1- إنني حاول الان أن أضع خلاصة دراساتي وتجاربي في النقد وحوله في مشروع نظري واحد مترابط الأجزاء، يتناول طبيعة العمل الأبي, وطبيعة العملية النقدية، وخصائص لغة الادب، وعلاقة الادب بالإبداع الحضاري. على هاش النقد.(1993)
2- أما ما لا يستطيع الكتاب ان يقدمه اليك فلعل أهم ما يعنيك منه مذهب أدبي تستطيع
ان تتبناه وتقول إنه مذهبك… ولا شك انك ترى لماذا يستطيع هذا الكتاب أن يقدم مثل
هذا المذهب، فالكاتب الذي يظل دائما أبدا في حوار مع نفسه، لا يجيب عن سؤال إلا ظهر له
عشرون سؤالا. تجارب في الأدب والنقد. (1968)
لا أظن دارسا جادا للأدب او النقد في الوطن العربي اليوم بحاجة للتذكير بأهمية ناقد مثل شكري عياد رحمه الله. لكن الوعي بالأهمية يظل مبهما عائما في الغالب ما لم يدعمه استكشاف لجوانب تلك الأهمية وابراز لها، تماما كما هو الحال مع أية شخصية أو ظاهرة أو عمل من الأعمال. ومع أن جهودا بذلت أو تبذل حاليا لتحقيق الاستكشاف المشار اليه، لكني على يقين من أن مساحة واسعة ما تزال ممتدة أمامنا، وستظل ممتدة زمنا طويلا، لتحقيق المزيد من تلك الاستكشافات (6) وورقتي هذه لا تعدو أن تكون اسهاما صغيرا في مل ء تلك المساحة التي وجدتها تمتد في نفسي قبل ان تمتد في خارطة الثقافة العربية المعاصرة، فعلى الرغم من معرفتي لعياد بشخصه ومن خلال كتبه، فقد ظللت بعيدا عن ادراك أهميته الحقيقية حتى أتيح لي أن أمضي بعض الوقت في قراءة أكثر تمعنا لأعماله فأحقق لنفسي قدرا من المعرفة بانجازاته أكبر مما كان لدي، وعلى النحو الذي أحاول هنا أن أنقله لغيري من دارسي الأدب العربي ونقده، بل الثقافة العربية بأكملها، دعما للحوار لا حول أعمال عياد فحسب، وانما حول النقد العربي الحديث وسياقه الثقافي الكبير ايضا. فالذين عرفوا ويعرفون عيادا وأعماله أكثر مني سيظلون بحاجة الى التأمل في المسائل التي تثيرها كتاباته ومواقفه النقدية، بل إن قيمة المعرفة الشخصية هنا هي في مدى تعمقها في فكر الناقد وحساسيته الأدبية، لا سيما حين يكون الناقد بحجم شكري عياد الذي لا أظنني أبالغ ان قلت ان اعماله تمثل انعطافة مهمة في تاريخ النقد العربي المعاصر.
الانعطافة التي أشير اليها هي ما سعيت الى الايحاء به من خلال عبارة "قلق التأصيل" في عنوان هذه الورقة. فهنا يبرز ما أرى انه السمة او التوجه الاهم في الجهود النقدية التي شغلت الدكتور شكري عياد معظم سني نشاطه وتقوم عليها، في تقديري، قيمته الحقيقية كناقد عربي كبير. ومع ان من المنطقي ان يكون مفهوم التأصيل مدخلا لما تطرحه الورقة، لما يتضمنه المفهوم من التباس، فاني أؤثر ان ادخل من الشق الاول من العنوان، ذلك الذي يشير الى متن النقد وهامشه، وسيتضح ان مفهوم التأصيل وما كتبه عياد حوله متصل اتصالا مباشرا بالشق الأول من العنوان
هنا أشير الى مسارين رئيسيين، وربما اسميناهما.
شخصيتين، بدا لي انهما تتجاذبان كتابات شكري عياد وتوجهاتها وان لم تفصلها فصلا حادا: المسار الاول هو مسار الناقد الاكاديمي العالم والمعلم في الوقت نفسه، الناقد الذي سعى الى تأسيس "نظرية نقدية عربية ضمن محاولته دمج الاسلوبية القادمة من الغرب في البلاغة العربية القديمة للخروج بتوليفة نظرية مميزة، وتأصيل النقد الأدبي في العالم العربي على هذا الاساس. وهذه المحاولات معروفة للجميع حيث ظهرت في مجموعة من الكتب منها مدخل الى علم الأسلوب (1982)، واللغة والابداع: مبادئ علم الاسلوب العربي (1988)، وهي كتب ذات طابع تأسيسي، كما يتضح من عناوينها.
أما المسار الآخر فهو مسار الناقد الذي أسماه هو بالناقد "الخروجي" وقصد به الناقد المتمرد على السائد، وذلك في معرض حديثه عما يثار أحيانا حول امكانية وجود نظرية عربية في النقد، ضمن أحد أحدث كتبه وهو على هامش النقد. (1993) يقول عياد إن النظريات لا توضع وضعا، وانما هي فكر جديد ينبثق ثم يوصف فيما بعد بأنه نظرية، مضيفا ان هذا الفكر يصنعه "الخروجيون، أي الخارجون على النظم السائدة من اجل اكتشافات الحقيقة (ص 28). كما عبر عياد عن المسار نفسه في بعض مقدمات كتبه المقالية، مثل الرؤيا المقيدة وتجارب في الأدب والنقد، كما في اشارته في الكتاب الأول الى التصور او النظرية التي صدرت عنها المقالات ثم تشكيكه بعد ذلك في الحفاظ على التصور: "بل اني لن اعجب اذا وجدت في هذه الدراسات ما يناقض النظرية التي أوضحتها لك.
كما أن من الأمثلة التي توضح الاختلاف بين المسارين ما يرد في الاقتباسين الواردين في مستهل هذه الورقة، اذ يؤكد الاول سعيه رحمه الله – في أو أخر مشواره النقدي الى الخروج بنظرية متماسكة تلم شتات آرائه وقراءاته، ويشير الثاني، وهو من بداياته النقدية، الى صعوبة الوصول الى هذه النظرية. ومع أن الاقتباس الاول من كتاب حديث والثاني من كتاب قديم، فان الشواهد كثيرة في أعمال عياد على قدم المحاولة التأسيسية، وحداثة الوعي بصعوبتها ومن ثم التخلي عنها. وسأشير الى بعض تلك الشواهد فيما يلي.
لكن من الضروري في البدء أن اقول أن المسارين ليسا بالانفصال الحاد الذي قد يبدو، فكلاهما ينبعان من النبع نفسه، ليسيرا الى مصب واحد، فهما يعبران عن الطموح نفسه، أي طموح التأصيل. والشواهد كثيرة على التداخل، ومنها ان عيادا في المسار الاول، أي في خضم محاولته التأسيسية لم يخل من شك وحيرة ازاء امكانيات ذلك التأسيس النظري، بامكانية الوصول الى صيغة علمية للنقد الأدبي، بينما هو في الثاني ناقد لا يخلو من اليقين بامكانيات التنظير والتأسيس، بل انه وضع بالفعل مبادئ او أصولا لذلك التنظير العلمي. التداخل بين المسارين بين اذن لكنه لا يلغي وجودهما، ومن اوضح الدلائل على التمايز بينهما ان الكتب التي تحمل امكانيات النقد "الشمولي"، كما سأسميه لتوضيح توجهه الشامل، هي دراسات متصلة ببعضها البعض وتشير بوضوح الى التأصيل أو التأسيس كهدف معلن، ومن اوائل النماذج لذلك دراسته للقمة القصيرة في مصر التي وصفها "دراسة تأصيلية في فن أدبي"(1968)، وقد سبقتها وارهصت لها اطروحته للدكتوراه حول كتاب فن الشعر لأرسطو، ثم درا سته "البطل في الأدب والاساطير"(1959) وان لم تشر الى ذلك الهدف، لكن الاعمال التي تلت جاءت أكثر وضوحا، فالناقد الشمولي العالم هو الذي انتج مدخل الى علم الاسلوب (1982)، دائرة الابداع: مقدمة في أصول النقد
اللغة والابداع: مبادئ علم الاسلوب العربي (1988)، ثم المذاهب الادبية والنقدية عند العرب والغربيين (1993). في مقابل هذه السلسلة تقوم أمامنا مجموعة أخرى من الاعمال التي من شأنها ان تكرس السير في اتجاه مغاير، لعل ابرزها تجارب في الأدب والنقد (1967)، الادب في عالم متغير(1971)، الرؤيا المقيدة: دراسات في التفسير الحضاري للأدب (1978)، على هامش النقد (1993)، وهذه مجموعة يربطها عاملان رئيسيان: عامل مضموني، كما ذكرت قبل قليل، يتصل بالوعي بأن العملية النقدية عملية ناقصة وقلقة سواء في فامشيتها اوفي تقييدها اوفي سمتها التجريبية؟ وعامل شكلي يتمثل في السمة المقالية لمادتها.
الفرق بين هذين المسارين هو الفرق بين اسلوبين في تحقيق الأصالة، او التفرد الذي يتسم بالمواءمة بين المحلي والوافد وبين الذات وهذين العاملين معا، كما انه الفرق بين اسلوبين في التعبير عن القلق الملازم لتحقيق الاصالة: هل الاصالة هي في اثارة الاسئلة وتفعيل القلق والابتعاد عن المواقف الواثقة، أم هي في الركون الى التنظير والتأسيس ووضع القواعد العلمية الواضحة، في ظني ان ابلغ الشواهد على قلق التأصيل لدى عياد في هذا الانقسام او التنوع في المسارات وفي طبيعة البحث. في الاعمال ذات المنزع العلمي او العلموي، يتأسس العمل على الطبيعة العلمية للنقد الادبي، ومع ان هذه العلمية كامنة غالبا، فان المهم هو القناعة بامكانية تحققها. التصور العام الذي وضعه عياد لاعماله في مرحلة متأخرة من عمله هو المفسر لهذه القناعة العلموية، او ذات المفزع العلمي: انني أحاول الآن ان أضع خلاصة دراساتي وتجاربي في النقد وحوله في مشروع نظري واحد مترابط الاجزاء، يتناول طبيعة العمل الأدبي، وطبيعة العملية النقدية، وخصائص لغة الأدب، وعلاقة الادب بالابداع الحضاري". ترابط أجزاء المشروع هو من سمات علميته، لا سيما انه يتمحور حول "علوم الادب الاساسية: نظرية الأدب وعلم الاسلوب وتاريخ الأدب" وانه يسعى الى ربط هذه العلوم بالعلوم الانسانية من ناحية، وبالآثار الأدبية الكبرى من ناحية ثانية. فمن سمات العلم تماسكه العضوي وافضاء اجزائه الى بعضها البعض بوصفها كلا واحدا في جوهره (على هامش النقد، 151-150).
هذه القناعة الأساسية تتضح في أجلى صورها في مرحلة تبني عياد للاسلوبية محاولا الافادة من انضباط منهجها "العلمي" في نشاطه النقدي. يقول: "اذا اعطينا البحث الاسلوبي في عمومه اسم العلم ومكانته فلن نكون مسرفين، على اعتبار ان "اعلم الاسلوب"، يدرس الامكانيات التعبيرية للغة، أي الوسائل التي يملكها الجهاز اللغوي نفسه لأداء معان تتجاوز الاغراض الاولية للكلام. (اللغة والابداع: مبادئ علم الاسلوب العربي، 5)وكان في كتاب سابق أعده كمدخل للدراسة الاسلوبية قد أكد ان"النقد الأدبي في طريقه الى ان يصبح- بدوره علما"، وانه "يحاول أن ينشئ في ثقافتنا العربية علما جديدا مستمدا من تراثها اللغوي والادبي"(مدخل الى علم الاسلوب، 7،41). والواقع ان هذه القناعة بعلمية النقد، سواء كانت علمية كامنة أم متحققة، تعود الى بداية عياد كباحث جامعي، فقد انطلق منها في اطروحته الشهيرة للدكتوراة حول كتاب ارسطو فن الشعر(2) ثم في دراسته لموسيقى الشعر العربي(1968).
غير أن عياد الذي كان ينطلق في بحثه من علمية التحقيق والبحث والتقعيا، أي من الشخصية الواثقة الواضحة في توجهها، كان نفسه الذي ينطلق في مكان آخر من قناعة مغايرة تماما حين ابتدأ في كتابة مقالات متناثرة بتوقيع "هاو" بما تحمله الهواية من بعد عن الانتماء والحرفية والعمل الواثق الدقيق، ففي مقدمة الطبعة الاولي من تجارب في الأدب والنقد (1967) نجده يفرق بين الاحتراف والهواية مؤكدا أهمية التوجه الاول، ومعلنا في الوقت نفسه ان وصفه بناقد هاو وصف "حبيب اليه جدا"، لانه يخرج به من حرفية التعليم الى الاقبال على كل ما عداه "بشغف الهاوي". فهو يرى نفسه موزعا بين المعلم المحترف اضطرارا والهاوي غير الملتزم: "فالانسان الواحد تكفيه حرفة واحدة. وبما ان حرفة الكاتب الاصلية هي التعليم، فسيظل كل شيء آخر بالنسبة اليه هواية ".(7) وهو من هذه الهوية المتأبية على انضباط العلمية يقدم كتابا هو في جوهره "نوع من المعاناة الفكرية لقضايا أدبية عامة" وأعمالا لم يخترها وانما "عرفها كما تعرف أصدقاءك، بمزيج من الاختيار والمصادفة". والكتاب بصفته هذه ليس محل البحث عن مذاهب أدبية يلتزم بها الناقد.
وأما ما لا يقدمه اليك هذا الكتاب فلعل اهم ما يعنيك منه مذهب أدبي. تستطيع ان تتبناه وتقول انه مذهبك، لتنطق باسمه في الندوات، وتنصب الموازين لأعمالنا الأدبية، ولا شك انك ترى لماذا لا يستطيع هذا الكتاب أن يقدم مثل هذا المذهب، فالكاتب الذي يظل دائما ابدا في حوار مع نفسه، لا يجيب عن سؤال الا طلع عليه عشرون سؤالا، مثل هذا الكاتب قد يكون صاحب تفكير ولكنه ليس صاحب مذهب، قصاراه ان يجعلك تفكر معه او تفكر ضده. واذا شئت ان تتمذهب بعد ذلك فهذا شأنك(7-8). هذا الصوت النقدي المتشكك وغير الملتزم بمذهب هو الذي يعود بعدما يقارب الثلاثين عاما ليؤكد ان "آفة النقد المعاصر هي انه يحاول ان يتشبه بالعلوم الطبيعية، ان يكتشف "قوانين" للأدب، مثل القوانين الطبيعية (على هامش النقد، 33)، ومع انه يطرح التساؤل الهام عما اذا كان "نموذج العلوم الطبيعية هو النموذج الوحيد لما نسميه العلوم؟"- مما يعني ان من الممكن تصور علمية مغايرة لعلمية العلوم الطبيعية – فانه يؤكد في الوقت ذاته اعتراضه في كل الحالات على "محاولة النقد الأدبي التوصل الى قوانين ثابتة للفن القولي". ويضرب لذلك امثلة من السيميوطيقا والبنيوية، مكررا نغمته الساخرة من المتذهبين التي سمعناها قبل قليل في مقدمة الكتاب الاقدم، تجارب في الأدب والنقد. بل ان امثلته تصل الى الاسلوبية كأنه لم يشغل بها زمنا. طويلا في الفترة الممتدة بين الكتابين: "ولكننا نقرأ ونسمع كلمات جديدة مثل: البنيوية والاسلوبية والتفكيكية والشكلا نية، وتوابعها من اجرائية ومحاور رأسية وأفقية… الخ ". والاعتراض هنا هو على ان هذه المذاهب العلموية، او التي تدعي صبغة العلوم الطبيعية، أدت الى زيادة "اغتراب النقد عن الأدب الابداعي واغتراب كليهما عن القارئ الذكي"(على هامش النقد، 127) المقالة التي يرد فيها النقد المشار اليه هنا تتركز على البنيوية التي يرى فيها عياد انموذجا لسعي الحضارة الغربية لتحقيق الثبات على الرغم من استحالته على النشاط الانساني (41). ثم نجده يواصل نقده للتوجه نفسه في مقالة تحمل السؤال الجذري "لمن يكتب النقاد؟" يتناول فيها، وبنغمة يمتزج فيها الاعجاب بالاشفاق، محاولة أحد النقاد العرب تعريب البنيوية، او الوصول الى صيغة عربية لهذا المذهب الغربي. لكن محاولة هذا الناقد، الذي يصفه بـ "أحد رسل البنيوية في العالم العربي"، لم توفق لانه حاول الاحتفاظ ببعض المفاهيم والقيم التي رفضتها البنيوية من حيث هي مفاهيم وقيم ميتافيزيقية او متصلة بالميتافيزيقا: هدم صاحبنا، دون ان يدري، فكرة البنيوية من اساسها، لانه ألزمها فكرة المطلق، وهي حين حصرت نفسها في الشكل لم يبق لها سبيل الى المطلق الا ان يكون المطلق هو الشكل نفسه، فيكون للشكل عندئذ معنى ميتافيزيقي بعيد عن طبيعة العلم التجريبي الذي تحاوله.. فأولى به اذن ان ينفض يده من تعريب البنيوية، فقد أبت البنيوية ان تتعرب. (على هامش النقد 133) (3).
لم يشر عياد الى ان التعريب تحد لا يواجه البنيوية وحدها، وانما يواجهه ايضا المذهب الذي سعى هو الى تعريبه، أي الاسلوبية، ضمن غيره من المذاهب القادمة من الغرب. ومع ان الناقد يبدو هنا كأنه تخلى عن مسعاه الاسلوبي، مع ان نقده للبنيوية يقوم على معايير وحجج تشمل كل او معظم المذاهب الاخري، فانه يبدو أحيانا كأنما يترك مكانا لتوجهه هو- أو ما يوازي توجهه في التأصيل النقدي. فهو يخبر أديبا شابا جاء ليحاوره بأن استعارة المذاهب الغربية مع التصرف بها يجعلها "ملكا لنا، بقدر ما نجري فيها من تعديل او تحوير"…(على هامش النقد، 123- 124). لكن المحصلة العامة هي ان عياد لم يسر على وجهة واحدة، ولم ينصرف كليا الي مشروعه الأسلوبي رغم تحمسه له، ولم يبتعد تماما عنه على الرغم من شكه في امكانية تحقيقه. لقد سار في وجهة اتسمت بالقلق ما بين الرغبة في التأصيل النظري والشك في امكانياته، ولكن الصورة لن تتضح الا بالوقوف على ما قصده عياد بالتأصيل. فما الذي قصده عياد بهذا المفهوم؟
الاسئلة التي يواجهها عياد هنا هي الاسئلة الاساسية: ما هو الاصل، وما هو الأصيل، ثم ما هو التأصيل وكيف يتم؟ الى آخر ذلك من اسئلة جوهرية. وعياد في معالجته لمفردة "التأصيل"، بل ضمن سيره في سبيل التأصيل، وهو واع تماما بالتباس العبارة، يتوقف امام الظلال الدلالية للمفردة ومشتقاتها وقفات تتكرر على مدى عقدين من انشغاله النقدي. غير ان ثمة ما يشير الى ان لاهتمامه هذا ارهاصات تعود الى بداياته النقدية. فهو يتحدث عن مفاهيم تتصل "التأصيل"، كما يركب دلالاته ويوضحها فيما بعد، مثل "التحيز"، والاختلاف الحضاري" وما اليهما. هذا بالاضافة الى انه قبل هذه المرحلة، أي في بواكير كتاباته النقدية، يتحدث عن ارتباط الأدب بسياقه الاجتماعي، ضمن توجه يساري مبكر وعلى نحو يتصل ايضا بتلك المفردة.
يأتي التناول الرئيسي الاول لـ"التأصيل" في مقالة تحمل المفردة نفسها عنوانا ضمن كتاب
"الأدب في عالم متغير"(1971)، بعد اشارة عرضية وردت في المقالة التي تسبقها من الكتاب نفسه تتحدث عن "أدبنا بين التغير والاستمرار". في مقالة "عن التأصيل (1969)" يبدأ عياد من حيث يكون البدء عادة في تحديد المفاهيم، أي من البحث عن اصل الكلمة في المعاجم العربية، لكن المعنى المقصود للتأصيل، وهو" أن يجعل للشيء الجديد أصل، او يناط بأصل، او يرد الى أصل"، جديد على العربية. ثم يتضح في الخطوة التالية ان المعنى ليس مصطلحا اوروبيا ايضا، وان اقرب المفردات الاوروبية هما acculturation j assimilation اللتان تعنيان "اقتباس الحضارة الأقوى من قبل الحضارة الاضعف "مما يجعلهما "تعكسان عصر الاستعمار" (ص21). ثم يشير بعد ذلك الى مفهوم وظيفي للتغير الحضاري كرسته الانثروبولوجيا، مفهوم خال من "القيمة" حيث إنه ينظر للحضارات على قدم المساواة.
يناقش عياد ما امامه من مفاهيم وفي ذهنه كتاب او نقاد يأخذون بهذا الاتجاه او ذاك في دراسة الحضارة، فهؤلاء ينقسمون في تقديره الى فريقين، يتبنى احدهما مفهوم التكيف والتمثل، بينما يتبنى الآخر المفهوم الوظيفي في الانثروبولوجيا. يبدو اصحاب الفريق الاول "موقنين ان الحضارة الغربية هي وحدها القيمة، وانها المقياس الذي ينسب اليه مدى "التحضر"، بينما يبدو "اصحاب الاتجاه الثاني منكرين لمعنى القيمة نفسه في دراسة الحضارة " (22). وهذا يعطي عياد مدخله الملائم لتحديد الدلالة الحقيقية _"التأصيل "، الدلالة التي لا تأتي على شكل تعريف جامع محدد، بقدر ما تأتي على شكل دلالة تتجمع من جملة اشارات لعل اوضحها اشارته الى الحاجة الى اعادة صياغة العلوم الغربية على نحو يستجيب لاحتياجاتنا كأصحاب ثقافة عربية مغايرة في سياقها للثقافة الغربية:
ما أحوجنا الى انسان عربي عالم يكتب لنا تاريخا نقديا لعلم الانثروبولوجيا عند الغربيين، ثم ما احوجنا بعد ذلك الى انثروبولوجيا عربية خالية من انعكاسات الاستعمار في عنفوانه او اضمحلاله: انثروبولوجيا تعرف للحضارات قيما بنسبتها الى التقدم البشري، لا التقدم المادي فحسب بل التقدم الروحي ايضا، انثر بولوجيا تبحث "التأصيل ولا تبحث "التكيف ". حين تدرس التقاء الحضارات (22).
هنا تسير دلالة التأصيل في اتجاهين: نقد الثقافة الوافدة، واستبدال معطيات تلك الثقافة بمعطيات نابعة من قيم حضارية ذاتية، مما يجعل التأصيل يتحدد بوصفه عملية انتاج حضاري تنتقد وتقوم، أو بدقة اكبر عملية "اعادة انتاج حضاري" تكون بديلا للتكيف والتمثل اللذين لا يعدوان ان يكونا نوعا من مواءمة الذات لكي تنسجم مع متطلبات الثقافة الوافدة.
بعد هذا التحديد الاساسي يمضي عياد ليؤطر مفهوم التأصيل بعاملين مهمين: الاول يتعلق بالموقف من الآخر، والثاني بالموقف من الذات. فهو يؤكد اولا ان التأصيل ليس عملية تدير ظهرها للآخر، بل إنها عملية تلاقح لم تكن لتقوم لولا وجود ذلك الآخر: "ان فكرة التأصيل لا تولي ظهرها للثقافة الغربية بل انها ما كانت لتوجد لولا لقاؤنا بهذه الحضارة" (26). لكن مثلما ان اللقاء بالحضارة الوافدة لا يدفع نحو رفضها، ليس من الممكن ان يؤدي القبول بالتفاعل معها الى القبول بكل ما فيها. واذا كان هذا الموقف البيني مألوفا في حديثنا عن الموقف من الثقافة الغربية، فان عياد ما يلبث ان يخالف المألوف بخروجه عن الموقف السهل الشائع والقائل بأن نأخذ الجيد ونترك الرديء، كما لوان العملية لا تعدو ان تكون اختيارا لاطايب الطعام من مائدة عامرة. بدلا من ذلك يطرح عياد رؤية مركبة تتضمن إنه لا مناص من أن يكتنف اللقاء بالحضارة الوافدة اخطاء وتناقضات تجعل التناقض نتيجة حتمية ينبغي القبول بها: "أوقد لا تستطيع الحضارة العربية الحديثة ان تنهض وتعيش في مجتمع الامم اليوم الا اذا قبلت في رحابها بعض المتناقضات، واستطاعت ان تصقلها بطريققها الخاصة". هذه الطريقة الخاصة هي التأصيل اذ ينبع من الحضارة وهي تكتسب "خصائصها المميزة… من التاريخ القومي" (23).
تعريف الاصالة بوصفها تنبع، في احد جوانبها، من التفاعل النقدي مع الثقافة الغربية، هو ما يمنح التعريف نفسه موقعا اصيلا بجعله ينبعث من مشكلات الثقافة العربية ويعبر عن اشكالياتها وموقعها التاريخي. ففي بعض جوانبه يبدو تناول عياد لمفهوم التأصيل متأثرا بمقولة اليوت عن التراث والموهبة الفردية في المقالة المشهورة للناقد الغربي حول الموضوع. فإليوت يرى ان الموهبة الادبية الجديدة لابد ان تنبع من مواجهة التقليد، او الثقافة المتوارثة. فهي مواجهة حتمية تحتاجها الموهبة لتجد لنفسها موقعا، او لتؤصل نفسها بمفهوم عياد. وهي على هذا الاساس تتفاعل مع الموروث حسب قوتها: الموهبة القوية لا تكتفي بالتأثر بالماضي وانما تعيد صياغته حين تحفر لنفسها مكانا في بنائه الضخم. لكن اليوت الذي يتحدث من موقع التفوق الحضاري غير معني بثقافة أخرى في اكتساب اصالته، وهو حين يتحدث عن ثقافات شرقية كالهندية لا يتحدث عنها كحضور حتمي في نسيج التراث الغربي، بينما تمثل الثقافة الاخري، و هي هنا الثقافة الغربية،. حضورا طاغيا بالنسبة لناقد عربي كعياد، وما العلاقة بين مفهومه للتأصيل ومفهوم إليوت للعلاقة بين الموهبة والتراث الا أحد وجوه ذلك الحضور.(4)
من جوانب الاختلاف بين عياد واليوت ايضا تأكيد الناقد العربي على حتمية التناقضات في التفاعل الحضاري والحاجة الى القبول بها، في مقابل قناعة اليوت بترابط البناء الكلي للثقافة الاوروبية و موقفه المترفع ازاء الثقافات الاخري "(لكل الأدب الاوروبي منذ هوميروس… وجود متزامن، ويؤلف نظاما متزامنا(ه). "لكن الاهم من ذلك فيما يخص بحثنا هنا هو دلالة التناقضات على طبيعة المسعى او المشروع التأصيلي الذي اتسمت به جهود عياد النقدية، ففي القبول بالتناقض مؤشر على موقف قلق يجعل التأصيل هدفا يصعب الوصول اليه بدلا من ان يكون سهل التناول، وفي تصوري ان جزءا من أهمية النقد الذي تركه عياد موفي هذا القلق الذي تتسع شواهده لتشمل الكثير من اعمال الناقد وعلى فترات متباعدة نسبيا. ذلك ان لهذا القلق دلالة على الوعي بأن الاشكالية الحضارية التي تواجهها الشعوب العربية عقد من ان تحل بتوليفة سهلة، او ان الحل عندما سيأتي سيكون الحل الامثل. ومن ذلك التفاعل الادبي والنقدي مع معطيات الحضارة الغربية. فتأصيل أي من تلك المعطيات لابد اولا ان يمر بالوعي باختلافها، أي بما تتضمنه من "موقف" حضاري خاص قد يتضمن تناقضاته الخاصة، تماما مثلما هو الحال في الموقف الحضاري العربي الناتج عن ذلك التفاعل.
في كتابه "تجارب في الأدب والنقد" يعبر عياد عن رؤية مبكرة لطبيعة الاختلاف الحضاري الذي لابد للعملية التي عبر عنها فيما بعد بـ"التأصيل" ان تنطلق منها، فهو يقول إن:
هذه المذاهب التي تطور في ظلها "علم الصناعة الادبية" من كلاسيكية ورومانسية وواقعية ورمزية… الخ. هي أصداء لنظرة معينة الى الحياة، نظرة تصيبها اختلافات الزمان والمكان بكثير من التغيير والتبديل، ويخضعها قانون رد الفعل احيانا لما يشبه التناقض، ولكن الاصداء المختلفة تلتقي اخيرا فتكون نظر حياة وتكشف عن روح حضارة. فهل يمكننا ان نستعير القواعد التي وضعتها هذه المذاهب دون ان نستعير النظرة التي بنيت عليها المذاهب نفسها، وهي نظرة قد لا توافق كياننا النفسي ولا تلائم اتجاه حضارتنا؟ (ص 18).
هنا يرسم عياد ملامح التحدي الذي كان عليه ان يواجهه في قادم عمله، ومعه في ذلك جانب كبير من النقد العربي، بل من الثقافة العربية المعاصرة ككل: كيف يمكن ان نستعير ما لدى الغرب من مذاهب دون استعارة النظرة التي بنيت تلك المذاهب عليها؟ اقول" جانب كبير" لأن ثمة اختلافا بين عياد، او الخط الذي يمثله في النقد والثقافة العربية ككل، وبين خطوط أخرى، يتضح في مسألتي الكيان النفسي والاتجاه الحضاري الذي يرى عياد انهما قد لا يتفقان مع النظرة التي تنطوي عليها المذاهب الغربية. فعياد ينطلق بهذا المعنى ضمن خط يشمل الكثيرين غيره من المنتمين الى الثقافة العربية، اذ انه يدعو بشكل عام التجديد والانفتاح مع تمسك واضح بقيم ومبادئ تقربه تارة من هذا الاتجاه لتبعده تارة أخرى عنه نحو اتجاه آخر. وهو في هذا الاتجاه يبتعد بشكل واضح عن المسارات الليبرالية الحداثية او التنويرية (بالمفهوم الاوروبي للتنوير)، المسارات التي لا ترى تكوين الحضارة العربية او اتجاهها من الزاوية التي يردها عياد، وانما من زاوية أكثر تصالحا مع" النظرة التي بنيت عليها المذاهب" نفسها. ويمكننا تبين بعض معالم رؤية عياد في مقدمته للطبعة الثانية من تجارب في الأدب والنقد (1994) حيث يصف منطلقاته حين ابتدأ نشر مقالاته الاولي مما سيبدو خليطا متنافرا من المبادئ والقيم:
كنت منذ أوا خر الاربعينات اتطلع الى التغيير وأميل الى الاشتراكية (وقد قرأت صدرا لا بأس به من كتابات ماركس ولينين وستالين) وكنت رغم وطنيتي المصرية الضيقة أعشق شعر المتنبي. واعتقد اني كنت بجانب ذلك كله مسلما صحيح الايمان، فلم يكن قلبي ليطاوعني، مهما عربد الفكر، على التجديف في آيات الله.(ص 5). في الفترة اللاحقة لهذا الوصف لا نجد ما يبرر القول ان هذه العناصر قد اختفت، وانما قد نجد ما يبرر القول انها اتخذت هيئة مغايرة وتفاوتت نسب حضورها واهميتها. فقد بقي مؤمنا بأهمية الواقع بعناصره الاجتماعية والتاريخية في دراسة الأدب، لكن البعد الميتافيزقي لديه اتخذ هيئة اكثر وضوحا وتأثيرا، على نحو تبين في موقفه ازاء الثقافة الغربية ورفضه احيانا لمذاهبها، وتقبله احيانا اقل لبعض ما فيها، مع تشكك دائم او شبه دائم بما تمثله وتقذف به.
من المظاهر الكثيرة لموقفه المضاد موقفه ازاء الحداثة كما عبر عنه في كتاب صدر في الفترة الاخيرة من نشاطه النقدي هو "المذاهب الادبية والنقدية عند العرب والغربيين"
هل نقول – اكثر من هذا- ان دعوى "عربية " الحداثة – هذه الحداثة – دعوى زائفة، لانها لا تزيد على ان تنقل الينا مفاهيم الحداثة الغربية، بل مفاهيم "حداثة" معينة، حداثة الغريب، واللافت، والمثير، بعد ان انقضى عهد رواد الحداثة الحقيقيين،امثال بودلير ورامبو وازرا باوند، ود.هـ.لورنس، وو.ب. ييتس، وجيمس جويس، وت.س اليوت، الذين شككوا ابناء الحضارة الغربية في قيم هذه الحضارة، وهي نفسها التي يبشر بها حداثيونا هؤلاء باسم الحضارة الانسانية، وهي بالفعل حضارة انسانية، لأنها جعلت الانسان مصدر القيم كلها، فانتهت بأن اصبحت الآلة التي اخترعها الانسان لتهيئ له مزيدا من القوة او مزيدا من السعادة، سببا لشقائه وربما لدماره؟ (69) (6).
هذا الموقف لا يختلف كثيرا عن موقفه ازاء البنيوية المعبر عنه قبل قليل، او موقفه منها المبين في مقالته المعروفة "موقف من البنيوية" في مجلة فصول,(8) او موقفه من تعامل كثير من النقاد العرب المحدثين مع الثقافة الغربية، والكيفية التي يضعون بها الموروث النقدي العربي ازاء تلك الثقافة على ما يبدو من تميز في موقفهم ازاء موقف "جيل الرواد" من ذلك الموروث: اما الحداثيون فانهم- والحق يقال- اشد التفاتا الى التراث من اسلافهم الذين اصطلحنا على تسميتهم بجيل الرواد، والذين لم يروا في النقد العربي القديم ما يستحق الوقوف عنده، وراحوا ينقذون ما يمكن انقاذه من الشعر والنثر باستخدام اساليب النقد الاوروبي الحديث. فهؤلاء الحداثيون الجدد يأخذون بيد النقد العربي القديم ويركبونه طائرة ليلتحق بجامعة اوروبية او امريكية، طالبا حييا متواريا في زحمة النقد الحديث، لا يتكلم الا حين يبتسم الاستاذ مشجعا، فيعلق تعليقه الصفير المؤدب، ثم يعود الى الاستماع والنقل، (على هامش النقد)(37).
ما يأخذه عياد هنا على كلا الفريقين ليس انشغالهما بالثقافة الاوروبية في دراسة النقد العربي، وانما انشغالهما عن الابداع العربي نفسه، فهو لا يرى غضاضة في الاتصال بأوروبا ودراسة النقد العربي في ضوء ثقافتها. لكن الانشغال الذي ينتقده عياد هو ما يبدو اشبه بالقدر على كثير من النقاد العرب ومنهم عياد نفسه حين سعى الى الاسلوبية. ومع ذلك فان نقده هنا يتضمن عدم ارتياح لمساره العلمي، كما لمسار غيره اذ يمعنون في المثاقفة والتتلمذ، بالاضافة الى رغبة لديه في الانصراف الى شخصية الناقد الهاوي، الناقد غير المحاصر بقوانين ومذاهب.
لقد كان عياد يخوض غمار تجربة التحديث بقلق المؤصل وبعا لابد لتلك التجربة ان تعلق به من مشكلات وتناقضات. وان كان ثمة ما يميز عياد في تجربته تلك فهي، من بين اشياء اخري، سعيه للوقوف دائما موقف الواعي بما يحيط به من مشكلات قد تحبط محاولاته هو قبل غيره، لكن مقدرته على الوعي تظل، رغم تميزها، محدودة بشروطها التاريخية غافلة حتما عن جوانب يستحيل على الكائن البشري ان يحيط بها، فهو لا يطرح تجربته على انها تجربة قلقة، لكنها تبدو كذلك لمن يتأمل بعض وجوهها، ومن ذلك نقده للتفاعل مع الغرب وانغماره فيه في الوقت نفسه، كما ان منه سعيه للوقوف خارج التمذهب ثم دخوله فيه دون تبرير كاف لتلك المراوحة، ان لم نقل التناقض. وقد لاحظ بعض من درسوا عياد ظاهرة التناقض لديه، لكن منهم من توصل الى انه "استطاع حل جميع المتناقضات"(8) وهو ما لا تسنده الشواهد الكثيرة.
لقد تحدث عياد عن التأصيل النقدي بوصفه "درسا نقديا عريقا للقلاقة بين الأشكال الادبية الوافدة وبين الاصول العربية، سواء كانت اصولا رسمية ام شعبية". ثم اضاف:" ان التأصيل، مثل كل ظاهرة أدبية، عمل يقوم به الاديب المنشئ قبل ان يقوم به الناقد الدارس". وضرب لذلك مثلا بالمسرح العربي الذي مر بعمليات تأصيلية مثل اختيار ما يقترب من الثقافة الشعبية العربية، كاختيار مارون النقاش للاوبريت او التمثيلية الغنائية "لانه يتفق مع السيول الشعبية العربية الى الغناء والطرب (الرؤيا المقيدة، 28)، أي انه يتفق مع ما سبق ان اسماه "كياننا النفسي واتجاه حضارتنا". ولان العملية بهذا الطول والعمق فانها ليست مما ينجزه الفرد الواحد: "عملية (التأصيل)"، سواء نظرنا اليها عند الاديب المنشئ ام عند الناقد الدارس، تنطوي على جدال مستمر بين الاصيل والوافد، بحيث تبدو (الاصالة) عملية نسبية ومتطورة، اشبه بتيار مطرد لا يتوقف ابدا" (الرؤيا المقيدة، 28).
هذا الجانب النسبي المتطور او الجدلي (وليس من الواضح ما اذا كان عياد يقصد الديالكتيك الهيجلي تحديدا أم لا) هو في تقديري ما يفسر تردد عياد او مراوحته بين التمذهب والوقوف خارجه، بين العلمية واللاعلمية، الدراسة الاكاديمية والمقالة. لقد اكد في اواخر الستينات ومطلع السبعينات، في احد كتبه التي تخرج على المذهبية، ان جيله من المثقفين العرب، الجيل الذي يعقب جيل الرواد (الافغاني/ عبده) ومن تلاهم (طه حسين / العقاد)، يضطلع بمهمة تتجاوز التأسيس والتغيير الى "ان يجعلوا التغيير تأصيل" ثم فسر ذلك بقوله انها تعني "ان يعيدوا- بالطرق العلمية – دراسة الاشكال المقتبسة باعتبارها وقائع متطورة لا حقائق طلقة، ثم يعيدوا صياغتها ليجعلوها ملكا لهذا الشعب العربي، وافية بمقاصده. "لكنه لم يلبث ان عقب- وكأنه ادرك صعوبة المهمة حتى على الجيل الواحد- ان هذه المهمة ليست "مهمة الجيل الاوسط وحده، بل هي مهمة اجيال عدة قادمة " (الادب في عالم متغير 20).
لقد سعى شكري عياد الى التأسيس النظري كجزء من ممارسته لدوره كأحد افراد الجيل الثالث او الاوسط كما يسميه، أي دوره التأصيلي، وذلك من خلال دراسات مختلفة سواء كانت لاشكال ادبية كالقصة القصيرة "دراسة في تأصيل فن ادبي"، او منهي كالنقد الاسلوبي. وكان تعامله مع الاثنين تعاملا مع اشكال مقتبسة حاول ان يعيد صيافتها بمزجها بالموروث سواء كان ابداعيا ام نقديا
كالبلاغة العربية. لكنه مع ذلك ظل متشككا بنجاح المحاولة او بامكانية تحقيقها، فكتب مقالاته ليذكر القارئ- بكل صدق – ان محاولته لا ينبغي ان تؤخذ كإنجاز نهائي. ولعل في المقدمة التي كتبها لكتابه (الرؤيا المقيدة) اوضح الاد لة على هذه الحيرة ازاء المذهبية وما تنطوي عليه عادة من قناعات علمية او شبه علمية وآراء جاهزة، فهو في المقدمة يشير الى العنوان التفصيلي لكتابه، وهو "دراسات في التفسير الحضاري للأدب" ليؤكد ان المقالات تصدر عن تصور للأدب بوصفه مقيدا "بطابع الحضارة التي ينتمي اليها"، ثم يضيف:
عن هذا التصور صدرت المقالات التالية. فان وافقك هذا التصور فذاك، وإلا فكن على ثقة من شيئين: اولهما اني لم استمل هذا التصور من فلسفة معينة، ولكني صفته من معايشة طويلة لروائع الادب القديم والحديث، وثانيهما اني لم اضع هذا التصور امامي حين شرعت في الدراسات التي بين يديك، فتستطيع ان تطمئن الى انك لن تجد تطبيقا آليا لنظرية لا ترضاها، بل اني لن اعجب اذا وجدت في هذه الدراسات ما يناقض النظرية التي اوضحتها لك، ان جاز، ان نسمي مثل هذا التصور نظرية (4).
اننا بقراءة عياد نتأمل تجربة مميزة، وان لم تكن فريدة تماما، في التعامل مع الادب والنقد سواء جاءا من الموروث أو الواقع أو الوافد. فهي مميزة لأنها تتضمن انجازات نظرية وتطبيقية (ليس هذا الحيز المكان الكافي لتقييمها)، وليست فريدة تماما لأنها تعكس جانبا بارزا من جوانب المأزق الحضاري الذي تعيشه الثقافة العربية المعاصرة، فالمشكلات التي واجهها عياد واجهها ويواجهها نقاد ومفكرون آخرون كثر. ما قد لا يتكرر كثيرا هو أن مواجهة عياد تمت على مستوى من العمق والشفافية يصعب العثور عليهما في نقدنا العربي المعاصر.
ببليوجرافيا لبعض اعمال عياد
2- على هامش النقد. القاهرة: أصدقاء الكتاب للنشر و التوزيع، 1993.
3- المذاهب الادبية والنقدية عند العرب والغربيين. الكويت: سلسلة عالم المعرفة (177)،1993.
4- الادب والانسان الغربي: من عصر النهضة الى عصر التنوير تأليف ج. ب. بريستلي، القاهرة: أصدقاء الكتاب، 1991.
5- اللغة والابداع مبادئ علم الاسلوب العربي. القاهرة: انترناشيونال برس، 1988.
6- دائرة الابداع مقدمة قي أصول النقد. القاهرة: دار الياس العصرية، 1986.
7- اتجاهات البحث الأسلوبي: دراسات اسلوبية، الرياض: دار العلوم، 1985.
8- مدخل الى علم الاسلوب الرياض: دار العلوم، 1982.
9- الرؤيا المقيدة: دراسات في التفسير الحضاري للأدب. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1978.
10- الأدب في عالم متغير. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1971.
11- القصة القصيرة في مصر دراسة في تأصيل فن أدبي. القاهرة: أصدقاء الكتاب، 1968؟ ط 3، 1994.
12- تجارب في الأدب والنقد القاهرة: دار الكاتب العربي، 1967، ط 2، أصدقاء الكتاب، 1994.
13- الحضارة العربية. القاهرة: المكتبة الثقافية (172)، 1967.
14- كتاب ارسطوطاليس في الشعر: نقل أبي بشر متى بن يونس القنائي من السرياني الى العربي تحقيق مع ترجمة حديثة ودراسة لتأثيره في البلاغة العربية. القاهرة: دار الكاتب العربي، 1967.
15- ملاحظات نحو تعريف الثقافة. تأليف ت.س. اليوت، القاهرة: المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، 1961 م
16- البطل في الأدب والاساطير، القاهرة: دار المعرفة، 1959؛ ط2 1971
الهوامش
1- لا أعرف دراسات كثيرة عن جهود عياد النقدية، وما عرفته لا يتجاوز رسالة لنيل الماجستير اصدرت على شكل كتاب وبحثا قصيرا. أما ما عدا ذلك فهناك رسالة ماجستيراخرى حول كتابته للقمة القصيرة.
2- كتاب ارسطو طاليس في الشعر: نقل ابي بشرمتي بن يونس القنائي من السرياني للعربي (القاهرة: دار الكاتب العربي، 1386- 1967) وتتمثل الاطروحة في تحقيق وترجمة حديثة مع
دراسة لأثر الكتاب في البلاغة العربية.
3- لعل من الطريف ان يجد عياد هدم البنيوية في تغذيتها بمفاهيم ميتافيزيقية، بينما يجد التقويضيون اوالتفكيكيون، الغربيون ذلك الهدم نفسه في عدم تمكن البنيوية من ان تتلخص من تلك المفاهيم الميتافيزيقية، فالبنيوية بالنسبة لعياد ضد الميتافيزيقا، وهي كذلك بالفعل، لكنه لا يلتفت الى بعض بقايا الغيبيات فيها مما يجده التقويضيون فيستكثرونه.
4- (- كان عياد أحد الذين قدموا اليوت الى قواء العربية حين ترجم له كتاب، "ملا حظات نحو تعريف الثقافة القاهرة: المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، د. ت.
(1961). وقد قدم عياد لترجمته بملاحظات نقدية موجهة لاليوت نفسه، ملاحظات لم نعتد ان نجدها فيما يترجم للنقاد الغربيين، حيث تسود روح من التبجيل غير العادي بين المترجمين والنقاد العرب. لكن عياد لم يكن مترجما عاديا في موقفه ازاء الثقافة الأخرى، ونشاطه في الترجمة جزء من مسعاه" التأصيلي اجمالا. وقد سبق لي أن تناولت اشكاليات النقد الغربي في تعامله مع الثقافة الغربية في بحثين يمكن الرجوع اليهما، هما, " لمراوحة المنهجية: ملاحظات حول جوانب من النص الجديد (ع ا، 1993): ومستقبل النقد، غربة السياق: من اشكاليات المثاقفة في نقد البنيوية في النقد العربي الحديث "، مجلة عالم الفكر (الكويت، مج 28، ع 4، ابريل / يونيو 0ه 2).
5- Orientalist: وانظر مقالتي: mited, 2791) Selected Essays ondon: Faber 1) مقالات مختارة، ص 14 وما بعدها في مجلة "ألف" ع 9، of Tradition in Anglo- American Literaty Criticism 9891) (Discourse the Concept حول العلاقة بين مفهوم اليوت للتراث وأوروبا من ناحية، والثقافات الشرقية من ناحية أخرى، وهو موقف يتضح After Strange Gods, خاص في كتاب اليوت.
6- انظر ايضا قوله في مكان آخر من الكتاب نفسه:وأصحاب الحداثة – كبارهم وصغارهم – يتجاهلون نقائص الحضارة الغربية مع علمهم بهذه النقائص.. (ص 18).
7- (فصول). مج ا ع 2يناير 1981.
8- القصة القصيرة عند شكري عياد، 33: فيروز زين العابدين.
سعد البازعي (ناقد واكاديمي من السعودية)