حسين سالم
كاتب عُماني
عرضت “مجلة نزوى” مشروعها التلفزيوني الأضخم في صالات السينما العُمانية، وهو السلسلة الوثائقية “بيت العجائب- الوجود العُماني في شرق إفريقيا” المكونة من ثلاثة أجزاء، والتي حرصت على أن تنفذ بمستوى عالمي فنيًا فأسندت إنتاجه لشركة “deMAX” الألمانية بقيادة المخرج الألماني فريدريتش كلوتش المتخصص في إنتاج الأفلام الوثائقية.
مزجت سلسلة “بيت العجائب – الوجود العُماني في شرق إفريقيا” بين الدراما والوثائقي، في محاولة من صناعها لإضفاء طابع تشويقي وترفيهي في متابعة المادة الثقافية. هذا النوع من الإنتاج الوثائقي رائج جدا، ويستخدم في حالات تناول الأحداث التاريخية التي سبقت زمن التصوير، ورغبة من صناع العمل في إعادة تجسيد الشخصيات والأحداث بقصد صناعة أكبر أثر في المشاهد.
تتبعت سلسلة “بيت العجائب” حياة ثلاث شخصيات مهمة في تاريخ الوجود العُماني في شرق إفريقيا هي السلطان سعيد بن سلطان البوسعيدي صاحب أكبر إمبراطورية عُمانية، والتي امتدت من بندر عباس في إيران وحتى موانئ شرق القارة الإفريقية، وشخصية حمد بن محمد المرجبي أو (تيبوتيب) التاجر المغامر العارف بممرات أدغال أفريقيا والمتحكم بطرق القوافل التجارية، أما الشخصية الثالثة فهو السياسي البارز (السير) مبارك الهناوي والي ممباسا ووالي الشريط الساحلي.
امتد أثر هذه الشخصيات قرابة 150 عامًا من بداية حكم السلطان سعيد بن سلطان في عام 1806 الى وفاة الشيخ مبارك الهناوي عام 1959، هذه المساحة الزمنية وفرت للسلسلة سردا وثائقيا غنيا ومتنوعا، فقدمت معلومات عن الحكم العُماني لشرق إفريقيا وآثاره ومنجزاته وتداعيات هذا الحكم على العلاقات العربية الإفريقية والعربية الأوروبية والإفريقية الأوروبية، وقدمت السلسلة من خلال شخصية (تيبوتيب) جانبا آخر من الوجود العُماني في إفريقيا، جانبا اقتصاديا واجتماعيا سردته حركة التجارة والقوافل التي نظمها حمد المرجبي، وعلاقة (تيبوتيب) بالمجتمعات المحلية وبالمستكشفين الأوروبيين، أما شخصية الشيخ مبارك الهناوي فقد أعطت للسلسلة فرصة سرد التقلبات والاشتباكات السياسية سواء مع الحكومات الأوروبية أو مع الكتل السياسية الإفريقية.
إذن، فاختيار هذه الشخصيات الثلاث كان ذكيا ومدروسا، وعمل على مَنْطَقة السرد الوثائقي في السلسلة، وشكلت هذه الشخصيات منطلقات للقصة بكل أحداثها التاريخية وتفرعاتها.
اختار المخرج وصانع سيناريو السلسلة فريدريتش كلوتش أسلوب (الديكودراما) في إنتاج “بيت العجائب”، أسلوب يمتزج فيه التوثيق (الحقيقة) بالدراما (الخيال)، وعادة يُلجأ لهذا الشكل الفني عندما يُراد من الفيلم الوثائقي أكثر من مجرد سرد المعلومة، يراد منه إحداث أثر عاطفي في المشاهد وحثه على الانغماس بالكلية في المشاهدة، فيتم (تمثيل) الشخصيات والأحداث على الشاشة.
أراد فريدريش أن يبعث الحياة في السلطان سعيد بن سلطان وفي جيوشه وإظهار قوة سفنه، وخلق شعور بضخامة قوافل (تيبوتيب) المكونة من عشرات الآلاف من التجار والمساعدين والحمالين وهي تعبر البحيرات الكبرى، وأن نشارك في مناقشات مجلس اللوردات في لندن مع الشيخ مبارك الهناوي، أراد المخرج أن ينقلنا إلى الماضي، إلى تلك اللحظات التاريخية، وينقل تلك اللحظة وتلك الإشراقات إلى (الآن)، إلى حاضرنا، سفر زمني في اتجاهين. وأعتقد أن هذا بالضبط ما صُنعت السلسلة من أجله، إحياء هذه الذكرى وعدم السماح بأن يطويها النسيان. فهل نجح فريدريش في صنع العجائب من بيت العجائب؟
الفيلم الوثائقي هو (وثيقة) لحدث ما في زمان ما في مكان ما، وثيقة خام يفضل البعض أن تتجرد من الرأي وتكتفي بالتسجيل فقط، والبعض يرى ضرورة أن يتعدى الفيلم الوثائقي الحقيقة ويتبنى رأيا واضحا فيها. هذا التجاذب والتجادل في الفيلم الوثائقي امتد من موضوع ومضمون الفيلم إلى شكل الفيلم الوثائقي، فمثلا، لا يزال الاشتباك مستمرا بين الدارسين والباحثين في مجال الفيلم الوثائقي أو التسجيلي حول وجود الممثل المتقمص للشخصية في فيلم يُعرّف على أنه رصد للحقيقة، ووجود الممثل بالضرورة يعني إعادة التجسيد، والتجسيد مفهوم درامي بالأساس أي أنه (خيال). فهل التجسيد وإعادة تمثيل الأحداث يخل بصدقية الفيلم الوثائقي؟
من وجهة نظري أرى أن تحقق المهمة الوظيفية للفيلم الوثائقي هو ما سيقرر أثر الشكل الفني والموضوعي على الفيلم، أما منظرو هذا الفن فلم يحسموا هذا الجدل بينهم، كما لم يتوقف ابتكار أشكال جديدة في صناعة الأفلام الوثائقية، ومع كل تطور في هذا الفن تتسع الأدبيات المؤصلة والشارحة للبناء الفني تارة وللمضمون تارة أخرى وتحليل أثر هذا على ذاك. ولا أحد ينكر أنه لولا أهمية وقيمة الفيلم الوثائقي لما جذب إليه الدارسين والنقاد، فالفيلم الوثائقي وسيلة تعليمية وتثقيفية للجماهير، وهو جزء مهم من الوسائل الإعلامية قادر على المساهمة في نشر الهوية والقيم والمكتسبات الوطنية ويوثق ويحفظ الإرث الاجتماعي، وأكبر المحطات الإعلامية في العالم تتخذ من الفيلم الوثائقي وقنواتها الوثائقية رأس الحربة في منظومتها الإعلامية.
لسلسة “بيت العجائب” مكتسبات كثيرة تحسب لها، فمن الواضح الاشتغال على الجانب البحثي لتقصي المعلومات الصحيحة التي قدمتها السلسلة في الأجزاء الثلاثة، وجودة تصوير السلسلة وفي أماكن وقوع الأحداث الحقيقية، أضفى مصداقية كبيرة على السرد الوثائقي، ونقل المشاهد إلى الأماكن والشخصيات التي ساهمت في صناعة هذا التاريخ، وظهور بعض الشخصيات الحقيقية التي لها علاقة وصلة قرابة مع شخصيات السلسلة صهر الفارق الزمني بيننا كمشاهدين وبين فترة وقوع الأحداث الحقيقية، وكأن ما حدث أو أثره ما زال مستمرا إلى الآن، وانتهاج السلسلة للغة السلام والتعاون والتشارك في تصوير الأحداث جعل من تلقيها مريحا بلا تعصب لطرف على حسب طرف آخر.
إن ايجابيات سلسلة “بيت العجائب” الوثائقية أكثر من الهنات الفنية والتي بالإمكان تلافيها في الإنتاجات القادمة، فالسلسلة أسست لمرحلة جديدة في الوثائقي العُماني، مرحلة تهتم بالمعايير العالمية في الإنتاج والرؤية الإخراجية، والخروج عن السائد الذي حبس نفسه في نطاق ضيق من القصص التي لا تجذب إلا صانعها، إلى فضاء أوسع، إلى قصص وأفكار تعبر الحدود وتترك السطح لتصل إلى العمق، تماما مثل التاريخ العُماني الذي عبر إلى الهند والصين وإفريقيا وأوروبا وأمريكا، تاركا مئات القصص والأحداث هنا وهناك تستحق أن تُروى وتوثق، لتعود لها الأجيال القادمة بالدراسة والتدقيق، فتستفيد منها لتكمل مشوار الأوائل.
إن عملا فنيا بهذا الحجم وهذه المواصفات الإنتاجية العالية، يعد تدريبا حيا لطواقم الشباب العُماني المشتغلين بهذه الفنون المشاركين في عمليات الإنتاج، يرفع من مستواهم ويزودهم بالمعرفة العلمية التي سيستندون عليها في صناعة قصصهم الوثائقية مستقبلا.
لقد أعادت سلسلة “بيت العجائب” إلى ذاكرتي عملًا قدمته إحدى المنصات الرقمية بعنوان “بزوغ الإمبراطورية العثمانية” والتي تحكي قصة محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية وأصبح أهم سلاطين الإمبراطورية العثمانية، أيضا هذه سلسلة تصنف على أنها (ديكودراما)، وتعتمد على التمثيل وإعادة تجسيد الأحداث للمشاهد مع وجود محللين ومختصين في التاريخ وعلم الآثار يشاركون في سرد القصة، تماما كما فعل المخرج فريدريش كلوتش في “بيت العجائب”، فقد جمع التجسيد وإعادة التمثيل مع المتحدثين المختصين من أساتذة التاريخ ومن ذوي الشخصيات محل السرد، لكن تختلفان من حيث جودة الإنتاج ورصانة التنفيذ، إذ تتفوق “بزوغ الإمبراطورية العثمانية” في المستوى التمثيلي ومستوى تنفيذ وتصوير الحروب والمعارك والأحداث التي تخوضها الشخصيات الرئيسة في السلسلة، قد تكون الميزانية المرصودة لكل عمل سببا في الفرق الواضح في الإنتاج، لكن أيضا (الاسكريبت) الذي صنعه فريدريتش كلوتش وفريقه سبب آخر في اختلاف المستوى الفني، وما أزعجني كمشاهد في سلسلة “بيت العجائب” قيام بيت العجائب بدور السارد العليم في السلسلة، فعدا عن كون الفكرة مستهلكة أكثر في برامج الأطفال كما تفعل أفلام الكرتون بتقديم بيوت وسيارات وأشجار وحيوانات وجمادات تتكلم وتجري حوارات على ألسنتها، كذلك العاطفة الواضحة في الصوت السارد على لسان بيت العجائب كانت تقطع باستمرار تواصلي واندماجي مع الأحداث وطبيعتها السياسية والثقافية بين عرقين صنعا فترة مضيئة في تاريخ الحضارة.
إن دمج الدراما واستخدامها في الأعمال الوثائقية إنما هو استعارة لنقاط تفوق الدراما (الإبهار البصري، قوة العاطفة، واتساع الخيال) وتسخيرها واستثمارها في رفع مستوى الإنتاج الوثائقي، وتوسيع قاعدة الجمهور لتشمل محبي الدراما ومحبي الوثائقيات. إلا أن هذا الدمج يخضع لاشتراطات هذه الفنون، والإخلال بتشكيل هذا المزج قد يفقد المنتج مصداقيته أو يضعف مستواه الفني، فالممثل كما في الدراما مطلوب منه التقمص والأداء العالي، وتصوير الأحداث من مطاردات أو مظاهرات أو معارك أو قتالات تخضع كذلك لمعايير الدراما أكثر، والمبالغة في تنفيذها لا يفقد الفيلم الوثائقي مصداقيته، أما سرد المعلومات فيجب أن يخضع لمعايير الوثائقي بلا زيادة ولا نقصان. وسلسلة “بيت العجائب” وبرغم اختيار ممثلين من أصحاب الخبرة إلا أن الأداء التمثيلي كان باهتا وتقريريا أكثر منه تقمصا وانفعالا، ويبدو أن مخرج العمل لم يهتم بهذا الجانب كثيرا، ويتضح هذا من مقارنة أجزاء السلسلة (الإمبراطورية وعصر القوافل وصوت ممباسا)، حيث خصص جزء “الإمبراطورية” لشخصية السلطان سعيد بن سلطان، وهو الجزء الذي يشغل فيه التمثيل حيزا أكبر بالمقارنة بالأجزاء الأخرى “عصر القوافل” و “صوت ممباسا”، مما انعكس على المستوى الفني لهذا الجزء الذي أراه الأقل جودة مقارنة بالجزأين الآخرين. كما أن مشهد المعركة التي خاضها السلطان سعيد بن سلطان عند وصوله ميناء ممباسا عام 1828 سبب آخر لضعف هذا الجزء فنيا، فالتعليق الصوتي يصف أسطول السلطان سعيد بأنه كان “موكبا مهيبا.. مكونا من سبع سفن وألف ومئتي جندي .. سفينة السلطان تحمل 74 مدفعا حديثا.. تعد قلعة عائمة.. القتال استمر لمدة أسبوع”، أما الصورة فلم تواكب هذا الوصف، المشهد استمر ثلاث دقائق فقط لم نر فيه سوى سفينة واحدة، ولم يسقط فيه أي جندي أو مقاتل، ومؤثراته البصرية بدائية، فحدث خلل في التلقي، فالصورة لا تطابق الوصف بعكس مشهد القتال الذي دار بين (تيبوتيب) والملك ناساما في جزء “عصر القوافل” فبرغم بساطته وبساطة مستوى الصراع في المعركة التي دارت، إلا أن تلقيها أفضل بكثير، والسبب تطابق الوصف وما يخلقه من صورة ذهنية مع صورة المشهد الذي قدمه المخرج.
تبقى سلسلة “بيت العجائب– الوجود العُماني في شرق إفريقيا” وبرغم الملحوظات الإنتاجية، تبقى سلسلة قيّمة كمرجع ثقافي، وممتعة كمتابعة تلفزيونية، وتجربة إنتاجها ستزيد من رصيد خبرات “مجلة ” العلمية والفنية في إنتاج سلاسل وثائقية قادمة، وكل ما أتمناه ألا تتوقف مثل هذي الإنتاجات التلفزيونية، وألا نقبل بمستوى فكري وثقافي وفني أقل من مستوى “بيت العجائب” وأن يمتد أثر هذه التجربة إلى الإنتاجات الدرامية العُمانية.