القطارات بدويّها العالي، أخذتنا الى صوفيا، حينها كان سيف الرحبي صبياً، خجولاً، لم تطفح رعونته المحببة الى السطح بعد، تعرفتُ عليه عند بوابات المسارح وفي شارع راكوفسكي بصوفيا، شارع النساء البجعات، كان قد اختار السينما كمهجع وملاذ لجنونه وأنا اخترت المسرح كبيت يحميني من النفي، والقهر، شابان مفتونان بالأنوار والمسارح والنساء، نذرع الشوارع والمدن، تجرنا القطارات من قمصاننا، أحلامنا الحارة كانت تبرد على صقيع صوفيا، والشجر المثمر في الربيع يحول صوفيا الى بستان هواء فريد من نوعه، كم صعدنا على المنصات ننشد القصائد، وكم كانت أرواحنا هشة وبدائية وساذجة، كأنها تكشف تلاوين العالم لأول مرة، نذهب الى معهد اللغات ثم الى الطرق هروباً وجزعاً من الجلوس الى طاولات الدراسة، النزق كانت هويتنا ولذتنا، والجلوس في الأماكن الليلية قد شكل وقتها هوساً حاداً، لم تحملنا لا الشوارع، ولا البحار ولا الصداقات، كنا مثل خيول مخبولة، مفلوتة في الفيافي تريد أن تدشن النباح بوجه الحياة، في الشوارع شغوفين بالأصدقاء العابرين، نذهب الى الأقسام الداخلية، هنا حيث خالد درويش الفلسطيني يكتب قصائده الأليفة بنشاز رائع، صوفيا، دروب داخل دروب ومنصات داخل منصات، ومصادفة عذبة رمتني امام سيف الرحبي المفتون بالتيه.
هرب سيف الرحبي من صوفيا، وطلق السينما، كأنه دون أن يقرر وقع في فخ القصيدة، مرت سنوات عجولة، إنزلقنا الى الأرصفة، التقينا ثانية وقد قطع سيف الرحبي شوطاً في كتابة القصيدة الحارة، المسرح اكل من روحي كما احتوى الشعر سيف الرحبي، التقينا عند بوابات المسارح وهو يشاهد أحد عروضي المسرحية في بيروت، صارت قصائده تلمع في ظلمة جهل الكتابة، ونصه الشعري أصبح يرّن في آذان الناس من أصدقاء أو نقاد، وفنانين، كان الشعر قد تحول عند سيف إلى ما يشبه رغيفه اليومي ودمه الفائر، ونقطة لقاءه بالمحبوبات المتشردات في ضواحي المّدن، ليّحول شعره الى فخ نسائي حلو وعذب، صار يفهم ويعرف كيف يأسر المرأة، ويخترق جمالها، ويعرف أيضا كيف يهرب منها، لكن الأصح انه كان متيماً بأمه، التي حملها طويلاً وحملته دهوراً.
إن عبث سيف الرحبي وإنتماءاته الى رامبو، وبيكيت، وأداموف وارابال، والمتنبي، وأبوالعلاء المعري، وشاكر السياب، لم يّمنعه من التوازن في بناء مشروعه الشعري، في عتمة العالم وبين طوائف الكراهية وانسداد الأمل، يُضيء قصيدته، يكتبها، يطحنها طحناً ثم يمضي بها بعيداً إلى أنوار الأرصفة والمدن، إن سيف الرحبي يعشق الولاء للاتربة والأرصفة، ويُفتتن بحب أمه، وبالبحر الذي يسيّجها وبالظلمة التي تذبحها!
وقفت على منصة حصن الفليج بعد أن وضعت قصائد الرحبي كلها على عباءة أمه، المسافرة في بحر دمه، الأم التي منحته بحارها وورودها ومخاضها، قطارات تعوي في العالم، قصائده يكتبها على قميص المهاجرات، قطارات الحريّة، عربات الأمل، إنها القصيدة الأكثر رحابة، قصيدة سيف الرحبي.