خالد عزت
ناقد سينمائي مصري
في سابقة غير معهودة في صناعة الثقافة العربية، وربما تكون المرّة الأولى -في ظني- التي تُقدم فيها مجلة عربية فصلية ” ” ممثلة لوزارة الإعلام العُمانية، على إنتاج شرائط فيلمية تزيد مدة عرضها على الساعتين، لتواصل بذلك انشغالاتها الثقافية الجادة، مُوسعة من مغامراتها الثقافية، أو بالأحرى “عبورها” من حدود الكلمة المكتوبة “التدوين” إلى تخوم السمعي المرئي. بعد أن ظلت طوال مسيرتها -عبر مايزيد على ربع قرن- تعنى بالشأن الثقافي المنحصر في الكلمة المكتوبة والمطبوعة، ليتكامل بذلك دورها ومعاصرتها الحداثية لعوالم الوسائط المتعددة، وهو ما يستحق في الحقيقة الإشادة والاحتفاء بالمنجز الفيلمي الصعب “بيت العجائب” في أول إنتاجاتها الوثائقية.
فخلال تلك الشرائط الفيلمية “إمبراطورية السيد سعيد بن سلطان /عصر القوافل/ صوت ممباسا” نعيد اكتشاف ما كان مخبوءًا ومتواريا في الذاكرة البشرية على مدى قرنين من الزمان. ذكريات وأسرار، ظلتْ معلقة بالشفاهي والمتناقل عبر أجيال موزعة بين مكانين يقعان على جانبي المحيط، أو في أشعار وكلمات الحنين إلى الموطن الأصلي الذي نشأ فيه الأجداد الأقدمون، قبل ركوب المحيط والإبحار جريا وراء غواية مستحيلة، أو داخل أقبية المتاحف ومراكز الأرشفة الأوربية ورقائق المخطوطات الجلدية، التي حفظت لنا الطبقات الجيولوجية والأنثروبولوجية للثقافة العُمانية في مختلف تجلياتها الإنسانية، سواء في بعدها التاريخي أو اليومي. حاملة معها في عبورها للجانب الآخر لواء الثقافة العربية والإسلامية في اتجاه شرق إفريقيا.
ومن هنا تكتسب تيمة العبور والمراوحة بين “الهنا والهناك” قيمة بنائية للثلاثية الفيلمية. إنها العصب الكامن تحت قشرة السرد الخارجية، ومن ثَمَّ يؤسس فن الشِعْر، والرحلة، أو في امتزاجهما معًا “شِعرية الرحلة” بؤرة خفيّة في المشهدية البنائية، مجتذبة معها في حضورها المجازي والمادي والتاريخي كافة العناصر السردية التي توجه المشاهد بشكل لا شعوري إلى استدعاءات مجازية وإحالات رمزية تتداعى في التو أثناء فعل المشاهدة والانتقال من فيلم إلى آخر، لتشير إلى بؤرته الخفية التي تؤسس ما تحت سرديته المعلنة، والمدونة، عبر عشرات المخطوطات التاريخية المحفوظة، داخل بناء سردي يجمع في داخله بين شتى الأنواع والأشكال الفيلمية، والذي هو “عبور ثان بشكل متوازٍ بين الأنواع الفيلمية “FILM GENRE” سواء “الفيلم الوثائقي /الفيلم إثنوجرافي Ethnography / التمثيلي/ أفلام السيرة الذاتية/ سينما الطبيعة والبيئة/ افلام الفن/ سينما الأرشيف/ أفلام علم الإجتماع البصري “visual sociology” (نوع من الأفلام يهتم بالأبعاد المرئية للحياة الاجتماعية في التجمعات السكانية)، مرصعا مشهديته بمقاطع وشذرات من النصوص الأدبية، شهادات توثيقية وتأريخية، مقاطع جرافيكية ثلاثية الأبعاد، في لوحة من الموزايكو تطول مناحي شتى من السيرة إلى الجغرافيا إلى التاريخ السياسي إلى التاريخ الطبيعي والجيولوجي إلى الأنثروبولوجيا وتوثيق العادات والتقاليد في المأكل والمشرب والأزياء خلال قرنين من الزمان.
“بيت العجائب والتخيّل السحرى”
تبدأ الأفلام الثلاثة ببرولوج تقديمي للسارد حيث يرسم كاتب السيناريو “فريدريتش كلوتش “بشكل بدئي خريطة السرد ومركزية الخطاب السردي الصادر عن شخصية الراوي “NARRATOR” الذي يمثل الصوت كلّي المعرفة بالتاريخ والوقائع، وهنا يختار الكاتب للمفارقة “بيت العجائب أو بيت العشائر”، كمركز ثقل مكاني وروائي، يقوم بتوجيه حركة السرد وتنظيمها وفق شروط تخضع إلى بنية السرد الخيالي والسحري. حيث يهب الكاتب إلى المكان ضمير “المتكلم/الراوي” مستنطقا الجماد، وهي حيلة روائية دارجة، يقوم فيها الكاتب بأنسنة المكان جاعلا منه شخصية حيّة تختزن داخلها ذاكرة ومشاعر إنسانية تجاه الشخصيات التي عبرت به في يوم ما.
يقدم بيت العجائب نفسه للمشاهد في بداية كل جزء من الثلاثية قائلا: “أنا وطن، وطن في زنجبار، كنت قصرًا، غرفي الآن فارغة، ضخامتها تذكرني بعظمة الأيام الماضية حيث كنت أُعرف ببيت العجائب. اسمحوا لي أن أحدثكم كما لو أني لا أزال بيت العجائب. سأحدثكم عمن بنوني، عن النزلاء الذين جعلوني عامرًا بالحياة، دعوني أتتبع خطاهم لنرى مآثرهم وإنجازاتهم”.
لكنه “البيت” في نفس الوقت يفصح عن أبديته وقبليته عندما يحكي لنا عن وقائع لم يشهدها في الواقع التاريخي. فحسب المدونات التاريخية لم يكن البيت قد شُيِّد بعد. فالبيت على هذا النحو المقدم يتجاوز حدوده الطوبوغرافية والواقعية القابلة للقياس إلى تخوم ما هو رمزي ومجازي وأسطوري، ومن هنا تمتزج الحكاية بالمكان مكونة وحدة عضوية معبرة عن وجودها الأبدي كحكمة، وأمثولة، تعبر الزمان والمكان في محدوديتهما، ومن ثمَّ فاحتمالية تكرار الحكاية في الزمن أمر وارد الحدوث في المستقبل لأنها تمس الروح الإنساني في شموليته. فهي حكاية كل البشر في كل زمان ومكان.
كما أن البيت الذي تم إعادة تشييده بصريا عبر التقنية الجرافيكية ثلاثية الأبعاد يتبدَّى لنا وكأنما قد مسته المخيلة السحرية، فالأبواب والنوافذ والجدران وقد تحولت إلى شاشات عرض مشرعة على فضاء الزمن، حيث تعرض لنا مقاطع من حياة الشخصيات الثلاث، وهي حيلة سينمائية محضة تولدت عن مرونة الوسيط السينمائي في التعامل مع الصيغة الزمانية والمكانية وتطويعهما لمتطلباته الخيالية. ففتحات البيت العتيق وقد استحالت إلى معابر داعية لنا لولوجها، حيث يمتزج الفضاء المكاني بالفضاء الزماني في صيرورة مستمرة مكونا ما اصطلح عليه بـ”الزمكانية”، ومن ثم تنقلنا الفجوات في لمح البصر إلى أزمنة متعددة كأنها ثقب أسود في سديم الفضاء السردي.
وعلى هذا النحو فإن المكان المؤنسن يستعير لنفسه دور الحكواتي في تراث الحكي في الثقافة الإسلامية. ذلك الحكواتي الذي يتنقل بين الأزمنة بخفة دون أن يبرح مكانه. وهو بإحالته الأسطورية في الوعي الجمعي يتحول من الخطاب الفردي صيغة الأنا “كبيت” له مرجعيته المساحية المحددة بالرقعة التي بُني عليها، إلى الأنا الجماعية “كوطن” المعبرة عن الضمير الجمعي للهوية الثقافية .
ما إن ينتهي البرولوج الافتتاحي حتى تتقدم الكاميرا متوغلة عبر نافذة البيت لنجد أنفسنا في الحرم المكي وطواف الحجاج حول الكعبة المشرفة حيث تبدأ القصة الأولى في الثلاثية في مطلع القرن التاسع عشر. إنها حكاية السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي “1791-1856”-، يقوم بأداء الدور الممثل أحمد الكلباني، وقد استتب له أمر الحكم في مسقط، مفتتحا ولايته بالقضاء على قراصنة البحار، وتأمين الطرق المؤدية إلى قبلة المسلمين بإنشاء ممرات آمنة للسفر والحجيج والتجارة في شبه الجزيرة العربية، مفكرًا أن الاستقرار السياسي للجزيرة العربية يرتبط بشكل وثيق بتأمين حركة المسافرين من المسلمين سواء عبر الرحلات الدينية أو الرحلات التجارية التي تحمل في طياتها الأفكار الحداثية الجديدة إلى صحراء العرب من جميع أنحاء العالم. لكن عليه الآن وهو في الثلاثين من العمر أن يوجه نظره شطر إفريقيا في إعادة تأسيس ثان للوجود العُماني في زنجبار، إنها المدينة المفقودة في الثقافة العُمانية.
“زنجبار والبحث عن
المدينة المفقودة”
تقع زنجبار في منزلة عاطفية كبيرة بالنسبة إلى العُمانيين الأوائل الذين عبروا إليها المحيط قبل قرون عدة، مثلما احتلت الأندلس من قبل موقعها الأثير في أفئدة العرب الفارين من لهيب الصحراء والصراعات القبلية والطائفية، باحثين عن إقامة جنة عدن السماوية في شبه الجزيرة الأيبيرية، في إعادة ترسيم لخرائط المدن الثقافية في القرن الثامن الميلادي.
وسواء أكانت المدينة زنجبار أو قرطبة فهما أرض التعايش الحضاري بين الأجناس والثقافات المختلفة، ومن ثمّ فهما تقعان في دائرة تلاقيات المدن المستحيلة، أو مدن اليوتوبيا الموعودة للبشر من مطلق، حيث ترسم خرائط الوجود الإنساني على هوى القلب والعاطفة المشبوبة بالعثور على الآخر.
في أحد المشاهد التأسيسية لفيلم “الإمبراطورية” وقبل رحيل السلطان سعيد إلى إفريقيا كي يخضعها لسلطته السياسية، يتواجه بقلعة مسقط المطلة على أفق المحيط مع العمة القوية ذات النفوذ العائلي والسياسي: موزة بنت الإمام أحمد بن سعيد “قامت بالدور الممثلة أمينة عبدالرسول” حيث توجه إليه سؤالا محوريا شغل الإنسان في مهده منذ بدأ رحلته الأولى على سطح الأرض، عندما تسأله: “ما الذي تبحث عنه هناك في شرق إفريقيا!؟”.
لكن السؤال الوجودي الماكر فيما يبدو أنه معلق بتلك “الهناك” المحتجبة فيما وراء المحيط على بعد 2500 ميل من العاصمة الأولى، في رحلة محفوفة بالمخاطر تحكمها حركة الرياح الموسمية، والتي تعمق من رحلة السلطان سعيد الذي يمثل العشيرة الحاكمة بجعلها رحلة إشكالية تجاوز أهدافها المادية المعلنة في تثبيت دعائم حكمه، وجعل لقبه كحاكم سلطنة عُمان ومسقط وزنجبار حقيقة واقعية ملموسة، أكثر من مجرد لقب منقوش على خاتم المُلك. فالأمر هنا كما في صيغة السؤال الاستيهامي يتجاوز ما هو قابل للسيطرة عليه في الأصل بالنسبة إلى السلطان الذي يمتلك القوة البحرية الهائلة والممثلة في بوارج حربية متطورة، وحيث يضع السؤال مشروعية الوجود الحياتي ذاته للسلطان سعيد محل تأويل!.
وهو نفس السؤال الذي سيكرره “بيت العجائب” على أسماعنا بما يحمل في طياته إجابات متنوعة لأسباب وأهداف مشروعة تبرر هجر الإنسان لموطنه الأصلي، والرحيل بحثا عن أفق جديد لحياته ووجوده: “لماذا يترك الناس أوطانهم؟، إنه الأمل في حياة أفضل، أو الاعتقاد بأن وراء الآفاق وجودا خاليا من الفقر والصراع”.
فالرحلة إلى إفريقيا ونتائجها ترتبط بالوجود الشخصي للسلطان، إما أن يخلد اسمه وتنجح مهمته، أو يختفي إلى الأبد من صفحات التاريخ. إنها بالأحرى إعادة تمثيل لمقولة هاملت الوجودية “أكون أو لا أكون تلك هي المسألة”، لكن فيما يبدو أن مشكلة السلطان سعيد لا تكمن في أن “يكون”، ولكن في تحرير تلك الكينونة الممثلة بشكل رمزي في مدينة مفقودة تدعى زنجبار، وعليه استعادتها من جديد.
في مشهد مهيب تبدأ رحلة سعيد الملقب بسلطان البحار في اتجاه واحد محدد، إنها رحلة ذهاب بلا عودة، رحلة تجاه الأرض التي سيدفن فيها، والتي لن يبرحها حتى نهاية حياته، بعد أن يتخذ منها مقرا لحكم السلطنة. لكنه عندما يصل إلى ميناء ممباسا لا يجد ترحيبا بقدومه من قبل قبيلة “المزاريع” التي تنازعه السيادة على ممتلكاته الشرعية. لم يكن الأمر يشكل أكثر من صراع داخل العائلة العُمانية الواحدة، فقد حملوا معهم إلى الأرض الجديدة كل الخلافات والنزاعات القبلية في إعادة تمثيل لمأساة الأندلس في قارة أخرى بعد ما يقرب من ستة قرون على الخروج الحزين. لكن بعد فاصل من المشاهد الحربية التي يمتزج ويتداخل فيها التصوير التمثيلي الحيّ بالخدع الجرافيكية يحسم السلطان سعيد المعركة لصالحه.
في هذا الجزء من الفيلم تبدو البراعة السينمائية جليَّة في الانتقال السلس بين المشاهد ذات النسيج المتناقض من حيث المحتوى، أو ما ذكرته سابقا “العبور بين الأنواع السينمائية: “رحلة/ معركة حربية/ تحقيق استقصائي” في مدة عرض زمنية قصيرة نسبيا “حوالي 9 دقائق تقريبا”.
فالتتابع يبدأ برحلة بحرية حالمة تنتهي خاتمتها بمعركة حربية، وبعد أن تهدأ أصوات المدافع وينقشع غبار المعارك يعبر الفيلم بنا إلى سينما البحث والاستقصاء عن تاريخ الاستيطان العُماني في إفريقيا، عندما أتى البلوش العُمانيون لدحر الاحتلال البرتغالي .
وكما تخبرنا الحوليات التاريخية فقد نجح الأسطول العُماني في السيطرة على ممباسا في كينيا في عام 1661، لتبدأ حقبة ازدهار الإمبراطورية العُمانية بالسيطرة على الموانئ المحيطة ببحر العرب لتمتد الإمبراطورية من جوادر شرقا “جنوب باكستان” حتى ماجنكا جنوبا “في جزيرة مدغشقر”، حيث باتت زنجبار تحت سيطرة العُمانيين عام 1696. بعدها طاب للبلوش العيش في الأرض الموعودة، فأنشأوا الحاميات، وتزاوجوا من السكان الأصليين، وأسسوا تجارتهم عبر الساحل الإفريقي، ومن ثم عاشت قبيلة المزاريع التي تمتد أصولها إلى مدينة الرستاق العُمانية في مدينة ممباسا، جيلا وراء جيل، كطبقة حاكمة من السادة العرب المستوطنين.
يستمر البحث الاستقصائي واقتفاء أثر من عاشوا على هذه الأرض في المشاهد التالية منتقلا إلى أطلال مدينة “كلوة” التي بنيت قبل ألف عام والتي تشير إلى نمط حياة التجار العُمانيين ومراسلاتهم وعلاقتهم التي لم تنقطع بوطنهم الأم عُمان .
“الإمبراطورية وفائض
الوجود الرمزي”
يقدم لنا الفيلم شخصية السلطان سعيد كشخصية درامية متفردة، تشبه (بورتريه) ذاتيًا في تمايزاته الضوئية واللونية التي تخلقُ معها عمقا فَنّيا في إعادة تمثيل الذات على الشاشة..
ورغم أن السلطان سعيد قد عاصر في نهاية حياته براءة الاختراع الفوتوغرافي وذيوعه بالتزامن مع ميلاد المدن الحديثة في منتصف القرن التاسع عشر، وكثافة رحلاته إلى تلك المدن لإبرام الإتفاقيات السياسية والتجارية، ومع تبنيه خلال فترة حكمه أفكار الحداثة الغربية، إلَّا إنني لم أعثر له على صورة فوتوغرافية واحدة في الأرشيف الفوتوغرافي لتاريخ سلاطين عُمان، باستثناء لوحة بورتريه ذاتي أغلب الظن أنها رُسمت في نهاية حياته، يبدو فيها نحيل الجسد، تميل ملامح وجهه إلى التأمل والحكمة أكثر منه إلى مظاهر القوة والتجهم، متخذا وضعية جلوس جانبية، وله لحية بيضاء مشذبة على السمت المميز والمعهود للسلاطين العُمانيين، بينما الخنجر الأيقوني معلق بخاصرته.
وأعتقد أن الفيلم قد اعتمد في إعادة تجسيد ملامح السلطان سعيد، ورسم تفاصيلها الفيزيقية على ذلك البورتريه الزيتي كمرجعية فنية.
فكما بدا لنا على الشاشة شخصية حالمة تميل إلى الاتزان في حركتها داخل المشهد، نظراته هادئة، تحمل معها عاطفته القوية تجاه العالم، بينما نلمح في نظرة عينيه غيابا لحظيا عن الحاضر، كأنه يسبر خلال يقظته أغوار حلمه الداخلي، وهو يتطلع بعيدا إلى نقطة تقبع فيما وراء الحاجز المرئي للزمن الحاضر الذي تتصارع على حلبته القوى الاستعمارية المختلفة متمثلة في المطامع البريطانية والتي ظلت تعمل بدأب طوال فترة حكمه على النيل من إمبراطوريته المتمددة في قارتي آسيا وإفريقيا، وكما تجسدت في” شخصية الرائد هاميلتون “في حضوره المشهدي الثقيل، بالإضافة إلى الوضع الداخلي المتأزم في الوطن الأم، فهناك تمرد “صحار” الذي يهدد حكمه بين وقت وآخر.
ورغم كل هذه الضغوط التي تحاول إعاقته عن مواصلة إرساء أسطورته الذاتية، أو ما يطلق عليه فائض الوجود الرمزي للأجيال القادمة، إلا إنه يظل طوال الفيلم مشدودًا بقوة لا رادَّ لها إلى المستقبل، يعبّد طرقا ويبني جسورا لأناس مجهولين وأجيال لم تولد بعد لكنهم سيأتون في المستقبل.
ففي أحد المشاهد نراه يستكشف ربوع زنجبار المساحية بحثا عن ينابيع الماء العذب، وأثناء تجواله وبالمصادفة يعثر على زهر القرنفل الفريد في أهميته الطبية والتجارية والتجميلية، والذي سيغير ميزان القوى في التجارة الدولية بين موانئ زنجبار وموانئ العالم، فبحدسه يستشعر أن مستقبل زنجبار الاقتصادي معلق بهذا الاكتشاف البيئي لطبيعة زنجبار، فيصدر أمرًا سلطانيا بتخصيص مساحات شاسعة من الأراضي لزراعة القرنفل حتى صار أحد الموارد الرئيسة الممولة لخزينة الدولة العمانية، واضعا زنجبار على خريطة أهم الموانئ التجارية، وحتى اليوم “وقت إنتاج الفيلم” لا يزال القرنفل يشكل أهم صادرات زنجبار الاقتصادية، حيث تتتابع أمامنا في “فوتومونتاج” لقطات توثيقية لعمليات حصاد وتجفيف القرنفل في زنجبار الحديثة من قبل السكان المحليين ثم إعادة شحنه عبر الميناء لتصديره إلى الخارج.
ويخبرنا المستوطن “مزين يوسف” في مقابلة توثيقية معه عن تاريخ أسلافه العُمانيين الذين اكتشفوا عند وصولهم إلى زنجبار الفوائد الطبية للبهار الذي تنتجه الأراضي السواحلية، حيث تبادلوا السلع والخبرات المعرفية والمنافع مع السكان الأصليين. وقد ساهمت استراتيجيته الرامية لمد نفوذه السياسي والاقتصادي في أماكن بعيدة عن الساحل داخل إفريقيا بالتوازي مع تعبيد الطرق الواصلة بين زنجبار وأوغندا من أجل تسهيل حركة الرحلات التجارية إلى نشر الإسلام واللغة العربية في تلك الممالك الإفريقية القبلية، حيث أدى احتكاك التجار العُمانيين بتلك القبائل المنغلقة على موروثات خرافية ووثنية إلى فتح الباب لولوج الحداثة والتنوير إلى تلك المجتمعات التقليدية.
وعلى جانب آخر يستعرض الفيلم مواقفه العقلانية المتسامحة إزاء التباينات الثقافية والحضارية بكل تعقيداتها، فالوجه الأعمق لفترة حكم السيد سعيد في إفريقيا والذي يفرد له الفيلم مساحة متوازنة مع الجانب السياسي هو ترسيخ دعائم التعايش الثقافي والسلمي بين السكان الأفارقة والمستوطنين العرب، حيث عمل على أن يكون حاكما لجميع الأجناس والأعراق المختلفة في زنجبار دون تفرقة. وهو ما يظهره الفيلم في اجتماع السلطان سعيد بشعب زنجبار خاطبا فيهم كواحد منهم بعد أن يشير إلى حراسه بالابتعاد، حيث تقتنص الكاميرا تعبيرات وجوه النساء والأطفال في أزيائهم المتباينة التي تشير كعلامة دالة إلى انتماءاتهم، وهم يتناولون الحلوى المقدمة إليهم في مشهد احتفالي.
وهذا ما يؤكد عليه أيضا المؤرخ “ألين فرومهيرز” في مقابلة توثيقية قائلا: “كان السلطان سعيد يعرف بالحكيم، لقد وحد الناس من أجل هدف مشترك، لم يكن مجرد حاكم للإباضيين، ولا مجرد حاكم للعرب، كان حاكما لجميع الأديان والأعراق المختلفة في زنجبار”.
ينتهي الفيلم كما بدأ ببيت العجائب متحدثا عن نفسه كرمز لقصة النجاح التي بدأت مع السيد سعيد بن سلطان، والذي انتهت به الرحلة الطويلة إلى مدفنه السلطاني في المدينة التي ظل يبحث عنها خلف حاجز اللغة والعرق. ورغم تعرض بيت العجائب لعوائل الزمن، وانهيار جزء منه في العام 2020 لكنه ظل صامدا كسارد نصيّ للحكاية السحرية، بينما الكاميرا تدور بين فسحاته وممراته الافتراضية، وقد احتلتها وجوه عابرين في الزمن الحكائي .
“شعرية الرحلة في عصر القوافل”
دائما، وأبدا، ما يقترن الشعر “كمجاز لغوي” بالرحلة والترحال. فكلاهما، الشاعرُ والمسافرُ يخوض في مساراته وتحدياته، طُرقا وعرة من أَجل الوصولِ إلى خاتمةٍ ما، أو أرض جديدة. يبدأ الشعر كما الرحلة “بالأنا” لينتهي بالآخر عبر متاهة غير مرئية من الكلمات، وعلامات الترقيم، والتي تبدو على طول القصيدة كأشجار يرتكن عليها الشاعر بين شطر وآخر في رحلته المتخيلة، قبل أن يواصل تقدمه المتعثر في متاهاته التي صنعها لنفسه. إنها ذاتها نفس الأشجار التي يستظل بها المسافر في رحلته الطويلة، فليس هناك من غاية للشاعر أو المسافر سوى عبور ذلك الماوراء للوصول إلى ذلك الآخر ومعانقته، دون حواجز جغرافية، أو لغوية.
ومثلما ترتبط رحلة المسافر بمجابهة الأهوال المادية بين نقطتي الانطلاق والوصول، وتكبد ألم الوعي عبر مادية السفر والترحال بين ضفاف ومدن وأصوات مجهولة، حيث الشعور الدائم والملازم بالتهديد والخطر مع كل اختلاف تقع عليه عيناه عبر مشاهداته، فإن الشاعر يواجه خلال رحلته في خلق قصيدته كل أسئلة الوجود الإنساني المعلق بين السماء والأرض.
من هنا تبدو شخصية تيبوتيب في فيلم عصر القوافل كشخصية ملتاثة بالحركة والعبور الفيزيقي تدفعه رغبة شيطانية خفيّة للعبور دون توقف بين أماكن وصحارى وغابات وأنهار، لكن في ذات الوقت تتزامن داخله خلال تلك الرحلات الصغيرة المتوالية حركة عبور أخرى، داخلية أو عرفانية، من الجهل إلى الوعي والمعرفة بالوضع الإنساني وقبول الآخر والتعايش معه برضى خارج حدود الجنس والدين واللغة.
على وجه اليقين لا أحد يعرف كيف تحول اسم التاجرالعُماني الشاب من “حمد بن محمد بن جمعة المرجبي”إلى “تيبوتيب”، وهو اللقب المنتحل الذي سيلتصق به كجلده حتى نهاية عمره. لكن بالنسبة إلى تيبوتيب فعمره يقاس بالرحلات التي خاضها عبر المجاهل الإفريقية وقد حول حياته إلى رحلة درامية طويلة.
فيلم عصر القوافل هو إذن فيلم ينتمي في خطه الرئيس إلى أفلام الطريق “Road film”، وهي تيمة تنتمي إلى أكثر الأنواع الأدبية ازدهارا في المشهد الثقافي العُماني وهو أدب الرحلة. وقد احتلت الرحلة في التراث والأدبيات العُمانية الحديثة مكانة مرموقة نظرا للموقع الذي احتلته سلطنة عُمان في حركة التجارة الدولية خلال القرن التاسع عشر، مع تعاظم أسطولها البحرى وتمدد الولايات التابعة لها في آسيا وشرق إفريقيا، مما جعل منها مصبا ثقافيا لكل الروافد الحضارية العابرة إليها والخارجة منها. فضلا عن المكانة المقدسة للرحلة في الثقافة الإسلامية كواحدة من الشعائر التي يجب إحياؤُها في كل عام عبْر فريضة الحج والسفر إلى منازل الأولياء. وقد خلف لنا العديد من الرحالة العُمانيين الكثير من الآثار النثرية والشعرية التي تسجل وقائع يومياتهم ومشاهداتهم عبر تلك الرحلات مثل مخطوط “الدر المنظوم في ذكر محاسن الأمصار والرسوم” للسيد حمود بن أحمد بن سيف البوسعيدى الذي يصف فيه رحلته عام 1872 برفقة السلطان برغش بن سعيد بن سلطان إلى الحجاز لأداء مناسك الحج، ثم متابعة رحلته منفردا إلى مصر وفلسطين والشام.
وفي كتاب “من الفرضاني.. يوميات رحلة إلى زنجبار وممباسا والبر الإفريقي” للباحث العُماني محمد بن ناصر المحروقي حيث يسجل وقائع رحلته التي قام بها في العام 1992 من أجل البحث عن التراث الشعري العُماني في المهجر الإفريقي متمثلا في تتبع آثار الشاعر العظيم ناصر بن سالم بن عديم البهلاني 1860-1920. بالإضافة إلى ما ذكره من رغبته في معاينة الأماكن التي استوطن بها أسلافه القدامى في زنجبار والتي غذّت خيال طفولته عبر السماع. وقد تولدت في أراضي المهجر الإفريقية أجناس أدبية جديدة تتناول في موضوعها ألم الحنين إلى أرض وأمجاد الأجداد بعد أن توزعت المشاعر والذكريات بين مكانين متباعدين. ومن ثمّ حاولت تلك الكتابات الوصفية في مجملها وعلى اختلاف توجهاتها وأنواعها الأدبية أن ترسم صورة تقريبية لذلك الآخر المحتجب عنا فيما وراء الحدود، والوقوف على التقاطعات الثقافية المختلفة بين الوطن الأم وأرض المهجر في شرق إفريقيا.
يبدأ فيلم عصر القوافل في العام 1858 بعد عامين من وفاة سعيد بن سلطان البوسعيدي بمشهد يعيد تمثيل ما كان يحدث في هذه البقعة من إفريقيا، نرى تيبوتيب في مقتبل مرحلة الشباب يقف بقدميه على شاطئ بحيرة تنجانيقا بمنطقة أوجيجي المحطة النهائية في طريق القوافل من زنجبار إلى قلب إفريقيا، حيث يقوم بعمله الروتيني الرتيب في تسجيل وعَدّ البضائع التي ينقلها الحمالون إلى مراكب شجرية استعدادا للعبور إلى الجانب الآخر من البحيرة في مهمة شبه انتحارية.
ولكن كيف كان البحارة يبحرون إلى الضفة الأخرى لبحيرة تنجانيقا قبل وصول التجارالعُمانيين؟ يجيب الفيلم على ذلك بأن يأخذنا في رحلة استكشافية مستخدما أسلوب الفيلم الأنثروبولوجي في رصد توثيقي حول صناعة الزوارق التقليدية على شاطئ البحيرة من قبل السكان الأصليين، ولكن مع وصول العُمانيين تغير كل شيء وقد نقلوا معهم تقنياتهم الحديثة في تقطيع الخشب وأدوات النشر وتثبيت الألواح إلى بعضها البعض. وكما يؤكد الباحث محمد المحروقي في مقابلة توثيقية معه بأن القوافل العُمانية قد أحدثت طفرات تنموية في مختلف مناحي الحياة لدى السكان الأصليين، فلم تجلب معها البضائع فحسب، ولكنها أيضا حملت الأفكار والدين الإسلامي.
في نفس الوقت ينجح تيبوتيب في إقناع والده أن يوكل إليه مهمة قيادة القافلة القادمة للعبور بها في رحلة محفوفة بالأخطار تستغرق مسافة خمسين كيلومترا. إنها رحلته الأولى التي ظل يحلم بالقيام بها إلى قلب إفريقيا. لكن ما يعرفه تيبوتيب عن المجهول الذي ينتظره لهو قليل، لكنه يدرك مالذي يبحث عنه. وفي النهاية تنجح رحلته ويعود إلى”تابورا” المحطة التجارية لقبيلة المرجبي محملا بالعاج الثمين. وفي مشهد تمثيلي نرى ملك إحدى القبائل الإفريقية “ساعاتي تغولاتي مانديكيرا” يجتمع مع عشيرته ويحكى لهم قصة عائلة المرجبي وزواج والد تيبوتيب من ابنة زعيم القبيلة، وقد أدى التصاهر بين العرقين إلى خلق ثقافة جديدة هي السواحيلية، حيث أسست عائلة تيبوتيب بيتا في تابورا على نفس الطرز المعمارية المتبعة في عُمان، والتي لم يبق منها الآن سوى ملامح تشير إلى مرورالعُمانيين في هذا المكان، فهذا الباب بزخارفه العربية يومئ إلى مثيله في مسقط.
يعرج بنا الفيلم في سرده الخطي إلى وصف عالم القافلة الأشبه بمدينة مصغرة متحركة تضم كافة الخدمات اللازمة للسفر الطويل على طرق وعرة، بدءا من الحمالين إلى الحراس والمحاربين، وانتهاءً إلى الخدمات الطبية لمواجهة كل المخاطر المحتملة، حيث نرى في مشهد تمثيلى تيبوتيب يقود القافلة وهي تقطع الفيافي والأدغال ويمرون بجوار جثث مسافرين سقطوا موتى أثناء سفرهم. وينفي المؤرخ “ستيفن روكل” الفكرة الشائعة عن استخدام نظام السخرة في عمل القوافل، حيث اتبعتْ نظاما من العمل المأجور مع الاستعانة بحمالين يتحدثون لغات متعددة نظرا لاتساع المناطق التي تعبرها القافلة واختلاف الألسنة التي تتحدثها بها كل قبيلة على حدة، ومن ثمّ فمن المستحيل انضواء آلاف الحمّالين الأشداء داخل رحلة تستغرق شهورا دون إقتناع ورضى.
” تيبوتيب: الرحلة، الذاكرة، الزمن”
“الرحلة “كبناء فني هي قصة مكتملة بذاتها، تتكون من بداية ووسط ونهاية “الرحيل/الصراع مع الطبيعة والنزعات البشرية/ الوصول وخاتمة الرحلة”. فالرحلة إذًا هي صورة مصغرة لحياة الإنسان وصراعه مع القوى المختلفة، ولعل عوليس كما صوره هوميروس هو أصدق تعبير عن الصراع الإنساني أثناء خوض الرحلة حيث يكون الموت مصاحبا دائما لكل خطوة في الرحلة.
ففي إحدى الرحلات التي يخوضها تيبوتيب يحاصره الموت أثناء مواجهة صدامية مع إحدى القبائل العدوانية، ولكنه يحقق فوزا ساحقا بفضل تحصيناته من الأسلحة الحديثة، ومن هنا تبدأ الأسطورة الذاتية لتيبوتيب في الصعود على طول الساحل، بل عبورها من قارة إفريقيا إلى أوروبا -بعد لقائه مصادفة، والمصادفة هي ركن من أركان الرحلة على أرض الكونجو بالمستكشف الإسكتلندي للمجاهل الإفريقية- ديفيد ليفينجستون، الذي سينشر السيرة الذاتية لتاجر العاج على نطاق واسع عبر كتاباته. لكن ترجع أهمية لقاء تيبوتيب المستكشف الإسكتلندي إلى جعله ينتبه إلى ضرورة تدوين رحلاته وما عاشه واكتنزه من خبرات معرفية، وإنه يؤسس لرسالة ما أكبر وأكثر بقاءً في الزمن والذاكرة من مغامراته التجارية لاستجلاب العاجَ، وذلك عندما يلقى إليه ليفينجستون بقوله كحكمة معطاة: “إن لم نشارك تجربتنا فالتاريخ سيمحوها”. فيرد عليه تيبوتيب مفكرًا في حياته: “ربما عليّ أن أكتب أيضا في يوم من الأيام حتى يتذكرني الآخرون”.
وبينما كان تيبوتيب يحفر أسطورته الذاتية في الأراضي الإفريقية مستتبعا غزواته التجارية إلى الكونجو، كانت زنجبار تشهد تحولا حداثيا على يد السلطان برغش في العام 1870، لقد بدأ عصر التصنيع والقطارات البخارية والمطبعة والعديد من المرافق الاجتماعية، وقد أضحت زنجبار مركزا للفكر الجديد.
إن عالم تيبوتيب والقوافل التقليدية تجتاحه هزة مزلزلة، وبمرور الوقت تختفي من على الشاشة المشاهد التقليدية للطبيعة والقوافل بإيقاعاتها البطيئة لتحل محلها مشاهد أخرى أكثر سرعة لمدينة زنجبار الحديثة، وحيث يعود بنا السرد إلى بيت العجائب الذي يحكي لنا قصة اكتمال بنائه في العام 1883 لنرى مقاطع أرشيفية قديمة لعمارة البيت الذي بني من الحديد الصلب، وشهد صراع الإمبراطوريات الاستعمارية التي نالته بمدافعها أحيانا، حيث يلوح في الأفق بداية النهايات وأفول النفوذ العربي في الكونجو، ولاحقا في شرق إفريقيا بسبب المطامع الاستعمارية والتفوق العسكري الأوروبي.
ينتهي الفيلم بمشهد تمثيلي لتيبوتيب الشيخ في العام 1890 يتأهب لالتقاط صورة فوتوغرافية له أمام بيته في كاسونجو بالكونجو، وحيث تحل الصورة الحقيقية أمامنا ليعلق الراوى “البيت” على حياة تيبوتيب الذي نراهُ لا يزال شابا لم تطلهُ لمسة الزمن الغادرة، وهو يقف في الغروب يطل على المكان الذي كان مسرحا في الماضي لحياته ورحلاته التي حفظها لنا في كتاب نصيّ. لقد تحول تيبوتيب إلى حكاية متناقلة وقد أتم عبوره في الزمن.
“صوت ممباسا والنهايات”
إذا كان فيلم الإمبراطورية قَدْ أَرّخَ لمرحلة صعود النفوذ العُماني في شرق إفريقيا، ثم تلتها مرحلة الازدهار وتمدد الاستيطان العربي وتوارد أجيال تحمل في داخلها الجينات االعُمانية والإفريقية مع تزاوج الثقافتين معا في بوتقة واحدة، فإن صوت ممباسا هو الزفرة الأخيرة قبل الخروج العُماني من زنجبار في منتصف القرن العشرين. إنه الصوت الأخير أو التنهيدة التي تعلن لنا قائلة: “لقد كنت هنا من قبل”.
ثمة حزن خفيّ تستشعره وأنت تشاهد فيلم صوت ممباسا الذي تغلب عليه نزعة الحنين إلى عوالم فُقدتْ إلى الأبد، وبالرغم من مشاهده الأولى المبهجة، حيث يفتتح بمشاهد توثيقية في الحاضر لطقوس الاحتفال ببرزة العيد “عيد الفطر” في ممباسا، إنها مناسبة دينية وأيضا سياسية فهو يوم المحاسبة، إذ يُساءلُ الموظفون العموميون عن أدائهم. يخبرنا بيت العجائب على شريط الصوت عن الشخص المؤسس لذلك التقليد السنوي، إنه الشيخ “مبارك بن علي الهناوي” عندما كان واليا على القطاع الساحلى، حيث نعود في فلاش باك الي ماضي المدينة في عام 1912 لنرى الهناوي في مرحلة الصبا يعيش أجواء القرن الجديد بمظاهره، عندما يشاهد لأول مرَّة طائرة تحوم في سماء ممباسا، حيث يقوم هو وأقرانه من تلاميذ المدرسة الإنجليزية “في مشهد تم تصويره بشاعرية عميقة بما يحمله من دلالات “بتقليد حركة الطيران وهو يحتفي بالتقدم الحضاري في مشهد طفولي حالم .
ولكن اللعب ما يلبث أن يتحول إلى الجِدّ عندما تقوده الصدفة إلى مبنى أوّل مدرسة عربية تابعة للإدارة الاستعمارية البريطانية في ممباسا، والتي تواجه مشكلات في اجتذاب أبناء الجالية العربية للدراسة بها.
تكون تلك هي المهمة الأولى التي ألقاها القدر على عاتقه حيث يرسم الفيلم منذ مشاهده الأولى البنيات الأساسية في التكوين العاطفي والعقلي لشخصية مبارك الهناوي كشخص مبادر إلى العمل الاجتماعي ومناصر للأفكار الجديدة، وهو الأقرب إلى فهم المشكلات التي يعاني منها الناس، سواء من ينتمون للأصول العربية التي ينتمي هو نفسه إليها، أو من جانب السكان الأصليين، بينما على الجانب الآخر يبدو الجهاز الإداري للمستعمر البريطاني غير آبه بتلك الإشكاليات والتمايزات الثقافية لكلا الطرفين، فيحاول الهناوي إقناع المستوطنين العرب بإلحاق أبنائهم بالمدرسة مع اقتراحه بضرورة إدخال المناهج الإسلامية بجانب المناهج الإنجليزية في التعليم.
ينتقل الفيلم بنعومة مونتاجية في السرد من الروائي إلى التوثيقي ومن الانتقال من الماضي إلى الحاضر وهو ما يضفي شاعرية على الإيقاع الفيلمي طوال العرض، وذلك عندما ينهي الأستاذ الإنجليزي حواره مع مبارك الهناوي داخل المدرسة الجديدة وهو يحتفي بأفكاره، عندئذ تقترب الكاميرا في ترافلينج أمامى لتحصر وجه الصبي وانفعالاته بثناء الأستاذ عليه، وحيث يتم القطع مباشرة على خليفة الهناوي “الابن” وهو يتحدث عن والده الذي كان لديه رؤية بالتغييرات التي يجب أن تطرأ على المجتمع العربي، فهو نفسه كان من أوائل الذين تلقوا تعليما حداثيا بالمفهوم الغربى.
كل شيء يتغير في بدايات القرن العشرين، لكن قلة هم الذين سينجحون في التوفيق بين التحول والتقليد، حيث تدار الصراعات البصرية على الشاشة بين التقاليد والأفكار الحديثة، فتتصادم صورة الحاضر مع صورة الماضى الأرشيفية ذات اللونين الأبيض والأسود. شوارع وأسواق ممباسا الآن ولافتة تشير إلى طريق يحمل اسم مبارك الهناوي، بنايات متعددة الطوابق و مئذنة جامع مبنى على الطراز الإباضي، كما تتباين ملامح الأزياء بين التقليدية والحداثة الأوروبية.
وبحيلة فنية ماكرة يتم دمج المشهد التمثيلي للصبي مبارك “بالأبيض والأسود” وهو يسير في شوارع ممباسا بطريقة مصورة أسلوبيا على طريقة الوثائق الفيلمية القديمة وتصاحبه في خلفية موسيقى البلوز في مشهد مفعم بالنوستالجيا إلى عالم التنوع والانفتاح.
لتبدأ بعدها المهمة العسيرة لمبارك الهناوي التي آلاها على نفسه، حيث يذهب لزيارة بيت صديقه من أجل إقناع والده بضرورة إلحاق الابن بالتعليم الحديث، لكن الأب يخشى من التحولات الثقافية التي قد تحدثها المدرسة الجديدة في معتقدات ابنه، وهنا يظهر طراز وعمارة البيت العُماني التقليدي في ممباسا كخلفية اللقاء حيث يعبّر ديكور المكان وتفاصيله وطريقة إضاءته الهادئة عن أفكار الأب المتزمتة والمتشككة إزاء التحولات الحديثة التي تغزو المدينة يوما بعد يوم .
وفي مقابلة توثيقية يعلق كاتب السيرة “ذوالفقارهيرجي” بكلمات ترسم صورة لشخصية الشيخ مبارك قائلا: “بدأ الشيخ مبارك حياته كجندي في الجيش حيث أكسبته الخبرة العسكرية خلال الحرب العالمية الأولى مفاهيم الالتزام والشرف والمبادئ، في قرارة نفسه كان يعتقد أنه سيصبح شخصية مهمة في بناء المستقبل لمكان المهجر”.
يتابع الفيلم خلال المشاهد التمثيلية التالية رحلة صعود الشيخ مبارك في العمل السياسي والثقافي، فخلال سنوات عمله كمحكم عدل عمومي فيما يخص الممتلكات المتنازع عليها بين السكان المحليين والسكان البريطانيين، استطاع أن يضع يده على الإشكاليات الثقافية الجوهرية التي تفصل بين العالمين، والمعوقات التي تحول بين المجتمعات المتعددة الثقافات والتعايش السلمي على أرض واحدة، وهو ما أهله بعد ذلك في العمل الكفء كمفاوض دبلوماسي ممثلا للشريط الساحلي من سلطنة زنجبار.
في المقاطع التالية يعمق الفيلم من قضية التعايش الثقافي عندما ينتقل بنا إلى جزيرة “لامو” ليوثق بأسلوب الفيلم الأنثروبولوجي لاحتفالات السكان بالمولد النبوي الشريف، إنها مدينة العجائب، نموذج التعايش بين الثقافة العربية والإفريقية، حيث تعزف الموسيقى المهجنة من كلتا الثقافتين، هذا التقليد التراثي كان العُمانيون قد نقلوه من الأرض الأولى للسلطنة إلى حيث مكان الوصول في أرخبيل لامو.
يذكر المستوطن “محمدعلى إمام مسجد الرياضي لامو” في مقابلة توثيقية عن التأثير الثقافي العُماني في المشهد الإفريقي قائلا: “يظهر التأثير في كل مكان، في شؤون الأسرة وفي الشؤون الدينية وفي الهندسة المعمارية، تأثيرات تغطي جوانب مختلفة من الحياة وجميعها تعود إلى التراث العُماني. لقد مهد العُمانيون الطريق إلى الإسلام للوصول إلى هذه المنطقة”. وفي خطوط سردية متوازية يعمد الفيلم إلى تصوير جوانب مختلفة للحياة في ممباسا في ظل الحكم العُماني حيث تستعرض الكاميرا مخلفات وآثار العُمانيين المحتفظ بها داخل متحف لامو، فنرى نماذج من الأثاثات المنزلية وأيضا الملابس والأطعمة، والقباقيب الخشبية العُمانية الأصل ذات الكعوب العالية، وفي جانب من المتحف يحتفظ بنسخة فريدة لآلة العود العربية، حيث أدى التزاوج بين الثقافتين إلى تطور نوع موسيقي يجمع بين الإيقاعات العربية والإفريقية.
كلُّ شيء يعلن عمن عبروا من هنا ذات يوم. إن الذاكرة غير قابلة للاندثار والنسيان لأنها تبني أعشاشها في مناطق آمنة داخل الضمير الجمعى، فكثير من الحرف التراثية التي تم نقلها من عُمان إلى ممباسا مع النزوح في الماضى لاتزال حيَّة في صيرورة الحياة اليومية المعتادة. فداخل المركز الثقافي السواحلي لتعليم المهارات اليدوية ترصد الكاميرا القاعات وأقسامها المختلفة حيث يتم تدريب النساء والرجال على تعلّم حرفة النحتِ على الخشب وتصميم الأزياء وخياطة الكوفية السواحلية وصناعة الأبواب وزخرفتها على الأصول الجمالية العُمانية.
ومن ثمّ تبدو لنا شخصية مبارك الهناوي عبر مشاهد الفيلم وهو يخوض صراعه مع الطبيعة وتطويعها من أجل المنفعة العامة وتيسير الحياة اليومية لكافة الناس سواء المستوطنين من العرب أو السكان الأصليين، أو خلال صراعه السياسي كحاكم للقطاع الساحلي ومحاولاته ضمان الاستقلال بعيدا عن التغول الاستعماري ودعاوى الانفصالية في المنطقة.
ففي بداية الخمسينيات، ووسط فوضى الأيديولوجيات التي أخذت تجتاح العالم بعد الحرب العالمية الثانية ينشئ مبارك الهناوي إذاعة “صوت ممباسا” الذي يتخذُ الفيلم من اسمها عنوانا له.
وفي أوَّل بثّ إذاعيّ للمحطة يخرج علينا صوت مبارك الهناوي ليتحدث إلينا برسالته التي آمن بها منذ صباه في بداية الفيلم حيث التنوع والتسامح الثقافي هو جوهر المكان وقوته قائلا: “هنا صوت ممباسا، وأنا مبارك الهناوي.. هناك سؤال يتردد في شوارع ممباسا في هذه الأيام عن مسألة الانفصال، وهل سيشترك الشريط الساحلي وكينيا في المستقبل نفسه أمْ أنهما يسيران في مسارات مختلفة، فالساحل هو مكان للتبادل والتنوع، ليس حدودا يمكن فصلها أو السيطرة عليها، إنها دعوة ووعد وطن، نحاول إعطاء الإجابة الصحيحة على سؤال الانفصال، دعونا نذكر أنفسنا بما نحن عليه وما نريد أن نكون عليه في المستقبل”.
ينتهي الفيلم بصوت بيت العجائب متسائلا عما تبقى من حياة مبارك الهناوي وأفعاله، لكنه يجيب عن السؤال بنفسه مزكيا فكرة العالم الذي يحتفي بتنوعه كحفلة كرنفالية. إنها رسالة مبارك الهناوي ذاته وهي نفسها رسالة الفيلم، فالروح باقية هنا في الكل العظيم على الرغم من تغير وجهة التاريخ إلى مسار مختلف.