوبانك، تلك المبادرة الخاصة بجائزة بانيبال للترجمة الأدبية من العربية التي تؤكد جدية المجلة والمؤسسة في التعامل مع قضية الترجمة إلى العربية، ليس باعتبارها «متنفسا» للأدب العربي والأدباء العرب وإنما باعتبارها وسيلة «لتغيير مستوى الحوار» بين العرب والغرب.
ليست بانيبال الجهد الأول ـ أو الوحيد ـ في تقديم الأدب العربي إلى قراء اللغة الإنجليزية ـ أو غيرها من اللغات ـ ففي مصر منذ خمسة عشر عاما سلسلة للأدب العربي المترجم للإنجليزية ـ تصدر عن الهيئة العامة للكتاب ـ يقول المترجم المصري الرائد د. محمد عناني إنها أصدرت أكثر من سبعين عنوانا لأدباء من بلدان عربية مختلفة. ولكن ما تتميز به مجلة بانيبال هو أنها تصدر في الغرب، وتتيسر للقارئ الغربي من خلال طبعة يألفها، ومن خلال قنوات توزيع لا تقتضي منه أن يقوم بزيارة منافذ هيئة الكتاب في وسط القاهرة.
والأهم من هذين الاعتبارين المهمين أن المجلة تعتمد في الغالب على مترجمين غربيين ينقلون عن العربية إلى لغتهم «الأم» وتلك في ظني هي المعادلة المثلى للترجمة.
وهي معادلة تزداد اكتمالا بوجود فريق تحرير نادرا ما يتوفر لمطبوعة معنية بالترجمة. فأغلب أفراد هذا الفريق ثنائي اللغة bilingual بالفعل: أنطون شماس، خالد مطاوع، سعدي يوسف، صمويل شمعون وغيرهم، بالإضافة إلى مستشارين للتحرير هم من أهم الأسماء الحالية في مجالي الترجمة والأدب: روجر آلن، إيتل عدنان، محمد بنيس، إدموند هيلر، سيف الرحبي، سركون بولص، وغيرهم.
لقد كان آشور بانيبال آخر ملوك الدولة الآشورية، وكان أعظم إنجازاته هو أنه جمع في نينوى ومن جميع أرجاء امبراطوريته أول مكتبة منظمة في الشرق الأوسط القديم، ضامة آلاف الألواح الطينية الحاملة للنصوص السومرية والبابلية والآشورية القديمة. هذا هو الاسم الذي تشتق منه بانيبال اسمها، وذلك هو الإنجاز الذي تستلهمه.