محمد هاشم عبد السلام
كاتب ومترجم مصري
على امتداد التاريخ البشري أثارت الكوميديا اهتمام المفكرين، من أفلاطون إلى فرويد. لكن، لم تحظ الكوميديا السينمائية تحديدًا باهتمام نظري كبير ودراسات فلسفية مُعمَّقة لجوانبها المُختلفة. إذ لم يجر التطرق مثلا إلى ماهية الكوميديا السينمائية تحديدًا، وأسباب جاذبيتها العريضة، أو تحبيذ بعض الأنواع ونجاحها دون غيرها؟ أو فض الاشتباك المعقد بين الكوميديا في السينما الصامتة والسينما الناطقة، وأيهما أهم وأنجح وأصدق، ولماذا؟ وهذا بدوره يتطلب تأمل العلاقة بين الكوميديا والكلمة المنطوقة؟ وطرح أسئلة كثيرة لا يزال يجتهد العديد من الباحثين والمتخصصين في الإجابة عليها للوقوف على سر سحر الكوميديا السينمائية، خاصة الصامتة، مقارنة بغيرها.
تفسير فسيولوجي
إن كان الضحك من السمات المشتركة بيننا كبشر وبين بعض المخلوقات، فإن المهارة المُكتسبة، على مدى تاريخ الإنسان، في إبداع وتوليد وتطوير الكوميديا وفنونها المُوَلِّدَة للضحك، بأشكالها ومُسمياتها المختلفة، من الأمور الفريدة فعلا لدى البشر دون سائر المخلوقات. ورغم التقلبات الفنية في الشكل والنوع والكيفية التي مرت بها الكوميديا على مدى قرون، في مختلف الوسائط الفنية، وباختلاف روادها من أريستوفانيس إلى نجوم ونجمات الكوميديا المرئية والمسموعة في عصرنا، إلا أن الكوميديا على تباينها لا تزال النوع الفني الأكثر اهتمامًا وإقبالا وتفضيلا لدى البشر مقارنة بغيرها من الأنواع الفنية. وهذا لأسباب عديدة لها علاقة وطيدة وقاطعة بكيمياء الجسم البشري نفسه، وما يفرزه من هرمونات، وكذلك حركة عضلاته، والشعور العام المُتولد والمُصاحب أو المُلازم لفعل الضحك.
من هنا، كان إقبال البشر على كافة أشكال الكوميديا الباعثة على الضحك، وأغلبها كان قائمًا بالأساس على الكلمة، خاصة المنطوقة. لكن، مع مرور الوقت والتطور، باتت أشكال الكوميديا أو الكثير منها، ورغم اختلافها، غير باعثة على الضحك أو عاجزة عن إثارته بسهولة. ولم يعد للكوميديا أهمية نابعة من قيمتها الفنية وعمقها الفلسفي ودورها التوعوي والتحريضي والتحفيزي كما كانت عليه في أوقات أوجها وتألقها. حتى مع اختراع أحدث الوسائط الفنية المرئية أوائل القرن الماضي، أي الصور المتحركة أو السينما، ونجاح الكوميديا في فترات مختلفة في بلوغ هذا الأوج أو تبوؤ ذروات غير مسبوقة، إلا أنها عانت في فترات أخرى من الضعف والتردي وعدم التفاعل، ولا تزال الكوميديا في عصرنا في حالة تخبط لتجديد الدماء واستعادة جاذبيتها وعمقها. ينطبق هذا بالأخص على الوسيط السينمائي أكثر من غيره. إذ إن الحالة الراهنة التي وصل إليها ”فن الكوميديا السينمائي“ من انحدار ودمار وربما اندثار، وحلول الكثير من أشكال الضحك الرخيص التافه المبتذل محله، كوجه أو كنمط من أنماط التطور أو العصرية، تؤكد، دون شك، أن هذا الفن الفلسفي الجميل الراقي يواجه مشكلة حقيقية أو أزمة عويصة فعلا تكاد تكون مستفحلة ومزمنة. ما سيؤثر، دون شك، على قدرة الإنسان على المدى الطويل ليس فقط على آلية إنتاج وإبداع الكوميديا، بل ربما أيضًا القدرة على الضحك في حد ذاته.
تساؤلات مشروعة
نظرًا لصعوبة الإجابة على جميع التساؤلات والاستفسارات السابقة الخاصة بفن الكوميديا، لا سيما في مجال السينما، نحاول تفسير وتحليل بعضها. وبالأخص المتعلق منها حول الاشتباك القائم بين الكوميديا في السينما الصامتة والناطقة، وأيهما أهم وأنجح، وهل فعلا أفسد دخول الصوت الكوميديا الصامتة وقضى عليها في النهاية؟ أكانت العلة مرتبطة بالتطور التكنولوجي، أو بالفقر الإبداعي أو بأن هذا النوع من الكوميديا تجاوزه الزمن، أو كان من الأصل ضد تاريخ الكوميديا نفسه، وبمثابة فترة شاذة تحمل عوامل فنائها داخلها؟
تساؤلات تدفعنا، أيضًا، لتأمل إن كانت علة ومُعضلة الأفلام الكوميدية كامنة أصلا في الصوت، بمعنى الكلمة أو النص المنطوق ذاته، مُقارنة بالأفلام الكوميدية غير الناطقة أو الصامتة. إذ يبدو من المُقارنة، ومُضاهاة الكوميديا الصامتة واللاحقة عليها حتى عصرنا الحالي، أن الأفلام الكوميدية الناطقة باتت أقل إضحاكًا بكثير مُقارنة بالصامتة. المُعتمدة في المقام الأول على إيماءات وتعبيرات الوجه والجسد، والقائمة أيضًا على المواقف الخرقاء، واللبس أو سوء الفهم والتقدير، وغيرها. من ناحية أخرى، هل كانت السينما الصامتة مُتحررة من حواجز اللغة، بكل ما فيها من مُفردات وسياقات واختلافات وصعوبات نطق وفهم وإحالات تشق، أحيانًا، حتى على أبناء اللغة الواحدة؟ وذلك، في مقابل سينما صامتة، بلا لغة، لا تزال تضحكنا وبقوة، وفي نفس الوقت تؤثر فينا، نفسيًا وإنسانيًا وأخلاقيًا، حتى وإن بدت موضوعاتها الآن بالية وساذجة وغير واقعية؟
الكلمة سبقت الصورة
المعروف تاريخيًا أن السينما وُلِدَت صامتة، قبل التطور التكنولوجي الذي أفضى إلى قدوم الصوت في السنوات الأخيرة من عشرينيات القرن الماضي. حقيقة لا جدال فيها. لكن، من بين النزاعات غير المحسومة حتى اللحظة فيما يتعلق بطبيعة انتقال الكوميديا كشكل فني كان قائمًا فعلا منذ قرون، سواء أكان هذا الوجود صامتًا أو مكتوبًا أو منطوقًا، إلى الوسيط الجديد أي السينما، أن الفضل فيه يرجع بالأساس إلى فن المسرح العريق. في حين يجادل البعض الآخر ويدفع بحجة مفادها أن أحد الفنون المظلومة، وهو فن كوميديا المهرجين أو رواد ”البلياتشو“ في ”السيرك“ أو غيره، وبتنويعاته المختلفة، كان هو الأصل الذي انتقل وأسهم لاحقًا في خلق ونمو وتطور فن الكوميديا السينمائي في العصر الصامت.
باختصار، التوجهان السابقان، المنحاز أحدهما إلى المسرح والآخر إلى فنون المهرجين، من بين أهم وأبرز التفسيرات حتى الآن في مجال الدراسات النقدية السينمائية حول تلك النقطة تحديدًا. إذ يؤكد البعض أن المرجعية الأصلية للكوميديا “الصامتة” في السينما والتي استمرت معها طيلة عقدين تقريبًا كان تاريخ المهرجين. وثمة من يسعى إلى تعريف الكوميديا الصامتة في عشرينيات القرن العشرين باعتبارها إعادة تفسير حديثة لتقاليد المهرجين. لكن، من ناحية أخرى، نجد أن أي أرضية مشتركة بين أقطاب التمثيل الصامت وأسلافهم غير السينمائيين، أي ”المهرجين“، هي في الغالب محض مُصادفة، ليس إلا. إذ تؤكد الدلائل أنه إذا كانت سينما الكوميديا الصامتة مجرد وسيلة جديدة لاستكشاف وإبراز التقاليد القائمة للتهريج، فكان من المتوقع أو الطبيعي أن يكون المهرجون الصامتون العظماء أو من أتوا من خلفية ”التهريج“، عمومًا، سواءً من السيرك أو غيره، هم رواد هذه السينما فعلا. لكن الحقيقة أن صناع الأفلام لم يرجعوا إلى تاريخ التهريج وفنون السيرك للحصول على الإلهام لأفلامهم، ولم يستقطبوا رواده للعمل في السينما الصامتة. وقطعًا لم يبرز منهم أي فنان كانت له الصدارة في عصر السينما الصامتة.
الثابت أن السينما الصامتة استقطبت الكوميديين من ”الفودفيل“ أكثر من أي مجال آخر. أي من تقليد الكوميديا الحية المسرحية التي كانت تعتمد بشكل كبير على الكلمة المنطوقة أو الكوميديا اللفظية، والاسكتشات الفكاهية، وأشكال أخرى من اللعب بالألفاظ. وأن المجال كان يُهيمن عليه تمامًا الكوميديون القادمون من ”الفودفيل“، وليس السيرك أو فنون التهريج. وكان أبرزهم شارلي شابلن وستان لوريل (بطل سلسلة لوريل وهاردي) وباستر كيتون وهاري لانجدون، وغيرهم. وهؤلاء كانوا نجومًا في المسرح قبل أن يصوروا إطارًا أو كادرًا واحدًا في السينما، ولم تكن عروضهم على المسرح صامتة. من ناحية أخرى، وتأكيدًا لنفس وجهة النظر، فإن نجوم الكوميديا البارزين الذين لم يأتوا من ”الفودفيل“، ولا من المسرح عمومًا، جاءوا مباشرة إلى السينما. مثلا، هارولد لويد، لم يبدأ حياته كمهرج ولم يعمل في السيرك من الأصل. ما يؤكد، في النهاية، على أن الكوميديا الصامتة في السينما لم تخرج من رحم السيرك أو فنون التهريج.
المؤكد أيضًا أنه بعيدًا عن الكوميديا الأدبية المكتوبة، فإن الأعمال الكوميدية عامة لم تكن صامتة بالأساس، اعتمد روادها على الكلمة المنطوقة أصلا لتقديم فنونهم ومواهبهم. ولم يستبعد رواد السينما الأوائل العظماء الحوار أو الكلام من أعمالهم، ولم يتخلوا عن الكلمات إلا عندما أجبرتهم تكنولوجيا السينما العقيمة على هذا. فعندما وجدوا أنفسهم أمام الكاميرات الصامتة، وفي ظل عدم وجود كلمة منطوقة للاعتماد عليها في الإضحاك وخلق الكوميديا، كان عليهم الارتجال والتكيف، ومن ثم الإبداع والابتكار والتحايل، بل وكان عليهم التخلي عن بعض مهارات الأداء التي اكتسبوها وصقلوها في مسرح ”الفودفيل“، أو تطويعها لتتناسب وقيود السينما الصامتة. وعلى مدى عقدين، كان هذا هو القانون السائد، وكان من الطبيعي أن يحقق البعض نجاحًا مذهلا ويخفق البعض الآخر. الغريب مثلا أن الإخوة ماركس قدموا أفلامًا كوميدية صامتة، لكن نهجهم الخاص في الكوميديا لم يتكيف مع الشكل الصامت بصورة جيدة، فلم يحبذ الجمهور أفلامهم كثيرًا. بينما تحققت شهرتهم لاحقًا عندما دخل الصوت إلى السينما، وتمكنوا فعلا من استخدام الكلمات وتوظيفها لصالح ما يقدمونه من كوميديا. أيضًا، هناك العديد من المخرجين مثل، ليو ماكاري وفرانك كابرا وإرنست لوبيتش، الذين بدأوا العمل في فترة الكوميديا الصامتة، لكنهم اشتهروا ونجحوا أكثر في فترة الكوميديا الناطقة.
بدورنا، ورغم ميلنا وانحيازنا أكثر إلى فنون وجماليات وكوميديا السينما الصامتة، نوضح أن الحقيقة التاريخية تفيد بأن وجود فترة الكوميديا الصامتة، بحد ذاتها، وهي عقدان تقريبًا في تاريخ السينما، يشكل شذوذًا ضمن سياق تاريخ فن الكوميديا إجمالا. وأنه، في الفترة التي سبقت ظهور أو اختراع الصور المتحركة، وتنفيذ الأفلام وانتشارها، كانت أشكال الكوميديا الموجودة في أي وسيط متمحورة حول الكلمات. وإن كان هذا لا ينفي بالطبع، أن الكثير من الممثلين أو الفنانين الذي عملوا تحديدًا في الأفلام الكوميدية تأثروا واستلهموا واستفادوا قطعًا، بوعي أو دون وعي، من فنون السيرك و“التهريج“، وحركات وسكنات المهرج، وتوظيفه للجسد، والمواقف المبنية على سوء الفهم والتقدير، أو ما يعرف بالمقالب. وبالطبع من المسرح عمومًا، ومن ”الفودفيل“ خصوصًا، والفقرات الفردية الساخرة، وغيرها الكثير. ما يؤكد، من ناحية أخرى، على ما يعرف بوحدة الفنون.
تحديات السينما الصامتة
إجمالا، أفضت التحديات المُتعلقة بانعدام الصوت، وانتفاء الحديث، أو التوظيف الدرامي للحوارات والجدال والنقاش، واللعب على الكلام والمُفردات، والمعنى المزدوج للكلمة ومدلولاتها، واستغلال سوء الفهم وغيرها، أفضت أو حتى دفعت السينمائيين في بدايات السينما إلى شحذ أكبر للخيال، وملكاتهم الإبداعية، وقدراتهم الفنية وإيجاد الحلول المُبتكرة لانتزاع أكبر قدر ممكن من الضحكات الأصيلة والصادقة والعميقة. في القلب من هذا، كان الاعتماد على التقنية، الفقيرة أصلا آنذاك، لخلق وتحقيق أقصى استفادة من دراما والمواقف المُقدمة. مثلا، الاعتماد على الكاميرا وحركتها، اقترابًا أو ابتعادًا. وتوظيف المُونتاج قدر الإمكان، لخلق الإيحاء بالمواقف المطلوبة والإيقاع وتفجير الكوميديا. وقبل هذا، وفي القلب منه، الاعتماد على المُمثل وتعبيراته، وحركاته وسكناته، وتصرفاته وسلوكياته، وخلجات وجهه بالكامل. وبالطبع، تكثيف الدراما لأقصى حد، والاستغناء عن أي ترهل درامي موجود.
إلا أن الركيزة الأساسية للأفلام الكوميدية الصامتة كانت قائمة أصلا على التفاعل مع الصورة المرئية بالأساس. وكيف أنه بسبب هذا التفاعل بات من المُؤكد أننا لو نظرنا إلى وجوه وإيماءات بعضنا البعض وفهمناها، فإننا لن نفهم ونستوعب ونضحك فقط، بل سنتعلم أيضًا أن نشعر بعواطف بعضنا البعض ونقدرها ونحترمها. في المُقابل، يبدو أن سيادة الحوارات في السينما الكوميدية الناطقة جاء على حساب الصورة المرئية، وأضعف من حساسيتها وقوتها وتفاعل الجمهور معها. الأدهى، بجانب عوامل ضعف فنية أخرى، إفساد عادة تفاعل الجمهور مع فنون الأداء الجسدي، أو تجسيد المواقف المضحكة، أو فهم المفارقة، والتعامل مع الصورة البصرية الخالصة واستيعابها بشكل عام. نلاحظ، مثلا، في الكثير جدًا من الأفلام العربية المعاصرة تحديدًا، أن الأمر لم يعد يتطلب بالضرورة مُتابعة أو مشاهدة ما يحدث على الشاشة لفهم واستيعاب الأحداث أو الفيلم إجمالا. إذ يكفينا فقط، في أغلب الأحوال، الاستماع إلى الحوار من بعيد، وليس حتى الإصغاء أو الإنصات. من هنا، نتساءل هل عندما نطقت الصورة، واستبدل الجمهور العين بالأذن، وبات الاعتماد أساسًا على الكلمات المنطوقة، ضعفت الكوميديا وابتذلت؟
هذا يجرنا إلى سؤال اللغة، عمومًا، المطروح سلفًا. كغيرها تعتمد الأفلام الكوميدية الناطقة على اللغة، والتي تتطلب أحيانًا ترجمات أو معرفة بلغة أجنبية، وأحيانًا التضلع بعوالم لغة وعاميتها، ليتسنى لك الفهم، ومن ثم، الضحك، إن أمكن. وحتى إن استطاع المُتفرج، بقدر من السهولة واليُسر، تخطي حواجز اللغة الأجنبية، فسوف يُواجه باختلاف اللهجات والثقافات والخلفيات والإحالات والمدلولات المرتبطة بهذه اللغة أو تلك. ما يعوق كثيرًا الإمساك بروح الدعابة أو السخرية في موقف أو مشهد أو حتى تسلسل مشهدي بأكمله. ليس معنى هذا بالطبع أن معظم الأفلام الكوميدية العالمية أو المحلية لا تصل بسهولة ويُسر، أو تستغلق على المرء ولا تضحكه أبدًا. بالعكس. لكن ليس في أغلب الأحوال أو بصفة دائمة. إذ إن الثقافة والتاريخ وطبيعة الكتابة واللغة واللهجة، بعيدًا عن أي فنيات، كلها لها دورها المُؤثر قطعًا في عملية التلقي والتفاعل. حتى في أوطاننا وثقافاتنا وبيئتنا المُشتركة في لغتها العربية الفصحى. الدليل، ثمة العديد من الأفلام العربية الكوميدية لم تصل إلى الجمهور على اختلافه، ولم تجذب شرائح عمرية مُتباينة. والكثير منها لم من يصمد في وجه الزمن، رغم الشعبية الجارفة وقت عرضها، وتحقيقها لأعلى الأرباح. ما يُعيدنا إلى ضرورة تأمل العلاقة بين اللغة والكوميديا، للوقوف على جانب واحد، من بين جوانب ومُعضلات كثيرة، تُعانيها الأفلام الكُوميدية الناطقة.
المُدهش فعلا فيما يتعلق ببقاء سينما شارلي شابلن وباستر كيتون وغيرهما حتى الآن، على سبيل المثال وليس الحصر، رغم انتفاء الكلمة المنطوقة واللغة، وعتاقة التقنيات السينمائية، وبدائية الأفلام وحتى خراقتها الدرامية، وربما سذاجتها أحيانًا، وأغلبها أمور ترجع أصلا لحداثة السينما نفسها وقتذاك، كونها قادرة وبشدة على انتزاع الضحكات العفوية الصادقة، ودفعنا للتماهي مع الأبطال والشخصيات، وتصديق مواقفها الكوميدية. والأدهى، انتفاء أي نوع من أنواع الملل جراء تكرار مُشاهدة هذه الأفلام أو إعادة لقطات بعينها، لدرجة حفظ بعض المشاهد أو التسلسلات عن ظهر قلب. والمُثير أنه كلما مر الزمن، وتعاقبت الأجيال، من مُختلف الأجناس والأعمار والألوان والثقافات، ازدادت أصالة هذه الأفلام الصامتة الساذجة البسيطة الصنعة، وتجلت قدرتها الرهيبة على الصمود ضد الزمن والنقد الفني، وقوتها على مُنافسة أحدث الإنتاجات الكوميدية. ما يستدعي مجددًا التساؤل، هل لهذا علاقة -إضافة إلى عوامل وفنيات أخرى تحببنا في هذه الأفلام- وطيدة بانتفاء حواجز اللغة ومعوقاتها، وبالتالي سهولة التلقي والتفاعل بمُنتهى السهولة واليُسر؟
الكوميديا السينمائية
من الأمور الغريبة أيضًا فيما يتعلق بشأن الكوميديا السينمائية الصامتة والناطقة أننا عند التقييم النقدي المتجرد والمنصف وغير المنحاز، نجد أن الكفة تميل بسهولة ناحية فترة الكوميديا الصامتة، في مقابل عقود ممتدة من الكوميديا الناطقة. رغم أنه، على مر السنين، ظهرت عدة أشكال من هذا النوع، وتطورت، وأفرزت فروعًا أخرى من الكوميديا. مثلا، الكوميديا الرومانسية، أو كوميديا المواقف أو المقالب، والكوميديا الموسيقية، وكوميديا أفلام العصابات، والكوميديا الديونيسية، والكوميديا السوداء، أيضًا. حتى على مستوى الجنس الفيلمي نفسه. إذ يوجد الفيلم الوثائقي الكوميدي الساخر، وأيضًا أفلام الرسوم المتحركة الكوميدية الساخرة. وهنا، نلاحظ أن السينما الناطقة سَخَّرَت كل طاقاتها للتوسع قدر الاستطاعة لاستغلال وخلق وابتكار نوعيات كوميدية غير موجودة أو مسبوقة على الشاشة، والتفنن في تقديمها كأنواع مستقلة بذاتها.
في حين أنه من صعلوك أو متشرد شابلن إلى المطاردات المتهورة ومخاطر ناطحات السحاب والقطارات عند باستر كيتون، لم يكن بإمكان السينما الصامتة التوسع في الأنواع الكوميدية المُقدمة بقدر محاولتها مُجابهة تحديات مرتبطة أكثر بإبداع وإنتاج كم وكيف جيدين ومقنعين وصادقين فعلا. وربما هذا من بين أسباب عديدة لبقاء وحضور أفلام السينما الصامتة ومتعتها البارزة حتى الآن. الأمر هنا ليس متعلقًا بتعدد وتباين وكثرة الأنواع السينمائية أو مسمياتها، ولا علاقة له بسحر الأبيض والأسود، أو بوجود الصوت من عدمه، أو المقارنة بين الماضي والحاضر، أو حنين لسينما غابرة ومناهضة لأخرى حاضرة، أو حتى احتفاء بـ”الماضي” وتقديسه كاشتياق لشيء ضائع أو غير مستعاد، أو ما يمكن أن نطلق عليه ”عبودية الحنين“ التي يقع الكثيرون في قبضتها كلما ازداد الواقع قسوة ووحشة وبشاعة. الدليل أن الأجيال الحديثة والمعاصرة، هي من بين أكثر المحبين أو حتى المغرمين بهذه الأفلام. يستوعبونها، ويضحكون عليها بصدق، دون أن يكون لهذا أي علاقة بعبودية حنينية لأوقات لم يعيشوها، وفترات يجهلونها تمامًا، ولا لأنواع سينمائية ولا كلمة منطوقة.
ضرورات عصر
بعد دخول الصوت، استمر شابلن وكيتون ولويد ولانجدون في صناعة الأفلام دون أن يتراجعوا. رغم الإجماع الجماهيري على أن أعمالهم الناطقة كانت ضعيفة لدرجة لا يمكن مقارنتها بأعظم وأجمل أعمالهم الصامتة. حتى وإن سلمنا بهذا الرأي، فلا يمكننا التسليم أبدًا بأن جودة هذه الأفلام كانت منخفضة فعلا، أو أنها لم تكن صادقة أو زائفة لدرجة لا يمكن مقارنتها بأعمالهم الصامتة. في الأساس، كانت هناك مجموعة من جماليات الكوميديا المرتبطة بالأفلام الصامتة سادت وشاعت في الربع الأول من القرن العشرين، لكن مجموعة مختلفة من جماليات الكوميديا المرتبطة بالأفلام الناطقة صارت سائدة وشائعة بداية من ثلاثينيات وأربعينيات القرن.
وهنا يبرز السؤال الجوهري حقًا: ماذا لو لم ينتشر الصوت أبدًا، أكانت الكوميديا الصامتة ستزدهر في الثلاثينيات والأربعينيات وحتى الآن؟
بعيدًا عن الجماليات والفنيات والتقنيات السينمائية البحتة، فإنه لأسباب عديدة لها علاقة بالتطورات التكنولوجية المتسارعة عالميًا، في شتى المجالات، وأيضًا الثورات والحروب والأزمات الاقتصادية، وما حدث من تغيرات اجتماعية حادة مصاحبة، كانت السنوات الذهبية لفترة السينما الكوميدية الصامتة سنوات راح فيها العالم يفقد براءته تدريجيًا. ونتيجة لهذه التغيرات الحادة والعنيفة والمتلاحقة بات من غير المعقول توقع أن الجمهور الذي عاش هذه التقلبات أو الأهوال يظل على رغباته نفسها، وتفضيلاته السابقة، وأذواقه المحبذة لنفس الأعمال الترفيهية، أو كونه من الأساس قادرًا على الضحك بسهولة ويسر، وعلى أي شيء، كما كان سابقًا.
وعليه، كان من الطبيعي ابتعاد أذواق الجمهور عن الكوميديا الصامتة، وما ألفته فيها، حتى قبل ظهور الصوت بقليل. وفي سياق متصل، لا يمكننا تجاهل حقيقة أن الكوميديين الصامتين العظماء كانوا يواجهون صعوبات كبيرة أيضًا. من الناحية التجارية البحتة، مثلا، كان هارولد لويد في حالة انهيار، ولم يعد يصنع فيلمًا صامتًا ومقبولًا على نطاق واسع. والآن، عندما يتحدث المؤرخون عن الصوت الذي قتل الكوميديا الصامتة، يقفز إلى الأذهان فورًا باستر كيتون، كدليل بارز. لكن إلى أي مدى يمكن إلقاء اللوم على الصوت؟ إذ إن دخول الصوت، بصفة عامة، لم يكن ضد سينما باستر كيتون كلية بقدر تضافر عوامل أخرى ضده، أبرزها سوء الحظ والتقدير. والمؤكد أن نجوم الكوميديا الصامتة الأربعة الكبار، تشابلن، وكيتون، ولانجدون، ولويد، صنعوا أفلامًا بميزانيات باهظة، وتجريبية، وشخصية، في نهايات عشرينيات القرن الماضي، وجرى استقبالها بطرق خيبت آمالهم وأحبطتهم. بعبارة أخرى، عزف الجمهور عن أفلام رواد الكوميديا الصامتة الذين أضحكوهم وقت أن كانوا في ذروة لياقتهم وقوتهم ومجدهم.
وعليه، سواء بسبب دخول الصوت أو لأسباب أخرى، لم يكن بالإمكان تخيل أن مستقبل الكوميديا الصامتة يبدو واعدًا أو مشرقًا. تغير المناخ الثقافي، تبدلت الأمزجة، واختلفت الأجيال، وبات العالم مكانًا مغايرًا، بحاجة إلى كوميديا جديدة ولأنواع مختلفة من الضحك. وكانت هناك بالفعل سلالة جديدة من الكوميديين، من السينما الصامتة أو من الوافدين الجدد، الذين جاءوا لتقديم تلك الكوميديا ولانتزاع الضحكات المرادة. بعبارة أخرى، بدت الكوميديا الصامتة مُتعَبَة ومُستنفدة ورجعية مقارنة بما تعد به الكوميديا الصوتية أو الناطقة. ولذا، لم يكن مستغربًا فعلا تراجع الكوميديا الصامتة. ففي النهاية، تحدث الجمهور بأمواله، وكان لزامًا على صناع الكوميديا الإنصات، والاستجابة الفورية، وإعادة مراجعة ما يُقدم باعتباره كوميديا سينمائية، حتى لو تطلب الأمر الانقلاب التام على الماضي، شكلا ومضمونًا.
خاتمة
طبعًا، ليس معنى التساؤلات السابقة مُعاداة دخول الصوت إلى السينما، أو مُناداة بالتخلص من اللغة في الأفلام الكوميدية، أو ضرورة العودة إلى جماليات وفنيات السينما الصامتة. الأسئلة المطروحة هي فقط مُجرد مُحاولة للرصد والتأمل وإثارة النقاش حول السينما الصامتة وأفلامها، ونشأتها وتطورها وانتهائها، والتأكيد على إعجابنا واستمتاعنا بها حتى الآن، وقدرتها المستمرة على انتزاع ضحكاتنا الصادقة. ما يعني أننا كبشر ضاحكين لا نزال قادرين على الضحك، ولم نفقد بعد القدرة على التفاعل وما هو كوميدي. وأن السينما، بدورها، قادرة على إضحاكنا. وبالتالي، فإن العيب ليس فينا، ولا في قدرتنا وقابليتنا وتفاعلنا مع السينما، وإنما مع نوعية وكيفية وفنية الكوميديا المُقدمة بالأساس، بعيدًا عن أي صعوبات أو معوقات أخرى.