من المفارقات الغريبة ان ظهور البنيوية الفرنسية كان في نيويورك حوالي عام (1942)، ذلك ان رومان ياكبسون(1) الذي نزح بعد الاحتلال النازي لباريس الى اسكندنافية ، لم يطل به المقام هناك ، فقد غادر – في وقت قصير – الى الولايات المتحدة. وهناك كان علم اللغة الأمريكي يمر بواحد من أفضل أطواره ، وهو الطور السلوكي – نسبة الى المدرسة السلوكية -.Behaviorism وما لبث أن تجمع في أمريكا عدد من اللسانيين من فرنسا والبلقان – الذين لم تطب لهم الاقامة في ظل حكومة فيشي. وتمكن ياكبسون – في هذه الأجواء – من الظفر بكرسي الأستاذية في تدريس اللسانيات وبدأ إعداد محاضراته الشهيرة بعنوان الصوت والمعنى Sound and Meaning (3).
وكانت هذه المحاضرات في غاية الأهمية إذ أنها نجحت في تقديم البنيوية الفرنسية للآخرين ، فقد احتوت على أول تعريف بأعمال الباحث البنيوي كلود ليفي شتراوس(4) Struss وقدم أعماله التي لم تكن قد نشرت حتى ذلك الحين بالانجليزية ، ومن الباعث على السخرية أن نجد ياكبسون لا يشير في محاضراته تلك الى الأصول السويسرية لمنهجه التحليلي مع أن الاشارة الى هذه الأصول أصبحت – فيما بعد -شيئا يتكرر بمناسبة ،وفي غير مناسبة.
كان ياكبسون ، حتى ذلك الحين ، يتمتع بقدر كبير من الاحترام بوصفه عالما لغويا كبيرا من الطراز الرفيع. فهو واضع نظرية "الملامح المميزة "(5). في الدراسة الفونولوجية(6). وهو أول من بحث في الطبيعة الاستعارية والكنائية للأدب ، وتأثير ذلك في محوري الاستبدال ، والمجاورة وتجلى ذلك بوضوح في دراساته التطبيقية لعدد غير قليل من الحكايات الفولكلورية ، والنصوص الشعرية.
وفي عام 1958 كتب ياكبسون دراسته التي تقدم بها لمؤتمر "الأسلوب في اللغة " الذي عقد بجامعة "انديانا" وكانت بعنوان "علم اللغة والشعرية : بيان ختامي". ونشرت في أعمال المؤتمر المذكور. (انظر : سبيوك Sebeok (1960وما تزال هذه الدراسة على الرغم من مرور ثلاثين سنة ، أو أكثر على ظهورها،من أكثر الدراسات التي كتبت في هذا الموضوع عمقا وفائدة ، واذا كان من التجاوز أن نعده – هنا – مؤسس البنيوية الأدبية فإن المرء لا يعدو الحقيقة إذا عده أكثر من عالم للسان ، وأكثر من أسلوبي،وأكثر من مفكر بنيوي. والذين يعنون بقواعد النص الشعري يعدونه أفضل من تصدى لحل المشكلات التي تعرض لهذا الباب من الدرس ، بل إننا نستطيع الزعم بأنه سبق غيره في التعريف بالقواعد التوليدية للشعر.وعلاوة على ذلك فهو أفضل من روج للبنيوية ، وخير من قدمها للناس ، بعيدا عن الادعاءات. فكل الأفكار التي كان يبشر بها، ويدعو لها، موجودة في دراساته ، وبحوثه المنشورة. فعلى سبيل المثال لولا بحرث ياكبسون ودراساته لما عرف شتراوس بوصفه باحثا بنيويا أبدا، ويغير شتراوس تعد البنيوية الفرنسية شيئا لا يستحق ان يشار اليه ببنان.
)الصوت والمعنى( والحقيقة أن محاضراته حول "الصوت والمعنى" لم تكن محاضرات دعائية اطلاقا، بل كانت هذه المحاضرات مدخلا نقديا
للافكار الشائعة حول الأصوات ، واثرها في المعاني. وذلك بالفعل ما كانت الألسنية بحاجة اليه في ذلك الوقت. ومن خلال هذه المحاضرات تشكلت القاعدة الحقيقية لعلم اللغة البنيوي، خلافا للاعتقاد السائد حول وجود تلك القاعدة في محاضرات دي سوسير.(8) أ التي تمثل – في نظر الكثيرين – الجذور المبكرة للألسنية الجديدة. وقد اثبتت محاضرات ياكبسون ان آراء
سوسير لم تكن قيمة في ذاتها، وانما في طابعها التجريبي الذي يسمح لغيره بأن يأخذها، ويعمق البحث فيها، ويطورها تطويرا يبرهن على صلاحيتها للتطبيق.
فالذي لا شك فيه هو ان تطبيق بعض الاصول التي قامت عليها ألسنية سوسير في حقول أخرى مثل "الصوتيات " و" الوظيفة الشعرية للغة " تساعد على بناء "السميولوجيا".(9) التي بشر بها سوسير في كتابه الذي ظهرت الطبعة الأولى منه عام 1916. وهكذا اثبتت اعمال ياكبسون – في الاربعينات والخمسينات – ان العمل في "أصول" سوسير لم يتوقف ، بل اتيح لها من يواصل البحث فيها، بشيء من التطوير، والتنقيح ، خلال الاربعين عاما التي تلت وفاته (1913).
فإلى ياكبسون يعزى القول بالفونيم Phoneme وهو الوحدة الصفري في اللغة ، اي: هو تلك الوحدة غير القابلة للانقسام ، او التحليل ، بل هو الوحدة غير القابلة لان تعوض بوحدة أخرى، لان بناء كل فونيم مختلف – ضرورة – عن بناء اي فونيم آخر.( ) : ويبدو هذا واضحا في المثالين التاليين. ففونيم ( ) في الانجليزية مختلف عن الفونيم ( ) لان الاول "مهموس " والثاني "مجهور" فإذا حاولنا وضع أي منهما مكان الآخر في كلمة ما ، تغيرت تلك الكلمة ، وتغير معناها. وعلى ذلك فان "الجهر" يعد صفة مميزة للفونيم ( ) في حين أن «الهمس » يعد صفة مميزة للفونيم ( ). ودعا ياكبسون الى دراسة الاصوات اللغوية واحدا بعد الآخر، وترتيب قوائم بالصفات المميزة لكل فونيم ، وذلك اعتمادا على حالة الوترين الصوتيين ، والرنين الصادر عنهما في الحنجرة. مع ملاحظة ان نطق الصوت قد يغير هذه الصفات من حين الى آخر، على وفق الاصوات الاخري المتصلة به في بنية الكلمة. وهذه الظاهرة ليست مقصورة على واحدة من اللغات ، ولكنها موجودة في اللغات الطبيعية جميعا.
ولا ريب في ان النظرية التي أوساها ياكبسون تمثل انجازا جديدا لعلم اللسان ، الا ان هذا الانجاز يبدو مختلفا أشد الاختلاف عما يمكن ان نسميه بالارث البنيوي. وهذا الامر يجعلنا نعتقد بأن ذلك الارث ظل على الدوام يفتقر الى هذه الدعامة الاساسية التي تقوم عليها النظرية البنيوية للاصوات اللغوية ، فان كانت هذه الطبائع فكرة افتراضية لدى سوسير، فهي لدى ياكبسون واقع ملموس ، يتجلى عبر شبكة من الثنائيات الضدية التي تتحكم بالنظام اللغوي. وقد شجع هذا الواقع بعض علماء اللسان ، ولا سيما هيلمسليف (11) Hielmslev على القول بان اللغة ، عموما، بنية شاملة تتميز بالتجريد، وأن هذه البنية تدعونا الى الافادة منها في دراسة حقول اخري، وبناء أنظمة من الثنائيات الضدية المجردة اسوة بالنظام اللغوي.
على ان نظرية "الفونيم " التي جاء بها ياكبسون تتميز عن سواها من الآراء بأنها نظرية ثابتة ، واضحة ، اعتمادا على صلتها بدراسة الواقع الفيزيائي للاصوات ، والوترين الصوتيين في ادائهما لوظيفتهما في النطق. ولقد أثرت هذه النظرية ، بما احتوته من توضيح للعلاقة الضدية بين الاصوات ، في مباحث العلاقة بين الاشارة والمعنى. وأفاد منها كل الباحثين الفرنسيين المشتغلين بعلم "العلامات ".Semiotics فقد جاء هذا الاثر من مصدر غير مباشر ، فهؤلاء الباحثون لم يكتفوا بما في نظرية الفونيم من مقومات منهجية تجعل منها نموذجا جيدا للدرس اللغوي، ولكنها قدمت الدليل على ان الفكرة الافتراضية التي تقال في وقت من الاوقات قد تنجح في أن تكون اساسا لنظرية جديدة ذات طابع علمي، تجريبي، مثلما فعل ياكبسون بفكرة سوسير.
ولقد أعاد ياكبسون النظر في نظرية "الفونيم " بعد عام (1942) ذلك أنه لم يكن يتصور اي عمق كبير ذلك الذي لامسته هذه النظرية ،فالفونيم يختلف عن أي وحدة لغوية أخرى بكونه لا وظيفة له – في الواقع – سوى انه يميز ذاته عن اي "فو نيم " آخر. وهذا شيء كان قد ردد سوسير، الا ان سوسير، في رأي ياكبسون ، تردد ازاء تعميم هذه الفكرة ، او تطبيقها على عناصر أخرى في اللغة ، وبصفة خاصة : الاشكال النحوية ، والالفاظ ، وربما كانت هذه هي الثغرة الكبيرة فيما ذكره سوسير حول الموضوع. فلو اخذنا الكلمتين الالمانيتين Nachte و Nacht . الفرق بينهما في "لفونيم" الذي ذكر في آخر الكلمة الثانية ، وهو الذي جعل المعنى في الكلمتين مختلفا. فهو في الأولى مفرد (ليلة ) وفي الثانية جمع (ليال ) فالفونيم الذي أضيف الى الكلمة الثانية نقلها من الدلالة على الافراد الى الدلالة على الجمع. اما الفونيم نفسه فلا معنى له في حال النطق به مفردا.
قد يبدو هذا التوضيح أمرا عابرا ، وغير زي قيمة ، بيد أنه في غاية الدقة لان هذا التوضيح يعطي فكرة التفريق التي نادى بها سوسير بين "اللفة " Larigue و "الكلام " Parole الحقيقي(3ا) فالفونيم لا اثر له من حيث هو وحدة صوتية في "اللغة" ولكن تأثيره يتجلى بقوة في "الكلام " بحيث تكتسب الكلمة التي وضع في آخرها دلالة الجمع. ومعنى ذلك ان "الدال " وهو "الفونيم " علامة صوتية ، او خطية ، لا مدلول لها من حيث هي، ولكنها تنحرف بالوحدة اللفظية من دلالة الى اخري. وهكذا فإن "الفونيم " الذي هو ليس دالا بذاته تتضح قدرته على التأكيد في دلالات الالفاظ ، وهذه مفارقة مدهشة لم يوضحها باحث مثلما وضحها ياكبسون ، بل إنه بهذا أوضح الفروق الدقيقة بين ثلاثة مصطلحات كثيرة التداول ، والشيوع ، في علم اللسان ، وهي العلامة ، والدال ، والمدلول.
وقد كانت نظرية "الفونيم " بصفة عامة ، من الامس التي قام مليها ما يعرف بالنحو "التوليدي"(14) Generative .grammar فقدا كد النحاة التوليديون – ولا سيما بعد سنة 1965- ان قدرة مستعمل اللغة على استخدام القواعد النحوية لتوليد جمل جديدة تعتمد ، بصفة خاصة ، على الفروق التطبيقية في استعمال الالفاظ ، وما يتيحه "الفونيم " من اختلاف في البنية "الصوتية " او "الخطية" للكلمة. وفي ذلك يتجلى اثر نظرية ياكبسون في "الفونيم " و" الملامح المميزة " التي اصبحت تعرف في "النحو التوليدي" باسم جديد هو: الملامح الدالة emantE.c.features وقد اشير الى ماتيك الملامح في الرسوم المشجرة التي استخدمها التوليديون. وهذا يعني ان "النحو التوليدي" – في الوقت الذي استخدم فيه مقولات ياكبسون في "الملامح المميزة " -أفاد من نظرية "الفونيم " بطريقة غير مباشرة ، على الرغم من انه يستخدم كلمة "العلامة " عوضا عن كلمة "فونيم ".
(الاستبدال والمجاورة ) :
لم يكتف ياكبسون بهذا الانجاز الألسني ، ولكنه طور – فضلا عن ذلك – ما كان قد لاحظه سوسير من حيث ان التعبير يقوم على محورين ، هما: محور المجاورة Syntagrnatic ومحور الاستبدال او التداعي Assciative المستخدمة في التجير تتخذ ، في البداية ، ترتيبها الافقي، ثم يكتسب كل عنصر منها معناه بالنظر الى ما يستدعيه من عناصر أخرى لدى القارىء أو السامع. وقد أصبحت هذه الملاحظة موضع اهتمام لدى اولئك الذين أرادوا اغناء الفكرة وتوضيحها. فاذا أخذنا الجملة الانجليزية He is mad رأينا الترتيب الذي تتبوأ بمقتضاه كل كلمة موقعها في الجملة : ويستطيع المتكلم ، او الكاتب ، ان يضع مكان الضمير He ضميرا آخر مثل : She او We اوl او They ويستدعي ذلك ان يستبدل الفعل المساعد بآخر فمع We يضع Are ومع l يضع am وهكذا.. فالنسق الاول هو الذي يسمى مجاورة ، والثاني هو الذي يسمى استبدالا. وهذان المحوران هما اللذان يتحكمان في تنظيم الكلام ، ويتيحان للغة ان تؤدي وظيفتها في التعبير.
وقد أطلقت على هذين المحورين تسميات عدة بحسب الدارسين. فياكبسون اطلق عليهما في بحث نشره سنة (1956): التوافق Combination والانتقاء Selections او هاليدي.(15) Halliday فقد اطلق عليهما اسمين آخرين هما: التسلسل Chaics والاختيار.Choice والحق ان الكلام على هذين المحورين أغنى الدراسة القائمة على تأمل النظام اللغوي ، وطرقه في اداء وظائفه التعبيرية. ولهذا فان البنيويين وجدوا في هذين المحورين ، والكلام عليهما ، مادة تستدعي الدراسة. وقد عزا قسم من هؤلاء البنيويين القول بهذين المحورين الى سوسير نفسه. وهذا شي ء طبيعي ما دام سوسير كان قد تحدث عن شبكة العلاقات الضدية التي تنظم عمل اللغة من خلال الكلام. وقد أدى. بالطبع – الى تطوير نظرية "الفونيم " باضافة نظرية جديدة ، هي: نظرية "المورفيم " التي تمثل التجسيد الحقيقي لمفهوم المجاورة. اذ "المورفيم " هو: إلصاق جزء من كلمة الى جانب جزء آخر يجاوره ، نحو الصاق كلمة Ment بالانجليزية بكلمة Judge للحصول على كلمة جديدة ذات مدلول جديد، وهي كلمة Judgment. وقد أدى هذا بالفعل الى تدعيم أحدى القواعد البنيوية الثابتة للمعني. وتلك القاعدة هي التي تقول بأن المعنى يستمد من وضع "الفونيم " و"المورفيم " الى جانب الكلمة للحصول على دلالة جديدة.
لقد تم – بالفعل – تطوير الفكرة التي نادى بها سوسير، فعلى سبيل المثال أصبح النموذج الذي وصفه هاليدي، وهو نموذج "السلسلة والانتقاء" حافزا لتطوير ما يعرف بالثورة التوليدية في النحو، فالجملة التي سبق ذكرها، في نظر النحو التوليدي، جملة مرادفة لقولنا: The man is sliffering frorn elusious وهذا التشابه بين الجملتين لا ينبع – في الحقيقة – من المعنى، وانما من التركيب ، او البنية. فنحن أحللنا علتي The man مكان الضمير He وبقية الجملة مكان كلمة Mad وهذا يعني اننا نستطيع. في كثير من الاحيان – احلال العبارة مكان الكلمة الواحدة. وهذا شيء يعرفه مستخدم اللغة ، ويسلم بجواز استبدال كلمة بعبارة ، وهو ما اصبح يعرف بقواعد بناء العبارة. وفوق ذلك فان القاعدة تنظم ما يعرف بالاستبدال ، فأي تغيير نجريه في ركن من اركان الجملة يستدعي تغييرا أخر. فمثلا لا نستطيع ان نقول s mad أ Youفوضع ضمير المخاطب مكان الغائب يستدعي ان نفير الفعل المساعد بفعل آخر هو Are ومن هنا فان You لا تجاور ls وتغييرHe بـYou يستدعي ان يقع محور الاستبدال لى محور المجاورة.
وهكذا فان ما كان النحو التقليدي يفعله خلال قرون ماضية لتوضيح قوانين تنظيم الجملة ، جاء النحو التوليدي ليوضحه بهذه الكلمات القصيرة ، الموجزة.
(الكناية والاستعارة):
والكلام على محوري الاستبدال والمجاورة جعل ياكبسون يتوصل الى فكرة جديدة ، وهي أن أحدهما – المجاورة – يمثل الكناية – والثاني- وهو محور الاستبدال – يمثل الاستعارة. مما كان له اثره البعيد في البحث الاسلوبي والبلاغي. فالكتابة metonymy تعتمد على تنضيد الاشياء في سلسلة ضمن محور المجاورة. والاستعارة metaphor تنظيم هذه الاشياء وفقا لمبدأ الانتقاء paradigmatic axis وعلى استعمال الكناية والاستعارة تتوقف طبيعة الاسلوب الشخصي لدى كل كاتب. وبواسطتهما يمكن دراسة الاسلوب الادبي. فالشعر الغنائي الروسي شعر استعاري، في حين أن الملاحم البطولية أدب كنائي.
وقد تناول ياكبسون في ابحاثه سالفة الذكر الطابع السيكولوجي لهذين النوعين من الاستعمال ، الامر الذي مس- بأسلوب غير مباشر – موضوع اكتساب اللغة ، وكذلك العقبات التي تحول دون نمو المهارات اللغوية.
هذه الملاحظات لم يقتصر أثرها الايجابي على هذه الدائرة ،
وانما تعداها ليشمل دائرة النقد الادبي ، ولا سيما لدى جاك لكان Jacques Lacan الذي أشار اليهما باستمرار في توضيح نظريته عن الصلة بين اللغة واللاشعور (16) وثنائية الكناية / الاستعارة وجدت طريقها ايضا الى امريكا ولا سيما في بحرث من يوصفون عادة بما بعد البنيويين. فقد اشار اليهما دومان De man (17) (1979) في تحليله لبعض اعمال مارسيل بروست ففي كلامه عن تفكيك بروست لنصه اشار الى مزاوجة هذا الكتاب بين الكناية والاستعارة ، مستخلصا من ذلك ان اللغة ، ذاتها ، تسعي الى التدمير ، والتفكيك ، بدلا من الوحدة ، والائتلاف. وهو في هذا الجزء من البحث اعتمد على مصطلحي الكناية والاستعارة ، وعدهما ثنائية لابد منها لتأهيل مشروعه الابستمولوجي.
على ان نظرية ياكبسون في الكناية والاستعارة ، اوالسلسلة والانتقاء كما يسميها هاليدي، لا تخلو من شفرة نوجه من خلالها اليها نقدا. فهذه النظرية تتناسى ان الكناية في بعض الاحيان نوع جديد من الاستعارة ، فعلى سبيل المثال يمكننا ان نستعرض الجملتين التاليتين :
ا-حضررئيس العصابة ومعه ثلاث بنادق.
2-حضررئيس العصابة ومعه ثلاثة مسلحين.
فالمعنى في الجملتين معنى واحد ، وهو الكلام على رجال وبنادق ، وفي نظرية ياكبسون تعد أحدى الجملتين كناية ، في حين ان الاخري استعارة. بيد ان الخلاف في الجملتين يكاد لا يلحظ. ولست اعتقد ان هناك ما يبعث على الظن بأن الاساس الذي قامت عليه أحدى الجملتين مختلف عن الاساس الذي قامت عليه الجملة الاخري. والحالة الوحيدة التي يمكننا فيها أن ندافع عن وجهة نظر ياكبسون هي تلك التي يتضمن فيها استعمال الاستعارة خرقا لطبيعة الاشياء للتعبير عن معان مجردة. وقد عقب على هذه الملاحظات لاكون Lakoff والحقيقة ان ياكبسون بهذه الفكرة عمق تأثيره في الدرس الاسلوبي، والبلاغي، مع ان نظريته في الكناية والاستعارة أعطيت فوق ما كان يظن أنها تستحق من التقدير، والبحث ، حتى لقد قيل ان هذه النظرية انتشلت البلاغة التقليدية من الجمود الذي ران عليها لعدة قرون ، وان ياكبسون هو الذي اعاد الى البلاغة علاقتها بعلمي المنطق ، واللسان. ونتيجة ذلك لم يتردد احد في ان يجعل من هذه النظرية نظرية تتعلق بالأصول المعرفية لعلم اللسان ، وليست وصفا لشكر من اشكال الكلام اليومي.
الهوامش:
ا- ولد رومان ياكبسون بموسكو عام 1896 وتركها الى تشيكوسلوفاكيا وبلغاريا والدانمارك. ودرس في كوبنهاجن واوسلو قبل ان ينزح الى الولايات المتحدة عام ا 194. بدأ التدريس في جامعة نيويورك عام 1942 ثم في جامعة هارفارد، ونشر عددا من البحوث ، وتوفي في سنة 1982.
2- أحدى مدارس علم اللغة الامريكي، تزعمها بلومفيلد مؤلف كتاب "اللغة " وهذه المدرسة تفسر الكلام من حيث انه استجابة غريزية لنوع من الدوافع السلوكية.
3 -نشر هذا الكتاب بالانجليزية تحت عنوان "ست محاضرات حول الصوت والمعنى" Six Lectures on Sound and Mening هارفستر للطباعة ، الطبعة الأولى ، 1978.
4- كلود ليفي شتراوس ، هو باحث فرنسي له كتاب "الانثروبولوجيا البنيوية ". وكتاب "الاسطورة والمعنى" الذي ترجمه الى العربية د. شاكر عبدالحميد ، وزارة الثقافة ، بغداد 1986.
5- نظرية الملامح المميزة (بكسرالياء) هي النظرية التي تركز على الفروق الصوتية بين فونيم وآخر. انظر: ياسر الملاح ، الاصوات اللغوية ، مركز الابحاث الاسلامية ، القدس ، ط ا ، 1990.
6- الفونولوجيا هي البحث في التغيير النطقي الذي يفرضه الاستعمال على الصوت اللغوي نتيجة تفاعله مع الاصوات الاخري. فالتفخيم في الصائت الطويل في كلمة (طال ) تغييرفونولوجي اذا قورن بنطقه في كلمة (سال ) مثلا.
7- صدر هذا الكتاب عام ( 1960).
8-دو سوسير: عالم لغوي سويسري توفي سنة 1913 في جينيف. وقد القي سلسلة من المحاضرات في اللفة صدرت بعد وفاته في كتاب مشهور جدا هو كتاب "دروس في الالسنية العامة" ترجم هذا الكتاب الى العربية غير مرة. انظر على سبيل المثال يوسف غازي ومجيد نصير، دار النعمان ، جونيه ، لبنان ، بلا تاريخ.
9- السميولوجيا هي العلم الذي يبحث في العلامات من حيث هي نظام اتصالي متسع تمكر الألسنية جزءا منه. وقد تحدث عنه سوسير في كتابه المذكور، وتنبأ ان يكون من ابرز العلوم. الف فيه غير واحد من أشهرهم رولان بارط ، وبيير جيرو. انظر: عبدالسلام المسدي، الاسلوبية والاسلوب ، الدار العربية للكتاب ، تونس ط ا ، 1977، ص 178.
0 1- وضح مفهوم الفونيم من خلال السياق ، ويستطيع القارىء الاستزادة بالرجوع الى كتاب : محمد الخولي : الاصوات اللغوية ، مكتبة الخريجي ، الرياض ط 1، 1987.
11- هو عالم لفة من مدرسة كوبنهاجن ، اشتهر بنظرية «التعليق » وهي التي تزعم اللغة شبكة من العلاقات يستمد كل عنصر منها قيمته عبر علاقاته بالعناصر المقابلة ، ويعرف اللغة بقوله هي شبكة من الوظائف ، وهي كيان مستقل ، ذو علاقات داخلية ، انظر: صلاح فضل : البنائية ص 109.
12- هو مسطح مرادف تقريبا لمصطلح السميولوجيا.
13- معروف ان سوسير فرق بين «اللغة » من حيث هي نظام اجتماعي محدد بقواعد وقوانين مشتركة و«الكلام » الذي هو نتاج الفرد المستخدم لتلك اللغة. ويستطيع القارىء الرجوع الى اي كتاب في علم اللغة العام للاستزادة في الموضوع وانفر: athan CLiller, Saussure, Press
, Brithain,(1977)
14-النحو التوليدي هو الاسم الذي أطق على منهج التحليل النحوي لدى شومسكي ، واتباعه. للاستزادة راجع : مازن الوعر: قضايا اساسية في علم اللسانيات ، طلاس للنشر، دمشق ، ط ا ، 1988.
15- احد علماء اللسان المعاصرين في لندن ، اقترن اسمه بما يعرف بعلم اللفة الاجتماعي، اشترك مع رقية حسن في وضع كتاب حل قواعد التماسك في اللغة الانجليزية.
16- جاك لاكان : احد البنيويين الفرنسيين المعاصرين ، يعد فيمن يطلق عليهم اسم ما بعد البنيويين. والملمح البارز في اعماله اهتمامه بالكشف عن الصلات العميقة بين الفرويدية والبنيوية لذا يكثر من البحث عن طبيعة العلاقة بين اللغة واللاشعور. انظر ما لحبه عنه رامان سلدن في : النظرية الادبية المعاصرة ، ترجمة جابر عصفور، دار الفكر، القاهرة.
17- واضح ان دومان هو احد التفكيكيين الذين تاثروا ببحوث جان ديريدا، انظر ما كتبه عنه سلدن في كتابه لمسابق ذكره.
18- مارسيل بروسة : أحد كتاب الرواية المعاصرين ، له رواية "البحث عن الزمن الضائع ".
19- هو جورج لاكون ، صدرت له مؤلفات عدة ،منها: النساء: النار والاشياء الخطرة ، جامعة شيكاغو 1987، اشترك مع مارك جونسون في كتاب : الاستعارة ، تلك التي بها نحيا. جامعة شيكاغو ( 1980). انظر ما كتبه ليونارد جاكسون عن محتوى هذا الكتاب من 220-223 في:The Poverty of Stucturalism, Longm@in.,Londo-n and NO York, 1 st ede 1
Youk,1st sd,1991
وهو الكتاب الذي اعتمدنا عليه في هذه القراءة.
بنوية ياكبسون التأسيس والاستدراك
تأليف ليونارد جاكسون – ترجمة
ابراهيم خليل( استاذ جامعي من الأردن)