مختلف، ما إن تراه للمرة الاولي، تشعر بهذا الاختلاف، ومن المرة الأولى يدخل قلبك كما يدخلك قلبه، بول شاؤول، الشاعر الحقيقي، الجميل، المسرحي المهم، المثقف الكبير، هادئ رقيق، بلا ضجة استعراضية, بلا حذلقات لغوية ممجوجة، المنعزل عن الحياة الاجتماعية والمهرجانات والتظاهرات الشعرية، الموجود في صميم المشهد الشعري والثقافي العربي، يبكيه ما آلت اليه حالة الجماهير العربية من تشابه باهت، كما يبكيه عصفوره الصغير الذي مات في غيابه، قارئ بكثافة للادب العربي مثلما هو قارئ بكثافة للادب العربي مثلما هو قارئ، بنفس الكثافة، للادب العالمي، ترجم حوالي ستة الاف قصيدة من شعر العالم، صريح حد الشفافية، كائن شعري بكل دلالات الكلمة..
في أحد مساءات بيروت، في مقهى "المودكا" في شارع الحمراء، حيث يكون دائما، التقيته وكان هذا الحديث حول الشعر والمسرح والحياة والموت والمرأة والحلم.
* بول شاوول -شاعر يكتب قصيدة النثر- ناقد مسرحي، كاتب مسرحي، كتب القصة، عمل في الصحافة. حاليا مسؤول عن القسم الثقافي في جريدة المستقبل وقبلها في النهار وقبلها في السفير، هذا ما يعرفه الجميع. ولكن من هو بول شاوول الآخر، ما هو الوجه الآخر المختلف لبول شاؤول؟
– تواريخنا الصغيرة والكبيرة أصبحت معلنة وواضحة ومعروفة لدى الجميع، لأن المدن أصبحت صغيرة لم تبق المدينة هي نفسها من خمسين عاما، لم تعد مستودعا للاسرار والخبايا كما كانت من قبل، أصبح كل شخص منا معلنا حتى بتفاصيله الصغيرة. أنا شخص ذو تاريخ معروف، كنت في الجامعة اللبنانية ضمن قيادات الحركة الطلابية، كنا نشكل ما يشبه ثورة طلابية نقوم بالمظاهرات، وكنت أقود هذه المظاهرات ودخلت السجن مرات عديدة.
في الحرب وقفت ضد الجميع وكدت أدفع الثمن حياتي لأنني كنت في أحدى المناطق وتمردت على طائفتي وعائلتي وعلى ناسي ودخلت الى المنطقة الاخرى، حيث بدا لي الامر أقل حدة وأكثر تسامحا، دخلت الى مكان ليس فيه طائفة واحدة مسيطرة، ولا حزب واحد ولا فكرة واحدة ولا بندقية واحدة.
هذه الحرب منذ اندلاعها، اعتبرتها حربا لا علاقة للبنانيين كجمهور بها، الزعماء كانوا واجهات خارجية لها والطائفية كانت الواجهة الاخرى التي استعملت لتقسيم البلد، لتدميره وتهجير أهله واستلاب روحه، الطائفية كانت لعبة صهيونية في لبنان من حيث هي فكرة عنصرية، هي الوجه الملحد للدين، عززت بالمذابح والتهجير والاعلام والاحزاب. وكنت أيضا على هامش كل الذين انخرطوا في الحرب، لم أكن حياديا، كنت ضد الجميع وكتبت ضد الجميع وكنت دائما أعزل، كتبت كثيرا في الحرب، شعرا. مسرحا.قصصا.ما ميز حياتي منذ الحرب وما بعدها، هو العزلة، عشت عزلة كبيرة، مازلت، انقطعت عن النشاطات الاجتماعية، قطعت جذوري العائلية، ابتعدت عن الفساد، أنا شخص منعزل تماما.
عندي ثلاثة أمكنة – المكتب – المقهى – البيت. ليس لدي أمكنة اخرى، لا ألبي دعوات لا على العشاء ولا مهرجانات شعرية.. الخ..
أنا أظن انه عندما يكون هناك ما يشبه الكوليرا في المدينة.في أي مدينة. كوليرا طائفية.عمالة. ينبغي أن يحفظ الانسان نفسه بهذه العزلة الحية. الدينامية. حتى لا يصير كالآخرين.
لم يعد عندي أمل بخلاص جماعي. لأن الجماهير انتهت أو انهيت – صفيت كطاقات وتناقضات وطموحات لا يمكن ان تتحقق في ظل الديمقراطيات العربية. صارت الجماهير تشبه بعضها صارت جماهير واحدة في الوطن العربي، وهذا مؤسف. حزين – شقي، منذ زمن لم أنخرط في الأحزاب ولا في أي عمل جماعي أخر، انقطعت عن الجميع. هذا القطع مع هذه العزلة هو نوع من أنواع الحرية، وإن كانت حرية موجعة، مؤلمة. هذا أنا، أكتب كثيرا، اقرأ كثيرا، أنشر قليلا.
* هل تحقق لك الكتابة عموما، والشعر خاصة، حالة التوازن الداخلية؟
– طبعا، لولا الشعر لكنت كالآخرين، قناعاتي ليست فقط مجرد قناعات سياسية، لسواي كانت هذه القناعات وخالفها سعيا وراء السلطة والمال، لأنهم ليسوا شعراء، الشاعر أعظم شيء في الدنيا ولو كتب جملة شعرية واحدة، ليس هناك شيء أعظم من شاعر، مهما كان حجمه، الشعر غابة، جذر، ينبوع، هو الذي ساعدني لأستمر وأكتب ضد القتل، الشعر لا يقتل، لا يسرق، لا يهجر، لا
يمكن أن يكون عميلا لأي نظام، لأي طائفة، الشعر لا يمكن أن يكون طائفيا أو عائليا، الشعر هو مواد الروح الفائضة عن الأشياء كلها، الشعر انساني. والشاعر بقدر ما هو معزول بقدر ما هو قوي، بقدر ما هو رافض للخراب بقدر ما هو قابل لكل القيم الإنسانية، ولا أقول القيم الأخلاقية السائدة، الشعر ليس فقط أمن لي التوازن، هو سبب وجود.
* منحك الصلابة.
– ليس موضوع صلابة، أظن أنني إن لم أعد أكتب شعرا لاختلفت حياتي، الشعر هو طريقة حياة، طريقة تفكير، طريقة جلسة، إطلالة، الشعر هو التفاصيل. لو لم تكن روح الشعر موجودة لسادت الأشياء وساد الموت أ من هنا، لم أسع ولا مرة في حياتي إلى الثروة ولا إلى أي منصب، لا أعرف في حياتي أين وزارة الثقافة ولم ألتق أي وزير للثقافة إلا في ندوات تليفزيونية ولم أكن رحوما معه لم أملك في حياتي بيتا كبيرا، عندي بيت صغير أعتبره الجنة. هذا هو الشعر لا يسعى إلى سواه.
* البيت – المكتب – المقهى – ثلاثة أمكنة لعزلتك المختارة – هل ترى هناك ارتباطا ما بين الشاعر وأمكنته؟
– الشعر يخلق حالة الارتباط هذه، أنا أؤمن بشعرية المكان وانسانيته، بالنسبة للشاعر شارع بدون انسان فهو شارع غير موجود، طاولة في مقهى بدون انسان فهي غير موجودة، الانسان يعطي معنى ذاتيا طبعا للأمكنة، هو إما أن يعطيها معنى "سلطة" تكون الأمكنة بين القصور أو يعطيها معاني لأشياء إدارية، أو يعطيها معاني شعرية، تختلف الأمكنة وزواياها من شخص لأخر البيت مثلا، هنا من يرده انه استمرار للتاريخ أي كالقبر، هناك من يرده مكانا للانجاب والعائلة ومنهم من يرده مركز سلطة، أنا كشاعر، أراه مكانا مفتوحا لاكتب الشعر.
الرصيف، كتبت كثيرا عن الرصيف، الرصيف هو ذاكرة المدينة، مثلا رصيف شارع الحمرا قبل الحرب كان ذاكرة بيروت، في الحرب كان مرآتها، صور شهداء، أسلحة،خوف، كان مكانا رحبا قبل الحرب، صار مكانا للخوف.
* وبعد الحرب؟
– أصبح مكانا بلا هوية، ولكن ما يعطي هذه العلاقة بينه وبين الشاعر، هو الشاعر نفسه هذا الرصيف، أنا أعرفه كله، أعرف بلاطه، واجهاته، ناسه، صار جزءا مني، أحبه كله أحب ان اكتشفه يوميا، لم يتحول إلى روتين، لم يصبح غيابا، لم يصبح ذكرى، مازال حاضرا، أجمل شيء في الصباح بالنسبة لي عندما أمشي من بيتي عبر الأزقة إلى المقهى.
المقهى ايضا، أنا عاشق مقهى، أقرأ في المقهى، أكتب في المقهى، كنت في الرابعة عشرة من عمري حين كنت أهرب من المدرسة إلى المقهى، المقهى مكان علني، ليس سريا، عكس الا وكار، مكان شفاف لا توجد فيه أسرار، وفي نفس الوقت هو مكان عام، المقهى في المدينة لا يسأل من جاء، المدينة عموما لا تسأل من جاء، وإلا أصبحت قرية، أنا اسمي المقهى. العزلة المحجبة بالناس- أجلس في المقهى وهو ممتلئ بالناس، ومع ذلك أكون وحدي، عادة، من مدة طويلة، أقصد المقهى صباحا قبل أن يأتي من أعرفهم، وأقصدها ليلا بعد أن يذهبوا، هذا المكان اذن أحبه جدا، هذه العزلة المأهولة، أحبها..
* الا تحب اقامة علاقات مع الآخرين؟
– الآن… لا.
* جان بول سارتر يقول "الآخرون هم الجحيم" هل تقول ذلك ايضا؟
– لا.. انا لا أقول ذلك "سارتر" كان يتكلم ايديولوجية، فلسفة. أنا لا املك كرها للآخرين وهم ليسوا جحيما، ولكن أظن ان العزلة أجمل بعد كل هذه الحروب، هذا الخراب، هذه الضوضاء، أنا الآن اختلفت عما قبل الحرب، وقتها كنت أعيش في الهواء الطلق، مع الناس، مع المجموعات، المظاهرات، الندوات الاحلام، هذا جزء من تحولاتي بعد الحرب، الموضوع موضوعي أنا الشخصي لا علاقة للآخرين به.
* أنت شخص وحيد، الا تخاف من وحدتك حين تنظر الى الغد، الى ما بعد؟
– لا على العكس، كلما تقدمت في العمر، لمعت ونصعت وابيضت عزلتي.
* الا يخيفك الزمن؟
– لا يخيفني الزمن.
* والموت..؟
– الموت يخيفني ولكنه ليس وسواسا ولا هاجسا، نحن لا نختار ولادتنا ولا نختار موتنا، كان يمكن أن تخيفني الولادة لو كنت أعيها، وبما أنها لم تخفني فلن يخيفني الموت الى هذه الدرجة.
* لكنك الآن تعي الموت وتعي معناه.
– نعم أعيه، لكن الموت كلام، كلام نظري لا أحد يعرف ما هو.
* المخيف في الموت هو هذا المجهول الذي لا أحد يعرفه.
– لذلك يبقى وهما الى ان يأتي "غودو" سيأتي.
* "غودو" هو الموت..؟
– غودو سيأتي، لم يأت لبكيت، لكنا سيأتي، سيأتي في النهار، في الليل. على الرصيف مع امرأة أحبها، سيأتي.
* أية حالة تراها أجمل لحضور الموت..؟
– الموت عندما أنام ولا أصحو، سيختلط الموت مع النوم، يأتي هادئا، متمهلا، يدخل حالة النوم ويندمج بالعتم، عتم وصمت، أجمل ما في الموت هو أنه حالة صمت يصمت الشخص، ويصمت
كل شيء حوله، لحظة العدم الأجمل والأصفى.
* أنانيتك كانسان وكشاعر "وهي الأهم" الا ترعبك من فكرة أنك ستنتهي بينما العالم حولك مستمر؟
– الحياة حالة – أوهام صغيرة، الشاعر يعتبر مجانية الحياة كمجانية الموت، الشاعر ليس لديه ما يخسره ان مات، المجد كما يقولون، مجده، هو صمته، عزلته مع الورق، الورق مادة ميتة، الطاولة مادة ميتة.
* ولكنه يكتب شيئا حيا.
– محاطا بالموت،، أذهب الى بيتي، أجلس في وسط المكتبة، كل ما حولي ميت، منذ شكسبير وما قبل وما بعد، جميعهم موتى، صمت، جزء مني ميت، بيتي جزء مني، نصفه ميت، كل الشعراء الذين أقرأ لهم ميتون.
* ولكنهم معك.
– ميتون، الموت تعودناه، مات والدي ووالدتي، هما باقيان في، ولكنهما ماتا.
* موت الاشخاص القريبين، هل يجعل فكرة الموت عادية؟
– هذه السنة، كانت موسم موت بالنسبة لي، مات صهري، مات ابن شقيقتي وهو شاب كنت أحبه جدا، مات خالي، مات رفيق عمري، أجل هذه الاشياء تقترب بالموت، جزء مني يموت بموت
الآخرين، هم ذاكرتي وماتوا، أظن أننا جميعا نتعود على فكرة الموت، الحياة تنسينا الآخرين الذين ماتوا، تغطيهم بالغبار، أحيانا أجلس، أتذكر جميعا، مواقف، تفاصيل، اسماء، وجوه، شيء يشبه المسرح، يصعدون جميعا ويضيئون المكان، هم يطلعون مني، اذن هم في وهم ميتون، أي، جزء مني ميت، الموت بالنسبة لنا صار في يومياتنا، تألفنا معه، الموت يخيفني ولكن ليس هاجسي، ليس مبررا لك أن تخافي من الموت عندما يموت كل هذا العدد من الناس القريبين، لأن جزءا منك ما معهم.
* لنعد إلى الشعر، في أحدى مقابلاتك قلت: ان القصيدة التي تغنى ليست شعرا عظيما.
– نعم أحكي عن القصيدة المركبة، هي الأجمل، القصيدة المركبة لا تغني.
* والوزن.
– الشعر العربي قدم قصائد موزونة رائعة جدا منذ الجاهلية وحتى اربعينات هذا القرن، ولكن هذا انتهى دوره، حتى التفعيلة انتهى دورها، ليس معقولا ان يبقى أبديا، الشعر ولد قبل الاوزان، ولد مع الانسان، مع حواسه، مع همومه، مع خوفه، الوزن ليس لغة هو أداة لغوية انتهى دورها، لم يعد هناك شعر عمودي وموزون يقدم الجديد لانه استفز، قصيدة النثر اليوم هي الحرية الكاملة، قضية الحياة، ان من يحصر قضية العالم بوزن كمن يحدد الفضاء بفرجار ومسطرة، الوزن أعطى أشياء مهمة ولكن الآن انتهى دوره، التفعيلة ايضا في لبنان اندثرت.
* ولكن هناك اسماء مهمة في لبنان تكتب قعيدة التفعيلة.
– هؤلاء شعراء المهرجانات، أصحاب الحناجر المهرجانية، القصيدة المركبة الحديثة هي الأهم، تسعون بالمائة من شعراء لبنان يكتبون النثر، في سوريا حولي أربعون بالمائة، في مصر هناك جيل جديد كامل يكتب قصيدة النثر، في لبنان منذ أكثر من ثلاثين عاما انتهت هذه المعركة. منذ زمن يصدر كتاب ويقال هذا شعر دون النظر إلى الوزن، في مصر الآن الموضوع محتدم، في الخليج هذه المشكلة موجودة، عندنا حسمت وفي سوريا ايضا.
* حسمت إلى حد ما.
– أصبحت اشكالية وليست مشكلة.
* نعم هذا صحيح، أصبحت اشكالية. قصيدة اللقطة المكثفة ما رأيك بها.
– أنا أول من كتبها عام 1977 في "وجه يسقط ولا يصل" يومها سميت قصيدة البياض ونسبت الي.
* هل ترى أنها الشكل الأجمل للشعر؟
– لا. هي شكل من أشكال الشعر فقط، في "موت نرسيس" مثلا عندي مقاطع جملة واحدة على خمس صفحات، هذه تجربة، لا يجب ان يقف الشاعر عند تجربة واحدة، أسوأ ما عند الشاعر أن يكرر نفسه، أن يصبح ببغاء ذاتيا، أن يقلد الشاعر شاعرا أخر، أفضل من أن يقلد نفسه، لأنه قد يجد عند الاخر شيئا جديدا. اذن الشعر لا يمشي فيخط مستقيم، الشعر حالة حركة، حركة الشاعر، حركة نفسه، حركة عواطفه، حركة ألمه.
* هل تؤمن بالقدر؟
– الحياة قدر، الولادة قدر، الموت قدر، أن ينتحر الانسان هذا ما يكسر القدر.
* تعتبر الانتحار حالة قوة.
– حالة ضعف، المنتحر هو الذي يعيش في لحظة مغلقة، في الأمثلة اللبنانية والسورية هناك ما يسمى "ساعة التخلي" المنتحر هو الذي يشعر أن العالم كله قد تخلى عنه، لحظة مغلقة، ينغلق فيها الانسان على نفسه، لحظة يشعر فيها أن الكون انتهى، ربما من أجل امرأة، من أجل المال من أجل الله، من أجل الدين، لا أتكلم عن الانتحارات السياسية الفدائية، أحكي عن الانتحار الوجودي عندما يشعر الانسان ان كل شيء قد تخلى عنه، وأنه امام جدار مغلق يهرب الى الامام، الانتحار هو هروب إلى الأمام، وصدقيني، لا أحد يعرف ان كانت لديه طبيعة انتحارية أم لا، هناك شعراء وكتاب كانوا أقوياء، "جونو" مثلا، أدبه مفعم بالقوة والتفاؤل وانتحر، تأتي هذه اللحظة لا تعرفين من أين، الانتحار ليس له منطق، ليس له مزاج، ليست له طبيعة، ساكن في كل واحد منا، أحيانا يظهر ويختفي دون أن يعرف الشخص ذلك، ليس هناك طبائع انتحارية وطبائع ليست انتحارية تأتي اللحظة وتفجر الانسان فينتحر، الانتحار موجود فينا كفكرة، أن نقود السيارة بسرعة، هذا الانتحار، التدخين انتحار، الشرب انتحار، الجنس انتحار، الأكل احيانا انتحار، الانتحار موجود فينا، الحياة سلسلة انتحارات غير منفذة، كل واحد منا انتحاري وغير انتحاري في نفس الوقت.
* هناك البعض يقهم قصيدتك بأنها منقولة عن القصيدة الغربية، بمعنى آخر أنت قارئ مهم بالفرنسية وترجمت بتميز الكثير عن الفرنسية فتتهم بأنك شديد التأثر بالشعر الفرنسي.
– أنا ترجمت شعرا فرنسيا وصينيا ويابانيا وامريكيا وهنديا ويونانيا، ترجمت ستة الاف قصيدة من كل شعر العالم.
* كل هذه القراءات للشعر الآخر هي التي هيأت لك أن تكتب قصيدة النثر.
– لا. الجو العام، لو أنني ولدت سنة ثلاثين لم أكن كتبت قصيدة النثر، الزمن هو الذي دفعني لكتابتها، توفيق الصايغ كتب قصيدة النثر عام 1948، أنسي الحاج عام 1957، ادونيس عام 1958، محمد الماغوط عام 1950، هؤلاء مهدوا لنا الطريق الى جانب قراءاتي الغزيرة جدا، أنا لم أترجم شعرا فرنسيا فقط، لدي كتاب اسمه "مختارات من الشعر العالمي" روسي- انجليزي- يوناني، أنا من كبار المثقفين شعريا.
* هذا معروفه عنك.
– هناك شعراء فرنسيون أعتبرهم مهمين جدا، كل الشعر علمني، الشعر الهندي علمني، الاختزال من الشعر الياباني، الشعر الصيني علمني، مالا رميه علمني، المتنبي علمني، أنا استاذ في الادب العربي، علمت الأدب العربي عشر سنوات وعلمت أبو تمام، امرؤ القيس، الجاحظ، ثقافتي العربية عميقة جدا وكذلك ثقافتي العالمية، التأثر، أشكر وبوفاء شديد كل شاعر تأثرت به، احيانا تتأثرين بشاعر اقل منك شعريا، أتأثر بالمرأة وأكتب عنها، أتأثر بالشجرة واكتب عنها، كله تأثير لا شيء يأتي من العدم، السياب تأثر باليوت، البياتي بناظم حكمت ونيرودا، أدونيس بسان جون بيرس، أنسي الحاج بالسرياليين، يوسف الخال باليوت، خليل حاوي باليوت، الياس ابو شبكة ببودلير ودوفينيه، سعيد عقل بفاليري وفيولين، لا توجد نهضة شعرية تقوم إلا على المثاقفة الشعرية، الشاعر ذو الثقافة الشعرية المحدودة حكما تجربته محدودة، هناك تجربة الحياة ايضا، الفنى الداخلي، الفنى الخارجي الأخر، القراءة، أنا احيانا أقرأ كل يوم ديران شعر هنا في المقهى، الآن أقرأ مسرح، كل يوم مسرحية.
* هل تحب قراءة الروايات؟
– نعم ولكن الرواية كما يقال هي ما يسقط من الشعر، ما تقوله الرواية في ثلاثمائة صفحة يقوله الشعر في صفحة واحدة، أحب العديد من الروائيين العرب، يوسف حبشي الاشقر، ابراهيم اصلان، نجيب محفوظ، أحب أعمال حنا مينه القديمة فقط، سليم بركات أحب كتاباته الروائية لأنها متداخلة مع الشعر، أحب جمال الغيطاني فيتجربته التراثية أراها حيوية.
* والروائيات؟
– أحب هدى بركات.
* أحلام مستغانمي
– لا أحبها. لا احب الرواية التي تجعل من المرأة قضية، احب الرواية كما هي رواية عالم، لا أن تكتب عن ايديولوجية المرأة، قضية المرأة لا تعني المرأة فقط، تخصني أنا ايضا، قضية الرجل تخصك أنت كامرأة. قصة أدب نسائي وأدب رجالي مضحكة. لا سيما في لبنان وسوريا، المرأة هنا قوية وتعمل بشكل صحيح وليس صحيحا أنها مقموعة. هذا القرن هو عصر المرأة، اول القرن كان مختلفا لكن الآن اختلف الوضع،ربما صحيحا أن هنالك ردة الآن لاعادة المرأة الى دورها المرسوم لها،خادمة والة لانجاب الأطفال، لكن الحياة أقوى والمرأة لن تتراجع على العكس سوف تتقدم، هذا العصر هو عصر المرأة، النساء صرن رؤساء بلديات، رؤساء حكومات، وزيرات، يجب الا تصنع المرأة من نفسها ضحية خصوصا اللاتي يكتبن الروايات، هن دائما ضحايا وهن لسن كذلك.
* لنبق في موضوع المرأة، ماذا تعني لك المرأة؟
– هي كل شيء، اصل الحياة، منبعها، منبع الحكمة، العقل، العاطفة، الحدس، المرأة هي كل شيء في حياتي، لا أتخيل حياتي بلا امرأة، أحبها، بكل ما فيها، أحب ان أراها كاملة كما هي أحب ان أراها في النور، في الضوء، لا في العتمة.
* تحب المرأة الجميلة؟
– الجمال نسبي، الجمال يأتي من داخل المرأة، أحب المرأة الجميلة ولكن أية امرأة جميلة؟ تخيلي امرأة جميلة ولكنها كالدمية جامدة باردة لا حياة فيها، المرأة هي كل شيء، في الماضي عندما اخترعوا فكرة الآلهة كانت الآلهة الفعالة في حركة الحياة هي الآلهة النساء، جميلات، ذكيات، المرأة ليست كائنا منعزلا، هي شيء من داخل الرجل، كما الرجل شيء من داخلها، والاثنان شيء من آلية الحياة، من آلية الشعر من روح الشعر.
* والجنس..؟
– كل شيء في الحياة، هو السابق لكل شيء، هو لحظة التحرر، لحظة انعتاق، لحظة اشراق، لحظة شعر، الجنس هو كل شيء اساسا لا يمكن ان يكون هناك حب بلا جنس. الحب والجنس حالتان متلازمتان.
* أنا أسمي الجنس هو حالة العدم.
– تماما اخترت الكلمة الأدق، الجنس هو حالة العدم، لحظة تنمحي كل الاشياء والوقت ويبقى العدم.
* رحلة الحياة كيف تراها..؟
– وهم جميل ينبغي ان يعيشه الانسان بكل ما هو، بكل ما فيه، بكل تفاصيله لكن على طريقته هو.
* وما بعد الحياة، هل ترى ان هناك حياة أخرى، بعض الطوائف تؤمن بالتناسخ والتقمص.
– البوذيون مثلا وبعض الطوائف الاسلامية، لا.. أنا أرى الحياة تنتهي بالموت، الموت هو نهاية كل شيء لا شيء بعده.
* تحب السفر..؟
– ليس دائما، لأني احيانا احب ان أغرق في الروتين، أن يتراكم علي غبار الروتين، أحب احيانا جلسة الروتين، لأن الروتين في غالب الاحيان شرط من شروط الكتابة.
* ما رأيك بنزار قباني؟
– لا يعنيني
* لا تراه شاعرا.
– قلت: لا يعنيني.
* لا يعنيك كشاعر؟
– طبعا كشاعر.
* أدونيس؟
– ايضا لا يعنيني.
* أنسي الحاج
– شاعر.
* محمد الماغوط.
– شاعر كبير.
* هل لأن أنسي الحاج ومحمد الماغوط كتبا قصيدة النثر؟
– لا.. لأنهما شاعران، أدونيس كتب النثر ايضا، نزار قباني كتب النثر، لكن أنسي والماغوط شاعران حقيقيان.
* محمود درويش..؟
– شعره النضالي لا أحبه، الآن محمود درويش مختلف وجميل.
* محمد عمران؟
– هو الشاعر السوري الوحيد الذي طار خارج السرب، شاعر، شفاف، كان يبحث دائما عن لغة جديدة، لغته مختلفة، حيوية، نابضة، مائية، الشاعر السوري الوحيد الذي اشتغل على لغته، الأخرون بعيدون عنه جدا مثلما هم بعيدون عن الشعر، وأنا قلت هذا الكلام في أكثر من مكان وفي أكثر من مقال وليس لأنك أنت موجودة فقط. محمد عمران طار منفردا لم يرفعه أحد. ~
* لنحك عن سعيد عقل، يبدو دائما وكأنكما على خلاف.
– على العكس، أنا أرى ان سعيد عقل شكل مرحلة مهمة بالشعر.
* أدونيس تأثر به، بقصيدته الكلاسيكية..؟
– نعم. "قالت لي الأرض" لأدونيس، "تقليد" لسعيد عقل. تقليد هش، أدونيس لا يملك لمعان سعيد عقل، لغته خافته، تبنية. يوسف الخال تأثر ايضا بسعيد عقل، شعراء كثيرون تأثروا به، سعيد عقل كان مرحلة رئيسية في القصيدة العمودية، هو أكثر شاعر طور في القصيدة العمودية، أكثر من الجميع، أحمد شوقي طورها في المسرح فقط، بدوي الجبل صنع قصيدة أكثر مما طور، قصيدته رائعة جدا لكن سعيد عقل ضرب في اللغة بشكل أقوى من بدوي الجبل ومن الجواهري. لكنه وقف منذ خمسين عاما، انتهى باكرا.
* قصيدته المحكية..؟
– تقليد لميشيل طراد.
* دعوته الى لبننة اللغة الغربية..؟
– هبل وغباء.
* أنت مع اللغة العربية..؟
– طبعا. الدعوة لاحلال الحرف اللاتيني والمحكية لتكون هي اللغة الاساسية بدأت في مصر ايضا، هذا نوع من الغباء والدليل أنها لم تنجح مع سعيد عقل، هو يريد ان يلغي الفصحي وبالمقابل، يعتبر ان قصيدة النثر ليست شعرا لأنها لا تحوي وزنا، اي تناقض هذا، ثم ان سعيد عقل هو أكثر شاعر عربي فتوحي، كما أسميه، كل شعره خيل ودرع وسيوف، شاعر من القرن الرابع الهجري كأنه عاش مع الفتوحات الاسلامية، أكثر شاعر عربي صحراوي هو سعيد عقل، شاعر قوي اللغة، تأثر ايضا بنهج البلاغة لعلي بن ابي طالب كثيرا، سعيد عقل عربي اكثر من ادونيس ومن أنسي الحاج، ومع ذلك يريد إلغاء اللغة العربية، هذا غير طبيعي.
* لنحك قليلا عن المسرح، ما رأيك بالحركة المسرحية في الوطن العربي حاليا؟
– تعيش حالة انقراض. سنة 1985 كنت في تونس في لجنة التحكيم الدولية وكان معي يومها سعد الله ونوس، يومها كان هناك حوالي عشرين مسرحية مهمة، من الجزائر، من المغرب، من سوريا، من العراق، من كل الوطن العربي، وكان هناك على الاقل 15 مسرحية تونسية مهمة، الآن ومنذ عشر سنوات لا يوجد في العالم العربي كله مسرحيتان او ثلاث، الجزائر توقفت بسبب الحرب، المغرب تراجع المسرح فيه بشكل واضح، هناك بعض التجارب الفردية جدا في البحرين وقطر والكويت وفي لبنان ايضا تجارب فردية جدا، وفي سوريا تجارب فردية جدا يعتمدون فيها على الطلاب اكثر من اعتمادهم على المحترفين. اذا لم يعد هناك حركة مسرحية اصبح لدينا تجارب فردية تصنع كل سنتين مسرحية. المسرح العربي اليوم بعد 150 سنة من نشوئه، يعاني حالة لم يعانها منذ زمن طويل، في مرحلة الثلاثينات والاربعينات والخمسينات، كانت تقدم أكثرهن مسرحية لذات الفرقة في مصر وينفس اليوم.
المسرح الآن يعاني موضا خطيرا، لا أريد ان أبدو متشائما جدا. ربما ان كل شيء يمر بحالة ركود ما، بحالة مد وجزر، في القرن الثامن عشر لم يكن في فرنسا شعر، كان يوجد فلسفة، في القرن التاسع عشر انفجر الشعر، ظهر بودلير، رامبو – تريانون – ارجو ان تكون هذه الفترة فترة ركود وليست موت المسرح.
* المسرح التجريبي الذي يقدم الآن في الغرب وتقدم تجارب فردية منه في الوطن العربي، المسرح الذي لا يعتمد كلى ني مكتوب، أي ليس مسرحا كلاسيكيا.
– هذا نوع من المسرح.
* هل تحبه..؟
– نعم.. أحبه ولكنه نوع، لا يحل محل المسرح، أنا هيئ لي ان اتابع كل المهرجانات المسرحية حضرت مسرحيات ألمانية وانجليزية. شاهدت عرضا ذات مرة لمسرحية "جلسة سرية" قدمت "اباليه" بدون كلام، جميلة ورائعة احببتها جدا، قدمت بشكل أقوى من النص الاصلي.
الباليه، بدون كلام، هو نوع من المسرح، الرقص التعبيري مسرح بلا كلام هذا نوع ايضا، الأوبرا صوت دون جسد، ايضا نوع من المسرح. هذا كله مسرح. المشكلة ليست هنا، في العالم العربي المخرج هو من يدمر المسرح لأنه عين نفسه كاتبا، كل المخرجين العرب صاروا كتابا وسينوغرافيين ومصممي ملابس واضاءة، حل المخرج محل النص.
جاء المسرح السينوغرافي القائم على الديكورات الكبيرة، أصبح السينوغرافي أقوى من المخرج، ثم جاء الرقص وحل مدرب الرقص مكان المخرج. هناك مسرحيات تقوم على الاضاءة، أين المخرج اذن.
خطورة المسرح هنا، مصمم الرقص والسينوغرافيا والاضاءة حلوا محل المخرج والنص والممثل. أي انتهت عناصر المسرح الثلاثة الاساسية. علاقة المخرج بالنص هي علاقة مخيلتين، مخيلة النص ومخيلة المخرج، لا المخرج ينبغي ان يحل محل النص ولا النص محل المخرج، ولا ان يلغي دور أحد العناصر نهائيا.
* لا توجد مشكلة نص اذن..؟
* لا توجد مشكلة نص لأن هناك العديد من كتاب المسرح في العالم العربي، ثم ان الكتابة المسرحية تطور أدواتها على الخشبة، ليست مثل الشعر، الشاعر يكتب القصيدة ويضعها في الجارور، اما المسرحية فينبغي ان تظهر على الخشبة وإلا فقدت قيمت ومعناها، ولكي يظهر النص علي الخشبة ينبغي أن يكون لكاتبه معه علاقة اخرى، بصرية، حركية، صوتية، بنيوية. الآن الكتاب في بيوتهم والمخرجون هم الكتاب، المخرجون هم دمروا المسرح بأنانيتهم، استغلوا سلطة المخرج كسيد للخشبة، تحولت علاقتهم مع المسرح الى علاقة تسلطية.
* هل تحب الفقد عموما؟
– لا احب النقد، قليلا ما أكتب نقدا، أكتب مقالات.
* نقد الشعر تحديدا، الحركة النقدية هل تراها تخدم الشعر؟
– أنا لا اؤمن بأهمية المدارس النقدية والدليل أنها انقرضت جميعها وبقي الشعر فقط. مرت المدرسة الطبيعية، الرمزية، الرومانسية، الواقعية الاشتراكية الماركسية البنيوية. التفكيكية.
السيميائية، كله ذهب وبقي الشعر. هناك شعراء اخذوا قيمتهم من النقد الذي كتب عنهم مثل شعراء الواقعية الاشتراكية ولكنهم ذهبوا وذهب معهم شعرهم. الماركسيون يقولون إن هناك نقدا علميا، الشعر لا يوجد فيه نقد علمي، النقد هو ممارسة وحشية على القصيدة بربرية، الناقد يبحث عن افكاره هو في القصيدة يجرب اسلوبه الجاهز على القصيدة، الماركسي يبحث عن ماركسيته في القصيدة وان لم يجدها اعتبر الشاعر عدميا، البنيوي يستعمل القصيدة وسيلة ليجرب جهازه النقدي. النقد شيء خارجي ولا يمكن ان يكون مفتاحا لنص الشاعر لان الشعر قراءة ذاتية، فردية، تختلف من قارئ إلى آخر. المدارس النقدية هي محاولات خاصة اجتماعية او سياسية او ايديولوجية او لغوية ولكن كلها محاولات خارجية جدا لقراءة القصيدة.
* هل تسمح موسيقى..؟
– طبعا.
* أي نوع؟
ج- أحب الأوبرا كثيرا، أحب الأغاني القديمة، عبدالمطب، صالح عبدالحي، أم كلثوم بعضا منها، فيروز، أحب القديم والجديد ولكن لا أحب مطربي المطاعم والصالات. لا أحب النكهة الجديدة. الموسيقى الجديدة، أحب الجاز ايضا.
* الجاز يشبه قصيدة النثر المركبة، يشبه ما تكتب، فيه نفس الدرجة من الصعوبة.
– لو سمعت الأغاني السودانية القديمة، تسمعين الجاز خارجا منها من داخلها، ربما لأن اللحن افريقي، احب الاستماع الى الأغاني السودانية القديمة، جاز.جاز كامل. احب الموسيقى لأنني وحيد في البيت، الموسيقى عنصر اساسي.
* أنت شخص حالم..؟
– حالم بمعنى ما.. أنا شخص حالم لأني تخليت عن كل الأحلام، كل الاحلام التي عشت وناضلت من أجلها تخليت عنها اذن مازلت شخصا حالما.
* بماذ تحلم الآن..؟
– أحلم بحياة استطيع ان استمر فيها بالكتابة وبالعزلة، أحلم الا أتلوث بفساد الامكنة والمجتمع، هذه الاحلام كانت منيرة في الماضي، صارت الآن أحلاما كبيرة.
أحلم ان أتمكن من شرب فنجان القهوة صباحا، ان أدخن، أن اقف على الشرفة وأرى البحر، أن أطعم العصفور الذي مات منذ يومين عندما كنت مسافرا، أن أفتش عن كتاب قديم قد لا يكون موجودا، أحلم ان احتفظ بهذه التفاصيل الصغيرة، بشاعرية هذه التفاصيل، شاعرية فنجان القهوة، شاعرية أول سيجارة، شاعرية امرأة حلوة، امرأة أحبها، أما حلم العائلة والمجتمع والمناصب وتغيير العالم، هذا كله وهم، الأشياء الحقيقية هي تلك منفضة جديدة اشتريها، فنجان قهوة، كتاب اقرأه، المشي على الرصيف، أحلام، تفاصيل، قد تسمى نهايات ولكنها شاعرية في العمق، ربما لأنها فردية جدا، هذه هي احلامي، لا أحلم بالثروة ولا المال ولا الوزارة ولا تغيير العالم ولا انشاء حزب، أريد الاحتفاظ بهذه الأشياء الجميلة الباقية لي.
* تبكي احيانا..؟
– نعم.. ابكي.
* ما الذي يبكيك..؟
– أحيانا أبكي وأنا أشاهد فيلما ميلودراميا تافها، أرى شخصا في الطريق أتخيل بؤسه فأبكي، أتذكر الأشخاص الذين أحببتهم يوما وأبكي، أتذكر النساء اللواتي ذهبن وأبكي، أتذكر من مات وأبكي.
عندما يبكي الشخص، فهذا يعني انه لايزال جيدا، لم تتحول عيناه الى زجاج، لم يتحول جسمه الى معدن، لم تتحول يداه الى ورق، عندما يبكي الشخص فهذا يعني أنه لايزال ضعيفا، الانسان جماله بضعفه، بأخطائه، أخطاؤنا ليست قاتلة، هي اخطاء جميلة، الحب خطأ جميل الشعر خطأ جميل، أحيانا أجلس يومين أبحث عن كلمة واحدة، شيء يشبا لعبة الأطفال شيء جميل، أجل أنا ابكي، لكنها الان أصبحت عصية أكثر من السابق.
أراك عصي الدمع شيعتك الصبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر هذا البيت من أجمل أبيات أبي فراس.
أجل عصية ولكنها تقطر، هناك اذن طفولة، هناك ماء، الدمع ماء.
* لو هيىء لك ان تعيش حياتك مرة اخرى، هل تعيشها بنفس الطريقة؟
– لا.. كنت بدأت باكرا بالتخلي عن الاحلام الكبيرة، كنت عشت حياة شعرية أجمل من هذه، كنت أحببت نساء أكثر، أحببت افضل، كنت نظرت الى العالم بدون أوهام الايديولوجيات والاحزاب والتاريخ، الافكار التاريخية غشاوة، نظن أننا نرى عبرها، ولكنها تغطي ابصارنا بالكامل، كنت عشت بشكل بدائي أكثر، أقل تعقيدا، كنت ألغيت طموحاتي الاجتماعية والسياسية باكرا جدا، كنت
عشت غرائزي الجميلة، رغبات، أحلام، بكاء، عفوية، لا وصول، لا ادراك، لا خبث، لا كذب…
* تكذب في حياتك اليومية..؟
– أحاول الا أكذب، أحيانا أكذب كذبا ابيض، أعطي موعدا ولا أذهب اليه أطلب ان يقولوا انني غير موجود على الهاتف، أما في الأشياء الكبيرة فأنا معروف عني أنني لا أكذب، أنا لست قديسا حتما، الانسان قوته في ضعفه وأخطائه، ولكن ليس أن يصبح مبرمجا على الكذب والفساد، كل شخص منا فيه طرف فاسد او سيىء، أحاول قدر الامكان الا أؤذي أحدا به أفضل أن أؤذي نفسي. اضطر الى الكذب احيانا، هل استطيع ان أقول كل أفكاري في هذا المجتمع.
* حتما لا.
– هل أستطيع قول رأيي الصريح بفلان وبالأخر. عموما نحن في المجتمع العربي اعتدنا على الكذب، ونحن مجتمع يكذب.
* هل أحببت مدينة أكثر من بيروت..؟
– لا.. أحببت مدنا أخرى، أحببت نيقوسيا – تونس – القاهرة – لكن ليس أكثر من بيروت، بيروت مدينة لا تتكرر، بيروت الآن لا شيء، في مثل هذا الوقت في السبعينات، ترين في بيروت بشرا من كل العالم، كل المقاهي مفتوحة، كل البارات والمطاعم، الجبل منار بأكمله، بيروت مدينة لا تتكرر لا في العالم العربي ولا في أي مكان أخر.
بيروت كانت حلما جميلا جميلا، لكن هذا الحلم هو الذي قتل بيروت، تكاتف الجميع على قتلها لأنها كانت تفضح الجميع، كانت الحرية، الأفكار، الحب، الاحلام، التطور، الازدهار، الاقتصادي، التناقضات. مدينة مختلفة خاصة.
ما ترينه الآن هو بقايا بيروت، ما بقي بعد الدمار، بعد عشرين سنة حرب في داخلها، مع ذلك مازالت بيروت هي الاكثر حرية من كل العالم العربي، رغم كل شيء، مازال هناك هامش نتمنى الا ينتهي.
مازال هناك ضوء وهذا مهم.
* ماذا تكتب الآن؟
– أكتب نصا طويلا منذ عام ونصف، نص صعب لأنني أدخلت فيه عناصر متعددة أدخلت فيه نبرة غنائية، نبرة دراسية، نبرة ملحمية، دخلت بالحروب وبالتاريخ وبعنا صر عديدة.
أنا اعتبر ان القصيدة هي مشروع سنة، مشروع سنتين، احيانا أكتب طوال عامين قصيدة واحدة ثم أرميها، الشعر هو فن الحذف مثلما هو فن الاضافة يجب ان يحذف الشاعر، ومثلما يجب أن يكون قاسيا على الأخوين عليه أن يكون قاسيا على نفسه.
* بول شاؤول شكرا على الحديث.
– شكرا.
حوار: رشا عمران (كاتبة من سوريا)