ميا الحبسية
كاتبة عُمانية
القصص التي لا نكتبها تصبح ملكًا لأعدائنا، قال إبراهيم نصرالله مرة. فملكية الحكاية وقدرتنا ومبادرتنا على قصها هي حالة من إثبات الوجود وتأكيد الانتماء وحفظ الحق والتحقق من أن الحكاية ستبقى صادقة وأننا أمناء عليها أو على الأقل لا تغيب وتضيع روايتنا لها كما نظن أنها حدثت. فرغم توقعنا أنها تخصنا وحدنا فكل حكاية تحتمل رواة مختلفين وروايات عديدة. ربما كانت هذه واحدة من دوافعنا في حفظ تاريخنا وسجل حياتنا كما نراه.
لطالما أثار التاريخ فضول صانعي الأفلام الوثائقية. بل إن هناك من يجادل أن الإعلام في عصرنا الحالي يمتلك القدرة على تعريف وتحديد التاريخ كونه بحد ذاته أداة من أدوات التسجيل لحاضرنا الذي نعيش. لتقنيات الإعلام السمعية والبصرية القدرة على جعل المجتمعات تتصور وتتقبل ماضيها بشكل يفوق مصادر المعلومات المجتمعية والتربوية الأخرى (Rosello, 2020).
ولها قدرة على إعادة تشكيل فهمنا للماضي وبناء فضاءات الذاكرة المجتمعية لأحداث التاريخ (Jukka Kortti، 2022) تعطينا الأفلام الوثائقية التي تتناول موضوعات تاريخية ذلك الوهم بأننا ننظر من نافذة إلى الماضي السحيق وقد تم إحياؤه صوتا وصورة ونمط معيشة وأزياء وحالات وأحداثًا. لكن لا يمكن النظر للأفلام التي تتحدث عن وقائع تاريخية على أنها محاكاة حرفية أو إعادة إملاء صوتي وبصري لما هو مكتوب في الوثائق. الماضي زوايا وقصص ومعلومات مستطردة قد تتضارب أحيانا. للأفلام اشتراطاتها وطرقها الخاصة بها ولا يمكن أن ينظر إليها نظرة مقارنة بالتاريخ المكتوب. فالفيلم الوثائقي معني بإيصال المعلومة الصادقة لكنه في سعيه لذلك يمتلك جداله ومنظوره الخاص به كذلك (Rosenstone, 1995). الحقيقة الأخيرة أو المطلقة لا يمكن تحقيقها: ويجب الفصل بين ما هو مقارب وما هو مطابق. الفيلم الوثائقي مقاربة للموضوع لذا يفرق الباحثون بين الرواية ذاتها وروايتها، بين القصة وكيف تقال في الفيلم الوثائقي. فتلك الأدوات الفنية التي تنسجم وتتحد مع القصة تعيد بعث الماضي من جديد وفق رؤى صانع الفيلم.
يتناول هذا المقال بالقراءة سلسلة أفلام بيت العجائب التي أنتجتها مجلة
عبر شركة ديماكس للإنتاج الفني. هي سلسلة من ثلاثة أفلام تقدم بعضا من التاريخ العُماني في شرق إفريقيا، قد سبق للتلفزيون العُماني إنتاج برامج وثائقية في ذات الموضوع أبرزها وأولها برنامج أثر الوجود العُماني في شرق إفريقيا الذي لاقى قبولا شعبيا محليا. يميز الأفلام المراد تحليلها في هذا المقال أنها تقوم على سيرة 3 شخصيات عُمانية الأمر الذي يعد منطلقا جديدا في الإنتاج المحلي الوثائقي العُماني فهي بداية لملء هذا الفراغ. ولعل وجود عدد من المراجع وكتب السيرذاتية والغيريّة كان عاملا مساعدا ومحفزا. ويميزها كذلك أنها إنتاج ضخم صور بتقنيات عالية للبث تلفزيونيا وسينمائيا وربما ليخاطب جمهورا واسعا.
أنتج الفيلم من قِبل فريق محترف كان له تجربة لافتة في صناعة سلسلة السندباد ومن الواضح أنه تهيأ له فريق عمل مختص في مراجعة المادة العلمية وخصصت له ميزانية عالية مكنت فريق العمل من توفير الإمكانات الفنية اللازمة من مثل الاشتغال على مادة الجرافيكس المميزة في الفيلم، والتي تمت عبر شركة لها سمعتها والرسوم الثلاثية الأبعاد وكذلك العمل على مشاهد ديكودراما خدمت الفيلم، وتمكن الفريق من الاستعاضة بها عن الفجوة في المادة البصرية حين يتعلق الأمر بالأحداث التاريخية القديمة. كما أن السلسلة صورت في عدد من المدن. واستطاع فريق العمل الوصول لمواد أرشيفية ومحفوظات قديمة. كل ذلك ينبئ عن مدى العناية والدعم اللذين تم تقديمهما. أخيرا هناك قناعة بأن الاستثمار في الأفلام الوثائقية مجد ومهم.
في ظل وجود مادة علمية وتاريخية غنية يتعين على صانع الفيلم أن
1- ينتقي ما يريد ويمكن تقديمه، والاختيار والتجميع في بناء الفيلم الوثائقي أداة إبداعية بحد ذاتها. (Berrnard، 2022)
2- عليه أن يفكر في آلية وفنيات حكي القصة التي ستحمل كل هذه المعلومات للمتلقي. لكلا الأمرين دوافع وتأثيرات وتحكم المنتج النهائي وأثر التلقي، فصانع الفيلم الوثائقي في نهاية الأمر يمارس فن سرد الحكاية . جدل طويل دار حول مسيرة الأفلام الوثائقية منذ نشأتها حول كونها: أفلامًا غير خيالية أو غير روائية كما أشار تعريفها الأعم: خطابات رصينة حول موضوعات التاريخ والسياسة والعلوم والاقتصاد وفق بيل نيكولاس. جدل لم يحسم تماما بعد، ابتدأ منذ التعريفات الأولى والأهداف التي وضعت للأفلام الوثائقية على أيدي بعض المهتمين الرواد من أمثال جون جريرسون كونها أفلامًا جادة في مقابل أفلام التسلية الروائية، فهي مثل ما يراها وضعت لأهداف تعليمية وفكرية، مرورا بمدارس التنظير المختلفة في تحليلها وضم أشكال فرعية لها وأساليب المشتغلين عليها الذين أخرجوها في فترة الثمانينيات -التي يعدها البعض بداية العصر الذهبي للوثائقيات- من قوالب الدعاية الحكومية إلى أنماط أكثر تحررا بطابع تجاري يستقصي طرق رواجها وقبولها وتتناول موضوعات خارج حدود الاهتمام الضيق للحكومات وبدأت تأخذ أشكالا سردية لا تختلف كثيرا عن الأفلام الروائية (Lipson and Baqué,2019).
الحقيقة أنها حتى في بدايتها وهي مشغولة بفكرة نقل الواقع بين قوسين، لأنه موضوع جدلي، فإن هذه الصنعة في كل تحولاتها ومنذ البدء كانت شغوفة بكيفية السرد وتحاول ابتكار أساليب جديدة، حتى وفق جريرسون ذاته أكثر من أطر الفيلم الوثائقي في القوالب التعليمية فهو يراها “نقلا للأحداث الواقعية الجارية وفيها خلق فني”، ضمنيا هذا الخلق الفني يستدعي أدوات إبداعية تتمتع بالقدرة على الإقناع والجاذبية الكافية للقبض على اهتمام المتلقي وتفاعله معها.
في سلسلة أفلام بيت العجائب، لجأ كاتب الفيلم ومخرجه إلى حيلة فنية تتمثل في اختيار شخصيات ثلاث لتكون المحور الأساسي للسرد في كل فيلم. تحمل الشخوص قيمة فنية وإنسانية وتتوفر على تلك الجاذبية والقدرة على جعل المتلقي يتواصل معها فتتحول معها الأحداث والمعلومات لنسق مفهوم يرتبط بوجه يراه على الشاشة ويتفاعل مع وجوده وكان من الذكاء أن تتنوع الشخوص بين سياسي/ سلطان، وتاجر مؤثر، ودبلوماسي مثقف. اختيار الشخصيات جاء لجاذبيتها وتنوعها وتنوع الموضوعات المرتبطة بها لتغطي طيفا واسعا قد يلخص تأثيرات الوجود العُماني في شرق إفريقيا، إضافة إلى امتداد الخط الزمني الذي تقع الأحداث ضمن مساره فكان الفيلم الأول لمرحلة تأسيس الإمبراطورية العُمانية في شرق إفريقيا في عهد الدولة البوسعيدية، والفيلم الثاني يتحدث عن موضوع اقتصادي ومرحلة التوسع وبداية الاضطرابات السياسية، والفيلم الأخير بجانبه الثقافي يمثل المرحلة الأخيرة في نهايات الحكم العربي وتمكن بريطانيا عبر فرضها الحماية على هذه المناطق. وهكذا تم تلخيص حقبة زمنية طويلة عبر هذه الخيارات.
والحيلة الفنية الذكية الأخرى هي أن تحكى القصص الثلاث على لسان راوٍ غير متوقع وهو بيت العجائب، راوٍ يبعث من اندثاره ويتوجه بالحديث مخاطبا المتلقي في استعارة من الأدب وسرديات الأفلام الروائية، وهو راوٍ يتحدث بضمير الأنا مخاطبا الجماهير مما يسهم في تقليص المسافة بين المتلقي والقصة وخلق تلك العلاقة الحميمة التي تشعر المتلقي أنه معنيٌ شخصيًا بالموضوع. الراوي هنا شاهد منفصل/ متصل بالأحداث.
فكرة بث الحياة وجعل بيت العجائب القائم ولو جزئيا الآن والحاضر قليلا في المكان الحالي في ظل غياب الشخوص والأحداث في الماضي، حمل دلالات مكثفة، جعل القصة مقنعة أكثر وصادقة وحية وحاضرة رغم بعدها زمنيا. هذا إضافة إلى تلك المتعة في أنسنة الجماد، ذلك الخيال الروائي الذي يأخذ المشاهد إلى عالم الحكي بيسر وشيء من التشويق.
الراوي سارد مشارك وذاتيته جزء من الحكي وما يسرده هو ذكريات له علاقة بها. استحضار الراوي في الأفلام الوثائقية يكون لتحقيق الغاية التعبيرية الفنية وذات الوقت لقدرته على جعل القص رزينا وقدرته على إعطاء الإيحاء بمدى معرفة الراوي وصدقه في نقل المعلومات فهو يمتلك تلك السلطة المعرفية (Jukka Kortti, 2022).
لكل فيلم وقعه الخاص ورغم أن الأسلوب العام للمعالجة كان واحدا إلا أن تفاصيل كل عمل من الأفلام الثلاثة حملت توقعات وأبعادا فنية مختلفة. لذا سنتوقف في قراءة تلخيصية لكل فيلم على حدة.
الفيلم الأول : الإمبراطورية
استطاع الفيلم أن ينتقي معلومات تاريخية تستحق التقديم والسرد، فهي تلخص سيرة سعيد بن سلطان وتكثف تلك العلاقات المتشابكة والمعقدة للأحداث على أكثر من مستوى وفي ذات الوقت هي محملة بإمكانيات جذابة وجوانب من الممكن أن يتفاعل معها المتلقي وتترك في نفسه ذلك الأثر الذي يبقي الفيلم في الذاكرة. فهي أولا تعرضت بجرأة -وإن كان على عجل- لبعض المعلومات التي لا تتداول كثيرا من مثل أن المعارك دارت بين العُمانيين والعُمانيين في تنازعهم على السلطة مثلما حصل بين البوسعيديين والمزاريع في ممباسا.
والتباس العلاقات مع البريطانيين والفرنسيين ومحاولات السلطان سعيد الحفاظ على سلطته وسيادته وتماسك الإمبراطورية التي شيدها وإبقاء العلاقات ودية مع كليهما في ظل احتدام التنافس والصراع بينهما وتعاظم أطماعهم في القارة الأفريقية والخليج العربي كذلك، الحقيقة أن هذا الموضوع بحد ذاته يحمل إمكانيات هائلة لفيلم تحقيق صحفي معمق وممتع خصوصا مع توفر عدد من المراجع والكتب التي تم نشرها مؤخرا في هذا الشأن.
كما أنها عرضت معلومات عن موضوعات غير معروفة لدى المشاهد العام خارج دائرة الاختصاص في الموضوعات التاريخية من مثل العلاقات مع مملكة بوغندا.
كانت في الفيلم كذلك إشارات لا تتوافق مع ما رسخ في أذهان معظمنا، فتصوير عُمان بوصفها أرضًا قاحلة جدا وفقيرة ومقارنتها بالصورة (المقارنة جائرة) بأفريقيا الخضراء الواعدة، وتأكيد أن سعيد بن سلطان توجه لشرق إفريقيا بسبب القحط والفقر والتنازعات لا تتفق مع فهمنا أن الدولة كانت قائمة ومستقرة قبل ذهابه، وأن عُمان والخليج العربي وجهة يطمع فيها، وأن الذهاب لشرق إفريقيا كان لتوسعة الإمبراطورية ومحاصرة الخصوم وهو حالة استكمالية أو استئنافية أو استرجاعية لما تم في عصر اليعاربة.
بدا الفيلم محملا بالعديد من الأفكار والرسائل للحد الذي ربما سبب شيئا من الارتباك في بقاء المتلقي متصلا مع الشخصية الرئيسة فقد زاحمتها شخوص أخرى مثل السيدة موزة بنت أحمد عمة السيد سعيد وكان التركيز عليها لتبيان دور المرأة العُمانية منذ القدم، ولأنها حقيقة شخصية محورية، ولعبت دورا مهما يستحق التناول ولديها إمكانية لتكون مادة لعمل مستقل كذلك. لم يكن من السهل إبقاء توالي الحبكة سلسًا وبدا وكأنه تجميع لمجموعة من الأفكار المتناثرة لكن الخيط الذي يربطها كان باهتا وبدا أن هناك تقافزًا بين الموضوعات.
كثافة المعلومات وزخمها كان له أثره كذلك في طول التعليق. النص المقروء كان طويلا وفائضا على الصور واللقطات ولم يعط المشاهد فرصة كافية لالتقاط الأنفاس والفكاك من سلطة التعليق للتمتع بالمشهد والسرد البصري. ربما كانت الترجمة كذلك سببا في عدم التناسق والتوازن بين النص والصورة. التعليق الصوتي والموسيقى كانا يزاحمان المشاهد البصرية في الفيلم، فاض كلاهما عن حاجة المادة المصورة.
تعتبر اللغة البصرية في الأفلام الوثائقية مكونًا يحمل النص لمستويات جديدة ومختلفة قد لا تكون أمينة له بالكامل في بعض الأحيان (David Lipson and Zachary Baqué, 2019) قد تشاكس المشاهد البصرية المحتوى المكتوب وتتحايل عليها في فهم أن نقل الواقع الذي يشتغل عليه الفيلم الوثائقي ليس عالما هادئا ومتسقا بل الواقع زوايا ورؤى مختلفة في تناقض أحيانا ومتابينة، وحتى حين تكون العلاقة في توازٍ تام بين النص المقروء واللقطات المصورة ويكونان في حالة اتفاق تام للفكرة والرسالة المرادة من الحدث فإن الصورة تبقى هي أثمن مكونات الأعمال المرئية، يعول عليها أن تخلق حالة الإبهار والترقب وتعطي الحكاية أجواءها المتباينة وأمزجتها المختلفة وفقا لتحولات الأحداث وسير الحبكة.
مشاهد البداية في الفيلم جميلة وذكية: زاوية تصوير الحجاج ولقطات الجرافيكس كذلك استطاعت أن تخلق حالة روحانية وتأخذ المشاهد بسلاسة للحدث التالي. كذلك مشاهد قطاف القرنفل وحصاد قصب السكر ومشاهد الرحلة إلى مملكة بوغندا جلبت تلك الغرائبية والتشكيل المختلف للمادة المرئية.
لكن المعالجة البصرية بالمجمل افتقدت للتنويع، رغم أن الفيلم اعتمد على عدد من التقنيات من مثل الجرافيكس والديكودراما والشهادات، وكلها أضافت للمادة المطروحة وأعطت المشاهد فرصة للمراوحة بين مجموعة من الفنيات التي قدمت متعا مختلفة وأضافت أبعادا للطرح. الشهادات على وجه الخصوص كانت قيمة ورشيقة وصادمة في بعض الأحيان.
لكن المخرج اعتمد في معظم التصوير على اللقطات الواسعة والمتوسطة وعدد قليل جدا، من اللقطات المقربة والمقربة جدا أي تلك اللقطات التي تجعل المشاهد أقرب ما يمكن، وتخاطب مشاعره وتستفز أفكاره. لم يتم خلق تلك الحالة الدرامية باستعمال الصورة وتنويع اللقطات فبدا نسق التصوير مسطحا ولم تكن هناك تلك الطبقات من الاشتغال البصري باستغلال زوايا التصوير وأبعاده تلك التي تحرك المشاعر وتبهر المشاهد وتجعله يتوقف للحظة في انتظار القادم.
مثال تنفيذ تصوير جرافيكس المعركة التي دارت في ممباسا بين الأسطول الذي يقوده سعيد بن سلطان والمزاريع. كان النص مسيطرا، ولولا إيقاع الموسيقى لم يكن في حركة الكاميرا ما يشي بحالة الخطر والتوتر والهيبة خصوصا فيما يتعلق بضخامة الأسطول البحري، فالكادر لم يحوِ أكثر من سفينة واحدة ترمز لمعركة حاسمة.
كما أن المكان لم يكن حاضرا بما يكفي. لا الأزقة أو البيوت أو كل الجماليات التي يضيفها تأثيث اللقطة بالمكان بقدمه وعتاقته وحزنه الطبيعي وغناه، ربما كان خيارا مقصودا من المخرج حتى تبقى الشخصية هي البطل الرئيس، ولكن حضور المكان وهو مكون موجود وبهي ولا زال يرتبط بذاكرة بعض العُمانيين على الأقل سيعطي تلك المصداقية ويلامس عواطف المشاهد إذا ما قُدّم جزء من ذاكرة الحكي.
في إشارة أخيرة بدا الحكي أحيانا وكأنها أجواء ألف ليلة وليلة تستشعر ذلك في الموسيقى بشكل أوضح. تلك النغمة المعتادة حين يحكى عن الشرق تتخلل الإيقاعات في بعض المشاهد فنمطّت عملا خلاقا وأحالتنا كمشاهدين لذلك الإطار الذي لا نود عادة أن نكون فيه، فالموسيقى في الفيلم الوثائقي تستثير أبعادًا أخرى حين تتطابق أو تتضاد مع المشهد وبقدرتها على إيصال مستويات مختلفة للمعاني (خديجة، 2022). الموسيقى في الأفلام الوثائقية أحيانا ليست مكونًا إضافيًا تجميليًا فقط بل إنها في بعض الأعمال جزء من الرسالة والفكرة المطروحة هي محتوى وقالب فني آخر لذات المضمون.
الفيلم الثاني : عصر القوافل
لعل أكثر ما يمكن أن يعطي الفيلمين التاليين من السلسلة قيمتهما هي مسألة الجدة. طرح موضوعات خافية واستحضارها من دفاتر التاريخ التي لم يطلع عليها الأغلبية.
فإن كان الفيلم الأول عن شخصية معروفة جدا في كتب التاريخ فإن الفيلم الثاني جاء بشخصية من العتمة بالنسبة للجمهور العام. يدور الفيلم حول شخصية حمد المرجبي المعروف بـ “تيبوتيب”. شخصية مثيرة جدًّا وغنية على مستوى الطباع والتأثير. مشروع جاهز للحكي فهو واقع جدلي مليء بالأقاويل والروايات والأحداث المتطرفة وكأنه خيال.
يتضح في الفيلم الجهد الذي قام به الفريق في البحث والتحري وتجميع المعلومات وتتبع الأثر ما أمكن. هذا الجهد أعطى المعلومات قيمتها الحقيقية وكان له أثر بالغ في جعل الفيلم يتشبع بفكرة التقصي وهي ميزة تضفي جمالية على الأفلام التاريخية كما يشير لذلك (البشتاوي، 2021) وتشعرك بمتعة البحث والنبش في الماضي والآثار والمتعلقات التي تقود لتشكيل قطع الحكاية المختلفة.
لم تمهد بداية الفيلم بما يمكن أن يشي بمدى استثنائية هذا الرجل وخصاله وطبيعة حياته التي سيكون لها دور لاحقا في تشكيل الأحداث الكبرى التي كانت جزءًا منها، وهو أمر مفهوم، فصانع الفيلم الوثائقي معني بإبقاء أسرار يكشفها رويدا حتى يبقي متعة المتابعة متواترة. لكن الفيلم حقيقة لم يقبض تماما على فنتازية الشخصية. من المفهوم أن الحديث عن التجارة وحركة القوافل هو المغزى الرئيس من الفيلم، وما شخصية حمد المرجبي إلا وسيلة فنية للنفاذ للموضوع الأصلي. إذ لم يكن صانع الفيلم معنيا كثيرا بتيبوتيب إلا من خلال ما يمكن أن يرتبط به من سرد الأحداث والمعلومات التي تيسر إيصال الفكرة حول التنافس والصراع والإنجاز العربي وإخفاقاته في نهاية المطاف. وإن يكن فإن الشخصية حملت من الإثارة بطبعها وواقع سيرتها وفق بعض الروايات التاريخية ما كان يمكن أن يخدم موضوع الفيلم. ليس من السهل في حبكة الفيلم الوثائقي إبقاء التشويق والمعلومة في حيز متناغم وليس من السهل كذلك تفصيل الموضوعات المتنافسة في الأهمية والنجومية لتكون في انسجام وتشتبك بما يخدم بعضها بعضا. هنا التحدي وهنا البراعة.
ولكن في كل الأحوال لصانع الفيلم حق الانتقاء والاختيار، هو يصنع الفيلم الذي يريد، وطريق القوافل كان معنيا بطرح أفكار جزئية عديدة، تبيان حالات وتصحيح مفاهيم من مثل تبرئة التجار العرب من صفات الوحشية والقسوة في تعاملهم مع العمال الأفارقة، تقديم خطاب مغاير ومناقض للرواية السائدة تعطي الفيلم فرادة وليست صدفة كما أشار (Rosenstone, 1995) ارتباط مثل هذه الطروحات التي تتحدى السائد والمتداول عادة بالمجتمعات التي تشعر أنها بحاجة إلى أن تحرر نفسها من تسلط الرواية الاستعمارية الغربية المتجنية والمنحازة، فنجد المخرج ينتقل مستغلا الحبكة الدرامية المتخيلة في الديكودراما لتفاصيل الهدف منها خلق الإمتاع وتقديم معلومات هامشية بعضها لا يشكل ثقلا حقيقيا في الموضوع الرئيس ولكنها قدمت لغرض التسلية وتنويع مسارات المعلومات بين الموضوعات السياسية إلى ما يتعلق بالعلاقات الإنسانية والثقافة وحياة البشر (التسلية والتنويع) وأيضا مثل الفيلم السابق نجد حشدا لعدد من الموضوعات من مثل تحديثات السيد برغش في زنجبار. دخول الطباعة وبدايات الصحف العُمانية في المهجر الإفريقي ورغم أن بناء الحبكة يتطلب دائما مشاهد وموضوعات أساسية وتلك المساندة التي تتفرع منها إلا أن تسلسل الفيلم وترابط هذه الأحداث لم يكن سلسا ومقنعا بالقدر نفسه في كل مرة. فانحراف القص ليتحدث عن بعض المزروعات في ممباسا بعد موت أحد العمال في قافلة تيبوتيب بسبب أكله ثمارا سامة بالخطأ -وربما هي قصة مختلقة لتجسير الانتقال لموضوع المزروعات- تبدو منطقية. لكن الحديث عن تطويرات السيد برغش في زنجبار في انتقال من الحديث عن رجوع تيبوتيب لها بدت مفتعلة بعض الشيء. تكرار مثل هذه التفريعات والاستطراد فيها حين تكون على صلة واهية بالقصة الرئيسة تجعل المشاهد مشوشا قليلا ويجد نفسه وكأنه في وقت مستقطع من الحكاية الأصلية.
كان العمل على اللقطات وتنويع زوايا التصوير وتشكيل التكوينات البصرية الجميلة أكثر حضورا في الفيلم الثاني، ربما من أجمل المشاهد الدرامية التي وردت في الفيلم هو مشهد إطلاق النار من الرشاشات على دمى من القش تمثل العرب. المشهد مليء بالرمزية والدلالات وكان له تأثير تعبيري بالغ، كذلك مشهد الصورة التي تم التقاطها لتيبوتيب أمام منزله وإن كانت لم تستثمر كما يجب فكان هناك سرعة في عرضها.
وكما الفيلم السابق، كان الراوي بيت العجائب جزءًا من السردية، كذلك فما يمر به من أحداث وما يتعرض له من تحولات وأخطار تقطع سير الحكاية لنراه يتصدر المشهد ويبدأ الفيلم ويختتم معه. فللقصة خاتمتان، خاتمة بمشهد وقوف حمد المرجبي قبالة البحر في لقطة جميلة تشي بانتظار مجهول موجع، وخاتمة مع قفلة الراوي للقصة بالعودة على بدء لبيت العجائب.
الفيلم الثالث : صوت ممباسا: مبارك الهناوي
يتناول الفيلم شخصية دبلوماسية اهتمت بالتعليم والإعلام وكانت جزءًا من فترة مضطربة جدا تتداخل فيها المصالح وكثر فيها الاختلاف.
أيضا هو موضوع غير مطروق وهو أقرب من سابقيه لوقتنا الحاضر مما وفر له إمكانيات أخرى جعلت الفيلم أكثر رشاقة وخفة، إذ إضافة للديكودراما كانت هناك مشاهد حية كثيرة من حياة الناس الآن في ممباسا وتبيان الأثر الذي تركه فيها مبارك الهناوي.
لقطات الأرشيف والموسيقى التي رافقتها أضفت بعدا جماليا وتوثيقيا، فالمادة الأرشيفية تثير الحنين من مثل ما ورد في بداية الفيلم في عرض فيديو أرشيفي تم مونتاجه في تداخل ومزج مع المشاهد التمثيلية، فالانتقال هنا من لقطات الأرشيف واللقطات الحية لمكان تجول مبارك الهناوي (الممثل طفلا) بين أزقتها يشعرك أنك تعيش الحدث كما حصل أو كأنه يحدث الآن.
اتضح أثر الوجود العُماني في شرق أفريقيا ثقافيا في هذا الفيلم، وهذه الثيمة مرتبطة باهتمامات شخصية مبارك الهناوي فكانت معظم الأفكار المطروحة متناسقة جدا ومتسلسلة لأنها تفريعات من الموضوع الرئيس.
اشتمل الفيلم على إشارات ملغزة للدور اللذي لعبه مبارك الهناوي والسمة الغالبة أنه أراد خدمة الناس. لكن حالة الاضطراب والاستقطاب الشديد التي وسمت هذه الفترة لم تكن واضحة. وإذا عرفنا أن مبارك كان جزءًا من العمل السياسي والإعلامي في ذلك الوقت فحتما كان ضمن دائرة التعاطي مع موضوعات شائكة يكثر فيها الجدل. لم يغفل الفيلم ذلك تماما لكنه مر عليه عابرا. مرة أخرى لصانع الفيلم أن يختار ما يريد ويحكي لنا من التاريخ ما أراد وقد قدم رواية (حقيقية قدر ما يمكن) وجميلة. كانت رومانسية بشكل ممتع وزخمها يمتد حتى اليوم. مشهد تجمع الناس اليوم أمام بيت الهناوي وهم يتناولون الشاي ويتسامرون يضفي سلاما على القصة كلها وهو يحكي عن وقت لم يكن فيه السلام واردا، لكنها أيضا حقيقة.. الواقع الذي تملأه التفاصيل المتناقضة.
الخلاصة:
هناك دائما علاقة ملتبسة مع التاريخ بين الحنين ورغبتنا في الاحتفاء به وشعور الفخر الذي يتملكنا وبين حقنا المعرفي في النظر إليه بموضوعية، وتحليله ونقده حتى يكون التاريخ مرجعا بالفعل. بطريقة أو بأخرى أظن أن هذه السلسلة حملت شيئا من الاثنين وإن كان الأمر الثاني جاء خجولا وهامشيا وأحيانا جدليا.
ربما يمكننا أن نبني عليها مستقبلا أعمالًا في هذا الشأن على مستوى التحليل والتناول تستطيع أن تقدم لنا مادة موضوعية ولا تهاب الجدل والتشكيك. أما على مستوى الاشتغال الفني فالخلاصة أنها بالمجمل عمل لافت وسابق في الإنتاج المحلي فيما يخص الاشتغال على السيرة، به الكثير من الجماليات ولكن مع خبرة طويلة متراكمة لدينا في مجال الإنتاج الوثائقي تمتد لأربعين عاما.. هل تقدمنا بما يكفي؟
المراجع
– Berrnard, S. C. (2022). Documentary storytelling. New York: focal press.
– David Lipson and Zachary Baqué. (2019). Rethinking the convergence of documentary and. InMedia.
– Jukka Kortti, 2. (2022). War, transgenerational memory and documentary film: mediated and institutional memory in historical culture. . Rethinking History The Journal of Theory and Practice, 93-112 .
– Rosello, R. A. (2020). Images for the Interpretation of the Past: Uses and Abuses of Memory in Documentary Film. Quarterly review of film and video. Quarterly review of film and video, 464-478.
– Rosenstone, R. A. (1995). , Revisioning history. New jersey : Revisioning history. Princeton university press.
– البشتاوي, م. م. (2021). جدل التجارب في الأفلام الوثائقية. عُمان: الآن ناشرون وموزعون.
– خديجة, ب. (2022). جماليات توظيف الصوت وأنواعه في الخطاب السينمائي الوثائقي . مجلة المقدمة للدراسات الانسانية و الاجتماعية, 674-690.