بجمل قصيرة ومكثفة تختزن قوة الشعر فيها، تكتب الكاتبة العُمانية بشرى خلفان مجموعتها القصصية الجديدة «حبيب رمان»، الصادرة عن مؤسسة الانتشار العربي. حيث تُمكنك بشرى من أن تقرأ قصصها في أكثر من مستوى. مستوى الإمتاعومستوى التأمل ومستوى التأويل. وبذكاء كبير تُفضل بشرى أن تختبئ جيدا وراء النص كما تُفضل أن تُخفي معها تفاصيل صغيرة كأنها تلعب مع القارئ لعبة الغميضة. تقوم بمهمة محو الزائد عن نصها وتحتفظ جيداببياضاتها، تلك التي تتكشف عبر القراءات العديدة للنص الذي لا يمنحك نفسه بسهولة، وإن بدا لك بسيطا غير متمنع في القراءة الأولى.
يمكننا القول أيضا بأن بشرى خلفان واحدة من أنجح الكتاب العمانيين الذين استطاعوا أن يتخففوا من زخرفة اللغة والجمل الطويلة مع الذهاب بقوة إلى شعرية العمق الجواني للنص. وهي من جهة أخرى تتخلى بسهولة عن الجمل الفضفاضة كما تتخلى عن تصوير المواقف بدراما عالية، عندما ترغب في التعبير عن وضع المرأة العربية، إذ لا تحتاج إلى «كلاشيهات» ممجوجة ومستهلكة لتقول لنا: «انتبهوا النساء يكابدن الكثير من المآزق». بل تصنع نصها بدلالات عالية الحساسية عبر نصوص ممتعة وخفيفة كالريشة، تلك الخفة التي نعي جيدا ما يرزح أسفل طياتها من ثقل وعمق. تلعب بشرى خلفان أيضا على بعثرةالزمن، لتتركك أمام لوحة مُربكة، تطلب منك إعادة ترتيبها أو تطلب منك على الأقل أن تبقى منتبها لها، وأن تتذكر كل جملة قرأتها، فالزمن غير مرتب، غير متصاعد في اتجاه واحد غالبا، هكذا يبدو كمؤشر نبضات القلب، في صعوده وسقوطه.. مؤشرا يؤكد حياة النصوص خارج أوراقها.
تجعل بشرى خلفان من تقنية الكتابة بطلا لبعض قصصها، كما هو الحال في قصة«سراج الأعمى»،حيث تركز القصة على طرح هذا السؤال: كيف سيكتب الراوي العليم حكاية سالم بن حمد، ماذا يفيد متن النص وماذا قد يُضر به. و عبر هذه الفكرة تخرج بشرى من مطب أن تجد مبررات واقعية أو حتى فانتازية للقصة. فقصة سالم بن حمد الحقيقية ظلت تتأرجح، كأن الكاتبة غير معنية بها، وإنما معنية بالكيفية التي ستكتب بها الراوي القصة. فهل فقد الشاب بصره فقط لأنه شاهد فتاة تستحم من ثقب جدار الطين عند طوي النل، أم ثمة ما نسي الراوي العليم أن يقوله لنا؟
ربما تهرب بشرى خلفان عبر هذا الأسلوب من قول الحكاية كاملة. تهرب من مسؤولية ذلك عندما تُحول الحكاية كاملة على عاتق الراوي العليم. ولذا وعندما يتاح لأحدنا أن يسأل بشرى عن فراغات السرد الغامض، ستكتفي بأن تقول بأنها قصة الراوي العليم. وربما تخاتل بشرى القارئ، تخاتل انتباهه وتوقعاته، وتترك له مساحة جيدة ليكتب نصه الخاص به.
اللعبة السردية تظهر أيضا في قصة «رجل الشرفة»، عن ذاك الذي يريد أن يتجاوز الأحداث سريعا فيعرج عليها كاملة تفصيلا تفصيلا. يُخبرنا أنه ليس من المهم أن نعرف كذا وكذا بينما يسرد لنا كل ما يرغب في نفي أهميته، ليصل إلى مبتغاه. المشهد يبدأ من دعوتنا لتجاهل عثرته الأولى على الدرجة المكسورة إلى الرغبة الكاملة في الوصف الكامل للحظة الوقوع الوشيك. فهنالك عثرة نتجاوزها لأنها لا تغدو شيئا وعثرة تكون النهاية الأبدية. عثرة عابرة وسريعة وعثرة أخرى تذكرنا بالعشاق والخيانات والذنوب والأخطاء.
وتستمر بشرى باللعب على حبل تقنيات السرد، ففي قصة «كوخ بمحاذاة البحر»، يغدو الراوي هو البطل، بينما الآخر المفترض هو غائب وحاضر في أذهاننا، نستطيع أن نفترض أحيانا أن نكون نحن القراء هو هذا الآخر المفترض. نعم جرعة كبيرة من الفضول تكبر في أنفسنا، ونحن نحاول جاهدين التكهن من عساه يكون هذا المتحدث إليه «الغائب» الحاضر.
تبتعد بشرى عن «الكلاشيهات» المعتادة التي تُقدم المرأة في صور مُتشابهة، مسحوقة ومحطمة، صورة المرأة التي تُطعن بخيانة الحبيب. تبتعد بشرى عن الصراخ الزائد، وخلق الدراما المتوترة والمكررة والنهايات البائسة والمتوقعة سلفا. تمسك بشرى بمتانة زمام نصها، وتقدم إمكانيات هائلة للقراءة والتأويل. فأبسط طموحات البطلة الصغيرة في قصة «ريشة الطاووس» أن تلمس الريشة المخبأة في المصحف، تلك التي تكون للموعودين بالجنة. ظلت تحلم بها، فتعلمت الصلاة ولم تغش في صيامها لأجل تلك الريشة. لمس الريشة يغدو أكبر همومها. لكن لا تغفل بشرى أن تصور لنا ذلك الانكسار لبطلتنا الصغيرة رغم العلاقة القوية التي تجمعها بصديقتها زمزم. فلم تكن لها كلمة في حياتها سوى أن تقول «هي والله» بكل رضوخ. هذه الشرارة الخفية التي توقدها بشرى، تفي بالغرض لكي يكتب القارئ نصه الآخر الذي لم تفصح عنه الكاتبة وتركته معلقا.
عندما قرأتُ نص «أرنب العتمة»، قلتُ في نفسي أنا أعرف هذه الفتاة جيدا. هذه التي يدلها أرنب البيجامة إلى الطريق. نعم إنه يشبه أرنب الحقل الذي دلّ أليس على الطريق المؤدي لبلاد العجائب. لكن من عجائب هذه البنت أن ترفض أمها أن ترتدي البيجامة لتلبس الجلبية التي تذعن بأنها تحولت إلى امرأة ناضجة. هكذا تقتنص بشرى خلفان تفصيلا يوميا بسيطالهذه الفتاة التي تستشعر أمها نضجها، تستشعر الخوف من ضجيج أنوثتها، وتقاوم ذلك باستبدال «البيجامة»بـ «الجلبية».
في «قض الملح»، لم يُحالف البطلة الحظ لتدخل الجامعة لدراسة الكيمياء فدرست كيمياء المطبخ، لتعد الأطباق السحرية لزوجها. كانت أٌقصى أمنياتها أن تذهب مع زوجها إلى فرنسا التي كان يزورها أربع مرات في السنة، ولكنها لم تفصح عن رغبتها تلك. كانت تزيل عن كاهله كل الأعباء، لتتحملها وحدها، فمن المهم أن يعود ليجد كل شيء براقا، ربما سنفكر بالكثير من الأشياء التي يمكن أن تخدش هذه العلاقة، ولكن بدلا من أن تذهب بشرى بنا إلى الرتابة المعتادة كأن تكتشف البطلة خيانة الزوج، تذهب بنا إلى تفصيل لا يكاد ينفصل عن رتابتها اليومية. الملح الزائد. الملح الذي توهمه الزوج زائدا ولم يكن ذلك حقيقيا. تلك الجرعة الزائدة التي تحمل دلالات عميقة لجرعة الدلال الزائدة التي تقدمها الزوجة برضا تام، دلالات لإلغاء الذات، كأن وجودها رهن لوجوده، لتكون ظله، فهي يوما لم تتمكن من أن ترى نفسها وخارج مظلة رضاه. لكن تهتز العلاقة، يهتز الشعور بالأمان منذ أن بدأت تظهر التماعة جديدة في عينيّ البطلة، منذ أن بدأ يظهر الزوج محتفظا بمملحته بشكل دائم إلى جوار طاولة الطعام. هكذا يتصاعد ضجيج الإرباك، عندما يتسلل ما يخدش اتساق العلاقة بينهما. وقد كان «الملح» وليس عبثا أن تختار بشرى خلفان الملح، لأن الملح هوالذي يُعطي الطعام طعما وذوقا. ولكن الزوج لا يريد أن يتعدى الملح المستوى المعتاد. لا يريده أن يتغير. كما لا يريد لتلك «الالتماعة» أن تظهر في عينيّ الزوجة. فهنالك ما يُهدد أمانه وانسجامه اليومي. هكذا تذهب بنا بشرى إلى العمق الإنساني عبر الخفة اليومية.
في قصة «الاخوان غريم وفساتين الأميرة»، تحاول «مها» إكمال قصة الأميرة. القصة الناقصة. قصة الأميرة السعيدة بالشعر القصير، وبالمرآة المائية وبالفساتين وبالخدود المتوردة. عبر هذه الفكرة المبتكرة تكشف بشرى عن التنميط الذي وقعت فيه المرأة لسنوات طويلة. فهي لا تُقدم في القصص إلا على أنها الفتاة الجميلة، التي لا هم لها سوى انتظار الأمير، والتخلص من لعنة الساحرات.. هكذا تثور بشرى على هذه الفكرة وذلك بأن تُشغل الفتاة «مها» بمحاولة إكمال الحكاية الناقصة. وعبر تفصيل بسيط ترينا بشرى اختلاف تفكير المرأة عبر الأجيال فأم «مها» تقول لابنتها: (تبدو الأميرة سعيدة وراضية في غرفتها فلماذا تريدين أن تخرجيها إن لم ترد هي ذلك؟). هكذا يفكر جيل الأمهات، بضرورة القناعة بمعطيات الأمور و قبولها كما هي. بينما جيل «مها» الجديد يريد نهاية أخرى، يريد أن يطرح الكثير من الأسئلة وأن يثور، «يبدو أن غفلة الأميرة كانت أعظم من أن تجليها حكايات الفتيات المتمردات على أقدارهن الضيقة، فتدفعها للتمرد على لعنة الساحرة ومع ذلك سأتدخل كقارئة وأنهي النص..» هكذا قررت «مها»، وبالفعل تكتب النهاية التي تريد للأميرة «جزت ضفيرتها بسكين وسقطت على العشب الطري».
كل هذه الجرأة، كل هذا الاندفاع لتغيير نهايات قصص الأميرات، لإخراجهن من قصورهن إلى الحياة، كل هذه المحاولات التي استمرت لسنوات طويلة، وفي اللحظة التي أوشكنا فيها أن نصفق عاليا لـ «مها» التي ترغب في أن تسجل نهايات أخرى للبطلة التي أحبت، تصفعنا بشرى خلفان بهذه الجملة «خرجت مها ساحبة ضفائرها الطويلة جدا خلفها»، فهذه الفتاة التي أرادت أن تغير واقع الأميرة والتي قضت ليالي طويلة في التفكير والسهر والتنائي عن اللعب والاستمتاع، كانت أضعف بكثير من أن تغير واقعها الشخصي. كانت تصنع التغيير لشخصية وهمية ورقية ، فيما كانت ترزح تحت وطأة واقعها وضفائرها الطويلة.
تميل بشرى خلفان لتلوين السرد، لكي لا يبقى على وتيرة واحدة، فتختار مثلا كتابة القصص المُركبة، قصة داخل قصة في هذه المجموعة. كما هو حال قصة «حبيب رمان» التي تحتوي على عدة قصص، قصةكتاب «طوق الحمامة» وكيف ينظر رجل وامرأة إلى الحب، وقصة المقهى والطرق التي يلتقي فيها حبيبان، والقصة التي حكتها الجدة للطفلة عن «حبيب رمان». نحن نعرف جديا أن هذه القصص لا تنفصل عن بعضها البعض فقصة حبيب الرمان التي تسرد باللهجة المحلية وعلى طريقة الجدات، تكشف حكاية الفتاة الفقيرة التي يذهب الأمير من بين يديها إلى بنت الجيران، وعادة نحن لا نبحث عن مبررات فنية قوية في قصص الجدات الشفهية.فلماذا يطلب ابن السلطان الزواج بالفتاة الفقيرة، وعندما تترك كوخها لتلتحق به، يتراجع عن ذلك ويذهب إلى بنت الجارة التي لا تشبهها. ولكن وبذكاء تستثمر بشرى خلفان المبررات الساذجة لقصص الجدات، لتقول بأن الحب والزواج لا يحتاج إلى مبررات قوية أصلا، تقول البطلة: «تركتك مشغولا بحب امرأة أخرى التقيتها مصادفة في لندن» . فهكذا تنتهي العديد من قصص الحب التي تبدأ متوهجة ثم تخبو شعلتها. لذا لم تجد البطلة صعوبة في أن تفرط بكتاب «طوق الحمامة» لأجل صديقة أخرى ربما تقع في الحب.. ولعل بشرى أرادت أو لم ترد أن تقول بأن التنظير في الحب لا يُصيب دائما.. فهو خارج كل هذا. وهو عادة ما نعيش وليس بالضرورة أن يكون ما نقرأه في الكتب التي نحبها.
هي أيضا لا تتحدث عن الفجائعيات، ولا تورطك بالحزن إلا من أبواب خفية. كأن تقبض مثلا على تفصيل الديناصور الذي انحنى الطفل لالتقاطه أكثر مما تركز على فجائعية دهس الأب لابنه.. هذا لأننا جميعا سننسى قصة الدهس – رغم مأساويتها- لأنها تكاد تتكرر كل يوم في الحياة، ولكن ستبقى خصوصية مشهد الانحناءة لالتقاط الديناصور لزمن ليس بالقصير.
بحساسية عالية تبني بشرى خلفان قصصها، عبر قبض مُحكم على حواس القراء للدخول بهم إلى سينما متحركة مُتدافعة، تكاد ترى أبطالها وتلمسهم وتشم روائحهم وتسمع أصواتهم، كأن حياة جديدة تدب فيهم بمجرد أن تقرر قراءة «حبيب رمان».
وربما يحمل عنوان المجموعة، الذي أرادت الكاتبة أن يُنطق بالدارجة العمانية وليس بالفصحى،دلالات أبعد من أن يكون عنوانا داخليا لنص، فكما تصطف حبيبات الرمان مرتبة إلى جواربعضها، تنضد بشرى قصصها قصة إلى جوار قصة، لكن القشرة الصلبة التي تجمعها واحدة ومتينة.
هـ . ح