يواجه الروائي " يوسف القعيد" في عمله الأخير " قسمة الغرماء" مأساة واقع المجتمع المصري الراهن الذي يطبق بخناقة على كل المصريين ، وتنتهك أظافره الحادة الشخصية المصرية وتسفك دماءها، في انحدار لكثير من قيم العدل والتسامح والمحبة.
يناوش الكاتب المسكوت عنه ، ويفجر عن طريق السرد مخزوناً تاريخياً من القهر والكبت ومعاناة الفساد ، يرصد التوجس والخوف والحرمان الذي يرقد في قلب الذات المصرية المسلمة والمسيحية ، كما يصور العداء والانفصال الذي بات يحكم العلاقة بينهما بعد التغيرات والتحولات التي حدثت بالمجتمع ، منذ ارتفاع نبرة الخطاب التحريضي الذي تمارسه الجماعات المسلمة المتشددة ضد المسيحيين ، ومنذ التصحر والبداوة والإفراغ المتعمد الذي مورس على كيان الإنسان المصري بعد ثورة يوليو 1952م .
ويشير الكاتب في هذه الرواية إلى مفارقة شديدة السخرية والمرارة تمارس تعرية كل القيود والعراقيل والمعوقات ، التي ترسبت طبقة فوق أخرى، حتى أقامت سداً بين عنصري تكوين هذا المجتمع : المسيحيين والمسلمين ، ويلوح بأنه تحت الطبيعة الفسيولوجية والسيكولوجية للنوع البشري الواحد ، والأصل الإنساني المتوحد بغرائزه وحاجاته ، قبل الأديان والتصنيفات والأعراف والتقاليد ، تنهار كل هذه السدود المجتمعية العامة ، والمحاذير الذاتية الخاصة ، ويبقى الإنسان في عوز إلى الإنسان رجلاً كان أو امرأة ، مسيحياً أو مسلماً، صغيراً أو كبيراً. شكَّل الروائي ذلك من خلال علاقة جسدية خارجة على كل الأعراف التي جهدت الأديان والتقاليد في وضعها ، علاقة هروب إلى الجنس أنهى بها الكاتب عمله ، في صرخة منذرة تشهد الوقوع في هاوية الجنس الفوضوي، الذي تنهدم فيه كل أشكال التوافق والاتساق والملاءمة بين طرفيه ، وتبقى به فقط محاولة هزيمة الفقر والوضع الاقتصادي المتردي بشكل مزرٍ ، هزيمة المصائب والعوز والأحزان والحاجات البشرية التي لا سبيل لتحقيقها في صورها الطبيعية.
وأتصور أن النهاية التي ارتضاها الروائي لعمله كأنها حقنة بها مادة ملوثة ، لعلاقة جنسية مرخية للأزمات التي يعيشها الشخوص الرئيسية بالرواية ، إنه نوع من الاسترخاء قبل الانفجارات التي يتنبأ بها الروائي للمجتمع في حالته الراهنة.
ولقد سيطرت على هذه الرواية بنية التشتت والانفصال والفرقة لتعبر عن الأوضاع المتردية التي آل إليها حال المجتمع المصري ، ولذا وظف الروائي أدواته الجمالية والفنية بداخل التكنيك السردي لتجسد هذه الحالة من التشظي والانفصال والفرقة الكائنة بين عناصر المصريين .
تخير الروائي أن يكون السرد على لسان أصوات متعددة متداخلة ، ومكَّن كل صوت من أن يعرض واقعه ورؤيته للأمور والحقائق الجارية بحياتهم ، وأحب أن أشير إلى أنه دائماً ما تزداد فكرة المسئولية المجتمعية عمقاً فنياً ، وثقلاً في وعي المبدع ، إذا ما اقترنت بأداته الجمالية.
ولقد عبرت الأصوات عن وجهات نظر أصحابها تجاه قضايا المجتمع ، في صورة تحمل قدرة الروائي ، وجهاده المخلص ؛ ليعبر عن كل طرف من طرفي الصراع الرئيسي بهذه الرواية ، المصري المسيحي ، والمصري المسلم ، كل منهما بتحولاته التي طرأت بمجتمعه، وجعلتهم جميعاً شخوصاً متطورة على مستوى فنية الرواية، هي شخوص متطورة ليس بذواتها وقدرتها على الفعل وتسيير الأمور وفق رؤيتها ، لكن بسيرها بقوة دفع خارجية ، تسيطر على المجتمع من عناصر لها قدرة التأثير في الآخرين ، بثقل أماكنهم السلطوية ، أو قدراتهم الاقتصادية ، أو قدراتهم على إلغاء العقول ، تحت تعامل قاصر وبدائي مع مفهوم الأديان.
وللروائي " يوسف القعيد" عبقرية الكشف والمواجهة ، له قدرته على الجهر بالرأي والدفاع عنه والاستمساك بالمواقف ، قدرته على تعرية المسكوت عنه وشجاعة طرح الحقائق .
ودعنا الآن من بعض المشكلات الفنية العارضة التي شابت أفقية السرد ، والتي سأشير إليها في حينها إلا أن للروائي قدرة صياغة نماذج بشرية ذات امتدادات وأعماق تاريخية ونفسية على درجة كبيرة من النضج الفني ، ولقد وظف الكاتب السرد الخاص بكل نموذج بشري ليكرس ويؤكد على هذه الانفصالية التي باتت سمة لواقع الحياة بالمجتمع المصري .
** الشخوص وتنوع السرد.
عدّ يوسف القعيد شخصية ماجد بطلاً رئيسياً للعمل الرئيسي بالرغم من أنه شخصية مفعول بها وليست فاعلاً، واتصور أنه قد وفق في هذا الاختيار:
أولاً: لأنه يمثل المستقبل ، الذي يضع عليه الروائي عينيه ؛ ليرى من خلاله المجتمع وكيف يمكن أن تتطور الأوضاع به، فمن خلاله يصوغ نظرة استشرافية مستقبلية.
ثانياً:- لأنه الطرف الذي يقع عليه أعباء وتبعات أخطاء كثيرة حدثت بهذا المجتمع ، كما مثل جوهر الصراع بهذا العمل . المسيحي الشاب الذي أحاطته الضغوط المجتمعية والنفسية من كل الجوانب.
فحين يجتمع للشخصية إنتماؤها لأقلية مهمشة ، والفقر والعوز والجوع، ويسيطر الضياع نتيجة تخلي الأب " عبود" عنه وعن أمه " مرام" وهجرته إلى الخارج دون أن يعرف شيئاً عنه ، حين يفتقد كل ما يمثله الوطن والبيت من الدفء والأمان والخصوصية ، وحين يرى في كليته وبين أصدقائه وفي المجتمع من حوله كل المغريات ووسائل الترف التي يفتقدها ، يصبح منتهى أمله مشاهدة فيلم " سكس" يهرب فيه من عالم لا يأمن فيه يومه أو غده يراهن على اللحظة المعيشة فقط والتي يقتنص فيها أية متعة حتى وإن اتسمت بالعبثية.
ولقد مثلت " مرام" والدة ماجد السند الوحيد له يقول:" نحن متلاصقان ووحيدان ، لا أحد لها سواي ولا سند لي غيرها.." (ص7) وبرغم الهزة العنيفة التي اصابت شخصيتها إلا أنها تماسكت من أجله.
يقول ماجد " ..الغريب أنني ضبطت نفسي أنفذ ما تقوله برغم عدم اقتناعي به."(ص12)
جسد الروائي " ماجد " شخصية يضيق بها حاضرها وتهرب هي منه، كما أنها لاتعرف لها مستقبلاً سوى أوهام تتكشف الأحداث عن استحالتها.
يخرج ماجد عن هذا الطوق الذي أحاطته به أمه ويتحول كيانه في مرحلة الشباب التي يعيشها إلى عينين كبيرتين ترصد التناقضات بين حياته التي يعيشها كالطريد وبين كل المظاهر الاجتماعية المطرفة حوله يقول عنه إكرامي :" لم يستطع ماجد إخفاء دهشته . بلع ريقه أكثر من مرة . وجعل التحديق عينه أكبر ما في وجهه . وأذناه طالتا. كان يقاوم الاهتمام، ولكنه لم يقدر "(ص33)، وتقول مهرة عن ماجد:" تركز كيانه في عينين تحدقان فيَّ . أدرك عمق النظرات هروباً من اللحظة المفاجئة " (ص234)، نلمح هنا التطلع ورصد المتناقضات ومحاولة الهروب إلى اللذة الحسية.
كما يضيق ماجد بالأبواب وتشكل له قلقاً من نوع خاص ، وأتصور في ذلك دلالة على عدم ثقته في المجهول وشعور بالخوف يتملكه من كل ما يمثل نوعاً من الغموض، يقول ماجد :"…ماذا جرى للناس ؟! في البلد التي جئت منه ، تظل أبواب الشقق مفتوحة طوال النهار وجزءاً من الليل صحيح أن أمي تقول دائماً إن الباب المغلق يرد القدر المستعجل ، ولكن لم يعيش الناس وراء كل هذه الأبواب المغلقة ؟" (ص39) ، وتتعدد الإشارة في الرواية عن ضيقه بالأبواب في مواضع متعددة منها بيت إكرامي ومهرة.
ومن المفترض أن "ماجد" أحد العناصر الشابة الجادة المتفوقة ، وبالرغم من ذلك يمارس المجتمع طرده له، فهو شاب متفوق في كلية الهندسة ، يمكن أن ينبئ بمستقبل لامع وبرغم هذا يعيش كالطريد المراقب الذي يبقى منتهى أمله الهجرة من هذا المجتمع لشعوره بأنه كيان مضطهد ، يمارس ضده النفور والاستعلاء عليه.
ويببرع الروائي في تشكيل شخوصه الورقية ، ليس من خلال وصفه للملامح الخارحية والاعتناء بكل التفاصيل الشكلية إلا ما يأتي عرضاً ، وليس من خلال تبرُّعه المجاني بوصف الملامح النفسية وتدخله بتشكيلها قسراً ، لكنه ينثر نتفاً تصويرية بين ثنايا السرد منها يدرك المتلقي ما تحمله هذه الانطباعات التي تدلي بها الشخوص وتحكيها عن نفسها ، أو من خلال الأوصاف التي تعلق بها بعض الشخوص على فعل الآخرين ، ويتكرر ذلك مع أصوات الرواية جميعها مثل تصوير الروائي لماجد بأنه أصبح عينين كبيرين أو كراهيته للأبواب ، أو افتنان مهرة بالمرايا ، ومن شأن هذه التقنية دفع المتلقي إلى تخليق هذه النماذج مع الروائي ، ومعايشته لها وتشكيل ملامحها الشكلية والنفسية بغموضٍ شفيف محبب.
وللكاتب مهارة غمس الكائنات الروائية في نخاع الواقع وتفاصيله الصغيرة ، مهارة رصد علاقة الشخوص بالأشياء والظواهر البيئية فيما حولهم ، فهو يتعامل مع الكائن بالحياة دون الارتقاء بشخوصه لما فوق الواقع ، يرصد تناقضاتهم ، لحظات الضعف والقوة، غرائزهم ، فبقدر ما يصور أحلام ماجد في الهجرة إلى أبيه ، وانتظار تخرجه ليصبح مهندساً قادراً على إعالة نفسه ووالدته ، يحكي عن لهفته وإصراره على رؤية شريط فيلم " السكس" ، وماله من دلالة رمزية عن رغبته في التلهي عن واقعه ، ويأسه من كل ما حوله. إن رصد وتسجيل هذه اللحظات المترددة والبينية بين الأقطاب أو الثنائيات المختلفة والمتناقضة أو المتجاورة بالنفس البشرية ، هي ما يميز براعة الروائي، فالمشاهد الأخيرة في الرواية التي عنونها الروائي بمهرة ثم ماجد وطريقة تقطيع النص التي تعبر على أنه في أشد اللحظات التصاقاً وحميمية هناك انفصالاً وتوتراً والتي تراوحت كأنها كاميرا ترصد خطين متوازيين ماجد ثم مهرة وتنتقل بينهما في حركتين متلازمتين رؤية خارجية شاملة للمشهد ، ثم عدسة "Clos" تنفذ إلى داخل كل منهما وتردداته ، بين رغباته الجامحة ، وما يمكن أن يكون بالفعل ، ترصد في منولوج داخلي كل العوائق القائمة بينهما ، من كونها مسلمة وهو مسيحي ، من كونها في سن أمه تقريباً ، كما ترصد الرغبات المشتعلة في كل منهما .
وفي ظل الظروف المحيطة بماجد من الطبيعي أن تفتقد الشخصية الرؤية العميقة للأمور لذا تأتي تصرفاته وأفعاله بعيدة عن المنطق أو المعقول فبعد العلاقة الجنسية الساخنة بينه ومهرة، يقول ضارباً عرض الحائط بكل الاعتبارات :" قرر البقاء هنا للأبد . سيطلب منها كتابه كشف حساب بما أنفقته عليه حتى ينجح ..ويتحول من ضيف إلى رب أسرة "(270).
ثم لا يلبث أن تسيطر أمه والمبلغ الذي كان من المفترض أن يتسلمه من مهرة على واقعه بعد خفوت النزوة ، يقول الروائي :" كبس عليه ذهول عندما اكتشف أنه نسى موضوع المبلغ، حاول منع خياله من التسلل إلى تذكر أمه ، وحاول أن .."(ص271)، إن هذا التقطيع والانتقالات المتوازية، ومراوحة السرد بين الديالوج والمونولوج تجسد هذا التردد الخارجي بين الشخوص ، كما ترصد التردد الداخلي في ذواتهم .
– فجر الأزمة بهذه الرواية ما حدث مع " عبود جرجس " حين حورب من جهة عمله من بعض العناصر المسلمة لتفوقه في عمله و توليه للمنصب الثاني في الشركة التي يمتلكها مسيحي ، لكن أغلبية العاملين بها مسلمون ، ويجابه " عبود " بموضوع لا ولاية لمسيحي على مسلم :" هكذا أمرنا الإسلام ". كنت المقصود بالخطابات"(ص141).
يتعرض عبود للتهديد ، والترويع بالضرب ، ثم التهديد بخطف ابنه وزوجته ، أو قذف وجهها بماء النار أو بقتله ، ثم يحاصر في عمله ، عن طريق الجوامع من حوله ، وكل من يحيطون به في مدينته بأسيوط ، ثم يقرر الهجرة أولاً إلى القاهرة ، ثم إلى خارج البلاد تماماً.
تبدو شخصية عبود كما ينسج ملامحها الروائي ، شخصية طموحة لا تنتهي طموحاتها بسقف محدد ، وصولي ، ونفعي التوجهات ، نستشف ذلك من أحلامه التي ضاق فيها بزواجه المبكر من " مرام" وتمنيه لو كان قد تزوج بابنة صاحب الشركة ، ثم وفاته بمرض خبيث ويرث هو كل هذا الكيان .."(ص 141.140).
يبدو أيضاً من خلال ضيقه بزوجته . بعد عدم إنجابها لطفله تكون اختاً لماجد ، أطماعه في مهرة ، عدم أكتراثه بأسرته وهجرته دونهما وتركهم دون تأمين حقيقي (ص152)، وبرغم اعتراضه ومناقشته للمثل القائل :" إن جالك الطوفان حط ابنك تحت رجيلك" إلا إنه يصنع ذات الصنيع ، بالإضافة إلى أنانية عبود وتمحوره حول ذاته ، وقد جسَّده الروائي غير متدين بطبعه ، لجأ إلى الكنيسة حين لجأ طلباً للأمان والمساعدة ، الكنيسة التي لم يبدو موقفها قوياً مع أفرادها.
من خلال شخصية عبود المصري المسيحي يواجه الروائي كثيراً من الأفكار والادعاءات والحقائق التي تصدر عن بعض التوجهات الإسلامية الأصولية المغالية ، ولا يخشى الكاتب الدفاع عن المضطهدين ، وتعرية ما يحتاج إلى إعادة الغربلة في عقيدة المسلمين.
يقول عبود عن المسلمين "…امتنعوا عن العمل وقت الصلاة ، مع أنني أسمعهم يقولون إن دينهم يعتبر العمل عبادة . ما أكثر ما يقولون . هل في حياتهم سوى الكلام .." (ص144) أو قوله :" إطلاق اللحية قذارة " (ص147) أو " نوم الظالم عبادة".
ويتمتع الروائي بحيدة محببة ، ففي المواقع التي تأخذ على أي طرف من طرفي الصراع ، ولا تخضع الأمور حينها إلى العدل يسلط عليها الضوء فيشير في (ص146) إلى صفقات الأمر المباشر من المعونة الأمريكية لبعض الشركات التي يمتلكها المسيحيون . فمن خلال الشخوص يعرض للحقائق الحياتية بين طرفي الصراع التي تكرس وتأجج الانفصال وليس الدمج بينهما.
ويشير الروائي بذكاء فني من خلال شخوص العمل إلى ظاهرة خطيرة تكرس لهذه الانفصالات التي تحدث بين طرفي التكوين النسيجي لهذا المجتمع ، وهي ظاهرة السياسات الحكومية المائعة ، قصيرة النظر ، التي تنساق وراء مسايرة الطرف الذي يمثل الغلبة في هذا المجتمع ، والرضوخ له.
فمهمة النخبة أو السلطة في أي مجتمع توعيته وقيادته ، لا الانسياق وراء العامة والأغلبية بانتزاع الإعجاب أو المهادنة ، وبقاء الوضع على ما هو عليه ، دون معالجة حقيقية للمشكلات بين الطرفين ، تلك النخبة أو السلطة التي لم تَتًخَلَّ عن تراثها الشمولي ، ولم تكف عن مهادنة الفكر الغوغائي غير المعتدل ، استطاع الروائي أن يصور هذا من خلال شخصية ضابط الوحدة بأسيوط الذي صورته مرام بكأنه عالم اجتماع، والذي نصحهم بالابتعاد والهجرة عن موطن النزاع ، دون أن يقدم حلاً جذرياً ، أو رغبته في مواجهة الطرف الأكثر عدداً أو تأثيراً أو قوة .
تمثل هذا أيضاً في موقف الكنيسة الداعي إلى عدم المواجهة، أو الصمت تجاه ما يتعرض له أفرادها ، هذا الموقف النكوصي الذي عمل به المسيحيون ، أو فرض عليهم مع التاريخ ، والذي لا يتصف بالإيجابية أو المحافظة على حقوق المواطنة العادلة في هذا الوطن .
ولذا يبرر موقف الدولة ، والكنيسة ، ونخب المواجهة ، اختيار عبود لهذا المجهول الخارجي الذي رأى فيه ملجأ ومنقذاً له ، برغم إبهامه وقسوته ، فهي مقامرة اختارها هروباً من حقوقه المسلوبة ، وحياته وحياة أسرته المهددة بهذا المجتمع.
وأتصور أن الصراع بهذه الرواية كان سيزداد احتداماً لو أن الروائي أشار إلى مجموعات المتطرفين المسيحيين ، والمواجهات التي تحدث بالمجتمع المصري بالفعل ، فكما يوجد تطرف في معتنقي الإسلام ، يوجد أيضاً في معتنقي المسيحية تطرف مسيحي يعد رد فعل لما عاناه المسيحيون في تاريخ الحضارة العربية ، حتى إن كتب التاريخ تذكر أن الموالي برغم دخولهم الإسلام كانوا يدفعون الجزية تعنتاً من القائمين على الأمر من المسلمين.
ولذا يبدو الخوف أيضاً بطلاً من أبطال هذا العمل الروائي ، الخوف المسيطر على جميع الشخوص بالعمل كل منهم يقع تحت طائلته بأشكال متباينة، ومن المفارقات الساخرة أنه في دولة تتحكم بها منظومة أمنية شديدة الوطأة تفرز هذه النماذج التي تشعر أن هناك من يتلصص عليها ، وينتظر أقل الإشارات الصادرة عنها عَرَضاً للقضاء عليها والإطاحة بها، ولا يختلف في هذا الأمر المسلم أو المسيحي لكن الاختلاف يقع في الدرجة فقط ، بدأ الخوف في هذه الرواية وكأنه كيان مادىً مجسّد نتيجة وطأة وجوده في أجواء العمل .
عند قراءتي للعمل بدت بعض الفقرات وكأن سطورها ترتعش وأن هناك نبضاً يتسارع ، وبتشكك في كل من حوله ، وعددت ذلك من توفيق الروائي في اختيار أسلوبه وتقنياته؛ لتبيان تلك الحالة المرعبة التي بات عليها الشخوص في هذا المجتمع ، حتى إنه في أبسط المظاهر والممارسات الحياتية الحرة، هناك توجس من الشخوص من كل المحيطين بهم ، يقول ماجد معلقاً على حكي أمه ووقوفها أمام محل لبيع " لحوم الخنازير" :" ..كنت أريد أن أتركها تحكي لعلها تستريح ، وفي الوقت نفسه أفكر في الانصراف . ربما كان الوقوف طويلاً أمام المحل خطراً ، ويلفت نظر الناس . خيَّل إليه أن المحل ربما يكون تحت الحراسة.."(ص25)، يصور الكاتب حساسية المسيحي لكل تصرف وتوجسه من رد فعل الأصوليين المسلمين.
يقول "مصطفى " زوج " مهرة " السابق، وأحد ضباط السلطة، تعليقاً على زيارة مهرة له تطلب مساعدته :" لوكنت في الخدمة لأبلغت عنها ، ولكن الجهات الجديدة التي أتأهب للعمل معها أكثر حرصاً على البلد، وهم الذين سيقومون بعمل اللازم تجاهها .."(219)
يؤثر هذا الطقس الإرتيابي على العلاقات بين الأشخاص ، فيفتقدون معاني إنسانية شديدة السمو مثل الأمان والثقة في الآخرين ، مثل التعاطف ومساعدة الغير، فتتصدع العلاقات وتتحول إلى أسباب قلق الإنسان ، وتحوله إلى الحيوانية وعلاقات الغابة وتؤجج للانفصال بين الجميع.
يقول إكرامي صديق ماجد :" كان الوقت الذي قضيته مع ماجد قصيراً ، قضيناه معاً في محاولات مثقلة بالتواطؤ والتآمر . فهذا جزء من نفسية من هم في مثل سننا وسلوكهم . حتى الأمور التي من حقنا ممارستها علناً وأمام الجميع ، نجد سعادة خاصة في الاختباء بها عن الأعين ونحن نمارسها "(ص34).
وتبدو قضية افتقاد الحرية حتى على المستوى الأسري مؤثراً فعالاً في تكوين نماذج بشرية مراوغة ، هاربة من المواجهة ، أو التصريح برغباتها وعيشها في وضع صحي غير ملائم.
وينضغط زمن القصة الفعلي في يومين لذا تأتي تحولات الشخوص من خلال أصواتهم وسردهم الاسترجاعي عن ذواتهم ، أو من خلال الأصوات الأخرى وهي تحكي انطباعاتها عن الآخرين، هذا الانفصال التداخلي الذي يؤديه ماجد وعبود ومرام ومصطفى ومهرة هو حتمي فرضته أحوال المجتمع المصري المحتقن دينياً، كما فرضت التداخل وحدة الأرض والتاريخ والهواية .
وتتأرجح شخصية مهرة بين شخصية ورقية واقعية ، وبين كونها رمزاً شفيفاً يسقطه الروائي على " مصر" من خلال سرد يقترب من الفانتازيا في سبعة مقاطع على لسان "الجنرال عفارم".
يشكَّل المبدع " مهرة" فنانة اعتزلت الفن واتجهت إلى الحجاب والاعتكاف في بيتها ، شأن هذه الظاهرة التي تكررت في المجتمع المصري ، حين علت الأصوات الأصولية بتحريم الفنون ، وعمل المرأة بكل صوره ، ومن خلال حكي استرجاعي في لحظة مواجهة مهرة لنفسها وما آلت إليه حياتها ،يعرض الروائي تاريخ الشخصية وتحولاتها ليعطي نموذجاً لشخصية متطورة ، فتاة جميلة صعيدية لها طموحات بارتفاع السماء تنتقل إلى القاهرة لتعمل مذيعة ثم ممثلة وفنانة استعراضية ، وتنال الشهرة والإعجاب ، نرجسية الهوى تعشق ذاتها وجمالها وتأثيرها على الآخرين ، ترفض الزواج والقيود لتتفرغ لذاتها وفنها ، ثم تقع في حبال الارتباط بأحد ضباط الحيش " مصطفى "- ولنا هنا أن نلاحظ هذا الاسقاط- وترفض الإنجاب منه لرغبتها في المحافظة على جسدها وجمالها ولرفضها للقيود ، ثم تنفصل عنه لهذه الأسباب ولعدم تكيُّفها مع مؤسسة الزواج ، تجمع كل ما تمتلكه لتضعه في إحدى شركات توظيف الأموال مع رفضها لكثير من العلاقات الشائنة التي يطمع فيها الآخرون، من ذوي الحيثية :" رجال أعمال في لباس ديني أو سياسيين أو تجار مخدرات ، تنحسر عنها الأضواء رويداً ولا تتطور فنياً فتستجيب لعرض اعتزال الفن :"الذي هو حرام في الأول وفي الآخر ." (ص172)، في سبيل وعد لم يتحقق بمساعدتها لإقامة مشروع تعيش من دخله ، وتخسر مهرة تحويشة العمر" في أكذوبة شركات توظيف الأموال ، تعيش مهرة هذه المرحلة وبداخلها عدم اقتناع بما اختارته لنفسها تقول بعد حياة العزلة :" أشعر بحنين يوشك أن يصل إلى الوجع ، للمشاركة في ما يدور ببلدي ، مهما كانت العزلة التي فرضتها على نفسي "(ص174).
تقرن مهرة بين أوضاعها التي تحولت إلى الأسوأ وبين الحجاب تقول :" ابتداء من الحجاب الذي حجب الرؤية عن عقلي ،" (ص166)، وتتباكى على الشهرة والرفاهية والأصدقاء القدامى تقول واصفة الجماعات الإسلامية في معرض حديثها عن أصدقائها السابقين "أحاول استبدالهم بكائنات الظل ؛ بنواب الضمير ، وكلاء الله سبحانه وتعالى على الأرض. من يعملون في الصمت والظلام باعتبارهم أصحاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . كم تغيرت يامهرة؟ ألم تقولي عنهم ذات يوم ، إنهم لصوص البهجة ؟ وسُردَاق الأفراح ؟ والذين يحاولون تأميم التماعه الحياة في أعين الأطفال ؟ أحاول أن أصبح جزءاً من النساء المغطيات بالملابس السوداء … للمرأة والبياض للرجل مع أن المرأة حياة ؛ والرجل قد يدمرها.." (ص177).
تواجه مهرة كارثة أو أزمة ثلاثية :" الولد الذي يتفجر بداخلها فضول تجاهه نتيجة للحرمان الذي تعانيه ، والمبلغ الذي امتدت يدها عليه وبددته ؛ نتيجة أزمتها المالية المستمرة ، والشريط الذي أيقظ بداخلها كل الرغبات الجنسية التي سبق أن عاشتها مع زوجها السابق مصطفى ، وغيره من الرجال .
في ذروة أزمة مهرة بعد أن قررت الذهاب لمصطفى لطلب العون منه وهي في شرفة منزلها، وحين ارتداء ملابسها ، وفي الطريق إليه ، تتداعى في ذاكرتها الأحداث التي عاشتها وجعلتها تمر بتلك التحولات في مشاهد مقطعة بطريقة سينمائية متوازية تضفي الحركية والثراء على النص .
تقع مهرة فريسة لحاجتها ورغبتها ، وتغيّر مصطفى ، وفكره الذي تحول بعد انضمامه لهذه الجماعات المتطرفة من المسلمين ، فتجد ذاتها منغمسة في علاقة جنسية محرمة ، وغير لائقة، وتنذر بدمار حتمي.
تعد شخصية " مهرة" نموذجاً للشخوص المتطورة الإيجابية التى تسعى دائماً إلى التغيير ، والبحث عن ذاتها ، التي تعبر عن إرادتها الحقيقية ، كما أنها لا تستكين للآخرين ، وتحاول مراجعة أوضاعها وأفكارها بصورة مستمرة وناضجة ، ترفض " مهرة" ما أصبحت عليه بعد حجابها واعتزالها الفن والمجتمع ، تضيق بحياة الظل والحجاب والانسحاب ، فتثور في داخلها رغباتها وماكانته ، فتتستسلم لتلك النـزوة التي سيطرت عليها مع ماجد ، لكن نهاية الرواية تشي بتراجع وعودة ، ليس عن يقين لديها بما سارت عليه أحوالها الأخيرة ، لكن عن استسلام لأوضاعها وأوضاع المجتمع حولها ، يقول الروائي في الأسطر الأخيرة : "كانت مهرة تبحث عن حجابها . وكان ماجد يبحث عن أوراقه التي ما عاد يتذكر أين وضعها. لم يبحث عن صليبه لأنه كان قد باعه في أيام الضيق …" (ص271)، وهنا يبقى المؤلف نهاية عمله مفتوحة تحتمل التأويلات والافتراضات المتعددة ، كما توحي بتلك القسمة للغرماء التي هي عنوان هذا العمل الروائي، والتي يعريها الروائي في جذورها البعيدة بهذا المشهد الأخير من العمل.
عادة ما يترك المبدعون خيوط درامية مبهمة في أعمالهم الروائية ، برغم أنهم يعمدون إلى توغلها وانتشارها، وجعلها تتفرع في أكثر من موقع بالرواية ، لكنه الوجود الشفيف الذي لا نعرف أبعاده مكتملة ، أو حقيقته المؤكدة.
ينسج " يوسف القعيد" من علاقة " مهرة" " بعبود" هذا الخيط الدرامي الملتبس الذي يدعو القارئ في العديد من الفقرات إلى تخلَّيق دراما خيالية ، يصوغها ليملأ بها هذه الفجوات المنشطة للإبداع عند القارئ ، وخلق حالة خفية من التشويق ، والدخول الأكثر شغفاً بالعمل ، كما أنه يتركه وبداخله سؤال يجيب عليه باحتمالات فيظل العمل له حياة بداخل القارئ ، يظل ينبض ولا يتناساه بسهولة.
تقول " مرام" تعليقاً على عودة " ماجد" من زياراته " لمهرة" " ألم يكن عند الجنية التي غوت والده. صحيح أنه هاجر وتركها ولكن كل المصائب تبدأ من عندها، لولاها لما جرى لنا ما نحن فيه . هي السبب . إن كنت لا أملك دليلاً على أي دور لها في ما حدث لنا. وما جرى لعائلتنا التي لم تعد عائلتنا ." (ص108).
تبدو الشخوص بالرواية في حالة من الانفصال ، كل منهم يعيش بجزيرته النفسية المتقوقعة، توجساً من الآخر، وخوفاً من كل المحيطين به، يتضح هذا الانفصال الارتيابي حتى في العلاقات الحميمية مثل علاقة مصطفى ومهرة ولذا ينسج الروائي في سرديته حواراً من المفترض أنه يتم بينهما لكنه يبدو انفصالياً كأن كل واحد منهما لا يرى ولا يسمع سوى ذاته ، – مع ملاحظة أن الأمر هنا لا يتعلق بالديانة – وكأنها منولوجات داخلية ، تقول مهرة :" ..هجم عليّ بسؤال يلد سؤالاً ، يلقي الأسئلة غير عابئ بالاستماع إلى إجاباتي . يريد سماع نفسه وهو يسألني .." (ص192)، أو قول مصطفى معلقاً عن زيارة مهرة له بعد استيداعه من الجيش :" من ناحيتها أقسمت بإيمان تهتز لها الجبال ، إنها لم تكن تعرف. وأنا كنت متحصناً وراء الرغبة في عدم تصديقها ." (ص201).
تتهاوى طموحات مصطفى في عمله ويحال إلى المعاش بعد انفصاله عن مهرة ، وينطوي مصطفى على نفسه منعزلاً عن العالم الذي كان يحياه حتى الرمق الأخير وبعد أن يدرك أن الجميع يمضغون الكذب ، وفي حكي استرجاعي يحكي مصطفى عن علاقته بمهرة ونلمح أنانيته من خلال خوفه على مستقبله من طبيعة عمل مهرة ، وشهوانيته في علاقته بها.
تخير الروائي مصطفى ضابطاً في الجيش تتزوج به مهرة ولا تريد الإنجاب منه ، تنفصل عنه ثم تمارس معه علاقات حميمية دون زواج ، وأتصور أنه في شخص مصطفى أراد الروائي أن يجمع تحكم السلطة العسكرية في الدولة المصرية في مرحلتها الأولى ثم مرحلتيها التاليتين في علاقة يمكن أن توصف بعدم الشرعية، ولنا أن نلاحظ رفض مهرة الانجاب منه، كما أنها مناسبة لبعض تحليلات الروائي عن الملل والروتين الذي يصيب العلاقات الزوجية في إشارة إجتماعية لا يمكن لعين يوسف القعيد أن تتركها دون رصد وتحليل.
تبدو شخصية " مصطفى " شخصية أمنية ، وبالرغم من تلك الطبيعة تطاله التحولات التي حدثت بمصر بعد تغلغل فكر و ممارسات وطقوس هذه الجماعات الإسلامية الإصولية ، ورغم حرصه وعقلانيته ، يندفع معهم في طقوسهم آملاً أن يجد لديهم العون وكأنهم ملاذ أخير ، يمثل مصطفى نموذجاً من كثير من المصريين الذين تصوروا أن الحل والملجأ من هذه الأوضاع المتدهورة والفاسدة التي تنتهك الدولة ينقشع مع هذه الجماعات ، لكنهم مع مرور الوقت يكتشفون أن الأمر يخرج عن مسكنات وبعض من مظاهر العبادات المجوفة ، التي تسيطر على علاقة البشر؛ لأنهم يفتقدون الطرق والمسارب الأخرى العقلانية التي يلجأون إليها ويحققون فيها ذواتهم . تلاحظ مهرة أزدياد وزن مصطفى ، فيقول :" كدت أقول لها أنني سعيد، أصادق بشراً لا يشعرون باطمئنان إلا عند تحسس كروشهم بمتعة ." (ص221)، ويرفض مصطفى مساعدة مهرة في أزمتها ، بل أراد أن يصعد الأمر لفتنة كبرى حتى وإن استخدم " مهرة" وسيلة لإحادث فتنة وبلبلة بين المسلمين والمسيحيين ، وهنا ندرك هذا المسح الذهني الذي تمارسه هذه الجماعات لخلق بشر ونماذج ليس لها هم سوى الترويج والإسهام في ادعاءاتهم المغلوطة في أغلب الأحيان ، تزداد التحولات ثقلاً حين يغرق مصطفى في حياة مملة فارغة لا عمل بها ، ينتظر منها فقط السفر إلى الخارج ، يزهد في الحياة ، وتتحول حياته إلى اجترار آلام الظلم الذي طاله ، تتبدل شقته وأثاثه ، وهنا يتخذ الروائي المكان معادلاً للتحولات التي طالت الشخصية ، اختفت اللوح الفنية التشكيلية، واختفى البيانو ، واختفت لمسات متعته السابقة بالنساء والخمر (ص220) ، نلحظ هنا تلاشي كل ما يشعر الإنسان بارتقائه عن طريق الفنون ، وطبيعة تذوقه الخاص للحياة، ونلاحظ هنا رغبة الروائي المستترة في الإشارة إلى أن هذه الجماعات تسعى لخلق نماذج مكررة من البشر لا تمايز بينهم ، هذه الفروق الفردية والحياتية ، التي تجعلهم أكثر إبداعاً وتكاملاً وإفادة بهذه الحياة ، في إشاراته إلى نمط الملبس والمأكل والحوارات وكيفية قضائهم لأوقاتهم ، واستحواذهم على الآخرين والسيطرة عليهم.
تقع التحولات والتغيرات على الجميع تتغير " مرام" تلك الزوجة المسيحية التي هجرها زوجها وحمَّلها مسئولية ابنها الوحيد " ماجد " في مجتمع رافض لهما ، يتبدل مظهرها وتصبح أكبر سناً وتتكثف الدهون حول مناطق جسدها ، وتصبح أكثر توجساً وقلقاً من الحياة المهينة التي تحياها ، ودائماً ما يستخدم الروائي تقنيات فنية متنوعة ليدلل على تغيرات تطال الشخوص سواء في الشكل الخارجي أو مكنوناته النفسية ، تفتقد مرام الأمان فيكون المكان المتمثل في الفندق الوضيع الذي تحيا به جسراً إلى شعورها باليأس والقلق ، وإحساسها بالعجز والعوز والفقر ، تقول :" وبمرور الوقت ، أصبحت جزءاً من المكان الرث المهمل"(ص134)، تنفصل "مرام" عن زوجها نفسياً حتى قبل سفره ، ويزداد الانفصال وطأة مع أزمته في عمله ، والتهديدات التي وقعت له ، ثم مع هجرته ، وتركه لها ، يستقر إحساسها بالكراهية لهذا الرجل عندما ينتابها الشك في علاقته بمهرة، وماهية طبيعتها، وهو ما لا تغفره امرأة لرجل ، يصبح ماجد هو محور حياتها، حتى إنها تشعر في بعض الأحيان أنه يضيق بتدخلاتها بحياته.
تحنو اللغة وينتابها بعض الدفء على لسان مرام عندما تتحدث عن وحيدها ماجد ، ونلمح في السرد أنفاس أم تحتوي تقول :" كان ماجد يتمنى لو أنه وجد طاقية الإخفاء وصعد إلى حضني ، بل إلى رحمي . ودخل فيه من دون أن يراه أحد " (ص104).
مرام شخصية تسيرها الحياة ، قبلت أم رفضت ، ومتى اختارت ؟ أشياء لا تعرفها ، غير متفاعلة مع الحياة ، تضرب حاجزاً بين ذاتها وبين ما يدور حولها ، تعلق على الكتب التي أحضرها عبود عن الطفل الوحيد تقول:" أما أنا فقد رفضت حتى المجرد النظر فيها حتى ولو بوازع حب الاستطلاع "(ص117)، كما أنها لم تشارك زوجها تفاصيل أزمته ، وتصورت أنه يبالغ، وبالرغم من الفقر والضنك الذي تحياه مع ابنها لم تكن إيجابية ، لم تبحث عن عمل ، اكتفت بكونها مراقباً صامتاً.
ينتاب التردد مرام وابنها ماجد في بعض انتماء مازال بداخلهما إلى مصر وخوف من المجهول الذي ينتظرهما بالخارج.
طغى أسلوب التساؤلات على الفقرات التي جاءت على لسان مرام وكان من أنسب الأساليب التي تعبر عن هذه الشخصية تقول :" …أتوقف . ينبت سؤال بأرضي التي لا تنبت غير الأسئلة : رحل أم هرب ؟ أضيقوا عليه الخناق حتى هاجر ، أم فر بجلده مني ؟! أدرك السؤال ، وإن كنت لا أعرف الإجابة.." (ص133)،(ص135)، تضيق بالحياة وبالمدينة والبلاد ، تضيق بالرجل ومغزى وجوده بحياة المرأة ، ولاتجد سبباً لوجودها سوى ماجد الذي تخشى عليه من مهرة.
مثَّل الجنرال عفارم نموذجاً يجسد الفانتازيا في تكوين الشخوص ، ونجح الروائي في تلوين تلك الشخصية ؛ لتؤدي محمولها الرمزي الذي أراده منه ، فجعل له مسميات متعددة مثل " المعز لدين الله الفاطمي " ثم تحوله إلى " جنرال عسكري"، وجعله مصاب بالفصام وهو نوع من تسلط الهلوسات والادعاءات على الشخصية والتحكم في تصرفاتها ولوّن الروائي هذا الفصام بما يتناسب مع التحولات التي تتابعت على الحياة الاجتماعية والدينية بمصر.
عدَّ الروائي " الجنرال عفارم" الحارس الأساسي لمهرة بحسبانه – في ظني- في دلالته الرمزية أحد أبناء أو كل أبناء هذا الوطن ، حين حمَّل " مهرة" دلالة رمزية لهذا الوطن العريق ، جاءت اللغة على لسان هذا" العفارم" ذات صور متعددة وتلونت وتقافزت سريعاً لتتناسب مع التحولات التي طرأت على هذا الوطن ، وتعدد الشخوص بداخل عفارم ذاته، فهي أحياناً لغة قانوني (ص65) ، أو لغة رجل التاريخ العربي ، ثم لغة من أصابته طريقة الجماعات المتأسلمة المتأخرة ، تناسب طريقة القص أيضاً مع هذه الشخصية المهتزة فكانت هناك تقافزات سريعة بين الموضوعات وانتقالات في الزمن مفاجئة وممتدة وتتسم بالفانتازيا.
تخلل العمل خيط رابط يجمع الانفصالات بين شخوص العمل وأصواته المتباينة فلجأ الروائي في سرديته إلى عنصر التشويق الذي تمثل في عدة أساليب ومحاور في هذه الرواية ، مثل الأمانة التي ذهب ماجد ليحصل عليها من إكرامي زميله في الدراسة والتي يشير إليها الكاتب في أول الرواية ليتقدم السرد ملوحاً بها ولا نعرفها إلا مع السرد على لسان إكرامي .
أو عرض حكاية ماجد ووالدته " مرام" على مدى السردية كلها ، ومن خلال الأصوات المتعددة، والسر وراء انتقالهما ، والمبلغ الذي يأخذه ماجد من مهرة ولماذا مهرة ؟، وما السر وراء هجرة عبود ؟، تفاصيل علاقة عبود ومهرة التي بقيت على مر الرواية وحتى انتهائها لا نعرف أبعادها المختلفة وكأنها تنبئ بجزء آخر لهذه الرواية.
عنصر التشويق هذا كان رابطاً جامعاً بين السرد الذي قسمه الروائي على لسان شخوص هذا العمل ، كما دلل على تمكن الروائي من خلق الانفصالات الفنية التي تتناسب مع واقع المجتمع وإيحاد الوسائل الفنية التي تجمعها في سياق هذا العمل الروائي المتميز ، هذا على مستوى البنية الفنية الكلية للرواية ، تضيق عدساتنا فتذهب إلى الفقرات ، فنجد الروائي يلعب على عنصر التشويق أيضاً مثل صياغته للفقرة التي تستدرج فيها مهرة ماجد إلى علاقة جنسية ، وتعرض عليه هذه " الكوتشينة" الخاصة للغاية ، أو عند دخول مهرة لتأخذ الحمام الخاص بها ، وانتظار ماجد لها، وعناصر التشويق السردي بها.
وربط الروائي أيضاً الأصوات التي تحمَّل سرديته من خلال حديثهم عن نفسهم وعن باقي أصوات الرواية كما يرونهم ، وهو انفصال تداخلي شأن الواقع المشترك الذي نحياه بهذا المجتمع شئنا أم أبينا ، شأن الوحدة الإنسانية.
يوظف الروائي منظومة الحواس الإنسانية في مجملها للوصول بالصوت السردي محور البوح والحكي إلى درجات من تمكن الشعور الذي يريد توصيفه ودرجة استحواذه على الشخصية ، ففي أثناء وصفه للقاء الأخير بين ماجد ومهرة ومحملاً على لسان ماجد تتضافر رؤية العين وحاسة الشم والملمس والتذوق وسماع الصوت في الوصول بحالة الشخصية إلى منتهى انفعالها.
ويعد هذا من التقنيات الفنية التي تثري العمل وتجعله مثيراً لكافة أوتار القارئ ومداركه وإحساساته المتنوعة ، فينقله إلى عالم العمل دون مقاومة تذكر.
** انفصالات اللغة في رواية قسمة الغرماء
تعد اللغة بالرواية لغة فصحى محكمة أقرب إلى لغة الصحافة في يسرها وسهولتها على القارئ، وتأتي بعض التراكيب التي تتسم بمصريتها الشديدة من خلال لغة عامية تحمل الطابع الشعبي المصري وهي موفقة في مواضعها لأنها أدل وأبلغ من غيرها في حمل المعنى وظلاله النفسية الخاصة ، مثل قوله على لسان ماجد :" جاء نقبها على شونة . كانت النمرة غلط " (ص41)، أو قول مرام لمدير الفندق اعتذاراً عن استهلاك ماجد للكهرباء :" وأعتذر نيابة عنه لصاحب اللوكاندة دائماً بكلمة واحدة :" لسة صغار".." (107). هذه الجمل تحمل الرائحة المصرية ونبضها الموروث والفلكلوري تخرج في قول "مرام":" لم أكن أحب أن أرش ملحاً على جرح علاقته بوالده "(ص129)، أو قولها :" أراقبه حتى وهو نائم ؟ لا يحتمل الأمر أي نسبة للخطأ . عد غنماتك يا جحا." (ص131) ، يقول ماجد :" كلام ابن عم حديت يضحكون به على العقول .." (ص52)، وتقول مهرة :" هل ما قمت به رد فعل لما جرى من المتعوس مصطفى ليلة الأمس ؟ جائز هل ردي دعوة خائب الرجاء؟ ربما .." (ص227) ، هذه التراكيب الأسلوبية تنغمس في مصريتها الخاصة وتشيع بالعمل جواً من الواقعية ، والالتصاق بهذا المجتمع وطبقاته محور الرواية .
كما يستطيع الروائي التلون باللغة على مستويات متعددة ومركبة، فالرواية تقدم شخوصاً مسيحية ومسلمة ؛ لذا وجدت بعض السمات اللغوية التي بدا حرص الروائي أن تتناسب فيها والتراكيب الأسلوبية مع اختلاف أصوات السرد، فتنوعت التعبيرات بما يتوافق مع الثقافة الدينية والخبرات الخاصة بكل شخصية من شخوص الرواية، ومن خلالها يؤكد على عدم اندماج تفاعلي بين عنصري هذا المجتمع الذي كان يمكن أن يتعايش حتى في ظل الاختلاف .
يقول الروائي على لسان ماجد :" ويحاسبني الرب.."(ص10) وقوله :" إنه يوم الأحد نشكر الرب على ذلك.."(ص14). أو قول والده عبود تعليقاً على الطابور أوله في الأرض وآخره في سماء الرب العالية " (ص158).
نلاحظ هنا استخدام لفظ "الرب" في الحكي على الأصوات المسيحية ، كما نلاحظ أن كلمة التحية أو السلام على لسان ماجد قوله :" سعيدة " ياشيخ " فيرد عليه المجذوب "سعيدة عليكم ورحمة الله وبركاته " يامقدس ياصغيّر" (ص38).
وللروائي حساسية موفقة في اختيار مفرداته فلقد استخدم شخوص الرواية مفردة " البلد" بدلاً من " مصر " أو" الوطن " في مواقع عديدة من السرد ، وذلك للفجوة الشاسعة التي تفصل بين مصر وأولادها أوبين الوطن ومواطنيه ، فهو وطن طارد لأهله بكافة انتماءاتهم ، يقول ماجد :" كنت أتصور أنني لن أرى ناطحات سحاب إلا بعد الإفلات من هذه البلاد ، ..ما إن أحصل عليها حتى أفلت هارباً من هذا البلد الذي يُعد مصيدة لنا " (ص16)،أو قول أمه مرام :" إن هذه البلاد لا تستحق منا سوى الكراهية " (ص18)، هذه المفردة تشيع نوعاً من الفجوة وعدم الانتماء بين الأرض ومن عليها.
يقول مصطفى المسلم ، والضابط السابق ، الذي انضم إلى الجماعات الإسلامية بعد تقاعده :" عقود العمل التي جاءت للآخرين منحتني طاقة أمل في أن أترك البلد وأمشى ذات يوم ، قرب هذا اليوم أم بعد . قال لي زميلي إن بعض التخصصات المهمة والحساسة، مثل تخصصنا . لابد من أن يحصل أصحابها على إذن قبل السفر . نفخت بضيق : لا يرحمون ولا يتركون رحمة ربنا تنزل علينا ." (ص216).
لا يختلف هذا الشعور الطارد سوى في الدرجة بين المواطنين المسيحين والمسلمين ، ولكل منهم مشكلاته التي يواجهها في هذا المجتمع الذي تراكمت عليه الأوضاع الطاردة وكانت وليدة للأخطاء السياسية ، وتراكمات التحولات و التغيرات في القضايا التي تبنتها مصر ، والمعارك التي خاضتها دون حسابات منضبطة.
ويبرز الروائي دور اللغة والتصاقها المباشر بالتحولات التي تطرأ على الشخوص في لفتة ذكية وتدلل على التحولات المجتمعية في الوقت ذاته يقول على لسان مهرة وهي تحكي عن تحولها من الفن إلى الحجاب والاعتزال :" كنت مسروقة من نفسي نشلوا مهرة من مهرة . أمشي ، أتحرك ، ألبس الحجاب في بيتي ، أتكلم بالعربية الفصحى وكأن واحدة أخرى هي التي تفعل ذلك .." (ص168)، وتقول عن مصطفى :" مصطفى هو مصطفى، لم يتغير لسانان في فمه ؛ قلبان في صدره . لسان له ولسان عليه . قلب معه وقلب عليه . عندما ينطق بكلامه يكون ذلك بالعامية ، التي لم يعرف سواها في الحكي من قبل . لكن ما إن يرسو على شاطئ ما يقولونه له ، حتى يتكلم بلغة الكتب ، ويصبح كلامه مضحكاً ." (ص198)، . ونلمح هنا إشارة الكاتب إلى اللغة الخاصة بهؤلاء الجماعات التي تتسم بالموات وعدم التطور مع الحياة .
تتحول اللغة على لسان مصطفى ومهرة بعد تقاعده وانضمامه للجماعات الأصولية ، وبعد اعتزالها الفن وحجابها ، وتصبح المواقيت مرتبطة بالصلوات الخمس ، ويصبح المسيحيون نصارى ، وتسيطر نظرية المؤامرة ، ولا يفوت الروائي في السرد مراعاة تلك التفاصيل اللغوية ، التي تُعد جسراً لرسم الشخوص بتحولاتهم .
على مستوى آخر تتناسب اللغة مع الاضطراب العقلي الذي اصاب الجنرال عفارم وحين يضع الروائي السرد بصوته يقسمه سبعة فصول غير مترابطة ، تدلل على عشوائية السرد ذاته . كما نجد هزات وتقافزات في الاسترسال اللغوي المنطقي تنبىء عن حالة نفسية خاصة لها رموزها وتصوراتها يقول عفارم :" يقولون ويحكون أن الظلام انشق عنيّ. قلت لها: أنت شجرة الدر، وأنا المعز لدين الله الفاطمي . دعوتها أن تؤسس مملكتنا . ذعرت .." (ص55) ، وعن طريق اللغة أيضاً على لسان عفارم يشكل الروائي ويفصح عن تاريخه الوظيفي ، فنجد المفردات بها المصطلحات القانونية يقول عفارم :" …إنني أعرف القانون جيداً وأستوعبه و يمكن أن أخرج عليه. من الصعب أن أهدد حريتها ، لأنني أحترم حريات الآخرين . أعرف جيداً ما يمكن أن يوقعني تحت طائلة القانون .." (ص65).
وللاحتقان الديني الذي أصاب الجميع بمصر ، ينهي عفارم السرد في الأجزاء السبعة التي على لسانه بآيات قرآنية أو حديث نبوي (ص 55: 69) وكأنها دلاله على إثبات الهوية.
تتلون اللغة وتصير أكثر أنوثة في السرد الخاص بمهرة ، وبرغم تحوَّلها إلى المحافظة تظل اللغة في حكيها محملة بالعبق الخاص بامرأة مغرمة بذاتها ، وتعرف تأثيرها على الرجال من حولها، في صورة تدلل على هذا النموذج من النساء التي لا ترى سوى أنوثتها.والتي لا تغادرها ، تقول :" …وعندما أضبطهم متلبسين بالتهامي بأعينهم ، يعومون في بحار خجلهم ، ولكنهم يستمرون في النظر إليَّ . أجد سعادتي في هذه اللهفة التي أراها في الأعين المحدِّقة بي ." (ص73) ، أو قولها :" يقولون عني :" زحام من الجمال؛ صخب من الجمال ، جمال مركز ؛ جمال لو تم توزيعه على نساء مدينة كاملة لكفاهن؛ جمال أُس ثلاثة"، لغة تقف عند حدود ثقافة الشخصية ، ونظرتها الضيقة التي حسرت ذاتها في كونها أنثى فقط ، ولم ترتفع بها إلى آفاق إنسانية أكثر تكاملاً وتأثيراً في الحياة.
** المجاز في رواية قسمة الغرماء.
وفق الروائي من خلال المجاز وأساليب التشبيه أن يجسد ويصور الكثير من المعاني المجردة لجعلها في أقرب صورها إلى المتلقي ، وتحمليها بما يضيفه المجاز أو التشبيه من أعطاء أبعاد انطباعية وتخيلية خاصة ، تكسب الأمر كثيراً من الحيوية والحياة ، فهو في معرض حديثه عن الشائعات في المجتمع القاهري يقول :" عندما تحاول الإمساك بأي حقيقة لا تجد في يديك سوى الفراغ . وكلما عدت بالقصة إلى الوراء ، بحثاً عن أصولها، لا تجد في انتظارك سوى الخواء . كل خطوة إلى الوراء تعني نقصاً في معلومة ، حتى تصل إلى النهاية ، ويصبح الأمر مثل عظمة مصمصها أكثر من فم قبلك . لم يبق لك سوى العظام" (ص89)، يوحي هذا التشبيه بواقعية تنطبق على المستوى الطبقي محور هذه الرواية ، وانغماسه في مفرداتها الحياتية يقول ماجد في تعبير مجازي له دلالته النفسية لشدة معاناة الفقر :" لماذا أجلد نفسي بسياط البضائع التي لن أتمكن من دفع ولو جزء بسيط من ثمنها.." (ص15)، يقول مصطفى عن زميله الذي خرج على المعاش معه :" ضحك ضحكة ملسوعة، مشروخة كالطعام الشايط فوق النار . لم تكن ضحكة كانت كركرة شائهة الخلقة لا معنى لها" (ص212)، يبدو هذا التوظيف التعضيدي للتشبيه والمجاز في كركرة شائهة الخلقة ذا دلالة عنيفة على مدى المرارة المقيمة بنفس هذه الفئة التي تعاني فساد أوضاع المجتمع ومؤسساته ، كما تعاني الانفصال وعدم الانتماء الذي قر بنفس كل مصري مسلم أم مسيحي.
وفي تشبيه بديع يصور طبيعة مصطفى الذي تقول عنه "مهرة" :" كنت أقول عنه قبل الطلاق مصطفى نور الشيطان " (ص179)، وهو معنى فلسفي عميق يلتقط بالشخصية عشقها للحياة فالشيطان المنير عند بعض الفلاسفة المتصوفة مثل الحلاج هو الصورة الأولى للشاعر وهو الذي خاطبه أمل دنقل قائلاً: " المجد للشيطان معبود الرياح/ من قال لا في وجه من قالوا نعم / من علم الإنسان تمزيق العدم " من قصيدة كلمات سبارتكوس الأخيرة.
يستمر استخدام الروائي للمجاز ليدلل على طبيعة الشخوص يقول ماجد عن أمه:" تقول أمي إن شيئاً ما تهشم في هذه البلاد ، لا تعرف كيف انكسر ولا متى ؟ ولكنها تعرف فقط أنها تتعامل مع الشظايا الناتجة عن الكسر في هذه الأيام "(ص10)، يدلل المجاز على طبيعة شخصية مرام التي سبق أن أشرت إليها ، كما يدلل على التصدع والكسور الكائنة بهذا المجتمع.
هناك بعض التشبيهات التي أتصور أن الروائي جانبه التوفيق فيها إما لعدم مناسبتها للشخوص التي جاءت على ألسنتهم أو لغرابة التشبيه ذاته تقول " مهرة":" …منهكة من كثرة الأسئلة التي اصطدم بها كنت ممتلئة ، كأنني حامل في انتظار طشة الطلق المستحيل ، ولن يأتيني وجع المخاض" (ص85) ، مهرة لم تلد في حياتها ، وليس هناك مناسبة بين المشبه والمشبه به – في ظني…
يلح على الكاتب هاجس أساسي يتمثل في رصده كل تفاصيل المجتمع والإشارة إلى مشكلاته ، وما تعاقب عليه ،من ظواهرحتى يبدو الروائي في بعض الفقرات وكأنه عالم اجتماع تشتته الظواهر ، ويجتذبه محاولة تحليلها وتفسيرها وتشغله عن الحبكة السردية لروايته ، فهو حين يصف شارع " عباس العقاد " بمدينة نصر يقول :" …ومتسولين وشبان عاطلين بدون عمل . ومَن الذي يعمل من شبان هذه الأيام ؟ لا بد من واسطة تنهد لها الأرض ويسمعها الأصم…" (ص15) أتصور أن الروائي في بعض مناطق السرد تتملكه شهوة الإتيان على كل التفاصيل ، وتبث كل الملاحظات التي لا تعد من الضرورات الروائية الفنية ، فالقدرة على الحذف أصعب من القدرة على سرد كل التفاصيل .
ولقد تنازعت عين الكاتب وقلمه منظومة متشعبة من الظواهر التي أصبح عليها المجتمع المصري ، ونزع إلى عقد عدد من المفارقات بين اللحظة الراهنة والعقود الماضية خاصة ما قبل ثورة 1952م ، وهو ما يدلل على انفصالات من نوع آخر بين اليوم وأمس ، وقد يبدو أن كل هذا الرصد وكل هذه التفاصيل قد أفقدت الدرامية كثافتها وسبكها الفني المتسارع المحكم ، لكن يغفر للروائي أن لطبيعة موضوع الرواية تجليات كثيرة مجتمعية ، صاحبت هذه التحولات ، ولذا كان من الضروري تصوير تلك المنظومة التي خلقت حالة من الردة في الكيان المصري وجوانبه المتعددة بصفة عامة .
في مشهد جنسي يصور الروائي كلاً من ماجد ومهرة وهما يشاهدان فيلم " سكس" يقول:" تنامت إليهما أصوات تأوهات وقبلات وتنهدات وحوار بلغة أجنبية ، الانجليزية على الأرجح. لغة العالم الأولى ، تستخدم في هذه الأفلام لاعتبارات تجارية .." (ص258)، في ظني أن المشهد لا يحتمل الجملتين الأخيرتين إلا إذا نظرنا إلى ما يحدث بين مهرة وماجد على أساس أنه عملية مقايضة بيع وشراء . التكثيف الفني للعمل الروائي يتطلب نوعاً من السبك الذي من شأنه التضحية بكثير من التعليقات الخاصة بالكاتب وأرائه في الظواهر.
يحكي الروائي منطلقاً من صوت ماجد عن الأوضاع التي كانت عليها الملابس في المجتمع المصري في بداية القرن العشرين وحتى الثمانينيات يقول " جلاليب بيضاء بدلاً من البدلات التي كانت أنيقة في زمان محى وانقضى ولم يعد له وجود …اللون الأسود هو السائد للباس النساء.." (ص9)،(ص11).
لم يتجاوز عمر ماجد عشرين سنة ، ولم يقم في مدينة القاهرة أكثر من سنتين لذا يبدو صوت ماجد في بعض الأحيان وقد حمَّل أكبر من قدرته على هذا السرد الذي يتضمن التاريخ ، وماكان من أوضاع مجتمعية مغايرة لم يرها.
تتناثر بالرواية وخاصة في السرد المتعلق ببوح ماجد بعض الإشارات النفسية عميقة الرؤية، تتطلب خبرة متسعة وثقافة نفسية عميقة ومتبحرة أظنها لحظات يتداخل معها صوت الروائي ، ويستعير فيها صوت ماجد الذي لاتنتج معطياته هذه النظرات العميقة ؛ كما أتصور أن هناك بعض المبالغات التي وضعها الروائي ليس في حجمها الطبيعي بل تخير وضعها في مظهر كاريكاتيري من أجل إبرازها.
ذكرني ولع الروائي برصد تفاصيل كثير من المتغيرات التي حدثت بالمجتمع المصري "بالجبرتي " وحكيه عن أحوال مصر في فترة المماليك في كتابه " عجائب الآثار في التراجم والأخبار" .
وبدا عقل الروائي وقلمه يتنازعهما عدستان واحدة للعمل الفني وجودة سبكة وثانية للمجتمع وظواهرة، وتحليل الروائي لها .
يغفر للروائي هذا التوجه حرصه على كشف مواطن الخلل والتحولات المتدهورة التي أصابت المجتمع وتسليط الضوء عليها ؛ بغية محاولة إيجاد حلول لهذه المشكلات.
** المكان والزمان في " قسمة الغرباء"
لم يوفر المكان بالرواية آية شعور بالأمان ، أماكن الأثرياء ، أو الفقراء المطاردين ، أماكن المسيحيين أم المسلمين.
" فالبيوت أصبحت حصوناً وقلاعاً ، انتزعت من العصور الوسطى . لم تعد – كما كانت من قبل – أماكن ينشد أصحابها الستر ويطلبون البعد عن فضول الآخرين و تلصصهم ، وأصبحت خنادق تخفي أناساً يخوضون معارك ضد أنفسهم و ضد الآخرين من حولهم ، أكثر من كونها أماكن للراحة والسكن ." (ص21).
وانقسمت الأماكن ، محصنة مثل بيت إكرامي ومهرة ومصطفى أو مباحة مثل الفندق الذي يعيش فيه ماجد مع أمه، وفيما يكرس الروائي لهذه الانفصالات التي سيطرت على البنية الفنية للرواية ولقد وظف الروائي المكان بحسبانه مكملاً أساسياً في رسم طبيعة الشخوص وتحولاتهم التي واكبت تغيرات المجتمع ، حتى إنني اعتمدت عليه في تحليل تطورات الشخوص بالرواية ، وأتصور أن يضفي ذلك على الرواية كثيراً من عمق التناول.
أشار الروائي أيضاً في لفتة ذكية إلى مفهوم المسجد الذي تطور عند الجماعات الإسلامية ، وعده مكاناً جاذباً تقدم فيه كل الخدمات اللازمة للإنسان وإدراكهم أن البشر تسعى دوماً لمصالحها، فأضافوا لمكانية المسجد هذا الثقل الجاذب ، عن طريق توفير الخدمات ، واللعب على مادية البشر المباشرة.
يتشكل الزمن بالرواية مركباً فأحداث الرواية كلها محددة بيومين على الأكثر وهو الزمن الذي ذهب فيه ماجد لمهرة لطلب النقود ومشاهدة الفيلم الذي استعاره من إكرامي وفي تلك الساعات المحدودة تتداعى بداخل شخوص العمل الكثير من الأحداث والمواقف الاسترجاعية التي شكلت تاريخهم الواقعي والنفسي ودفعتهم بل ألقت بهم إلى هذه اللحظة الحرجة التي يعيشونها جميعاً ، كما يعيشها هذا المجتمع ممثلاً فيهم.
ويبدو الزمن في أخر فصل بالرواية والمعنون بـ" مهرة ثم ماجد " سريع الإيقاع في حالة من المواجهة المستمرة بين متوازيات لا يمكن أن تتقابل ، لكنه نظراً لهذا الظرف المحتقن من كلا الطرفين مهرة وماجد كانت أحداثه متلاحقة ولاهثة ومتبادلة فيما بينهما في توازٍ برغم الالتحام لا يلتقي ، هذا اللهاث الزمني لم نلحظه في فصول الرواية السابقة لاحتوائها على قص الفلاش باك والرؤى والتحليلات الخاصة بأصوات العمل.
بقى أن أقول إنه برغم صدور الرواية في عام 2005م إلا أنها تحكي حال اللحظات التي نعيشها ونكتوي بتداعياتها حتى هذه اللحظة الآنية في 2009م وهو مايعطي العمل قدرته على تمثل الواقع ، ودق أجراس إنذار مدوية للخطر الحتمي الذي يقع تحت طائلته المجتمع المصري ، والذي ينبه له ويحاول معالجته بعمق وجذرية وأتصور أن هذا ما يمثل تميز وجرأة أعمال الأستاذ / يوسف القعيد.
أنهي هذه الدراسة بسؤال يراودني دائماً كيف انحسرت أفكار رواد وقادة التنوير في مصر؟.
وكيف تحولت الحضارة السمحة من سباق نحو الرقي والاتحاد والتآخي بين عنصري المجتمع إلى صراع حول ما يظهر من خصلات شعر المرأة وبث بذور الفتنة بين المسيحيين والمسلمين؟.