في إحدى الحكايات الشعبية العمانية الخاصة بالمغيبين، هناك فتاة جميلة تحكم عليها ساحرة شريرة بالنوم لمدة مائة عام. وعندها تغيب الفتاة عن نفسها وأهلها وتستغرق في سبات عميق وتبقى على هذه الحال إلى أن يأتي فارس الأحلام ذات يوم فينحني عليها ويقبّلها، وإذ ذاك تستيقظ الفتاة وتعود إلى ديارها وتستقبل الحياة من جديد.
ويبدو لي أن مذكّرات الأميرة العمانية سالمة البوسعيدي،قد عانت، مثل صاحبتها، ما عانته تلك الفتاة المغيّبة في الحكاية الشعبية قبل أن يأتي عبد المجيد القيسي ويضع عليها قبلة الحياة تلك ويرد لها الروح عن طريق ترجمتها إلى لغتها العربية الأم، بعد حوالي مائة عام من كتابتها أول مرّة بالألمانية.
فقد أتمّ القيسي ترجمة هذه المذكرات عن الإنجليزية في أبو ظبي عام 1977م ونشرت بعد ذلك في لندن، قبل أن تقوم وزارة التراث والثقافة العمانية بنشرها بعد حوالي تسع سنوات من هذا التاريخ، تماما كما حصل للنسخة الأصلية التي كتبت بالألمانية عام 1877 ثم نشرت في برلين عام 1886، أي بعد تسع سنوات من ذلك التاريخ أيضا.
وعلى الرغم من أن لدينا الآن ترجمة أخرى كاملة عن الألمانية أنجزتها العراقية سالمة صالح ونشرت عام ٢٠٠٢، فإن ترجمة القيسي المشار إليها، بلغتها العربية الرائقة ومقدمتها التعريفية الواسعة ظلت تكتسب قيمة وثائقية خاصة، ولم تفقد أهميتها وبقيت فترة طويلة هي المعتمدة في تعريف النقّاد وجمهور القرّاء العرب على هذا الأثر الأدبي النادر. وماقيل عن النقص والاختلاف الموجود في هذه الترجمة عن النسخة الأصلية المكتوبة بالألمانية ليس كبيرا ولا خطيرا. وذلك لا يعني التقليل من شأن الترجمة الأخيرة ولا من قيمتها الكبيرة، ليس فقط لأنها منقولة عن اللغة الأصلية للنص وهي الألمانية، كما ذكرنا، وإنما لأنها اطلعتنا على المشابه والفروق الدقيقة الموجودة بين الترجمة العربية الأولى والترجمة أو الترجمتين الإنجليزيتين اللتين أخذت عنهما ترجمة القيسي. وكانت الترجمة الإنجليزية الأولى قد ظهرت عام 1888 والثانية عام 1905، إضافة الى ترجمة فرنسية ظهرت عام 1889.
والمهم أن قراءة هذه المذكرات تجربة مثيرة لكل من أغرم بأدب السيرة الذاتية، ولا سيما النسائية منها، وحاول رؤية حاضر التاريخ أو لحظات معيّنةمنه، وهي تنبعث من جديد بكل ألوانها وتفاصيلها وأشكالها الحيّة لتزوّد القارئ بوثيقة نادرة من تلك الوثائق التي يمكن أن تملأ الفجوة وتسدالثغرة القائمة بين الخيال والواقع، أو بين المثال وصورته العملية المختلفة قليلا أو كثيرا عما وقر في الذاكرة واستقرّ في المتخيل السردي التقليدي عن صورة بيت الحريم، وحياة القصور وسكانها من النساء والرجال الأحرار والعبيد وأسيادهم من السلاطين القدماء. وهي الصورة التي تختلط فيها الوقائع بالأساطير، والحقائق بالأخيلة المستقاة من الحكايات والقصص أكثر من الوقائع والحقائق الطبيعية لحياة البشر.
وقد كان يهمّني شخصيّا، أنا المولع بقراءة ألف ليلة وليلة والحكايات الخرافية، أن أستمع إلى شاهدة حقيقية تخرج حية من أحد هذه القصور لتكمل لنا رواية بعض ما بدأته خدينتها القديمة شهرزاد من حكايات وقصص، مع فارق أساسي هو أنّ الحكايات هنا حقيقية، وأن من تروي هذه المرّة ليست امرأة عاديّة، وإنما هي أميرة من أميرات القصر وواحدة من بنات السلطان نفسه.
وهو سعيد بن سلطان بن الإمام أحمد البوسعيدي.. المؤسس لحكم العائلة البوسعيدية في زنجبار والرجل الذي كان له كلّ ما للسلاطين والملوك القدماء من أسباب العظمة ونياشينها.. تاريخ حافل بالإنجازات العسكرية والتجارية والحضارية التي تعدت مساحة عمان الجغرافية لتشمل مناطق من الضفة الأخرى للخليج العربي وشرق أفريقيا حيث تحولت جزيرة زنجبار وما حولها في عهده إلى موطن جديد وعاصمة أخرى مزدهرة للدولة العمانية في جزءيها العربي والأفريقي. لقد وصف أحد قباطنة السفن الفرنسيين السيد سعيد حينما رآه أول مرّة عام 1846 بأنه كان جليل القامة، نبيل المنظر عظيم الأبهة، متصفا بأتم الصفات. وكتب الرحالة الإنجليزي (برتون) عنه بعد سنة من وفاته عام 1856:
(إنه كان سياسيا حاذقا، متمسكا بالدين دون تعصب، أنيسا بشوشا عظيم العواطف، ممتاز الهيئة والشكل.. يستحق أن تكتب هذه العبارة على ضريحه «إنه كان قريبا للسلم، وقريبا إلى الحرب، وقريبا إلى قلوب مواطنيه»).
وسعيد بن سلطان هذا هو الذي أهدى إلى ملك بريطانيا سفينة حربية تحمل سبعين مدفعا، ووصلت سفنه التجارية إلى نيويورك، وخطب ودّه أكثر من ملك ورئيس من ملوك ورؤساء ذلك الزمان.
ونظرة واحدة إلى مكوّنات القصر الرئيسي الذي ولدت فيه السيدة سالمة وأمضت فيه طفولتها وكتبت عنه بحب وعاطفة لا مثيل لها، هذا القصر المسمّى (بيت المتوني) يمكن أن تعطينا انطباعا عن طبيعة الحياة في هذا المكان..سبع وسبعون من السراري، مئات من الخصيان والخدم والجنود والطباخين والحرّاس والمرافقين، عشرات من الأبناء والبنات،برج بابل من اللغات العربية والسواحلية والفارسية والتركية والشركسية والنوبية والحبشية التي يلغو بها سكان القصر ذوو الأعراق والأصول والمنابت المختلفة دون مشكلات منظورةيخلقها داخل القصر هذا الواقع اللغوي والإتني العجيب. علما بأن العربية هي اللغة الرسمية التي لا يسمح التكلم بغيرها بحضور السلطان خصوصا.
ولئن كانت شهرزاد أميرة هذه المرّة كما قلنا، وليست مضطرّة لمواصلة الحكاية أمام سلطانها طوال الليل لتسكت في الصباح عن الكلام المباح، كما كانت تفعل شهرزاد القديمة دفاعا عن بنات جنسها من ضغينة زوجها السلطان خيفة من غدر النساء وخيانتهن، أقول لئن كانت السيدة سالمة تختلف عن شهرزاد الليالي العربية الشهيرة في طبيعة حكاياتها وشروط إنتاج هذه الحكايات ولغتها (وهي الألمانية) فإنها تتفق مع شهرزاد في بعض أهدافها. وهي الدفاع عن أبناء جلدتها العرب المسلمين ضدّ الظلم الذي لحق بهم من سلطان الثقافة المركزية الأوربية وذاكرتها وتصوراتها المليئة بالأوهام عن الشرق والجنوب المختلف في ديانته وثقافته وقيمه وتقاليده عن الشمال الذي وجدت هذه الأميرة العمانية فيه نفسها تتحدث وتكتب بإحدى لغاته، وتتحول إلى ديانته المسيحية، وتغيّر اسمها ولقبها لتصبح البرنسيس إميلي رويته Ruete Princess Emily
وثمة عديد من القصص والحكايات الواقعية التي ترويها السيدة عن حياة القصر تجعل المقارنة بين ما يقع في بعض هذه الحكايات وأوصاف بعض الشخصيات ليس بعيدا عن أجواء الليالي العربية. والصورة التي ترسمها السيدة لزوجة أبيها الشرعية الثانية الأميرة الفارسية شيزادة، تعطينا مثالا علىذلك.
فقد كانت هذه المرأة ذات الحسن الذي يشرح الصدر تصطحب معها مائة وخمسين فارسا، هم حاشيتها الصغيرة، كما تقول ا لسيدة. وكانت شيزادة تخرج معهم إلى الصيد في وضح النهار. وكانت فساتينها مطرّزة باللآلئ من الأعلى حتى الأسفل. وحين كانت عبداتها يجدن كمية غير قليلة من اللآلئ عند قيامهن بالتنظيف في الصباح، كانت الأميرة ترفض استعادتها رفضا قاطعا.
ولم تكتف هذه الأميرة الفارسية بنهب خزائن السلطان بهذه الطريقة، وإنما خرجت، كما تقول السيدة، على بعض الواجبات الجدية في القصر. فقد تزوجت السلطان لمقامه وثروته، بينما كانت تحب شخصا آخر. وقد كاد السلطان يرتكب خطأ قتلها في فورة من الغضب بعد عودتها من إحدى نزهاتها لولا أن منعه مرافق مخلص له يسمى سعيد النوبي، ليكتفي بتطليقها.
لقد كتبت السيدة سالمة هذه المذكرات أول مرّة عام 1877 لهدف خاص هو أن يقرأها أبناؤها الثلاثة (وهم ولد وبنتان ) حينما يكبرون فلا يجدون أمّهم التي كانت حينئذ خائفة من الموت إثر مرض ألمّ بها، ولتفسر لهم بعض الجوانب الغامضة في شخصيتها، وتحلّ بعض الألغاز المتصلة بأصلها الملكي الشريف وبيئتها العربية الأفريقية الجنوبية البعيدة، وتقلّب مصيرها وذكريات صباها.
أي أنها لم تكتب مذكراتها للنشر وإنما لشأن عائلي خاص يتصل بأولادها الصغار الذين أرادت أن تترك لهم في هذه المذكرات وصيّتها المثقلة بحبها الأمومي الصادق، كما تقول في المقدمة. وربما كانت حاجة السيدة إلى المال قد أسهمت في ذلك. وحين نشرت هذه المذكرات عام 1886 أي بعد تسع سنوات من تاريخ كتابتها، أضافت لها السيدة الفصل الخاص بما سجلته عن زيارتها مع أولادها إلى وطنها القديم زنجبار. هذه الزيارة التي قامت بها في ظروف سياسية ودولية خاصة بعد حوالي تسعة عشر عاما من رحيلها المفاجئ عن زنجبار، ودفعها فشلها في إجراء أية مصالحة مع أخيها السلطان برغش إلى ترتيب وضعها للاستقرار النهائي في ألمانيا واستبعاد أية فكرة في العودة إلى الوطن.
ومع ترجمة هذه المذكرات من الألمانية إلى الإنجليزية والفرنسية (والعربية في وقت لاحق، كما أشرنا) صار بإمكاننا أن نرى أن المروي له في هذه المذكرات ليس أبناء السيدة وحدهم، وإنما هو المجتمع الألماني ومن ورائه المجتمعات الغربية المشابهة. هذه المجتمعات التي راكمت طوال التاريخ الأوربي الوسيط وبدايات العصر الحديث خزينا هائلا من التصورات والمعتقدات الخاطئة عن الإسلام والمسلمين والشرق والشرقيين وسكان الجنوب عموما. ولذلك فإن هذه المذكرات لم تقتصر على كتابة السيدة عن شؤونها وشجونها الشخصية، وإنما تضمّنت كشفا يكاد يكون منهجيا عن وضع الجنوب والجنوبيين والمرأة المسلمة ولباسها وعاداتها وتقاليدها، وغير ذلك من موضوعات وقضايا فرضها على السيدة تلك الصورة المشوّهة في كثير من جوانبها عن الشرق والشرقيين، وكذلك حسّ المقارنةبين وطنها الأفريقي العماني القديم، ووطنها الجديد بلغته الألمانية وديانته المسيحيةالتي اعتنقتها بعد زواجها من ذلك التاجر الألماني الذي تركها، إثر موته المفاجئ في حادث سير، وحيدة تواجه مصيرها مع أطفالها الثلاثة. وتحاول في عمرها ذاك الذي لا يزيد على ثلاثين عاما لملمة أطراف تجارب سياسية واجتماعية وثقافية جمّة لم تكن قد هيأت نفسها تماما لمواجهتها في تلك السن المبكّرة.
وقد اكتسبت هذه المذكرات أهمية دفعت باتريسيا دبليو روميرو Patricia W. Romero التي قدمت للطبعة الثانية من المذكرات إلى الإنجليزية إلى القول بأنّ :
«مذكرات هذه الأميرة العربية تمثّل وثيقة لا مثيل لها في تاريخ المحيط الهندي والشرق الأفريقي طوال القرن التاسع عشر»:
(Memoirs Of An Arabian Princess From Zanzibar, Patricia W. Romero, New York , 1989 , p v )
وهناك طبعا رسائل ومذكرات عديدة كتبها أوروبيون في القرن التاسع عشر عن شؤون من نوع التي كتبت عنها السيدة سالمة، نذكر من بينها تلك المذكرات والرسائل التي كتبتها الإنجليزية الليدي ماري ورتلي مونتايك عام ٧٨٨١. وكانت مونتايك قد رافقت زوجها السفير في القسطنطينية وكتبت رسائل عن بعض مظاهر الحياة والشخصيات في بلاط آل عثمان إلى بعض صديقاتها وإحدى أخواتها. وهي تقارن ما رأته بحكايات الليالي العربية.
Byron Porter smith, Islam in English literature, New York, Dalmar, 1977, p 59.»
وعبد المجيد القيسي يشير في مقدمته إلى مذكرات نسائية أخرى وضعتها الشريفة (مصباح حيدر) في الإنجليزية عن الحياة في بيوت شرفاء مكة في استانبول ومكة المكرمة في مطلع القرن الماضي. وهو يقول إن ما ينقص كتابي هاتين الأميرتين ألا يكونا عربيي اللسان طالما كانا عربيي المصدر والروح والسمات. في حين يشير الدكتور معجب الزهراني إلى إنّ اللغة الأولى، لغة الذاكرة، هي المهيمنة في نص السيدة سالمة، نظرا لأن الأمر يتعلّق بمذكّرات.
( انظر، بهذا الصدد، معجب الزهراني، المنفى والسعادة لا يجتمعان، مجلة نزوى، ع٣-1995، ص23 )
ولغة الذاكرة هذه لابد أن تكون العربية، حتى إذا كانت المذكرات مكتوبة بالألمانية، كما رأينا. فهذه اللغة الأخيرة لا تملك، في حال من هذ النوع، إلا أن تؤلّف غلالة رقيقة تشفّ عما وراءها من عناصر ومفردات تلك اللغة الأم، لغة الطفولة والحنين والذكريات الدفينة.
وربما بالغ بعض الباحثين في رؤية ما تمثّله هذه المذكرات من وعي بالإشكالية القائمة بين الشرق والغرب بطريقة متطورة ومتقدمة عما نجده عند كتاب القرن الماضي ممن تعرضوا للعلاقة مع الحضارة الغربية، وأسهموا في تأسيس خطاب النهضة أمثال الطهطاوي وعلي مبارك وخير الدين التونسي وأحمد فارس الشدياق وعبد الرحمن الكواكبي.
(انظر، معجب الزهراني، المنفى والسعادة لا يجتمعان، مجلة نزوى، مرجع سابق ص ٢٢ )
فلم تكن السيدة سالمة قد فكّرت في صياغة خطاب نهضوي ذي طبيعة فكرية أو نظرية يشبه ما كتبه هؤلاء، وكل ما هناك أنها كتبت عن تجارب ومشاهدات وذكريات كان الوطن فيها حاضرا أكثر من حضور المنفى. ولو لم يتعرّض زوجها لذلك الحادث غير المنتظر، فلربما سلكت حياتها اتجاها آخر ماكانت فيه بحاجة إلى كتابة هذه المذكرات أصلا. ولعل السعادة أن تكون مفقودة أيضا لو وقع مثل هذا الحادث لزوجها في الوطن نفسه.
وأول ما يلفت النظر في هذه المذكرات هو شخصية صاحبتها القوية وتميّزها بين العشرات من أخواتها وأخوتها على نحو جعل أخويها السيدين ماجد وبرغش الوريثين الأساسيين لعرش السلطنة في زنجبار يتنافسان في كسب ودّهابعد وفاة أبيهما. وقد جرّ عليها انحيازها لهذا الأخ أو ذاك مصاعب ومشكلات جمّة أسهمت دون شك في دفعها إلى الهرب ومغادرة الجزيرة بتلك الطريقة غير المتوقعة، وجعلت رؤيتها لوطنها وعودتها إليه حلما من أحلامها.
لقد مارست هذه السيدة الفروسية وركوب الخيل وفنون القتال والمبارزة واستخدام الأسلحة المختلفة في عهد مبكر من حياتها، وكادت في إحدى المرات أن تدفع حياتها ثمنا لنشاطها وحركتها التي لا تكاد تهدأ داخل القصر. وحفظت أجزاء كبيرة من القرآن الكريم وهي في سن السابعة، وكسرت القاعدة التي كانت تحرّم على الفتيات تعلّم الكتابة. لقد فعلت ذلك في السر مسترشدة بالقرآن الكريم عن طريق تقليد حروفه بدقّة وكتابتها على عظمة كتف بعير كانت تقوم عندها مقام السبورة. وحينما نجحت في ذلك زادت شجاعتها وتقوّت عزيمتها، فمنحت أحد خدّامها المتعلّمين شرف أن يكون معلّمها، كما تقول. وهو أمر نادر في ظل السياقات الاجتماعية والثقافية القائمة آنذاك في المجتمع الأفريقي والعربي الأسلامي. وحين انكشف أمرها لمن في البيت صرخوا في وجهها بصورة مرعبة، ولكنها لم تكترث. وكم باركت بعد ذلك هذا القرار الذي سمح لها كما تقول أن تراسل من منفاها بألمانيا بعض أصدقائها المخلصين في وطنها البعيد. وهو أمر ربما كانت السيدة سالمة الوحيدة التي تفعله بين بنات جنسها في زنجبار.
ولعلّنا نستطيع أن نقدر بطريقة أفضل معنى معرفة فتاة مثلها للكتابة في ذلك الزمن حين نقرأ ما كتبه خير الدين نعمان بن أبي الثناء في كتابه (الإصابة في منع النساء من الكتابة) الذي ظهر في حدود ذلك التاريخ:
«أما تعليم النساء القراءة والكتابة، فأعوذ بالله إذ لا أرى شيئا أضرّ منه بهن، فإنهنّ لما كن مجبولات على الغدر، كان حصولهن على هذه الملكة العظيمة من أعظم وسائل الشر والفساد. فمثل النساء والكتب والكتابة كمثل شريك سفيه تهدي إليه سيفا أو سكّير تعطيه زجاجة خمر، فاللبيب اللبيب من يترك زوجته في حال من الجهل والعمى».
وذلك لا يعني أن التعليم لم يكن متاحا للبنات في بيت السلطان، إذ ما عدا هذه الكتابة المحرّمة على البنات تروي لنا السيدة سالمة تفاصيل طريفة عن (المدرسة في الشرق) في مقابل المدرسة الغربية التي خبرتها في ألمانيا من خلال مراقبتها لتعلّم أولادها، وأيضا من خلال اشتغالها بتدريس اللغة العربية لبعض الألمان.
وقد كانتفي بيت المتوني وبيت الساحل ما تسميه السيدة (مدرسة) يختلف إليها جميع أبناء وبنات السلطان بين سن السادسةوالسابعة. وبينما يتعلّم الصبيان القراءة والكتابة وبعض مبادئ الحساب، كانت الفتيات يتعلمن القراءة فقط كما ذكرنا، مع كتابة بعض الأعداد حتى المائة والعد شفويا حتى الألف. وما زاد على ذلك يعتبر أمرا منكرا. وكانت في هذه المدرسة معلمة واحدة استقدمها السلطان من عمان وتقوم بالتدريس في البيتين كليهما. وحين كانت هذه المعلمة تمرض وتلازم الفراش يعمّ الفرح بين الأطفال الذين يتمتعون بإجازة إجبارية. وكانت غرفة التدريس عبارة عن غرفة مكشوفة يدخلها الحمام والببغاوات والطواويس دون عائق.
« كنا نستطيعمن هنا أن نرى الساحة ونتسلّى بمراقبة الحركة النشيطة فيها تسلية رائعة. وكانت حصيرة كبيرة وحيدة تشكل اثاث مكان الدرس. وكانت أدواتنا المدرسية بسيطة أيضا. لدينا قرآن وحسب، مع مسند يوضع عليه ( مرفأ ) ومحبرة صغيرة وضع فيها حبر صنعناه بأنفسنا، ريشة من القصب وعظم كتف جمل قصر قصرا جيّدا، يقوم مقام السبورة. ويمكن الكتابة عليه بالحبر بصورة جيدة جدا، دون توتر الأعصاب الذي يسببه الصرير الناشئ عند الكتابة على السبورة، وقد كلّفت الإماء بمسح الألواح ».
ومع ذلك، فهذهالفتاة التي تعلمت بهذه الطريقة وفي مدرسة مثل هذه، هي التي دافعت في هذه المذكرات عن أبناء جلدتها الأفارقة والعرب المسلمين هذا الدفاع المجيد الذي لم يفعله في زمنها كثير من الرجال المتعلمين، فضلا عن النساء.
وفي ما كتبته السيدة عن المدرسة ومناهج التعليم الغربي ونظمه العامة، كما رأتها في ألمانيا، دليل على حكمة وبصيرة فكرية وثقافية نافذة. فهي ترى بأنّ هناك مبالغة كبيرة في هذا التعليم. يريد الكل أن يرتقي عن طريق التعليم أعلى وأعلى حتى لا يبقى حرفيون أبدا، حيث تعطى القيمة الأساسية للعلم والمعرفة. ولذلك لا يجب أن يستغرب المرء إذا ما حلّ محلّ الورع والبر والاستقامة والقناعة عدم الإيمان المخيف واحتقار كلّ ما هو مقدّس. ومع هذه الثقافة الخارجية للغالبية تزداد حاجات المتعلّمين ومطالبهم العادلة وغير العادلة من الحياة. فيتصاعد الكفاح ويشتد من أجل البقاء بكل وسيلة. نعم يجري هنا تثقيف العقل بصورة استثنائية دون الالتفات إلى القلب، فهو يزاح جانبا.
وهي تذكر كل هذا مع أنها لا تنكر أنّ في الكثير من عادات الشرق تزمتا وتطرفا قد لا تخلو منهما المجتمعات الأوربية. فمثلا هناك العزل بين الجنسين، وهنا الاختلاط والإباحة. هناك التستر والحجاب رغم الحر، وهنا في بلاد البرد نجد الصدر المكشوف والسيقان العارية، فالأمر يتعلق إذن باختلاف ثقافي لا يبرر الحكم المعياري على هؤلاء أو على أولئك من منظور التراتبية، فكلا الطرفين لم يكتشف القاعدة الذهبيةأي التوسطوالاعتدال، كما تقول.
وفي مكان آخر من كتابها تضرب السيدة سالمة مثالا على شجاعة المرأة الشرقية يتمثّل في عمتها السيدة موزة بنت السيد أحمد البوسعيدي التي كانت وصيّة على عرش السلطنة قبل أن يتمكن ابن أخيها من تسلّم زمام الأمور بعد بلوغه سن الرشد:
« حين توفي جدّي سلطان إمام مسقط ترك ثلاثة أطفال، أبي سعيد وعمي سالم وعمتي عائشة. كان عمر أبي تسع سنوات ولذلك كان نصب وصي عليه ضروريا. وقد أعلنت هذه العمّة خلافا للأعراف أنها ستتولى الحكم حتى يبلغ ابن أخيها سن الرشد، ورفضت أي اعتراض، وكان على الوزراء الذين لم يكونوا قد فكروا في مثل هذا القرار، بل إنهم فرحوا لأنهم يستطيعون أن يحكموا البلاد بأنفسهم بضع سنوات، أن يرضخوا. كانت الوصية تستدعيهم كل يوم لتتلقى تقاريرهم وتبلغهم بالأوامر والتعليمات. كانت تراقب كل شيء وتعرف ما يدور، فلم يخف عليها بنظرتها الحادة شيء، وهو ما كان يزعج المتقاعسين والكسالى.
لقد تخلّت عن الشكليات وظهرت أمام وزرائها محجّبة بالشيلة فقط، أي بالملابس التي ترتديها المرأة لدى خروجها. ولم تبال بما كان يعيبه العالم، وإنما سلكت طريقها بثبات ومهارة ونشاط. وكان عليها بعد وقت قصير أن تمرّ بتجربة صعبة. لم يكن قد مضى عليها في الحكم وقت طويل حتى اندلعت في عمان حرب خطيرة، كما يحدث كثيرا. لقد ظن أقارب لنا أنهم يستطيعون أن يسقطوا حكم المرأة وبالتالي حكم عائلتنا بسهولة، ويستلموا هم أنفسهم الحكم».
والسيدة سالمة تعرض بعد ذلك صورا من شجاعة هذه المرأة وحنكتها الحربية وقدرتها المدهشة على التصرّف في المواقف الصعبة لإفشال مخططات أعدائها. وهي تقول إن شخصية هذه المرأةتكذب قبل كل شيء تلك الحكايات عن «نقص المرأة الشرقية». واعتبرتها العائلة نموذجا في الذكاء والشجاعة وقوة العزيمة، «تروى حياتها وأعمالها المرة بعد الأخرى فيصغي الصغار والكبار إليها بكل انتباه».
وقد أوردت إحدى الصحف الأمريكية في القرن التاسع عشر ترجمة انجليزية لبعض ما وقع لهذه المرأة العمانية الشجاعة التي كانت وصية على عرش السلطنة، فقادت الهجوم المقابل و«انتصر السكان المحاصرون الذين كانوا مسلحين باليأس وهرب العدو في كل اتجاه، وسجدت الوصية على أرض المعركة وحمدت الله حمدا صادقا.» بحسب ما جاء في ترجمة هذه الصحيفة.
( انظر، بهذا الصدد، دراسة الدكتور عبد الله الحراصي، عمان في الصحافة الأمريكية في القرن التاسع عشر، مجلة نزوى، ع. 48، اكتوبر 2006 )
السيدة سالمة كانت، كما هو معروف، ابنة لأمة شركسية الأصل انتزعت في وقت مبكّر من وطنها في حكاية مأساوية. فقد كانت هذه الأم ذات الشخصية القوية والملامح الحادة قد عاشت في وطنها مع أبيها المزارع وأمها وأخويها. ثم اندلعت الحرب وامتلأت البلاد بأفواج اللصوص، فلجأت العائلة إلى مكان تحت الأرض، حسب ماترويه الأم لابنتها، لكنّ قطيعا متوحّشا من الألبان اقتحم هذا الملجأ وقتلوا الأب والأم واختطفوا الأطفال الثلاثة ومضوا بهم على خيولهم. وقد اختفى الأول الذي يحمل الأخ الأكبر عن أنظارهم بعد وقت قصير، بينما بقي الإثنان اللذان حملا الأم مع أختها الصغيرة ذات السنوات الثلاث يسيران بهما حتى المساء قبل أن تنفصلا، فلم تسمع عن أختها وأخيها شيئا بعد ذلك.
وقد صارت أم السيدة سالمة في حيازة السلطان سعيد وهي لمّا تزل طفلة في السابعة أو الثامنة، وقد فقدت في بيت السلطان أول أسنانها اللبنية، بحيث كانت تشارك اثنتينمن أخوات سالمة اليافعات اللعب، ونشأت معهما وعوملت مثلهما، وتعلمت القراءة معهما أيضا. وهي أي القراءة فن رفعها، كما تقول السيدة، عن مثيلاتها من الإماء اللاتي كن يأتين غالبا بين سن السادسة عشرة والثامنة عشرة أو اكثر من ذلك، فلا يشعرنبالرغبة في الجلوس مع أطفال صغار على حصيرة المدرسةالقاسية.
ولم تكن أم السيدة سالمة جميلة جدا، ولكنها كانت، كما تصفها ابنتها، طويلة القامة وقوية البنية ذات عينيين سوداوين وشعر أسود يصل إلى ركبتيها. وقد كانت رقيقة الطبع لا تحس بفرح عميق كفرحها حين تكون قادرة على مساعدة الآخرين.
ومن الغريب أن السيدة سالمة لم تحدّثنا بما يكفي عن طبيعة العلاقة التي كانت تربط أمها بعد أن صارت أم ولد بأبيها السلطان سعيد، وكل ما ذكرته هو أن لهذه المرأة حظوة كبيرة لدى السلطان، وأنه لم يرفض لها أيّا من طلباتها التي كانت غالبا من أجل الآخرين، وكيف أنه كان يتقدم لاستقبالها بانتظام حين تأتي إليه. وهو امتياز نادر، كما تقول.
وعلى العموم، ظل ماكتبته سالمة عن أمها مزيجا من الحب ومحاولة استبطان مشاعر الكبرياء والألم اللذين غلّفا حياة هذه الأم بغلالة رقيقة لا يمكن التعبير بسهولة عن بنيتها وبطانتها النفسية والجسدية العميقة. وكان الموت المبكّر لهذه الأم قد ألقى بظلاله على حياة ابنتها، وأسهم في تكوين شخصيتها المستقلّة، وخلق منها سيّدة رفيعة تواجه مشكلاتها وحيدة، ولا تبوح بمكنونات صدرها للآخرين.
(انظر، خليل الشيخ، قٌراءة في مذكرات أميرة عربية، مجلة نزوى ع24، أكتوبر 2000، ص ٩٩ )
لقد توفي والد سالمة السلطان سعيد الذي لم تذكر اسمه إلا مقترنا بالاحترام والتقدير وهي في الثانية عشرة، وتوفيت والدتها بعد ثلاث سنوات من هذا التاريخ. فكتبت تقول :
«أصبحت ولم أكد أبلغ الخامسة عشرة يتيمة الأب والأم في هذا العالم الذي يشبه سفينة دون مقود تستسلم لموج البحر الذي تحرّكه العاصفة. لقد قادتني أمي دائما بذكاء وتفهّم، وأمّنت لي حاجاتي وفكّرت عنّي، والآن عليّ أن أتحمّل جميع مسؤوليات الراشدين دفعة واحدة».
والسيدة سالمة ترسم لنا صورة عن نساء أبيها الأخريات من السراري الحبشيات والشركسيات اللاتي كانت لهن طلعة أجمل من الحبشيات، على الرغم من أن بين هؤلاء الأخيرات نساء ذوات جمال غير عادي.
ومن السهل على المرء أن يتخيّل وجود ضروب من الحسد والحقد والمنافسات بين جميع هاته النسوة من سراري السلطان اللائي يبلغ عددهن أكثر من سبعين واحدة، كما أسلفنا. فقد كانت الحبشيات ذوات لون الشوكولاته، مثلا، يتجنبن كل شركسية تتمتع بالجمال دون سبب أو ذنب غير كونها بيضاء وجميلة.
وثمة ماتسميه السيدة بـ(الكراهية العنصرية) بين الأخوات من بنات السلطان أنفسهن. وهي تقول إن الحبشية تتسم رغم بعض فضائلها بالكراهية والميل إلى الثأر،فإذا توقدت عواطفها، فإنها نادرا ما تكون معتدلة. وكانت أخوات السيدة اللاتي يجري في عروقهن دم حبشي من ناحية الأم يطلقن على بنات الشركسيات اسم (القطط) لأن لهنّ عيونازرقاء. وقد وضعت سراري السلطان بينهن تراتبية أخرى. فالشركسيات الجميلات الثمينات اللائي يعين قيمتهن لا يردن أن يتناولن الطعام مع الحبشيات اللواتي لهن لون القهوة. فكانت كل مجموعة عنصرية تتناول طعامها على حدة وفق اتفاق غير معلن.أما الأطفال فلم يكن مجتمعهم داخل القصر وخارجه يعاني من مثل هذه الفوارق والاختلافات. وكانت السيدة سالمة سعيدة في إقامة علاقات مع الجميع دون موانع يفرضها اللون أو الجنس، اللهم إلا ما يحصل بين بني البشر من اختلافات وحسد ومنافسات تدفع إليها أسباب وغرائز طبيعية، خصوصا إذا قست الطبيعة على بعض هؤلاء الأطفال. كما حصل لأختها الصغيرة الجميلة (نونو) التي ولدتها أمها الشركسية عمياء. فقد كانت هذه الطفلة التي حظيت بعطف أبيها السلطان ورعايته بعد أن فقدت أمها بعد فترة قصيرة من ولادتها، تسبب الذعر لجميع الأمهات اللواتي لهن أطفال صغار. وعلى الرغم من أن هذا يبدو عصيا على التصديق، طاردت (نونو) وهي بين السادسة والعاشرة من العمر جميع أخوتها الذين يصغرونها سنا لتسمل عيونهم. وما كانت تعلم بولادة أخت أو أخ صغير حتى كانت تسأل عما إذا كانت عيناه سليمتين ويستطيع أن يرى. وبالتدريج كان الأهل يفضلون عدم إخبارها بالحقيقة، وكانت سالمة تلاحظ مدى فرح هذه الصغيرة حين تعلم أن ثمة آخرين لا يستطيعون مثلها أن يتمتعوا برؤية الشمس والقمر. كان الحسد يملأ قلبها الصغير. وقد روت السيدة سالمة كيف أن لها أخا صغيرا يثير الإعجاب بأهدابه الرائعة الطويلة سمع مرّة يصرخ مرتعبا بعد أن تركته أمّه لتناول الغداء وتركته الأمة للحظات، وحين اسرع الجميع إليه وجدوا (نونو) إلى جانبه وقد قصّت أهدابه وحاجبيه !
أما المرأة التي ارتبطت بها السيدة سالمة وأحبتها أكثر من سواها فهي أختها خولة التي تعرفت إليها في بيت الساحل، حيث كانت، مع شريفة، البنت المفضلة لدى أبيهما السلطان سعيد. لقد كان جمال خولة وسعة عيونها مضرب المثل في بيت المتوني، فهي بالنسبة للسيدة (شعاع الضوء) مرّة، و(نجمة الصبح) مرّة أخرى.
وقد روت لنا السيدة سالمة حكاية طريفة عن هذه الأميرة الباهرة الجمال. فقد حدث لأحد رؤساء القبائل العرب، خلال مهرجان للمبارزة أقيم قريبا من بيت السلطان، أن تسمّر بصره إلى إحدى النوافذ مأخوذا بسلطة غير مرئية، فلم يشعر بالدم المتدفق من إحدى قدميه ولا إلى الألم الذي تسبب عن ذلك. لقد غرز ذلك الرجل، الذي كان ينظر إلى النافذة التي تقف فيها خولة فسحره جمالها، حربته في قدمه وجرح نفسه، دون أن يشعر بشيء.
غير أن بعض الأخوة والأخوات في بيت المتوني كنّ يكبرن سالمة بكثير، وكان يمكن لبعض أخواتها مثل شيخة وزوينة أن يكنّ جدات لها. بل كان للأخيرة ابن لم تره سالمة إلا والشيب قد وخط لحيته.
أما المرأة الحاكمة بأمرها في القصر فهي السيدة عزّة بنت سيف زوجة السلطان سعيد الشرعية الوحيدة ( إذا استثنينا تلك الأميرة الفارسية التي لم يدم زواجه منها طويلا ). فقد كانت هذه المرأة تملك رغم صغر حجمها وعدم وجود ما يميّزها في المظهر سلطة كبيرة على الجميع بما في ذلك السلطان نفسه، حتى أنه كان يتبع تعليماتها طائعا. وكانت متعجرفة إزاء النساء الأخريات وأطفالهن، متعالية ومتطلّبة. غير أنه لم يكن لها أطفال، وإلا لكان طغيانها لا يطاق، كما تقول السيدة سالمة في مذكراتها.
وقد كان وجود هذه السيدة الدائم في بيت الموتني قد أضفى شيئا من الكآبة والوقار المصطنع الذي طالما ضاقت به سالمة واخوانها الأطفال وأمهاتهم. في حين أن الأمر كان مختلفا بعض الاختلاف في بيت الساحل الذي أمضت فيه السيدة سالمة ردحا من صباها وشبابها. والنص التالي يمثّل واحدة من الصور القلمية الجميلة التي رسمتها السيدة للحياة الصاخبة في هذا البيت :
«كان يمكن للرسام أن يجد في شرفتنا في بيت الساحل مادة وفيرة لريشته. فقد كانت الصور في كل الأوقات شديدة التنوع وملوّنة. وجوه الحشد تتدرج من ثماني درجات لونية إلى عشر. وسيكون على الفنان أن يستخدم ألونا صارخة لكي يستطيع أن يعكس صورة حقيقية لكل الثياب الملونة. كان الضجيج على الشرفة مربكا أيضا. أطفال من مختلف الأعمار يركضون، يتخاصمون ويضرب بعضهم بعضا في كل الزوايا. وخلال ذلك يرتفع نداء بصوت عال وتصفيق باليد يقوم في الشرق مقام الجرس لنداء الخدم، يضاف إلى هذا قرقعة قباقيب النساء الخشبية التي ترتفع من خمسة إلى عشرة سنتمترات، وكثيرا ما كانت موشاة بالذهب. وكان خليط اللغات في هذا المجتمع ممتعا بالنسبة لنا نحن الأطفال».
ولعلّ واقعة حب السيدة سالمة لذلك الشاب الألماني هي المفصل الأكثر أهمية في حياة السيدة في زنجبار. وقد حدث ذلك، كما تقول في الفصل الذي يحمل عنوان (تحوّلات كبيرة) من مذكراتها، في زمن مقبض ساد فيه كثير من الكدر والشقاق داخل العائلة.فبعد المؤامرة الفاشلة التي تورطت فيها السيدة مع أخيها برغش وأختها خولة ضدّ أخيها ماجد الذي آلت إليه شؤون السلطنة في زنجبار بعد وفاة أبيه السلطان سعيد عام 1856، ونفيالسيد برغش إلى الهند، لم تعد أمور السيدة سالمة تسير كما يجب. فقد شعرت بالإحباط والحرج من أخيها الطيب ماجد الذي ربطتها به علاقات وثيقة أكثر من أيّ واحد من إخوانها الآخرين. وكانت قد انتقلت مع أمها في وقت سابق من بيت الموتني لتعيش معه ومع أخته الشقيقة خدّوج سنتين في بيت واحد بعد زواجه من قريبته عائشة.
في هذا الوقت بالذات تعرفت السيدة على شاب ألماني كان يقيم في زنجبار ممثلا لبيت تجاري في هامبورغ. وقد اثير لغط كثير حول طبيعة هذه العلاقة، وكتب عنها بعض الأوربيين، مثل باتريسيا دبليو روميريو التي وضعت مقدمة الطبعة الإنجليزية الثانية من المذكرات، ما لايصح في حق هذه السيدة. وقد شعرت السيدة قبل غيرها بالحاجة إلى توضيح بعض الالتباسات التي رافقت علاقتها بهذا الشاب الألماني وزواجها منه بعد ذلك في عدن. وهي تقول إنها تعرفت على زوجها المقبل بعد انتقالها من مزرعة الساحل الريفية إلى بيت في المدينة. وكانت قد تنازلت مضطرة عن السكنى في هذه المزرعة لأحد القناصل الإنجليز بطلب من أخيها السلطان ماجد. الأمر الذي جرّ عليها رضا السلطان من ناحية وغضب أختها خولة التي اعتبرت هذا التنازل علامة تودد لا موجب لها للسيد ماجد غريمهما المشترك، من ناحية أخرى.
كان بيت السيدة الجديد في المدينة يقع إلى جانب بيت ذلك الشاب الألماني مباشرة. وكان سطح بيته أوطأ من سطح بيت السيدة، فكان هذا يوفر لها أن ترى من أحد الشبابيك بعض الحفلات البهيجة التي كان هذا الشاب ينظمها لأصحابه الأوروبيين من أجل أن يري السيدة وجبات الطعام الأوروبية. وسرعان ما تحولت صداقتهما مع مرور الزمن إلى حب عميق شاع أمره بين الناس، كما تقول. وحين عرف بذلك أخوها السلطان ماجد لم يبد منه أيّ عداء إزاء السيدة ولم يسجنها، كما أشيع في حينها.
لكنّ السيّدة شعرت بالحاجة إلى مغادرة وطنها سرّا طالما كان الارتباط بالحبيب غير ممكن في تلك الظروف، كما هو معروف. وقد اخفقت محاولتها الأولى، ولكن تهيأ لها بعد ذلك بوقت قصير فرصة أفضل بمساعدة زوجة أحد الأطباء الإنجليز التي كانت صديقة للسيدة. فقصدت محطتها الأولى، وهي عدن، على ظهر سفينة حربية انجليزية. وهناك نزلت في بيت عائلة اسبانية كانت قد تعرّفت إليها في زنجبار. وسرعان ما التحق بها خطيبها بعد تصفية أعماله التجارية في زنجبار. وقد جرى تعميدها في كنيسة انجليزية في عدن لتتحول إلى الديانة المسيحية وتكتسب اسمها الجديد (إميلي رويته) ولتعقد قرانها بعد ذلك مباشرة وفق الطقوس الإنجليزية، وتأخذ السفينة إلى هامبورغ حيث عائلة زوجها، مرورا بمرسيليا.
هذه هي باختصار قصة هذا الزواج الذي ختمت بها السيدة حياتها في زنجبار، لتبدأ بعدها حياة كفاح أخرى كتب على هذه السيدة أن تعيشها وتعانيها بعيدا عن أحبتها وأهلها ومراتع صباها، خصوصا بعد الموت المفاجئ لزوجها في حادث سير بعد ثلاث سنوات من زواجها منه، وخسارتها لجزء كبير من ثروتها في عمليات نصب واحتيال تعرّضت لها في هامبورغ. وقد اصطدمت رغبتها في العودة إلى وطنها بموت أخيها ماجد، وتولي السيد برغش، الذي لم يغفر لها تصالحها مع ماجد، مقاليد حكم الجزيرة من بعده.
وكما يقول عبد المجيد القيسي في مقدمته على ترجمة المذكرات، فقد يقسو البعض في حكمه على هذه المرأة التي خرقت تقاليد قومها وأساءت إلى سمعة بيتها الكبير وهجرت بلدها وتركت دينها، ولكن لعلّ لها عذرا وأنت تلوم. ويكفي أنها دفعت ثمن خطيئتها حياة طويلة من الغربة والتشرّد والكفاح المرير من أجل العيش لها ولأبنائها، ولعل كتابة مذكراتها هذه ما هو إلا مظهر ندامة وتكفير عما صنعت.
في حين يذكر الناقد السعودي معجب الزهراني أن الأمر ربما اختلف لو أن السيدة سالمة كانت تنتمي من ناحية الأم إلى أسرة عربية عريقة، وليست هجينة. وهو يضيف إلى ذلك أنه لهذا السبب تحديدا كانت النساء الحرائر طوال تاريخ الحضارة العربية الإسلامية كثيرا ما يتمنين وضعيات الجواري لأنهن ينلن من هامش الحرية ما يسمح لهن بتحقيق الذات بعيدا عن سلطة العلاقات القبلية الضاغطة.
( معجب الزهراني، مجلة نزوى، مرجع سابق، ص 26 )
لقد كان اكتشاف السيدة للعالم الأوروبي وتعرفها على كثير من النواحي المجهولة لديها ولدى موطنيها العرب المسلمين والأفارقة الزنجباريين فيه، المادة الأساسية للمذكرات، وإن يكن ذلك قد جاء بطريقة معكوسة. فقد حال حنينها الدائم إلى وطنها وأهلها وأصدقائها دون انخراطها بشكل كامل في حياتها الجديدة بوصفها مواطنة ألمانية لها اسم وديانة ولغة تختلف عن لغتها العربية وديانتها الاسلامية. فبقيت، كما أسلفنا، عربية الروح والهوى، لم تفرّط بمبادئها ولم تحاول الإساءة إلى وطنها وعائلتها وأصلها الملكي النبيل. والدفاع الذي قدمته عن كثير من القيم الأخلاقية والدينية والتربوية للجنوب والجنوبيين بين أيدي هذه المذكراتدليل أكيد على مدى أصالتها الفذّة وقدرتها على الإفادة من تجاربها في الحياة والفكر. وكما يقول الدكتور خليل الشيخ في قراءته للمذكرات، فإن عالم الشمال لا يكاد يذكر مقارنة بعالم الجنوب.فقد ظلت المذكرات، في خضم المواجهة مع الآخر، منشغلة بالوطن، تبعث فيه الحياة، وتستحضر تفصيلاته، وتعمد إلى إسدال الستار على تفصيلات الحياة في الشمال، فكأن العلاقة بين السيدة سالمة الحاضرة في تفصيلات الكتاب، المغيّبة عن العنوان، وبين إميلي روتي Emily Reute علاقة محو متبادلة، حيث تقوم سالمة بمحو إميلي وهي تستحضر تكوينها الثقافي والحضاري والمعرفي، مثلما تقوم إميلي بإلغاء سالمة على مستوى الواقع، فتبرز الشخصية المعاصرة في رداء مختلف، وسياق مغاير.
( انظر خليل الشيخ، مجلة نزوى، مرجع سابق، ص ٩٩)
ولا أجد لذلك دليلا أكثر قوة من وصف السيدة لمشاعرها وهي تدخل مدينة الاسكندرية وترى ميناءها وهي في طريقها إلى الوطن بعد تسعة عشر عاما من الفراق والغربة:
«عند دخول هذه المدينة بنخيلها ومنائرها انتابني شعور بالبهجة وكأني في وطني، شعور يحسّ به المرء ولا يتمكن من وصفه، ولا يستطيع أن يقدّره إلا من بقي غريبا عن وطنه في ظروف مماثلة فترة طويلة. لم أر الجنوب الحقيقي منذ تسعة عشر عاما، وقد أمضيت شتاء بعد آخر أمام الموقد الدافئ في ألمانيا. ورغم أني كنت مقيمة في الشمال وأحمل على عاتقي الواجبات الكثيرة لربة بيت ألمانية، فقد كانت أفكاري دائما بعيدة، بعيدة من هنا. لم يكن ثمة تسلية وانشغال أكبر بالنسبة لي من أن أجلس وحيدة دون مقاطعة مع كتاب يصف الجنوب. فلا عجب أن أفقد صوابي تقريبا لمرأى الاسكندرية وأنظر إلى حركة الجموع في الميناء، كما في الحلم. »
لقد أسهبت المذكرات في تقديم وصف شائق للبيوت والمزارع التي عاشت فيها السيدة مثل بيت المتوني وبيت الواتورو وبيت الساحل وبيت الثاني، وعرضت لتفاصيل الحياة اليومية في هذه البيوت، بما فيها من عادات وأنظمة متبعة ووجبات طعام، وزيارات وتجهيزات سنوية، وملابس وأزياء، وحفلات زواج وولادة، والسنة الأولى من حياة كل أمير وأميرة، والمدرسة في الشرق. وتحدّثت عن مكانة المرأة في الجنوب، ومجالس الرجال وما يدور فيها من أحاديث وأحداث ومناقشات، وعن شهر رمضان والصلوات، والعيد الصغير والكبير، والأمراض والعلاج الطبي والمسكونين والسحرة، والرق.كما رسمت صورا قلمية بليغة لبعض الشخصيات التي عاشت معها السيدة أو رأتها وأثّرت في حياتها من أخوات وأخوة وأقرباء، وغير ذلك من موضوعات ونماذج بشرية ملأت بحركاتها وصورها وأنفاسها صفحات هذه المذكرات وجعلت منها وثيقة نابضة بالحياة لكل من أراد التعرّف على روح العصر والمرحلة التاريخية التي عاشتها زنجبار تحت حكم الأسرة البوسعيدية طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ولئن كان من الصعب تقديم صورة ولو ملخّصة لكل هذه الموضوعات والكيفية التي عرضت فيها بذكاء وعفوية اعتمادا على الخبرة والتجربة الشخصية للسيدة، وليس على مجرد الآراء النظرية. أقول إذا كان الأمر كذلك، فلا أقل من الاقتصار على بعض هذه الموضوعات مثل موضوع ( الرّق) الذي تحدّثت عنه السيدة بإسهاب يتناسب مع اهتمام الأوروبيين به آنذاك، ولما له من أهميّة أثّرت، بين عوامل أخرى، على وجود الدولة العمانية في زنجبار، وحكم السادة البوسعيديين الذي امتدّ حتى عام 1964م في تلك الديار.
وهي تؤكد منذ البداية أنه موضوع مثير للجدل ولن تكسب أصدقاء كثيرين من خلال وجهة نظرها فيه. ومع ذلك فقد وجدت أن من واجبها التعبير عن وجهة نظرها هذه بعد أن واجهت الجهل حول هذه القضيّة في كل مكان. مشيرة إلى أن القضية تتعدى الدوافع الإنسانية التي تحرّك عواطف كثير من الأوروبيين، لتفتح الباب لرؤية المصالح السياسية التي تختفي وراء المطالبة بإلغاء الرق.
وكانت السيدة سالمة لمّا تزل طفلة حين انقضت المدّة المتفق عليها بين أبيها والإنجليز، التي بقتضاها يصبح جميع العبيد من الهنود والبانيان المملوكين للإنجليز، أحرارا. وهو امر لم يقتصر ضرره على المالكين الذين فقدوا بين ليلة وضحاها، كما تقول، جميع العمال المرتبطين بمزارعهم، وإنما أصبحت سعادة جزيرتهم الجميلة موضع شك، بعد أن أصبح مالكو عدد من مزارعها الكثيرة مجموعة من الكسالى واللصوص. فقد رأى هؤلاء العبيد المحرّرون الذين تصفهم السيدة بأنهم أطفال كبار أن جوهر حريتهم يكمن في أنهم لم يعودوا بحاجة إلى العمل، فاحتفلوا بهذه الحريّة على طريقتهم الخاصة دون أن يهتموا بواقع أنهم لم يعودوا يحصلون من أسيادهم السابقين على مأوى ونفقات عيش.
غير أن هذا الأمر كان يشمل الإنجليز وحدهم، إذ لم تكن بريطانيا في ذلك الوقت قادرة على أن تملي على السلطان سعيد ما يجب أن يفعله في بلاده، كما فعلت بعد ذلك مع بعض أولاده وأحفاده الضعفاء من حكام زنجبار. وهكذا بقي الآلاف من العبيد في مزارع السلطان ومزارع رعاياه من العرب يعملون دون أجر مقابل سهر أسيادهم على ضمان معيشتهم والحرص على راحتهم، وفعل كل ما هو ضروري من أجل ديمومة الإنتاج الزراعي ولاسيما إنتاج القرنفل الذي اشتهرت به جزيرة زنجبار، وشكّل المادة الأولى في تجارتها الخارجية. ولا عجب، كما تقول السيدة سالمة، أن يشعر العرب بالريبة الشديدة إزاء الأوروبيين، ويحنون إلى الأزمنة السعيدة التي كانوا فيها في مأمن من الأفكار الهدّامة لهؤلاء الأوروبيين. فهم، أي العرب، يرون أن إلغاء العبودية بتلك الطريقة يهدف فقط إلى تدميرهم والإضرار بالإسلام نتيجة لذلك. وهم يتوقعون من الإنجليز خططا غادرة مختلفة. وهي تنقل عن بعض الأوروبيين قولهم: «إن إلغاء مفاجئا وعنيفا للرق يمكن أن يؤدي إلى الخراب والانهيار الخلقي التام في البلدان المعنية، إن لم يوفّر في الحال بديل شامل. والوضع القائم في جزيرة زنجبار التي كانت مزدهرة سابقا شاهد بليغ على وجهة نظري».
«وإذا وقع العبد في أيد ثابتة فإن وضعه لا يكون سيئا، وإنما العكس، غالبا ما يكون أفضل مما هو في الوطن. ففي جنوب تنزانيا، على سبيل المثال، يحكم سلاطين قساة، والعبيد الذين يؤتى بهم من هناك لا يريدون العودة بأي ثمن».
«لا يرهق العبد لدى العربي بشكل عام، ولا يحكم بالعقوبة البدنية إلا على المجرمين، لأن التشدّد الكبير يقتضي نفقات كبيرة على المراقبين. وعدا هذا، فإن العرب يمنحون عبيدهم الحريّة إذا كانوا قد خدموا بإخلاص من 10 إلى 15 سنة»
وهي تنقل عن كتاب الانجليزي جوزيف تومسن (رحلة إلى بحيرات أفريقيا الوسطى ) ما يلي :
«تظهر جميع طبقات المجتمع حالة من المرح والرضا تبدو في أي مكان آخر أمرا غير عادي، ولكنها هنا في بلد مثالي، حيث يعيش المرء يومه برفاه بأربعة إلى ستة بنسات. لا يرى المرء هنا في أي مكان عبيدا جياعا أو أسيئت معاملتهم، فإذا بلغ السلطان ( سلطان زنجبار ) عن حالات من المعاملة غير الإنسانية، فإنه يتم عتق العبيد المعنيين وتوفر لهم الحماية من غلظة سيدهم. يبدو لي أن هذه الطبقة تعيش هنا بالفعل في وضع مريح يلفت النظر وتتمتع بالحريّة أكثر من آلاف عمال التجارة والبائعات عندنا».
ولا غرو بعد ذلك أن تبدو المطالب الإنجليزية لإلغاء الرق نوعا من الدجل، كما عبّر للسيدة عن ذلك انجليزي آخر عاش في الشرق فترة طويلة. فالقضاء على مؤسسة عميقة الجذور مثل الرق لا يمكن أن يتم بضربة واحدة، وإنما بصورة تدريجيّة تماما، التخفيف منها ثمّ التمهيد لإلغائها.
وأسوأ ما في هذا الذي تسميه السيدة مؤسسة هو تجارة الرقيق التي يتهم الأوروبيون التجار العرب بقيادتها وسوق قوافلها من العبيد من داخل القارة إلى الساحل، حيث يموت عدد لا يحصى منهم في مسيرتهم الطويلة من الإعياء والعطش، وهو ما كان على قائدهم أن يتحمله معهم. ومع هذا العناء، فإنه من الهراء أن يوصف تاجر العبيد بأنه شرير بشكل خاص، من دون أن يوجّه الاتهام إلى من يطلبون هؤلاء العبيد ويستخدمونهم من الأوروبيين والأمريكان.
وقد استغلت البعثات التبشيرية المسيحية وضع الزنوج الجائعين والعاطلين عن العمل أبشع استغلال، فبنت لهم كنائس لا يحتاجونها، واشترطت لسدّ جوع بطونهم الفارغة أن تحشو رؤوسهم بمجموعة من الكلمات والقيم التي لايفهمونها. ولم يعد المرء يسمع شيئا عن الحواريين الإنسانيين للجمعيات الأوروبية المعادية للرق. فقد بلغوا، كما تقول السيدة، هدفهم وحرروا الضحايا المساكين من العبودية التي لا تليق بالإنسان. أما ما حدث لهم بعد ذلك، فهو ما لا يهمهم.
لقد ظلّت تجارة الرقيق من الأمور السياسية الهامة في التاريخ الأفريقي، وقد بدأت بالظهور بحدّة على المسرح الدولي في القرن التاسع عشر حينما شنّت بريطانيا حملاتها على هذه التجارة، وما زال كثير من المؤرخين مختلفين حول دوافع بريطانيا ونواياها الحقيقية في هذا الأمر. إذ أن من الصعب على المرء أن يصدّق أن هذه الدولة التي استعمرت كثيرا من الشعوب في مشارق الأرض ومغاربها، وحوّلت كثيرا من أبنائها إلى عبيد أن تظهر كلّ هذا الحرص على تحرير العبيد وإلغاء تجارة الرقيق في القارة الأفريقية السوداء. وقد كانت الطريقة التي اتبعها البريطانيون من أجل ذلك في زنجبار، قد قادت بالنتيجة إلى تقويض أسس الدولة العمانية في هذه الجزيرة التي لم تكن شيئا مذكورا قبل تأسيس الحكم البوسعيدي فيها أول مرّة في عهد السلطان سعيدوالد الأميرة سالمة. وكان إقدام حفيده السيد علي بن حمود بن محمد على إلغاء الرق إلغاء تاما بضغط من الحكومة البريطانية عام 1886م قد قضى على ما تبقّى من رخاء في جزيرة زنجبار. إذ ان تحرير العبيد قد أخلى المزارع كلية من عمالها، فهلك الزرع وهو مورد العيش الوحيد للناس، فعمّ الجزيرة فقر شديد لم تشهد له الجزيرة مثيلا في تاريخها.
وحين انسحبت بريطانيا من الجزيرة في كانون الأول عام 1963 وأعلنت زنجبار مملكة مستقلّة، انفجر بعد فترة قصيرة بركان الحقد وقام الزنوج بثورة عارمة استهدفت كل ما هو عربي، ووضعوا السيف في رقاب أشراف العرب واقتادوا النساء العربيات للبيع في أسواق النخاسة واغتصبوا حرائرهن وساموهن الذل وسوء العذاب.
(انظرمقدمة عبد المجيد القيسي على ترجمته للمذكرات، ص39-41)
لقد كتبت دراسات عديدة مثّلت قراءات مختلفة للمذكرات، وتراوحت بين المقدمات التاريخية الواسعة مثل تلك التي وضعها عبد المجيد القيسي على ترجمته لنص المذكرات من اللغة الإنجليزية، وبين الدراسات التحليلية ذات الطابع النقدي المتأثّر بالمناهج النقدية الحديثة مثل دراستي الدكتور معجب الزهراني والدكتور خليل الشيخ الذي مكنته معرفته باللغة الألمانية من قراءة النص باللغة التى كتب بها أول مرّة، حتّى إذا اعتمد في بعض مقتبساته على ترجمة القيسى المأخوذة من الإنجليزية. أما دراسة يوسف الشاروني فقد جاءت ضمن كتابه (في الأدب العماني) الذي ظهرت الطبعة الأولى منه عام 2000 وجاء حديثه عن مذكرات السيدة سالمة ضمن حديثه عن القصّة العمانية التي منحها عنايته الأولى في هذا الكتاب، وتراوح ما كتبه عن المذكرات فيه بين العرض والتعريف والاقتباسات التي ركّزت على آراء المؤلفة وملاحظاتها على جوانب من مظاهر الحياة الغربية، قياسا إلى حياة أهلها وقومها العرب في زنجبار.
ومن بين هذه الدراسات المقدمة التي وضعتها باتريشيا دبليو روميرو على الطبعة الإنجليزية التى نشرت للمذكرات في نيويورك عام 1989. وهي مقدمة مزجت بين التعريف والمقارنة والروح النقدية التي تجاوزت أحيانا اليقين الثابت مما يتوفر من معلومات حول هذه المذكرات وفيها، إلى طرح بعض الشكوك التي لا تستند إلى غير الإشاعات والآراء المفردة.
وفي الأحوال كلّها تمثل كل هذه النصوص مدونة نقدية وتعريفية فيها من السعة والتنوع ما يمكّن القارئ من الاطلاع على الطريقة التي تمّ بها تلقّي هذا العمل الأدبي والتاريخي من قبل قرّاء ومثقّفين مختلفين في انتماءاتهم ومشاربهم الأدبية والفكرية. الأمر الذي من شأنه إلقاء الضوء على الأهمية الخاصة لهذه المذكرات، والمرحلة التاريخية الخصبة التي تمثّلها من تاريخ الدولة العمانية والتاريخ العربي الإسلامي الحديث في أفريقيا.